دراسات نقدية

 

باب الحارة (3):  أصالة المجتمع وهزالة الشخصية الاسلامية الحاكمة في بلادنا العربية

 

زهير الزبيدي

 أتحفنا مسلسل باب الحارة، بجزءه الثالث الجديد، في هذا الرمضان العراقي اليتيم، بدراما سورية رائعة. تضفي على سابقاتها من الجزئين الماضيين، حقيقة الشخصية السياسية المسلمة الحاكمة والمحكومة، وهي ازدواجية الخطاب والأداء في الحاكمة، والثبات على الأصالة ـ ولويقدر ضئيل ـ في المحكوم. وأن هناك بون شاسع بين الطبقتين.

 تعطي لنا هذه الإزدواجية في الطبقة الحاكمة، والثبات الجزئي في المحكومة، حقيقة ثقافية مهلهلة، تطمس جوهر الدين الاسلامي الحق، والتوجه العلماني الأصيل معا، لتعطي التبريرللثانية لسلخها من العلمنة الايجابية،  وللاولى لشن هجمات الغرب الشيطاني غير الحضاري على الاسلام، للتمهيد لضربه في عقر داره. بعد أن استطاع شياطين الانكليز، من نبش التأريخ الأسود، الذي ألبسوه العربان لبوس الدين، ليطلقوا أيادي الانكليز وأذهانهم الشيطانية، في أن يؤسسوا اسلاما يمحي السماحة من اسمه. فأوجدوا للاسلام عمائم مزيفة،ولحا تحمل بين طياتها ألف ألف شيطان، تتأصل فيها الجاهلية التي اخترقت الاسلام لتحقق ذاتها الجاهلية فيه، أو من خلاله. ولتخلق لنا اسلاما جاهليا،  ألبسوه لبوس الارهاب والتطرف، ليحققوا لانفسهم حياة مرفهة لكنها غير كريمة البتة.

فأبا جودت ـ ضابط المركز ـ عكس وبشكل جلي، أداء الحكومات التي هي بالأصل امتداداَ له، وتطوراَ لترسيخ الاستعمار الغربي في أوطاننا بشكل غير مرئي كما أبي جودت. من خلال أزلام، حسبوا على الأوطان، الا أنهم ينفذون أجندة الأسياد.حيث كان أبي جودت، صورة أصلية من أداء الحكام الحاليين، وتناقض خطابهم لشعوبهم.

 لقد عاش أبا جودت، على دماء ابناء الحارات الاربع، التي يحكمها بيابة عن المستعمر الفرنسي ، وهو يرتجف أمام سطوة الاسياد عندما يكلفوه بأمر، ويستأسد على أبناء جلدته عندما يريد المستعمر إذلالهم. واليوم نشاهد نفس السيرة، فيعيش الحكام على دماء شعوبهم وهم ينهبون خيرات بلدانهم، ليوظفوها لاشباع غرائزهم الشيطانية، ولا يحسون بالشبع حتى أتخموا. لكن الشعوب تتمسك بقيمها رغم ضعفها، والحكام يهجرون القيم الى ما يريده من ثبتهم في موقعهم، ليكونوا الحاكمين بأمر من نصبهم علىيهم، وهذه مفارقة تستحق الوقوف امامها لنستقي الدروس والعبر، لتوعية الاجيال القادمة، لتحاشيها والعمل على ازالتها بالطرق السلمية والتربوية، ما دام العراق يعيش في وقت الحسم النهائي، فاما عراق موحد مستقل، واما عراق يصبح قاعدة للارهاب الأمريكي.

 لقد أظهر المسلسل خصال كثيرة وسجايا حميدة عدة، كانت لدى المجتمع المسلم والآن غائبة، ما يثبت لنا تطور الحال نحو الأسوء، في مجال غياب الوعي الجماهيري في ظل حكم الطواغيت، بسبب التجويع المتعمد للشعوب، واستعلاء الحكام علىيها. فان الماضي القريب، وان كان مخترق بجاهلية الماضي السسحيق، الاانه لم يكن من الاسلام بشئ، انما وضعت بعض العادات والتقاليد التي طغت على ثوابت الاسلام الاجتماعية والثقافية ، بارادة أموية.  فمن المكر الأموي، بدواعي السيطرة على المجتمع، ابتكروا ثقافة تخالف فكر الاسلام في مفهوم ـ وأمرهم شورى بينهم ـ انما أثبت الأمويون، أنهم من ابتدع سياسية التابع والمتبوع، والقائد والمقاد، فالأمويون هم من أسسوا لثقافة قيادة القطيع، عندما ابتكروا مذاهب ما أنزل الله بها من سلطان من مثل ، القدرية، والجبرية حتى صارت عقيدة راسخة، لمساحة واسعة من الناس الى يومنا هذا.

 وشيخ الحارة هو الآخر، أثبت لنا بأن الاسلام الحقيقي، وروحية الشخصية البسيطة المؤمنة بقضاء الله وقدره، يترك الاثر الطيب في النفوس، اذاما تعامل معهم بشئ من النية الصافية، في حل مشاكلهم، والقضاء فيما يقع بينهم من اختلاف، وان قلّت معلوماته الشرعية بتوفر صفاء النية وحسنها، وهكذا يلجؤا اليه اذا ما اطمأنوا لحكمه، دون ولاء مزيف لعمته، أو جهته التي يمثل من دون الله.

 لكننا نجد رغم ذلك، أن الدين كان يترك الأثرالطيب في نفوس الكثير من شرائح المجتمع. ففي هذا المسلسل، نجد هناك محاور عدة وزعها الكاتب ـ بقصد أو بدون قصد ـ على شرائح من مجتمعات الحارات، تتباين حسب رغبة الشخص وعقيدته، وخلفيته التربوية التي لعبت العائلة فيها الأثر الكبير، من حيث توجه رب العائلة فيتأثر بها ألأولاد.

 قدمت لنا الحلقات السابقة، هذه القيم بشكل واضح وملموس، لكن هذه المرة توزعت على البيوتات بتباين واضح، فقدمت لنا ( أبو حاتم ) والد البنات السبعة، وهو يمثل قيمة القناعة التي قال عنها الحكماء بأنها كنز لايفنى، فرغم حبه لبناته ومعاملته لهن بحب وود أبوي فياض، ما ساعدته قناعته تلك التي كان يعتقد اعتقادا راسخا أن الله حباها له،ما ساعده على تزويجهن، أزواجا محترمين دون النظر الى الخلفية الاجتماعية والثروة والمال، بقدر الاطمئنان لحسن الخلق والاعتدال. فهو لم يكتفي ببيته، بل فاض بفيضه على أخته التي رفض طلاقها من زوجها المدمن على لعب القمار، حسب طلبها، بل أكرم صهره، وأعطاه مبلغا من المال، طالبا منه صرفه على عائلته وأطفاله لاعادة ثقتهم به. وهوبهذا يقدم درسا لبخلاء وجهال هذا العصر، الذين يتخذون من المرأة أداة لانتقامهم، وتحقيقاَ لذواتهم وشخصيتهم الرديئة، التي يرون كمالها باذلال المرأة، سواء كانت تلك المرأة أختا، أو بنتا، أوأما حتى. وابا حاتم هنا، يؤكد قيمة الرحم الذي وصفه الامام علي عليه السلام، عندما قال ( ان الله اشتق كلمة الرحم من الرحمة) وهكذا فهو ستر على صهره، وأنقذ أخته وأبناءها من الضياع المحتم، فمنح صهره موقعا في مقهاه ترفع من سمعته، مساويا له بكبير العمال لحفظ كرامته، التي بحفظها حفظ كرامة اخته.

 لكن المسلسل، أعطانا في الجانب الأخر عصام، ابن ذلك الرجل الذي كان مثالا يضرب به الامثال في حارته، وهو يفيض برحمته على الجميع. ويبين الفرق بينه وبين أخيه معتز، الذي كان شهما كأبيه. هذا ما يؤكد لنا أن التربية الأسرية، تؤثر بالأولاد بقدر نوع وكم التربية، المعطات لهم، وتأثير المجتمع المحيط بالأولاد. ويؤكد بأن المجتمعات غير متساوية انما تباين الخلق والسمعة ومستوى الثقافة، هوتباين طبيعي في المجتمع البشري.

 ومن هنا تحدث الطفرات الوراثية، أوالتباين بين الشخصية والأخرى، ضمن العائلة الواحدة، بقدر تأثرها بالأبوين. وتأثير الجين بالمحيط الاجتماعي معا. وهنا يكون التأثيرالوراثي محدود ، اذا ما كانت التربية ترسخ نوع القيم لدى افرادها بجانب المحيط الاجتماعي، لاسيما تلك المستنبطة من الاسلام الصحيح، الذي يلهم الانسان طبائع البشر الأسوياء، المطيعين لله ورسوله.ثم نشاهد أخلاقيات آخرين كانوا في الحارة والحارات المجاورة لها، من مثل أبوغالب بائع البليلة، وابوالحكم عامل ابو النار، والعكيد أبو العرب، لكن بالمقابل، وجود المختار ابوصياح عم العكيد ابو العرب.ويبين لنا المسلسل كيف انتصرت الارادة الخيرة على ارادة الخبثاء والعملاء الذين كانوا يتجسسون لصالح المستعمر الافرنسي.

 هنا يبرز دور المنظومة القيمية الرائدة، التي كانت تنطبع بها الأسرة المسلمة في عصور السطو المسلحة على السلطة، في فترة الحكم الأموي والعباسي، وما تلاها من انهيارات أخلاقية واجتماعية مخطط لها من قبل السلطان الذي كان يحكم باسم الاسلام زورا. فتحت الباب على مصراعيه للقيم الدخيلة، من مملوكية وصفوية، وبدوية، التي ركبت مركب الاسلام القيمي، وطمست بشكل مباشر أوغير مباشر، تلك القيم الراقية، الا انها لم تقضي عليها، وذلك لانغلاق العائلة عن المحيط، ونوع العلاقات السائدة في ذلك الزمن، ومحدودية انفتاح مجتمعاتنا على غيرها من المجتمعات الغربية، التي تتسم بها مجتمعات العصر الحالي.

ولا يفوتنا هنا أن نذكّر بزبدة الموضوع، التي تظهر لنا وبشكل واضح وملموس، كيف أن الشعوب اذا توحدت كلمتها، وتآزرت فيما بينها، ستهزم القوة الغازية المحتلة، الغريبة باخلاقها وثقافتها علينا.وشاهدنا على طريقة اقدام العكيد ابوشهاب ومحاولته التي نجحت باستقطاب المختار أبوصياح، وكسبه لجانب حارته ضد صهره أبو العرب، الذي تحالف مع أبي النار، ثثم التف على أبي العرب ليضمه الى صف الموقف الشعبي المعارض بقوة السلاح للمستعمر الفرنسي.

 انه درس بليغ على العراقيين ان يستلهموه، بقلب رحب وصدر ارحب، لاعادة اللحمة العراقية، المشهود لها عبر التأريخ. وليفوتوا على المحتل فرصته في دق أسفين الفرقة، بين ابناء العراق الواحد. وارسال سهمه الى نحره، بافشال توقيع الاتفاقية التي أعلن عنها الكثير من سياسي العراق، بأنها لو خرجت من قاعة البرلمانين العراقي والامريكي، ومن ساحة الأمم المتحدة، سترهن العراق للقوات الامريكية لعشرات السنين.بل سيكون العراقي الوطني عرضة للملاحقة والاعتقال، واذا اقتضت حاجة الاحتلال، فالاغتيال اسهل له في ظل ديمقراطية لاتحمل من مضامينها الا الأسم، وقوة غازيةبعيدة عن مسائلة القانون الوطني العراقي. ليقضي على العقول النيرة، والقلوب المفعمة بحب العراق، وترك تلك النكرات السياسية الجديدة، التي اعتادت المساومة على الوطن، من قوميين متطرفين، واسلاميين لايهمهم الا الحكم والتسلط على رقاب الناس، من أن يكونوا سهام المحتل في نحور الوطنيين . نحن نعيش هذه المرحلة الحرجة من عمر العراق، معركة وجود وليست معركة حدود،ما يعني نكون أو لانكون.

( سمعوا) ذلك الشاب الذي ترك الثأر لدم أبيه المقتول غدرا وراء ظهره، ليفكر بأهل حارته ووطنه، ويتحد مع صبحي ابن قاتل أبيه ،لان صبحي حمى شرف بنت حارته وخطف ضابطا من ضباط الاحتلال الفرنسي، لينضم الى المقاومة الوطنية الحقة، وليست مقاومة الشعب لاعطاء المبرر للمحتل بالبقاء،ومن ثم ارباك وضع أبو جودت ممثل السلطة ( الوطنية) وتحرير صبحي والانضمام الى الشعب المنتفض على الفرنسي، المدنّس لارض الوطن. والاجهاض على حمدي، ذلك الجاسوس الذي لم يستطع حمل ما جنته يداه من مال على حساب أهله وناسه. أملنا من سياسي عراق اليوم أن يستلهموا درس ( سمعوا ) وترك الثار الى القضاء الذي يجب أن يكون مستقل، وأن لايفكروا بالكرسي الذي هو بالأصل تكليف وليس تشريف.

 لنكون وطنا متوحدا يؤثر  في بناء المنطقة بقوة حضارية كامنة لديه، ولدى الكثير من أبنائه الخيرين.أوبلدا ممزقا ينتهي الى غياهب التأريخ الآتي، وقتها سيكتب المؤرخون أنه كان بلدا يربط الشرق بالغرب،أسس لحضارة العالم اسمه العراق.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com