دراسات نقدية

يحيى حقي.. رائد القصة العربية الحديثة

بقلم: د.السيد نجم

Ab_negm@yahoo.com

ولد الأديب "يحي حقي" في حي شعبي بالقاهرة (حي السيدة زينب)؛ فى 7يناير سنة 1905 م، لأسرة ذات أصول تركية. كان عمه محمود طاهر حقي (الأديب المعروف، صاحب مجلة "الجريدة الأسبوعية "- توفى عام1962م).. وفي يوم الأربعاء، التاسع من ديسمبر 1992 م توفي الرائد الادبى في القاهرة، عن عمر يناهز سبعة وثمانين عاماً.

تلقى يحيى حقي تعليمه الأوليَّ في كُتَّاب "السيدة زينب"، ثم مدرسة للفقراء، وهي التي تعلم فيها مصطفى كامل باشا (الزعيم الوطني).. فورا شعر بالتعاسة، بعد رسوبه في السنة الأولى إثر ما لقي من عنف معاملة مدرسيه؛ لكنه حصل على الشهادة الابتدائية، وتابع بنجاح حتى التحق في أكتوبر 1921م بمدرسة الحقوق السلطانية العليا في جامعة فؤاد الأول. وقد حصل منها على درجة (الليسانس) في الحقوق عام 1925م.

عمل بالمحاماة ثمانية أشهر؛ حتى وجدوا له وظيفة معاون إدارة في "منفلوط" بصعيد مصر؛ وبعد وفاة والده عام 1926، لم يجد بُداً من الخضوع لأوامر العائلة وقبول تلك الوظيفة؛ التي تسلم عمله بها في الأول من يناير عام 1927. وقد غنم من تلك الوظيفة مغانم كثيرة ككاتب.. حيث عاش يحيى حقي في الصعيد عامين، خبر فيها أسرار حياة لم يكن يدريها.  

بدأ العمل الدبلوماسي عام 1954، ثم تركه عندما تزوج (في 22/9/1953م) من أجنبية، وعاد إلى مصر ليستقر فيها. أنشئت مصلحة الفنون سنة 1955 فكان "أول وآخر مدير لها.. ثم نقل مستشاراً لدار الكتب، ثم رئيساً لتحرير مجلة " المجلة " التي ظل يتولى مسئوليتها حتى ديسمبر سنة 1970، وبعدها أعلن اعتزاله الكتابة والحياة الثقافية.

خلال دراسته في مدرسة الحقوق انغمس يحيى حقي زامل وصادق نخبة من العباقرة الذين عرفتهم مصر بعدئذ، كان منهم المرحوم حلمي بهجت بدوي، وعبد الحكيم الرفاعي، وسامي مازن ؛ وغيرهم.. كان اجتماعهم حلبة ساخنة للمناقشة.

ثم انخرط يحيى حقي في جماعة موازية لجماعة الحقوقيين الذين لم يهتموا إلا بالقانون، هذه الجماعة هي "جماعة الأدباء"، يجتمعون بمقهى "الفن" الشهير كان أقرب الأصدقاء إلى نفسه المهندس محمود طاهر لاشين (1894 ـ 1954م)، والدكتور حسين فوزي (1900 ـ 1988) إلى جانب غيرهم.

وقد كانت صفة الخجل, هي من أكثر المكتسبات التربوية حضورا في شخصية يحيى حقي، حتى رصدوا عنه  في إحدى الندوات لمناقشة كتابه "فجر القصة المصرية": "راح ينظر إلى الحاضرين في وداعة ـ تارة ـ ثم ينظر تارة أخرى إلى الأرض ويده اليسرى تقبض على عصاه القصيرة في قلق ظاهر، وكأنما يقول في نفسه : ماذا جنيت حتى يتفرج علي الناس هكذا ؟".

عمله اكسبه خبرة الحياة فى صعيد مصر, ثم خبرة العمل الدبلوماسي والتنقل بين العواصم والتعرف على مدارس الثقافة والفن المختلفة، وأن يستمتع بالفراغ الذي توفر. وعندما انقطع للأدب والكتابة، خلع عنه البقية الضحلة من مظهر الرسمية فأصبح "الأديب الخالص، المخلص للأدب، من منبت الشعر إلى أخمص القدم.. كما أن الكاتب نشر أول قصة له في عام 1926م, بمجلة الفجر.

حصل يحيى حقي في يناير عام 1969م على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب، كما منحته الحكومة الفرنسية عام 1983 م، وسام الفارس من الطبقة الأولى، ومنحته جامعة المنيا عام 1983 الدكتوراه الفخرية؛ ثم كان يحيى حقي واحداً ممن حصلوا على جائزة الملك فيصل العالمية ـ فرع الأدب العربي ـ لكونه رائداً من رواد القصة العربية الحديثة، عام 1990م.

قطع يحيى حقي في علاقته بالسينما شوطاً بعيداً، وتنوعت اتجاهات تلك العلاقة وأوجهها، فهو أولاً متفرج من داخل صالة السينما، وقد ظل حريصاً على تلك العادة حتى نهاية حياته، كما أنه ناقد متابع للأفلام المعروضة في دور السينما وله بعض الآراء المهمة المقدرة التي تمتلك إلى جانب الذوق الشخصي خبرة ذاتية كبيرة اكتسبها من جولاتها في المعاقل السينمائية الكبرى في أوروبا، ثم توجت السينما المصرية عام 1968 علاقتها بيحيى حقي بالالتفات إلى أعماله الأدبية، فأنتجت أربعة من الأعمال السينمائية المميزة التي رسخت في وجدان المشاهدين ومن أبرزها (البوسطجي)، ثم (قنديل أم هاشم)، وهما أهم ما أنتجت السينما المصرية بعامة، وقد سبقهما من أعمال يحيى حقي فيلم (إفلاس خاطبة)، وفيلم (امرأة ورجل).

بالتنسيق بين منظمة "اليونسكو" والمجلس الأعلى للثقافة بمصر, تقرر أن يكون عام 2005م هو مئوية ميلاد الأديب "يحيى حقي". وبهذه المناسبة فقد بدأ المجلس بالاحتفالات التي ستستمر طوال العام خلال شهر يناير. كما شاركت المحافل الثقافية بأقاليم مصر، منها "قصر التذوق " بالإسكندرية.. حيث نظمت احتفالية شارك فيها الأديب "السيد نجم" وناقش جملة ملامح "حقي" الأدبية، والكاتب "مصطفى عبدالله" الذي رافقه خلال السنوات الأخيرة من حياته، وكذا الناقد "شوقي بدر" الذي ناقش كتابه "فجر القصة القصيرة".

 يعد "يحيى حقي" من رواد القصة القصيرة العربية والمصرية, كما كتب "حقي" الرواية، وله عدة روايات فى رصيده الحافل.. وان عرف عنه الابحار فى مجالات الفكر والأدب, وكذا كتب الدراسات النقدية.

فلما كتب روايته القصيرة "قنديل أم هاشم" التي تعد من أهم الأعمال الإبداعية خلال القرن الماضي, ربما لكونها أول رواية تناقش علاقة الشرق بالغرب في بدايات القرن الماضية, ومنها ندخل إلى قضية "الهوية" أو "الآخر". وقد نالت من الشهرة وخصوصا بعد إنتاجها فى السينما، حتى ارتبط اسم الأديب الكبير بهذه الرواية، حتى أعلن فى أكثر من حديث رفضه لتلك الرابطة التي أهملت بقية أعماله الأدبية.

 من أهم أعماله الروائية والقصصية والنثرية في مقالات ودراسات.."قنديل أم هاشم 1945م" – "دماء وطين 1945م" – "أم العواجز 1955م" – "عنتر وجولييت 1960م",, ثم "صح النوم" و"خليها على الله".. مع العديد من الترجمات عن الفرنسية والإنجليزية.

 كتب عن أعماله في دراسات نقدية: طه حسين, على الراعي, غالى شكري, لويس عوض, سيد قطب, سيد حامد النساج, محمد مندور..وآخرون.

وقد تفرغ الناقد "فؤاد دوارة" لجمع تراث الكاتب في مجال المقال والدراسات الأدبية, حيث أخرج 28 كتابا تتضمن أعماله.

أما آخر ما كتب عنه فهو كتاب "جهاد في الفن" بقلم "مصطفى عبدالله", وهو يتكون من حوار مطول تم بين الكاتب والمؤلف خلال زيارة إلى مدينة روما, وجزء يتضمن "شهادات" لمن عاصروه, وجزء آخر يتضمن "ببليوجرافي" لمجمل أعمال "حقي", بالإضافة إلى ملزمة من الصور الهامة للكاتب. وقد صدر الكتاب عن المجلس الأعلى للثقافة.

************

أما وقد ارتبط (يحيى حقي) برواية (قنديل أم هاشم) على الرغم من كل ما أنجزه فى القصة القصيرة والرواية والنقد.. هذه وقفة قصيرة مع الرواية.

فقد لفتت هذه الرواية القصيرة، المركزّة، المشحونة، انتباه النقّاد والقرّاء منذ صدورها وزادها شهرة نقلها إلى السينما وتقديمها في فيلم حقق نجاحاً جماهيرياً، حتى باتت كما يقال موضع التركيز عند الحديث عن الكاتب الكبير يحيى حقي، وهو ما كان يضايقه.

وأم هاشم هي السيّدة زينب، ابنة الإمام علي، شقيقة سيدنا الحسين، ولها مسجد وميدان في القاهرة، يتسم الحي بالحياة اليومية الشعبية.

(يروي حفيد للجد "رجب عبد الله"، واصفا حضور الجد من الريف لزيارة السيدة زينب، فينتقل الجد "رجب" بأسرته، ويقيم على مقربة من مقام (أم هاشم). الشخصية المركزية هو "إسماعيل"، ثم والده والأم، والفتاة فاطمة النبوية ابنة العم التي تعاني من رمد العيون.. أراد والده له أن يكون طبيباً، ولكن علامات إسماعيل عند نجاحه في (الثانوية) كانت ضعيفة ممّا يعني عدم قبوله في الجامعة المصرية.‏  فسافر للخارج إلى بريطانيا.   

لكنه سيحتاج إلى خمسة عشر جنيهاً في الشهر تكاليف دراسة ومعيشة، وهذا يعني أن تعيش الأسرة على الخبز الحاف، أو الخبز والفجل، وهو ما تتحمله الأسرة عن طيب خاطر.‏ ويسافر إسماعيل ويدخل الجامعة، وبعد سبعة أعوام يتخرج طبيباً مختصاً في علاج العيون، يلمع إسماعيل, ويقرر العودة إلى الوطن.‏ لأن بلاده بحاجة إليه فقد عاد، ولكن العودة لم تكن بسهولة السفر، فالبداية هي بداية شاب (خام) بريء، سليل أسرة صعيدية قاهرية متدينة، والعائد هو طبيب عاش لسبع سنوات في بريطانيا.‏

عرف إسماعيل النساء، ووقع في قصّة حب مع (ماري) زميلته في الجامعة، التي علّمته فنون الجسد. وعرف من تركته تركته وتنشئ علاقة مع واحد من بني جنسها.‏ وعاد إسماعيل إلى مصر، إلى القاهرة، إلى بيته في السيدة زينت حيث والده ووالدته وفاطمة النبوية، فهاله ما يرى من فقر وجهل ومرض فى بيت أبيه والحي كله.

ابنة العم المنتظرة، وهى الخطيبة التي عقد له الأب عليها قبل سفره لتكون زوجته عند عودته، هاله ليلة وصوله رؤيته لأمه وهي تقطر في عينيها زيت قنديل أم هاشم، وهو طبيب العيون المتفوّق القادم من لندن، الذي يؤمن بما يقدمه العلم لا الهبل والسذاجة والجهالة.. فيخطف الزجاجة من يد أمه ويلقي بها بعيداً وهو في ثورة عارمة.. ثم يخرج إلى مقام السيدة القريب من البيت، ليقتحم المقام، ويمسك بالزيت المبارك فيرميه، وإلى الشموع المنذورة فيطفئها، صارخاً بكلمة واحدة لم يكملها: أنا.. أنا.. أنا.. أنا ماذا؟ يصدم والده ووالدته من سلوكه ويتمنون لو أنه لم يعد، أو لم يسافر لطلب هكذا علم أفقده دينه وعقله، وتلوذ الخطيبة فاطمة بحزنها هي المتعلّقة به، ويبدأ في معالجتها بالأدوية والقطرات والأساليب التي تعلمها وأبدع في تطبيقها هناك في لندن، ولكن حالة فاطمة تتفاقم وهو ما يدفعه لليأس ومغادرة البيت والإقامة في (بانسيون( قريب من ساحة أم هاشم، وهو يدور يومياً حول المقام، وفي ليلة (القدر) وكل شيء مشعشع بالأنوار، تطمئن نفس إسماعيل فيدخل المقام ويلتقي بالشيخ الدر ديري، ويطلب منه زيتاً مباركاً.‏ ويخرج إسماعيل وبيده الزجاجة وهو يقول: "تعالوا جميعاً إلي! فيكم من آذاني، ومن كذب علي، ومن غشّني، ولكني رغم هذا لا يزال في قلبي مكان لقذارتكم وجهلكم وانحطاطك، فأنتم منّي وأنا منكم. أنا ابن هذا الحي، أنا ابن هذا الميدان لقد جار عليكم الزمان، وكلّما جار واستبّد، كان إعزازي لكم أقوى وأشدّ". (ص55)‏

يأخذ الزيت ويتوجه إلى بيت العائلة، ينادي على فاطمة:‏ "تعالي يا فاطمة! لا تيأسي من الشفاء. لقد جئتك ببركة أم هاشم، ستجلي عنك الداء، وتزيح الأذى، وترّد إليك بصرك فإذا هو جديد..."‏ ويبدأ الدكتور إسماعيل ابن حارة السيدة زينب (أم هاشم) رحلة علاج فاطمة التي تحبّه ونثق به، والتي انتظرته. عاد من جديد إلى علمه وطبّه يسنده بالإيمان... عالج فاطمة بالزيت المبارك وبالأدوية الحديثة معاً، وشفيت، وتزوج منها، وأنجب.‏

افتتح عيادة في حارة (البغّالة) الشعبية، وأخذ يعالج فيها الفقراء بقرش واحد بالأدوية الحديثة وزيت أم هاشم! بالعلم والإيمان، بالفهم والحب، بالتواضع والصبر، نجح إسماعيل.  

هذه الرواية القصيرة، التي كتبت بدون زوائد، بلغة فصيحة سلسة، ربطت اسم الأديب الكبير بها، وتململ من ذلك.. ولكنها الحقيقة والواقع الذي عاشه "حقي" كما عاشه أدباء كثر غيره.

 

 

Google

  في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com