دراسات نقدية

ملامح القصيدة في شعرية يحيى السماوي

 

أ . د . عبد الله باقازي  / جامعة أم القرى

عام 1992 أهداني الأستاذ الشاعر يحيى السماوي ديوانه "قلبي على وطني" .. ومن خلال عنوان الديوان الحاني يتبدى الوطن وقد أخذ هذه المكانة الحميمية التي تتعلق بالقلب، في موضع خاص ربما كانت العبارة الشهيرة "قلبي على ولدي" معادلا قريبا هنا، حيث يصبح الوطن موضع حب الشاعر، وخصوصية مودته الأثيرة .. فالوطن يثير قلقه ومخاوفه عليه من خلال العنوان الأبتر .. وموضع خوف الشاعر يتبدى بوضوح وجلاء على الوطن من الضياع مع استبطان جليّ لنزعة شوق وحنان إليه، بعيدا عن مناخاته الحالية .

ولقد أزهر الأستاذ الشاعر "يحيى  السماوي" في الديوان بالشعر الذي نتوق إليه ونبحث عنه وسط ركام ٍ من ضعف وفجاجة تملأ الساحة .. وأضاء في ألم واضح بشاعرية تنبئ عن نفسها وتعلن عن تميّزها وسط النسيج الشعري المعاصر . 

ومنذ أن بدأ الأستاذ يحيى السماوي ينشر نتاجه الشعري في صحافتنا المحلية، ويتوزع في اهتمام على  الدائرة الإعلامية  ـ وهو يفضح بشعره الديكتاتورية ويشقى لمعاناة الشعب ـ  وأنا أحمد  له هذا الإتجاه الحميد الإيجابي، ولاشك أنه وفق في  ذلك، وكان شعره من التميّز ماجعله مقبولا لدى المتلقين، وحالة القبول هذه تعد بحد ذاتها نجاحا للشاعر أيّ شاعر!! 

ولقد لفت نظري في الديوان موهبة الأستاذ يحيى السماوي الشعرية القوية، ولغته ذات المعجم الشعري الخاص العابق بالحزن والتشكيل الشعري الجزل ..! ولاشك أننا ننتظر من أيّ شاعر يريد أن يكون شاعرا له مكانته في صفوف الشعراء، المكانة المتقدمة والبارزة التي يرتضيها لنفسه، ننتظر من هذا الشاعر أول ماننتظر، أن يجيد "التشكيل الشعري" الذي يجعل "صوته الشعري" بصمة مميزة وسط ساحة الشعر .. فالشعر إذا خلا من التشكيل والتصوير والمجاز، صار إلى هيئة أدنى من النظم، أو رصف الأشطر الباردة في قوالب كلمات لانبض فيها ولا فنّ ولا أريج ..!! 

قلة من الشعراء النابهين هي التي تنهض بهذا المفهوم الذي يصوره قولنا: الشاعر الحقيقي مَنْ يُريك في شعره التشكيل والتصوير والمجاز، مالاتجده عند غيره من الشعراء، بحيث يُفارق مفهوم التقليد، وينطلق في آفاق ٍ شعرية رحبة من تشكيله الذاتي المبني على الموهبة والحسّ الذهني والشعوري بكل معطيات الحياة حوله . 

من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى طبيعة القصيدة الشعرية عند الأستاذ السماوي، وهي القصيدة التي حوربتْ منذ عقود من الزمن بدعوى أنها "استنزفت نفسها" وأن تشكيلها أضحى باهتا، وأن الزمن لم يعد ملائما لها !! لكن الأستاذ يحيى السماوي يُرينا القصيدة العمودية بنبضها الشاب .. يُجدد شبابها ويُضيء جوانبها بالإبداع التشكيلي وبالتصوير المتجدد . 

وإذا كانت اللغة هي محور الإجادة الحقيقي لأي فنان مبدع، فعندما يمتلك الفنان اللغة فإنه يمتلك مقومات الفن، فبفقد اللغة يفتقد الفنان أهمّ مرتكز فني لإبداعه . ولقد كانت لغة الأستاذ  السماوي، لغة فنان شاعر مقتدر يمتلك زمام اللغة ويسيطر عليها سيطرة كبيرة .. وقد استرعت انتباهي وفي هذا المجال ـ صياغات لغوية، وتركيبات في غاية القوة والحداثة والإبتكار، بل إن الكثير منها ليضرب في العمق ليكشف عن "غوّاص" تختزن ذاكرته الشعرية تراكيب شعرية تراثية ومفردات عربية نادرة، وهذه ميزة من النادر أن يمتلكها العديد من الذين يسطرون الشعر ويشكلونه من خلال مفردات مسطحة الألفاظ  مألوفة الاستعمال ومستهلكة .. !! 

كست الديوان رومانسية وإنْ كانت تجنح للإنكسار، لكنها تكشف عن حساسية فنان ورهافة شاعر تمرّس بالحياة، وعرك الحياة وعركته، فتولدت " المعاناة " التي هي باعث الفن والشعر القويّ ..!!

يقول في قصيدة " مكاشفة  ":

عـيناك ِ كحلهما الأفـياءُ والألقُ

وكحلُ عيني رمادُ الحزن ِ والأرقُ

رياشك ِ الدفْءُ .. لم تقربْك ِ فاجعة ٌ

أمّا رياشي فصخرُ الصّبر ِ والقلقُ

 

فكيف يُجمَعُ ذو ضيم ٍ وذو بَطَر ٍ

وقد تباينت ِالأهواءُ والخُلُـقٌ ؟

 

وأيّ عاشقة ٍ تسعى لذي سفر ٍ

متاعُهُ الحبرُ والأقلامُ والورقُ ؟

 

مُطارّدٌ يتسلّى في حرائقه

أهدابُهُ من لظى عينيه تحترق ُ !

 

قد اعتنقت ِ من الدنيا مباهجَها

أمّا أنا فهمومُ الناس ِ أعتنقُ

 

وما ارتويْتُ على نهرين ِ من عسَـل ٍ

وفي دمي تلهث النيرانُ والحُرَق ُ

 

وكنتُ أعصرُ أشجاري لذي عطشٍ

وأشربُ الدّمعَ في سـرّ ٍ وأنطلقُ

إلى أن يقول:

وأخبزُ التّـِبْـنَ ليْ زادا ً وليْ شرفٌ

أني أكلـتُ بجهـد ٍ لا كما سـرقوا

 

وقطعُ كفّيَ خيرٌ من مصافحتي

يدَ اللئيم ِ وإنْ ضاقتْ بي الطرُقُ

 

مُسَهَّدٌ أنا .. بي وجدٌ لشمسِ غدٍ

حتى لقد نسِيَتْ ألوانها الحَدَقُ (ص120 و ص121) 

ولعلّ العطش الذي أومأ إليه الشاعر في بيتيه السابقين يؤكد توفّر " العنصر المائي "وانتشار هذا العنصر في العديد من العناوين لقصائد الديوان مثل : "مطر في كل الفصول" "بحيرة العشق" موشح: مياه الشهب " فضلا عن الكثير من الدلالات  اللفظية الموحية بذلك العنصر في العديد من القصائد، مما يعمق من حالة العطش والإحتراق والتوق إلى الإرتواء من فيض رؤى عديدة يأتي في مقدمتها " الوطن / العراق". 

وبمناسبة ذكر موشح " مياه الشهب "، فهذه القصيدة / الموشح " نادرة في الديوان، وهي تجسّد شعور شاعرٍ مؤمن، وهي خفيفة الظل، متميزة التشكيل الشعري، تعيدنا إلى مناخ الأندلس، وإلى الموشحة العربية، تشكيلا كاد أن ينقرض من ساحة الشعر اليوم، وينساه الشعراء أو لا يتقنون تشكيله على وجه الدقة !! 

إن الأستاذ السماوي يُعيد لنا نبض القصيدة العربية بزخمها  المتميز، وتشكيلها الفريد، ونكهتها، التي نفتقدها اليوم في كثير من الطرح الذي يضيق به الأفق، وتضيق به النفس !! 

وفي النهاية، يصدق أن يُقال عن الأستاذ الشاعر يحيى السماوي: إنه شاعر متميّز  بين هذه الندرة من الشعراء في زماننا الأدبي هذا، الذي قلّ فيه مَنْ يعرف ماهية الشعر . 

 

Google

 في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 © حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com