دراسات نقدية



2- الدرب الطويل/ 20

من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)

 

اعتذار: في الحلقة 19 يوجد خطأ في موضوعة (الصدف اللعينة) أثناء نقلي لذكريات الوالد في البيت " خذ ما استطعت من الدنيا وأهلها لكن تعلم قليــلاً كيف تعطيهـــــا" والصحيح و "أهليها" وشكري للأستاذ رياض صالح الجعفري لهذا التنويه، وسأكون شاكراً لمن يقدم أي ملاحظة لتصحيح أي خطأ إن وجد./ الناشر
 

 


وانفجرت الفقاعة/حين دقت بغداد الطبول

وتلك عادة لأهالي بغداد، إذا غلت فيهم الدماء لحادث عام. يبدو إنها أعلنت أن تنفض عن رأسها غبار الاستكانة، وسخطها بهياجها العارم. لا يمكن أن نتصور ما حدث، لا يصل إلينا صوت، وانقطعت عنا الجرائد منذ أيام! لماذا؟ لا نعلم!في يوم ثان سمعنا ضوضاء في الجهة المقابلة، التي تعود للشرطة الخيالة وخيولهم. ماذا حدث؟ أفراد الشرطة لا يجيبون، لابد أن هذه تعليمات المعاون، لماذا؟!
في الصباح تأخر إخراجنا لقضاء الحاجة! وبعد ربع ساعة، عدد هائل من الشرطة طوقوا الساحة. السائق الموقوف العادي "أحمد" صاح "يا يابه، ضربوا ستگي طاخ -يقصد الحسبة ثخينة-!"
ساد الموقف تساؤل، ثم اُخرجنا. هناك في الساحة المطوقة من كل جهاتها لمحنا غرفة الخيالة، رؤوس تطل من النوافذ ذات الزجاج المحطم! دنا منا أحد الشرطة، قال "رجاءً لا تكلموهم!"
لكن واحداً، صاح باسمي، إنه طالب نجفي، في دار المعلمين الريفية. وسألته، ماذا يحدث؟. أجاب، الكليات والمعاهد، والثانوية، كلها أعلنت الإضراب والتظاهر!. تهللت وجوهنا فرحاً. حين مرّ شرطي يجوب الساحة دمدم، بغداد انجنت، دقت الطبول، أخذت بغداد ترقص على نار!. وسرى الهمس، بل أعلنا الخبر. قال عبد اللطيف، إذا دقت الطبول فلن توقف الجماهير، بغداد قوة مهما كانت.
جاء لأول مرة أسعد الشبيبي ابن الشيخ محمد رضا لزيارتي يحمل ملابس إليّ من أهلي، وهدية فاكهة وجريدة، حدثني بشكل رؤوس نقاط "الكليات أعلنت الإضراب 15/1 في هذا اليوم جبر وبيفن يوقعان المعاهدة. مظاهرات صاخبة، أشترك فيها، العمال، الفلاحون، الكسبة، إلى جانب الطلاب. الحكومة أغلقت كلية الحقوق. عشرات الطلاب غصت بهم المواقف. الجماهير مصممة على تحطيم المعاهدة، وفضح أهدافها. المظاهرات أرعبت الحكومة، فأمرت شرطتها بإطلاق الرصاص، سقط أربعة، أحدهم الطالب الشيوعي شمران علوان من دار المعلمين". قلت، أسعد أجلب لنا ورقاً أبيض، جرائد فيها أخبار المظاهرات.
وخرج طلبة الريفية، وأتصل بي الطالب النجفي، وحدثني مثل أسعد.
في هذه الأثناء صاح واحد من بيننا، أبشروا اليوم يطول مكوثنا خارج الموقف، قد نظل لمدة ساعتين. قاطعه ثان، هذا مفهوم، لا يوجد غير مرحاض واحد. صاح ثالث، في الأخريات فيضان! قال آخر، نعم هذا حكم يضطهد الشعب، ويقتل الشباب، وينشر الخـ...!
ودنوت من جهة المرافق، عليّ أن أحصل على السره. الزميل "يونا لاوي" في شغل آخر، انه في حال طرب، في رواح ومجئ، يردد أغنية "همسة حائرة". زميل آخر أشغل –الكنيف- يضحك ويضـ... مصاحباً صوت "يونا" المذكور في القرآن؟! دنوت من "يونا" وقلت، زميل أستمر، فالموسيقى التي تجاريك رائعة؟! عند هذا أحسّ وقطع أغنيته بلا أسف.
وجاء الليل. زنزانتنا اليوم كثر ضيوفها. هم ليسوا سياسيين، ربما هم من أمثال ضيوفنا كل ليلة، أو ربما هم من الجواسيس، لا يهمنا هذا، بقدر ما أبقانا عددهم بحيرة من أمر النوم. ساحة الزنزانة لا تتسع إلى أكثر من عشرة بمضايقة. نحن الليلة ثلاثون! قال واحد، لا تسمروا قبل حل لمسألة النوم! أقترح بعض، أن نقسم الموقوفين إلى ثلاث وجبات على الوقت المحدد أيضاً. لكن الأكثرية عارضوا، دعونا نسمر، ومن أدركه النعاس ينطرح حيث هو! قال آخر، أقترح أن يباشر "أبو كفاح" ويشغل نجفياته؟!
كنت أغطي رأسي بملف، أخذت وضع جلسة منبري أيراني، مغرم بالوعظ والإرشاد، يبدو انه لا يعلم شيئاً، غير ما يتهم به اليهود والنصارى. الشباب المنبريون العرب يختلقون عنه ويلفقون، ما يناسب أحاديثه. وأنا الآن وجدت تلك خير سلوى وسهرة طيبة. الزملاء يتحلقون حولي، بعض العاديين انطرحوا يستغلون الفرصة للنوم، لكنهم الآن يصغون.
بدأت وكأني ذلك الشيخ "علي الشوشتري". الواقع انه زاهد متقشف، لكنه يبالغ فوجهه محلوق اللحية، وكثير الوعظ في ذم الدنيا ومحبيها. ويصف جهنم فيبكي قبل الآخرين، أما هذه الحكايات فافتعال ضده. صرت مثله، أوجه السؤال للمستمعين، هل فيكم من يلبس لباس يحود "يهود"؟ المستمعون، نعم، نعم شيخنا ... ويلاه، هؤلاء يحشرون مع يحود في جحنم "جهنم"؟
وجاء دور خطبته، وقلدت صوته "ابن آدم، يبن الآدم، يا قواد بن القواد، يا متي -مطي- ابن المتي، تركبون الشبنجعفر -الشمندفر أي القطار- وتتركون حمير الله...!". ويلطمون، مسكين مُتي أشكسر -اشكثر- يمشون. ويتعالى الضجيج والضحك. جاء شرطي وقال، أخوان، البيك مريض، ويقول ليسوون ضجيج. طردناه وواصلنا التمثيل، ابن الآدم .... تسبحون بالماء الفرات، وتتعثرون بالعثورات، تتعطرون بالعطورات، مسكين وردان يفوج بالزر....! ويعلو الضجيج يرددون اللازمة.
جاء المفوض عبد الباقي، أخوان البيك يلتمسكم، يطلب الهدوء، انه مريض. لكنا استمرينا. جاء هو، وقف أمامنا -خارج- وبلهجة نابية، ولكم سرسرية، بُشتيه، وديت الكم أرجوكم، مو أوادم، ليش هجي؟. صاح أحد الموقوفين، خايف تروح لبيتكم، لومسكوك المتظاهرين، يودوك بسلامة لموتاك!
التفت اليّ وقال، ولك تريد تاخذ ثار أخوك مني، تريد سوي هنا ثورة؟!. فشتمه عبد اللطيف، أمشِ منا ثور. قال، ها ولك عبد اللطيف، أبوك هاشم السعدي، خوش آدمي الله يرحمه، ليش تصير سرسري مثل هذا!. فبصقنا بوجهه دفعة واحدة.
أصدر أمره إلى الشرطة "تجمع بالسلاح، أفتحوا الموقف، يالله طلعوا هذا". وأشار إليّ، وهذا وأشار إلى عبد اللطيف. عبد اللطيف هاشم السعدي، طالب حقوق، من أخواله علي محمود الشيخ علي المحامي، ومن أعمامه داود السعدي المحامي، وهو رياضي رباع. لكن الموقوفين هجموا جميعاً يهتفون "كلنا، كلنا"، وهو يصيح بالشرطة، وهو متجه إلى غرفته، بس ها الاثنين.
لم تقو الشرطة على صدنا، ودخلنا عليه في غرفته. أمر أن توضع السلسلة بيدي. وعاد يكرر كلامه مع عبد اللطيف، هل تريد أن تحمل نجماتي؟
عبد اللطيف ردّ عليه، هسه أعلمك يا حمار، وحمله بيده من خلف المنضدة، وانهال عليه الجميع بالضربات الموجعة. المفوضون يصيحون "لا أخوان البيك مريض!". ويشيرون إلينا بالاستمرار. ودفعه عبد اللطيف والدم ينزف من أنفه وفمه. أستعاد جلسته، وخاطب المفوضين "رجعوهم. يصير الصبح وأوديكم للتحقيقات، يهرون جلودكم، هسه راح أخابر عليكم".
ليتنا فعلناها قبل اليوم. عدنا إلى حيث نستقر، ربما يفعلها هذا الأحمق. قال المحامي، لن يفعلها وان فعل، يعاقب ولكن علينا أن نقدم دعوة ضده.
وضعت صورة الشكوى، وزعت الأوراق بعدة نسخ، إلى وزارة الداخلية، العدل، الأحزاب والصحف. قبل أن تكمل أعداد النسخ، جاء المفوض عبد الباقي، نادى، المحامي محمود صالح، علي الشبيبي، عبد اللطيف السعدي، تهيأوا، يالله. إلى التحقيقات.
أيها الخبيث الأرعن، فعلتها إذن! لا بأس، تناولنا الفطور، وتهيأنا، قلنا لمن بقي، أستمروا بكتابة النسخ، سلموها إلى أسعد.
رفض السائق أن يتحرك قبل استلام أجرته. ورفضنا نحن أن نتحمل الأجور أيضاً، حين طلب هذا منا المفوض. قال للسائق، أعطيك وصلاً تستلم بموجبه الأجرة في وقت آخر. فرفض. وسلم المدير الأجرة. وانطلقت السيارة، ولكنها تجاوزت بناية التحقيقات.
- إلى أين عبد الباقي؟
- إلى الموقف العام، وضحكنا للانتصار الذي أحرزناه. هنا "الموقف العام" هذا الذي زرته كثيراً، ولكن لا الداخل، كان أخي وبقية السياسيين، يقيمون في غرفة الساحة الخارجية المواجهة للباب الخارجي. كان هذا في 5/2/1948. وهنا حدثنا من وجدنا من القادة السياسيين بكل الأحداث التي تمت من منتصف كانون وحتى إلغاء المعاهدة وسقوط الوزارة في 27/1/1948.
كان كل شيء قد انتهى. فقد هَزَمَ الشعب صالح جبر، وألغيت المعاهدة "بورتسموث" فقد هب الشعب أجمعه ضد وزارة صالح جبر. لجنة طلاب الكليات والمعاهد، قدمت مذكرة إلى الوصي تضمنت المطالبة بإلغاء المعاهدة، ومعاهدة 1930، محاكمة المسؤولين عن أطلاق النار، واستعمال القوة ضد المتظاهرين، وانتهاك حرمة المعاهد العلمية والمستشفيات، طالبت بضمان الحريات الديمقراطية، وتوفير المواد الغذائية، وإنعاش الحياة الاقتصادية.
كان يوم السابع والعشرين من كانون الثاني يوم انتصار الشعب على الطغمة الحاكمة الفاسدة. ولكن الشعب قدم ضحايا كثيرة. كان هذا اليوم يوم استشهاد فتاة الجسر، وجعفر الجواهري، وقيس الآلوسي.
هنيئاً لك أيها الثعلب الماكر "نوري" ضربت بحجر واحد، فأصبت، هذا الشعب بكوارث ففقد عدداً من أبنائه البررة، وعمت البلاد فوضى، وأفشلت من يمكن أن تضايقك شخصيته "صالح جبر". أراد صالح أن يكون علماً ومحظوظاً عند الإنكليز، فورطته بشرِّ ورطة، ولو لم يفر إلى مصر لمزقه الشعب.
ما تزال الجماهير والطلبة، ينطلقون بالمظاهرات. نحن نسمع أصواتهم، ثم تصلنا أفواج من الشباب، تلقي بهم الشرطة معنا. كان الموقف يضيق بتلك الأعداد يومياً، ثم يفرج عن الأكثرين بكفالات.
الموقف العام
رغم أن هذا أيضاً سجن، أنا فيه فاقد حريتي، بعيد عن أهلي وأطفالي، لكنه على أي حال رحب. فهنا ألتقينا بالعشرات من المحرومين من الحرية، وأن يكن بعضهم من المجرمين-قتلة ولصوص-. هكذا وجدت نفسي، وكأني نسيت كل ما لقيت في التحقيقات الجنائية، أو في مركز شرطة الكرادة.
المكان هنا مريح، الساحة واسعة، تتيح لنا أن نتمشى فيها ونتريض، هناك فقد جسمي كثير من المرونة، وحمل عبئ الوسخ، كان هذا يزعجني كثيراً. هنا أيضاً عدد كبير من خيرة الشباب المثقف، سياسيين، قادة، وصحفيين، من الأحزاب الوطنية، الشعبية والديمقراطية. في كل يوم يزج بأعداد، يفرج عن بعضهم خلال النهار، والغريب إن المحسوبين على الأحزاب القومية، كثير ما يطلق سراحهم بعد سويعات. وإذا أطلق سراح محسوبين على اليسار، فانه يعود إلينا في اليوم الثاني أو الثالث.
الموقوفون من الأحزاب الشعبية كلهم في ردهة واحدة. كلهم في نظر التحقيقات يساريون شيوعيون، مع هذا تجد كل فئة احتجزت لها مساحة تناسب العدد، ولهم منهاجهم الخاص بكل شؤونهم، يدبر أمرهم واحد منهم، ولكن – هذا أمر حسن- الجميع يلتقون في تحديد موقفهم من إدارة الموقف، ومن المحاولات التي يتشبث بها المسؤولون لشق وحدة الكفاح ضد السلطة.
هنا وجدت تنفساً، سعة المكان، نوعية الموقوفين، وأفاقاً رحبة في التجارب والخبر، في شحذ القوة المعنوية، في أحاديثهم ومعلوماتهم سياسياً واجتماعيا. أمثال توفيق منير، عبد الرحيم شريف، كامل قزانجي الطيب ذو الوزن المرموق في هدوئه ومرونته. عبد الحسين جواد الغالب، الصورة المثالية للمهذب، والظرف والرقة، والمعلومات العرفية لمجتمعنا العراقي. وأمثالهم كثير.
المسؤول الحزبي "صالح الحيدري" أنفرد بي بضع دقائق، أبلغني إن الحزب أوصى أن نعتبرك واحداً منا. ثم أستوضح مني، بعد أن قال "أرجو أن لا تندفع للإجابة، بانفعال نفسي من شخص معين، كل عشرة قد لا تجد بينهم واحداً يملك أعصابه عند التعذيب الوحشي".
وعلى إني قد تخليت عن عضويتي منذ أمد في أواخر عام 1947 فقد وجدت أسمي ضمن الملفة التي شهدتها أمام مأمور الموقف "راشد اللامي" وقد كتب عليها صالح الحيدري ورفاقه. لم تكن لي بصالح الحيدري معرفة من قبل هذا حتى ولم أعرف أسمه.
وهنا لم أشارك إلا ما يخص كوني واحد من السجناء في القضية الوطنية. برقيات الاحتجاج، حفلة تأبين الذين استشهدوا من المتظاهرين.
وضع الموقوفون برامج يشترك فيها الجميع. محاضرات عن الغرض في تحقيق هذه المعاهدة "بورتسموث"، لماذا صالح جبر، العراق الدستوري، ويد الإنكليز. وسوى هذا فقد أشغلت نفسي بكتابة مجموعة من أحاديث سميتها "ليالي".
وكان يلذ لي أن أحتك بالموقوفين العاديين، وأتعرف على سلوكهم، وأسباب توقيفهم، وبماذا يفكرون للخلاص؟ هناك من يلازم الصمت، والكآبة تغمره، بينما آخرون يبدون مرحين.
هنا غرفة احتجزت لثلاثة أخوة. أوقفوا بدعوى من أبيهم "حسن السهيل". كان يقوم بخدمتهم رجل في بداية كهولته، يدعى "أحمد محمد أحمد" قال، انه عراقي الأصل، هاجر أبوه إلى حلب، ومات هناك بعد سنين. ودَعَته الذكريات والحنين إلى وطنه الأول، فجاء يزوره، يزور البيت الذي ولد فيه، فقبض عليه كمجهول الهوية. وأعتذر مستخدموه، لسنا سياسيين فنخشى منه؟
أمس مرت تظاهرة، رمينا بواسطة مصيدة عصافير، التي يستعملها الأولاد، صورة برقية. هكذا نفعل أحياناً عن وضعنا نحن الموقوفين. أحيانا نربط بطيارة ورقية بياناً، مع إيضاح لمن تقع بيده "كن مواطناً شريفاً وأوصل هذه الرسالة إلى الصحف الوطنية".
ذات ليلة اشتركنا بتنظيم أغنية سياسية، غنيناها على لحن أغنية "عمي يبياع الورد" نشرت في جريدة قرندل. طلبت من الأستاذ "كامل القزانجي" أن يجلب لي –إعارة- العهد القديم، الإنجيل، والقرآن المترجم للإنكليزية مشروحاً. لأتعرف وأقارن بين ما ورد في القرآن، وبين ما يذكره العهد القديم، قصة آدم والشجرة، نوح وعمره، قصة مريم، يوسف وزليخا، موسى، كان هو الذي يقرأ لي ويشرح ما يقرأ.
وبعد خمسة أيام جيء ببقية الزملاء من موقف الكرادة، وأطلق سراح بعضهم بكفالة، منهم صديقي –م- الذي أتهمني أمام الزملاء كذباً ليبرئ نفسه، وجواد، ويونا لاوي، يقال أن خاله ثري للغاية، وقد توسط أمره بمئات من الدنانير، بين الحاكم ونايل وصحبه. واُبلغنا بموعد المحاكمة. المحاكمات، روتين، فقد ينجو المتهم الحقيقي، ويدان البريء، حسب مكانة من ينتصر له.
وحكومة الصدر الذي هو أيضاً "حمامة سلام" هل ستطلق الذين أسقطوا جبر وبورتسموث؟
هل ستطلق الحريات؟ أعتقد أن الأمر محدد فقط لتهدئة الأوضاع. فقد أهاج الشعب "شيعي" وهدأه "شيعي" حسب تخطيط أبي صباح "نوري السعيد"
في الجلسة الثانية من المحاكمة، كان الحاكم "برهان الدين الكيلاني" يرفض أن يسمع من المتهمين شكواهم على الشرطة الذين مارسوا تعذيبهم لانتزاع الإفادة حسب هوى التحقيقات. فأجمعوا الأمر على الإضراب، عن الطعام والكلام، ورفعوا عريضة إلى المحكمة تتضمن هذا.
عارضت أحد المطالب التي تضمنتها. إنهم يطالبون بعدم الأخذ بإفادتهم أمام حاكم التحقيق. هذا مطلب غير ممكن قانوناً، لأنه أكتسب القطعية، يمكن الطعن بما أدلينا أمام الشرطة فقط.
صحيح إن حاكم التحقيق "علي فريد غالب" كان أشد صرامة من شرطة التحقيقات، وانه يطلب من الشرطة إعادة من يمتنع -كما فعل هذا معي- لكن من يقدر أن يثبت هذا ضده؟
صاح بي "عبد اللطيف"، تصرف في المحكمة كأي جبان ...؟! هكذا أذن؟ سأتصرف، ولِنرَ النتائج؟!
توالت جلسات المحكمة، المتهمون يلاقون استجواب الحاكم ببرود وإصرار، ويشيرون أحياناً إلى الشاهد بشتيمة. كانت لهجة الحاكم بين الشدة واللين. يشتد فيعلن سخطه بحمق حين يعرض المتهم ملازماً الصمت.
أستمر الحاكم يسأل واحداً واحداً، وهم صامتون. كان الذين أطلق سراحهم بكفالة طبعاً غير مشمولين بالإضراب. أنا وحدي بين زملائي، أجبت "مستعد للإجابة، مضرب عن الطعام فقط". هذا بديهي، إذ ليس لي هنا أهل فيجلبون لي الطعام، ثم من باب المجاملة للمضربين ونحن على قضية واحدة. بل كنت مستعد أن أضرب حتى لو كان لي من يجلب طعامي. واستمرت المحاكمة أياماً متتالية. لم يبق عن موعد القرار أكثر من جلستين أو ثلاث.
توترت أعصاب "عبد اللطيف" فإذا بها وشوشة، وعند الاستراحة، أعلن كفى، سنفك الإضراب. فليوص -من يقدر- ليأت أهله بالحساء!
توترت هذه المرة أعصابي. الجوع لا يطاق، هذا حق! ولكن من الذي تصرف تصرف الجبان؟! سأواصل الإضراب. ألم نكتب في العريضة -حتى الموت- أيها الزملاء، تأكدوا إن الحاكم سيؤجل المحاكمة فترة أطول؟ طبعاً، هذا مكسب؟!
حين أعادونا إلى الموقف، نقلت فراشي خارج الردهة لأواصل إضرابي، احتجاجا على زملائي الذين عالجوا خطأهم بخطأ.
وأقترب مني شابان، يقيمان في غرفة صغيرة. لا عجب فهما من خدم عبد الهادي الجلبي، وتوقيفهما بسببه أيضاً. إكراما له، حجزت لهما هذه الغرفة. هكذا سرقوا له، فهو مدين لهم جريمتهم، أهون على الدولة من سياسي يحارب الأنظمة الفاسدة!؟ إنهم شباب استيقظت ضمائرهم، كشفوا لي أمر السرقة. لن تمس شخصية الجلبي، أنتم المتهمون، ولو أصرت الدولة على عقوبتكم، لأبدى الجلبي امتعاضه متبرءا منكم كمجرمين. ولكن يستطيع خلاصكم وسيفعل!
لهم شريك "مهدي أبو قلل" سائق. كان دائب الضحك والنكات. قلت له، وأنت؟ أجاب، أحنه متعلمين، على التهريب، لا تخاف علينه، يدرون بينه إذا ما عملوا على خلاصنه شنسوي؟!
- شتسوي يا مهدي؟
- عمي نحكي الصدق؟!
زملائي الآخرون توفيق، القزانجي، الغالب، تجاوبت مع إلحاحهم عليّ، فأنهيت إضرابي. وكان إفطاري على الحساء من بيوتهم.

يتبــــــــــع

 

 

Google

  في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com