دراسات نقدية



2- الدرب الطويل/ 21

من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)


 


محمد علي الشبيبي
alshibiby45@hotmail.com

أشخاص لفتوا انتباهي
أحمد محمد أحمد
لفت نظري، وهو يتمشى بين "موريس" و "البير" الموقوفين الشيوعيين. وهما من اليهود. كانوا في رواح ومجيء في ساحة الموقف، أحمد يتحدث وهما في إصغاء. بعد افتراقهم جاء موريس وصاحبه يسألاني، إن كنت قد عرفت من أولاد السهيل عن خادمهم هذا شيئاً؟ قلت، لا يعرفان عنه شيئاً.
موريس شاب يهودي عراقي، أوقف بتهمة شيوعي ولمشاركته بالمظاهرة. ألا يدل هذا على إخلاصه لوطنه العراق، ولكنه عومل باعتباره يهودي وكل يهودي صهيوني في نظرهم! وأكرر رأيي، إن طرد اليهود من العراق متفق عليه مع الاستعمار من قبل نوري والباقين، ليصبح عدد اليهود في فلسطين أكثر من عربها.
انه "الخادم" يهودي صهيوني، هو أحد ثلاثة ألقي عليهم القبض بهذه التهمة، أحدهم فتاة بولونية تدعى "ليفي روفائيل" ويهودي عراقي يدعى "ناحوم" أحمد هذا والفتاة وناحوم مهمتهم العمل بين يهود العراق لدعم الجمعية الصهيونية وتشجيع شبابهم على الانضمام إليها. والعمل بموجب التعليمات الصادرة. هذا ما تحدث به إلينا نفسه "أحمد" كان يناقش مسألة انتمائنا إلى الشيوعية. قال "الشيوعية، سراب، نبوءة موسى تحققت -تعودون على أجنحة النسور-!؟ أتفهمان؟ أجنحة النسور. نحن أبناء اليوم، فهمنا. ذلك الرمز، انه الطائرات؟! ما قال ماركس ولينين هراء؟! يجب أن تتفهما الحقيقة، هؤلاء العرب، كلهم، لن يرحموكم، ولن يصدقوكم، انتبهوا من غفلتكم، توجهوا بنضالكم لتحرير –أورشليم- من براثن هؤلاء الوحوش!". وعقب موريس، منذ أسبوع وهو يتصل بنا، ناقشناه أول الأمر، ثم ارتأينا أن نبدو كمقتنعين.
قلت، في التحقيقات لاح لي شخص يدعى ناحوم، أطلق سراحه بكفالة. وماذا عن "ليفي"؟
- ليفي، موقوفة. بينما يقول عن ناحوم انه يهودي عراقي نشط، واسع العلاقات، يستطيع التفاهم بالدنانير.
وهنا بولوني يبدو أنه أخرس، يدعي انه لا يعرف كلمة لا إنكليزية ولا غيرها، على الرغم مما قيل انه في سورية، وعبر إلى العراق بأجازة ليلتقي مع بعض معارفه في الجيش البريطاني. ألم يحدثكم عنه أحمد، بالطبع مثلما كتم عنكما أسمه الحقيقي!
وسارعنا، فحررنا عريضة إلى المحكمة لأداء شهادة، منا نحن الثلاثة، حول قضية هؤلاء. أنجزنا ذلك بواسطة مأمور الموقف.
وحين حضرنا المحكمة، لمحاكمتنا على العادة، استقبلني المفوض "يس إبراهيم" صافحني وقبلني. استغربت ذلك. فقال "حقاً إنكم الوطنيون الشرفاء. أنتم أنقذتموني، بعد أن كدت أهلك بسبب ناحوم، ومكيدة نايل عيسى –قال هذا همساً- رشاه ناحوم بمقدار كبير من الدنانير! ليس له وحده، لمن يشاركه من الكبار؟! كنت المسؤول عن ناحوم في التحقيق، ورفضت أطلاق سراحه بكفالة، لكن نايل وجه إليّ تهمة تعذيبه، بغية الحصول على رشوة. قل، ماذا تريد أن أساعدك؟".
- خرجت مسألتي عن يدك، ولكن سارع، أنقذ ضميرك، قبل أن يموت تماماً من جيفة هذه البؤرة!.
ألح عليّ أن يقوم بخدمة. قلت، أرجو الحصول على نسخة من التصوير الذي أخذ لي عندكم بعد ضرب ناشف!
- الواقع انه طلب يصعب عليّ، انه ممنوع ولو علموا يكون دعماً لإدعاء نايل ضدي. سأحاول.
وأخيراً جائني به! وأضاعها أحد طلابي من هواة فن الرسم ومجيديه، ليكبرها لي فأسفت إذ كانت تصور مدى الذعر الذي كنت أعانيه وقد كانت مباشرة بعد تعذيب.
محمود عنقرجي!
بي دائماً رغبة ملحة أن أعقد صلة بمن أتعرف عليهم، أو أضطر لمعاشرتهم. الشيوخ الذين درست عندهم، الشباب الذين ماشيتهم في الدراسة، وبعضهم من الوسط العامي، فكانوا يحدثوني عن مغامراتهم وبطولاتهم، صدقوا أم كذبوا، والموقف ملئ بنماذج غريبة، وأسرار عجيبة. حكاياتهم، ومشاكلهم تصلح للدراسة، ولكتاب القصة.
محمود عنقرجي، سائق كثير المخالفات، قرر أخيراً أن يبقى في السجن إلى الأبد. "افرض نفسي واحد من موظفي السجن!" هكذا ببساطة. ما الفرق بينهم وبين السجناء، تصور أن بعضهم يتعرض أحياناً لاعتداءات من سجناء!
- قل لي الآن يا محمود، كيف تستفيد؟!
ضحك، وضحكته تشبه -كركرة طفل- رغم ضخامته، وقال، هذا سرّ مهنة!. ولكن مع داعبة بمستواه، أجاب، أوعدني إنك ستكتم السر! أنا وجدت مسؤولي السجن يخوون السجناء -من خاوة أي يسلبونهم برضاهم-، الذين لديهم أمكانية مالية، فصرت أنا الوسيط. يأتي معاون المدير، فيدخل الردهات، ويختار عشرة موقوفين. يعلن لهم أن يتهيأوا لإرسالهم إلى موقف العبخانة، لإحلال عدد من الموقوفين! نصت الجهة المسؤولة ألا يكونوا هنا! ويأتي دوري، فأحدثهم بحديث خافت عن موقف العبخانة. العيشة به موت أحمر! أي عمي، هناك ميوصلكم أحد، إلا ينطي رشوة للشرطي الحارس. الأكل من السوق، والشرطي ما يروح إلا برشوة! وياكم نشالة مجرمين، الله أكبر شلون وحوش، يسرقون هدب عيونكم، كلمة والثانية لكمة. عمي أشتروا راحتكم! وأسحب من كل واحد خمسة، وطبعاً إلي بكل خمسة نصف أو ربع، وياهه وياهه. وبعدين نخلي بمكانهم للعبخانة من الهتيت –الفقراء-.
قلت، الله أكبر هذا ظلم. أجاب، أسكت عمي والله لو يرجع محمد بن عبد الله ميسوي العراقيين أوادم، أنتو مدوخين روسكم بلا فايدة.
- صدقت يا محمود. كل المجرمين يهون أمرهم على حكومتك إلا السياسي، وخاصة الشيوعي. "ناحوم" يتفاهم مع نايل، لأنه صهيوني، والإنكليز يكرهون الشيوعي لا الصهيوني. الشيوعيون والشعب العراقي كله تظاهر ضد فتح الهجرة لليهود والصهاينة، لكن نوري السعيد أخذ يهجرهم بحجة الخلاص منهم. بالهجرة زادت نسبة سكان فلسطين من اليهود، بل صارت ضعف العرب.
بهرام الفارسي
بهرام درويش من حضرة عبد القادر الكيلاني. قصير القامة، تجاعيد وجهه تدل على سوء حاله الغذائية رغم انه في مرحلة الشباب. ألف ردهتنا، فلم نبخل عليه بالطعام. واعترافا بالجميل صار يقوم بغسل الأواني. طعام السجن لا يرتاح إليه برهام، كأي سجين آخر، صمون متيبس، أو محترق، تمر تعافه النفس وتشمئز منه، والرز المطبوخ وقد حسبته ملحاً غير نقي عندما رأيته لأول مرة عن بعد بضعة أمتار! وماء أصفر، يوضع عليه من قدر آخر، بواسطة علبة مربى قد ربطت على عود جريد النخيل. سعيد من يحصل مع هذا الماء بضع حبات من الحمص حين يغرف الموزع الماء الأصفر من القدر. أما اللحم، مرة في الأسبوع. فقد مررت وشاهدت سجينين عاديين وقد عض كل واحد منهما طرف قطعة اللحم، وهي بين فميهما تتمدد كالمطاط، والمارة ينظرون بين ضاحك وعابس.
قلت لبهرام، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ تبسم ابتسامة المتبجح بعمل بِرّ.
- أنا كان يمشي، بشارع النهر، بايدي هاي سبحة. اللهم صل على محمد وآل محمد، صُبي زحك –ضحك-! أنا أزربك –أضربك- صبي، بسكين هنا. وأشار إلى عضده.
- وكيف تفعل هذا؟
- صبي كافر! يزحك على مصلم –مسلم-؟! أگر أنا اكتلك بالجنة، أگر هو يكتلك بالجنة.
- طيب الصبي كافر. معنا الآن يهود، نصارى، كيف تأكل من طعامنا؟ جبار زهيري صبي، موريس يهودي، أستاذ كامل نصراني!
- أستغفر الله، كُلم مصلم، كُلم مصلم.
حقاً لو آمن هو بأنهم كفار لحرم من زادهم الذي يؤتى به إلينا من البيوت؟! هنا أخضع الدين للمصلحة؟! وقلت، بهرام أحكي لنا قصة مريم (ع).
- مريم -عليه السلام- راح يغسل بِشَت –بالشط-، سمع صوت، ياحزرة المريم، حزرة الله يريد يحَبلك؟ حزرة مريم زَبْ شعره على وجهه، وغال، أنا ماعندك رجال شلون يحبلك؟ ملَك غال، بأمر حزرة الله يصير أنت حبلان بحزرة عيسى (ع) هناك طير أخزر –أخضر- طبت –دخل- بالحلگ مريم!
كنا نكم أفواهنا بأكفنا نخفي ضحكتنا وهي تهزنا هزاً، فانفجرت ضحكاتنا مدوية. وعلق أحد المستمعين لحديث بهرام الشيق. يا برهام أبدل طاء الطير بعين، ورحم الله بن خالتها يوسف النجار!.
في سنين متأخرة بعد ذلك العهد، قرأت كتاباً لأحد البارزين، فيه "كل فارسي شعوبي إلا إمامنا أبو حنيفة، فانه وإن كان فارسي الأصل إلا أنه ليس شعوبياً!؟". ولو سألناه عن عبد القادر الكيلاني، والغزالي وغيرهم من الفرس الذين أسلموا ولكن على المذهب السني لكانوا أيضاً مثل أبو حنيفة. ولكن الفارسي حين ينظم إلى المذهب الشيعي فأنه شعوبي! في حديثي عن بهرام حاولت تقليد لهجته الفارسية في قلب بعض الحروف العربية أثناء نطقه بها.
شهادة بريئة
وهذا شيخ في سن السبعين، لو رأيته قلت، انه في الأربعين! جهوري الصوت، يقذف بالكلمة كما يقذف كرة من يده. يهز رأسه عندما يتكلم، ويدير نظره وهو يتحدث إلى كل مستمعي حديثه. عرف في الموقف بـ -أبو رومل- و -أبو ﭬيلد- وهو من عشائر ديالى. معجب برومل، ثعلب الصحراء، يذكره مفاخراً كأنه أبن عشيرته.
كانت تهمته، انه لص خطر. وأكثر من هذا، فانه إذا ضويق لن يهرب! إنما يستعمل مسدسه أو بندقيته، خلافاً لما أعتاد عليه اللصوص. فهم لا يستعملون هذا كيلا يثيروا عليهم كل من يسمع. الخنجر يكفي، عند الضرورة؟!
حدثناه عن النازية التي هو معجب بها، لمجرد إن –هتلر- زلمة قاوم كل الدول. بريطانيا العظمى، أمريكا، فرنسا.الحديث كان مسهباً، ومتشعباً، وبلغة يفهمها من قبل المعنيين، الشهيد توفيق منير، عبد الرحيم شريف، كامل قزانجي. كان يصغي وأستوعب. وقال أحد زملائنا، يا أبا رومل ...! فبادره برد عاجل وبانفعال. لا لا، والله راح أبدل أسماءهم، لنين، ستالين، فهد؟! قال الزميل: خليني أكمل، أنت الآن عرفت من هم اللصوص الحقيقيون؟ أنت يسموك لص، وأنت تسرق بالليل، السبب الأول لأنك تريد أن تعيش. ذوله يسرقون بالنهار، ويقتلون ويذبحون الأفراد والشعوب، ويسموهم –زعماء- ذوله سالبي أقوات شعوبهم، وخانقي حرياتهم، وعندما تموت يلعنوك، والناس أيضاً. والسرقة طبعاً حرام، لكن أخذ حقك وحق غيرك بضرب أمثال –هتلر- من حكام الشعوب، وتجار الحروب والمحتكرين.
وفي المحكمة، تهكم الحاكم منه، وسأله مستغرباً هازئاً، يابه أنت أبو رومل، ها، يالص؟
ردَّ على الحاكم، العفو، سميتهم لما كنت ما أفهم منو هتلر، منو موسليني، منو رومل. وأنعم الله عليّ ها الناس الطيبين العرفوني بحقيقة هتلر وأمثاله. وإنشاء الله من أطلع راح أفضح الحرامية الحقيقيين اليسرقون بظهر النهار، وأبدل أسماء أولادي وأسميهم، لينين، ستالين، فهد!
وثار الحاكم، وأجلت المحاكمة. قلنا كيف تشهد علينه؟ أجاب، صيروا زلم لا تخافون، موتوا عند رايكم مثل ما علمتوني!
حسن مهَدِية كان شاباً لم يتجاوز الثلاثين من العمر. تعلو وجهه صفرة ممزوجة بخضرة داكنه، هزيل الجسم. قلت لنفسي أذن هو، ودنوت منه، حييته. لم يستغرب، كلانا من نزل الموقف.
- هل أنت تنزف؟ ولماذا؟
ردّ علي بصوت منخفض ومؤدب للغاية: الغريب إني لا أحس في أحشائي بآلام ولست مصاباً بما يسمونه "بواسير" لكني أنزف، منذ أشهر، منذ أوقفت، حاولت مراجعة الطبيب، المأمور يرفض.
- كيف يرفض، وهم ينادون يومياً في باب كل ردهة، من يريد مراجعة طبيب؟
- بالنسبة لي، المسألة تختلف، يخشون أن أهرب.
وراح يسرد حكايته، وكأن بيني وبينه صلة وثيقة وقديمة، قال:
تركت المدرسة لأسباب، موت أبي وأنا تلميذ. أخذت أمي تدبر أمور عيشنا، صارت خبازة. لم يترك أبي لنا من حطام الدنيا شيئاً، كل ما يكسبه كان يصرفه للغداء والكساء بأكثر من الكفاية، إلى حد التبذير، من يرده ومن ينصحه؟ لهجته، ماطولني عايش أدللكم!
لم يكتف بهذا بل زوجني مبكراً أيضاً. حين مات وجدت نفسي أمام عدد من العائلة. كنت في السابعة عشرة. بعد عامين أصيبت أمي بالعمى. وصار لي طفل. صرت عامل طين، الأجرة لا تكفي لإعاشة العائلة.
واقتنصني شاب كان زميلي في المدرسة. كان إذ ذاك فقيراً. كنت أعطف عليه بحكم ما لدي مما يوفره لي أبي. لكن الآن المسألة معكوسة. بدا لي وكأنه ملاك أبن ملاك! ولست أطيل. لقد جرني وأقنعني، فاندفعت حسب ما يشير في الطريق الشائك الخطر .... صرت واحد من عصابة تسطو على البيوت، لكن البيوت الراقية.
أنا الآن بلا خجل أعترف لك، فقد هزني حدث مقاومة الشعب للمعاهدة الجائرة وانتصاره عليها، وأعاهدك، أقسم بالدماء الزكية التي أسيلت على أرض شوارع بغداد إني سوف أبتعد نهائياً، وأنا مطمأن إليك إنك لا تفشي حديثنا هذا. مرة سطونا على السفارة الأمريكية، وكان الحديث أعجوبة.
قلت أختصر، والآن؟
- الآن ألقي القبض على رئيسنا "جواد كاظم" لأول مرة لم يستطع الإفلات منهم، إنهم يخافونه، له أساليب عجيبة في الفرار. كنت موقوفاً، بتهمة إني أحد أفراد عصابته، عذبت كثيراً، ولكني صبرت. أول من أمس عرضوني عليه ليشخصني. أرسل إليّ "أن لا تخف، وألزم الصمت". وصباح اليوم -قبل طلوع الشمس- أوقظت، الحق إني عراني خوف شديد، هناك وقفت بين عدد كلهم شباب مثلي، وأخرج جواد وبعد أن أستعرض الواقفين، نفى أن يكون المقصود بيننا، ثلاث مرات، مما أهاج المسؤول، فجذبني وقربني منه، وصاح "هذا هو أمامك وتنكره؟". فحدجني جواد بنظرة، وقال شسمك أخي؟ قلت، حَسن! قال، لقبك؟ قلت "مهدية".
صاح المسؤول، تمام؟ لكن جواد سألني، أنت بمحلة المهدية؟ قلت، لا. قال، لعد مهدية شنو؟ قلت، أسم أمي. ضحك جواد، وقال، مع الأسف حسن أخوية، أبو فلاح، رجال ميتلقب باسم أمه، أنا قلت مهدية أقصد محلة المهدية! وأنهار أملهم، وغداً أنشاء الله يطلق سراحي. سأطلق هذه الحياة الشائنة.
- وهل كسبت شيئاً؟
- أملك بيتاً وسيارتين تعملان في الشارع. هذا يكفي!
وفعلاً، غادر ولم يعد.
صور من درجات أرفع
عدا كل شغل في الموقف أشغل به نفسي من لهو بحديث، أو مزاح، تتخلله نكات بريئة، أو إصغاء لحديث أحد شخصياتنا المحترمين في تحليل لتأريخ حقبة معينة، أو فلسفة معينة، أو رجل نضال خلده التأريخ، فاني لا أهمل بعض ما يجب أن أثبت له صورة في ذكرياتي هذه.
وكما التقطت صورة، أحمد محمد، بهرام، محمد عنقرجي وأبو رومل، رأيت لزاما عليّ أن أثبت صوراً لنوع آخر مرّوا عليّ في هذه السياحة، وهذه الفترة من حياتي كسجين. بعض الذين أتحدث عنهم، سجناء معي، يحسبون أنفسهم، أو يحسبهم الآخرون من وزن جيد.
السجن كالخمرة، ينكشف شاربها بما يهذي به، أو بما تجود به قريحته من أدب رائع، وهمة عالية، وشموخ مهذب، لا هو بالفخفخة والكبرياء الزائفة، ولا هو من نمط الانطوائية.
الناس الطيبون كثيرون أيضاً، أحاديثهم بلسم للجراح. توماس هاري يقول "أن عظم الحياة لا يقاس بضخامة أحوالها، بل بعمق تجارب المرء الشخصية، فحياة الفلاح الرقيق الحس أرحب وأعمق وأحفل من حياة ملك بليد الحس"
أول يوم حضرنا فيه للمحاكمة، ولأول مرة أيضا، رأيت شخصية كنت أسمع عنها في جو السياسة، واتجاهات الأحزاب الوطنية، هو أحد زعماء حزب الاستقلال "علي محمود الشيخ علي" خال عبد اللطيف السعدي. جاء معه محام مثله هو "عبد الرحمن خضير" وهو يمت إليهم بصلة المصاهرة، ليتوكل عن ابن أخته "عبد اللطيف" كم يكون الإنسان عظيماً ومحترماً، لو نزع من نفسه الحقد، والكبرياء في مثل هذا المكان، وهذه المناسبة، لكن هذا الرجل وصاحبه كان على غير ما كنت أظن.
نادى المفوض "صفاء" وطلب منه أن يفك يد أبن أخته من وثاقها. كنت موثوق اليد معه. فقد أعتاد الشرطة أن يصفدوا كل أثنين من يديهما بوثاق، لكل يد وثاق ويرتبطان بسلسة. فقلت مداعباً، يمكنك يا سيدي التحدث إليه كما تشاء، كلانا في قضية واحدة، ووثاقنا واحد؟!
أعرض وكأني ذبابة آذاه طنينها! لا بأس، هذا خلقهم، طبقاً لما هو من صميم طبقيتهم! حين جاء دور المحامي، بدأ يلقي كلمة الدفاع. وحين ذكر الدليل الهام لديه، قال "فبيت كآل السعدي أرفع من أن يكون فيه شيوعي واحد!؟". وراح يشتم الشيوعية والشيوعيين.
هنا وقف الشاب عبد اللطيف، وبكل جرأة وشجاعة، أعلن "أرفض وكالة المحامي. على المحامي أن يدافع عن المتهم، إذا كان المحامي واثقاً من أن المتهم الموكل عنه ليس شيوعيا فما الموجب للطعن بالآخرين؟!"
بيننا في الموقف محامون كثيرون متهمون، ولا تهمة لدى رجال الحكم أقوى من الشيوعية. وكان بيننا زميل يهودي لا أعرف غير أسمه "ساسون". هو ساسون دلال كان شيوعياً وقد أعدم في العهد الملكي حيث سلك مسلكاً فوضوياً غريباً. كان لساسون زميل محامي نسيت أسمه وهو من آل الجلبي. أخذ المحامي يحدثني عن ماض له. قال، انه طلقه بلا رجعة! وحين علم أحد كبار الأسرة إني انخرطت بسلك المناضلين، وكل مناضل ضد الحكم بعرفهم شيوعي، جاء إليّ يكاد يتفجر من الغيظ. وقال "كنا نأمل أن تحتل مكانة آبائك وأجدادك، فإذا بك تهبط إلى هذا المنحدر؟!". ضحكت وقلت، أيها العم الجليل أنا أيضاً كنت أؤمل أن تأتي لنصحي أيام انحدرت في مستنقع السفالة، وبذرت ما ورثت من مال وعقار، على العواهر وموائد الخمر والقمار، أم أن ذاك كان مشرفاً حسب منطق الأرستقراطية!؟
علقت أنا، إنهم كبنات وردان، إذ تعيش على أقذار المرافق، لكنها تفر من الماء الزلال!
صاحبه وزميله كان قصير القامة له صلعة لماعة، كثير التنقل بين المتحلقين للسمر، أرسل آهة حادة، وقال، ليت ذاك العهد باق، إذن عشت بأمن وسلام؟ كنا لا نعرف غير سهرات الرقص والغناء، وكؤوس الويسكي ومعانقة الغواني؟ أين ولت تلك الأيام؟ والتفت أليّ، ما تقول يا أبا كفاح؟ أجبت، أنا طلقت كل مرح زائف، ولكل مرحلة من حياتنا حقها!
ردّ عليّ، لسنا زهاداً. أتعلم إن قدوتنا مرّ له دور غرق فيه حتى الأنف؟!
لست أدري كيف باغتّهُ، وبدون لحظة تأمل، بلطمة قوية. كدت أثني لو لم يسارع بعض المحترمين لتفادي ما حدث.
أليس معيباً أن نتمسك بما لا يشرف، ثم نسمح لأنفسنا أن نتحدث عن الآخرين، لنبرر ماضياً انتهى كان بحكم الجهل والنزق.
زميل آخر وفد إلينا قبل بداية المحاكمة. كان قد مكث في غرف التعذيب في التحقيقات الجنائية. لم يكن له تحصيل علمي غير شهادة الابتدائية. رآه الحاكم حين جاء دور استجوابه. أخذ يقذفه بكلمات الهزء والاحتقار "ولك شنو ها الصَلف، هَم تزوّر لك أسم، وهم تختار إضافته إلى أسم الزهراء، بنت الرسول؟! وأنت صابئي؟ شنو ها الجرأة والتعدي. هذا معناه إنك واجدها الصلافة فن!؟ يمسكك الشرطي وأنت تحمل منشور، وأنت سويت نفسك فقير مظلوم، اتهمته عند الناس اللي تجمعوا بصياحك -يا ناس مدري شنو يريد يخلي بجيبي، يا ناس دخيلكم!- خوش دروب هذي. تظنون الناس مغفلين؟"
قال المتهم "سعادة الحاكم، لا تنسَ إن أسمي الصحيح -عبد الجبار الزهيري- والجبار الذي أنا عبده هو الله، فما وجه الغرابة إذن. الله أعظم من الزهراء، وأنا عبده؟ وإذ ضيقتم عليّ العيش أبدلت أسمي لأجد عملاً، وفعلاً عملت فراشاً في دائرة الزراعة. ويمكن أن تبحث كيف تمكنت من الحصول على دفتر نفوس باسم -عبد الزهرة- ستعرف إن هذا شائع مقابل بدل! لكن سعادة الحاكم، لماذا لا تذكر إن الصابئة عراقيون أيضاً. ثم لماذا لم تهتم ، وقد شرحت لحاكم التحقيق، كيف كان الشرطة يعلقوني بعقالي في سنارة بباب الغرفة ويديرون جسدي كلعبة، حتى أكاد ألفظ نفسي من هذا الأسلوب، بينما تنهال عليّ عصيهم بفضاعة. أم أن حياتي كمواطن لا تساوي شيئاً، ربما لا صحة لأية تهمة ضدي مطلقاً. إنك كما يبدو تعتبر الشرطة صدّيقين!
كنا جميعاً نصغي لصوته المعبر تماماً عن أساه. ما من شك إنه أرفع مستوى من الزميل المحامي الذي يملك شهادة عالية. أنا أعرف أن "الزهيرات" قبيلة عراقية. دينهم السابق "صابئة" وأسلم الكثيرون منهم. وهم موزعون في الشطرة، الخالص، العمارة وفيهم رجال دين وكسبة في النجف.
الخير فيما يقع!
نحن في ضيق شديد، يشتد بنا الضجر فيوصلنا إلى حافة اليأس، ويجثم على صدورنا كابوس ثقيل. الزملاء فكوا إضرابهم عن الطعام. وواصلوا فقط الإضراب عن الكلام، طبعاً في قاعة المحكمة، بعضهم ردّ على الحاكم حين سأل، من له استعداد أن يدلي بإفادته، برفع يده، أنا مستعد إن كنتم أيضاً على استعداد لسماع شكواي حول ما لقيت من تعذيب في التحقيقات، ثم أحالة الذين قاموا بهذا الاعتداء للمحاكمة؟!
لم يجد الحاكم طريقة لرد الزميل غير أن يفتعل العصبية "تريدون بهذي الادعاءات تغطية جرائمكم، والفوضى التي تشيعونها في البلد، احترموا القوانين، أنتم لستم جهلة؟!. أخرج الجميع سجايرهم، وراحوا يدخنون، فغادر الحاكم قاعة المرافعة احتجاجا. بعد استراحة قصيرة، عاد وسأل، من المستعد للإدلاء بالإفادة؟
رفعت أنا يدي، ومحاميان، أحدهما كان مطلق السراح بكفالة، كذلك فعل صديقي "م" و "جواد". سألني الحاكم بلهجة رفق "أبني أنت لم تدن نفسك أمام الشرطة، فلماذا اعترفت أمام حاكم التحقيق!؟"
لخصت إجابتي "أنا يا سيدي متزوج ولي ستة أطفال، لا أملك لهم من حطام الدنيا غير راتب الوظيفة. حاكم التحقيق سألني، من الذي رشحني ومن الذين رشحتهم؟ وأجبت بالنفي. فأنا لست حزبياً. كان يسأل ويدون هو الإجابة. سألني عن الجريدة -جريدة الحزب الشيوعي- وأجبت بصراحة، إني كثيراً ما أحصل عليها وأقرؤها، هذا بحكم حبي للإطلاع. ولكن لا أعلم من هو الذي يأتي إلى البيت فيرميها كل مرة بدون إعلام. ومرة يقول لزوجتي أعطوها لفلان، وهي امرأة أمية. تحتفظ بها إلى حين عودتي إلى البيت، الواقع إني مع علمي إنها مجازفة آخذها وأقرأ ما فيها وأتلفها بعدئذ، كان يجب أن أكون حذراً وأمنعها من استلامها، ولكن ما العمل؟ إنه حب الإطلاع. وبعد عدة أسئلة من حاكم التحقيق، سأل، هل أنت عضو في الحزب؟. وحين قلت كلا. هدد وتوعد. وخاطب المعاون -عبد اللطيف الوتار- (كان موجوداً في المحكمة) بقوله، أدبتو زين؟ هذوله ميفيد وياهم التسامح. أخذوا أدبو ثلاثة أيام وجيبو؟!. وأجبته، كنت أفكر أن أشكو عندك ما لقيت على أيديهم، فأجدني الآن "كالمستجير من الرمضاء بالنار!" فأكتب يا سيدي ما شئت، ولا تُعيدني إليهم! لذا أرجو أن تلاحظوا إفادتي أمام حاكم التحقيق وتتأكدوا من تناقضها وهي بقلمه! كيف أكون عضواً وأنا لم اُرشَح ولم اُرَشٍح؟ إني قلت الواقع، ولذا اعترفت بمطالعة الجريدة؟ ألم يُجَن بسبب التعذيب الأديب المعروف محمد صالح بحر العلوم، فذبح نفسه بموس حلاقة! رضيت لو حكم عليّ بالسجن، هذا خير من الموت بسبب التعذيب أو الجنون!
محمد صالح بحر العلوم هو الشاعر، الواقع انه ليس من الشيوعيين، ولكنه كان في شعره نصير للكادحين وضد الاستعمار ومؤيديه.
وبعد أن أدلى الآخرون بإفاداتهم، أرجئت المرافعة إلى حين. وفي الأسبوع التالي، حضرنا وصدر القرار يوم 11/3/1947 شاملاً بسجن كل أولئك الذين ضمتهم ملفة "صالح الحيدري ورفاقه" إلا أنا والمحاميان و"م" حيث أفرج عنا
"م" غادر المحكمة، بعد أجراء ما يهم شرطة المحكمة، دون أن يكلمني بشيء. لماذا!؟ مدير شرطة المحكمة، بلهجة طيبة قال لي "يا سيد علي، كم تألمت لأخيك –حسين- أتدري لو أنه أعترف، إن السجل الذي عثر عليه في تانكي الماء –مع فهد وجماعته- بأنه يعود لحزبه -التحرر الوطني- لما حُكم عليه أبداً!".
قلت، يا سيدي إن أخي كان سجيناً قبل حادث العثور على فهد والسجل المذكور، ثم إني أنا لا عِلمَ لدي بكل هذا .... تعلمنا أن لا نحسن الظن بمساجلات الشرطة، فما يستطيع أحد أن يجزم كيف ومن هو الطيب فيهم!
رزمت حاجياتي، وودعت من حكم عليه من زملائي. ووقفت على الرصيف. جاء حوذي فأشرت إليه، أفهمته أين يتجه، ثم قلت، أرجو أيضاً أن تنتظر هناك قليلاً، فلست أملك غير مئة فلس. حين أصل إلى البيت، أقدم ما تطلب.
الرجل الطيب، ردّ علي! بلهجة أسى، أركب عمي تستاهلون ماي العيون. لو توافق أخدمك اليوم في بيتي، أكون ممنون! آني مستعد أوصلك وين تريد مجاناً، وأقدم لك شمحتاج!
شكرته وقلت، هذا بيت أخي.
- وليش ما حضر يتلقاك؟
- انه سجين!
فقال الرجل الطيب بأسف، لا حول ولا قوة إلا بالله!
هناك بعد استراحة قال صهر أخي "يقول صديقك -م- علي طلع فحم، كان هو سبب الكارثة؟!".
- حسناً يا أخي، إذا كان صديقي –م- و –جواد- قد اعتقلا من النجف في 1/1 ، وأنا من الناصرية في 9/1 وسُلمت إلى التحقيقات في مساء 10/1 فمن يعتبر سبب الكارثة؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنت تعرف الذين أعرفهم، منهم أنت وبعض القيادات وبيوتهم، فمن منهم جيئ به بعدي؟! أضف إلى هذا إني قد تنحيت عن العمل نهائياً، وصديقي –م- هو الذي ألتزم المسؤولية بعدي، فأجب أنت وأستخلص الحقيقة؟!
لم استطع أن أقاوم رغبة في نفسي، وكأني أصغي لصوت من ضميري يلح. لا تكن جباناً إلى هذا الحد، في مستشفى المجيدية "هذا أسم المستشفى الملكي عند عامة الناس" يرقد جرحى مظاهرات الشباب ضد معاهدة "بورتسموث"، هم رفاقك بالأمس، زرهم. وعبرت من الكرخ من الضفة المقابلة للمستشفى ..... لاح لي الطبيب "الدكتور كاظم شبر" يقوم بزيارة الجرحى، لكنه في هياج، يتحداهم ويسخر منهم. حين جلست إلى الجريح "حسن باقر" أخذ الطبيب يلومه لوماً مهيناً. من أنتم؟ ما الذي تريدون؟ إنكم لا تستحقون غير أن تسحق رؤوسكم بالأحذية؟!
صاح به الجريح "الحق معك يا دكتور! سقوط المعاهدة أزعجكم، لأنها تضمن مصالح أخوال أبنك!". ربما يعني بهذا لأن الدكتور متزوج من بريطانية، أو كما يشاع إنه عالج ضابطاً بريطانياً كبيراً كان الأطباء هناك قد قرروا بتر ساقه، لكن الدكتور شبر كان طالباً إذ ذاك للتخصص في جراحة الكسور. تعهد بمعالجة الضابط بدون بتر ساقه. وكان الضابط أبن عم الملكة. نجح الطالب بمعالجة الضابط. وعرض على الطالب أن يزوجه أبنته، وان شبر قال له "أنا علوي ربما يرفض أهلي، رغم أن الزواج من الكتابية جائز". وهكذا تزوج. كيفما يكن من أمر، فهم أخوال ولده وأصهار الأسرة!
كانت قاعة المستشفى تغص بالجرحى من مختلف أنحاء البلاد، فهل سيتم النجاح إلى الأبد؟!
يتبــــــــــع القسم الثالث
عودة إلى الريف

 

 

Google

  في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com