دراسات نقدية


3- عودة ومصائب وعواصف


من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

 

محمد علي الشبيبي
alshibiby45@hotmail.com

 

مقدمة

يتناول المربي الراحل طيب الله ثراه في القسم الثالث "عودة ومصائب وعواصف" من ذكرياته "ذكريات معلم" حياته التعليمية بعد فصله وعودته للتعليم مجدداً -عام 1947- في نواحي مدينة الناصرية. وعمله في محافظة -الناصرية- يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياته التعليمية. فقد أستقر في مدينة الناصرية ما يقارب التسع سنوات، قضى منها بضعة أشهر في إحدى القرى - أصيبح-.
فهل ستختلف متاعب الراحل وعائلته في هذه المرحلة -بعد تركه للعمل الحزبي- عن سابقتها ؟ كلا وألف كلا. التحقيقات الجنائية وسلطات العهد الملكي استمرت -كما سنرى في جميع ذكرياته- بملاحقته واضطهاده، ولم ينجُ من الاعتقال والفصل والسجن والتعذيب في جميع العهود الملكية والجمهورية.
كانت إعادته لوظيفته متأخرة وناقصة، واُبعد عن مركز المدينة -الناصرية-. فجميع زملائه الذين فصلوا تمت إعادتهم بعد انتهاء فترة الفصل -ستة أشهر- بينما لم تتم إعادته إلا بعد ما يزيد على السنة، واُعيد كمستخدم.
رغم ما سببه الاعتقال من الآم وحرمان وعذاب للوالد، فهو لا ينسى أن يتحدث عن طيبة زملائه المعلمين في مدرسته السابقة "الغربية الابتدائية". يعود إلى مدرسته السابقة فيستقبله زملاؤه بلهفة وشوق دون تحفظ أو خوف من التحقيقات الجنائية وتقارير وكلائها السرية، فيكتب: (زميلي المعلم أحمد المغربي استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم شنون عبيد ومحب فن التمثيل عبد الوهاب ألبدري كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة ....). كان الراحل يهتم كثيراً بطبيعة علاقته بالأصدقاء فهو يشخص في كل كتاباته هذه العلاقات ويثمن الإيجابي منها وينتقد بأسى وألم شديدين العلاقات الزائفة بسبب جبن وتردد أصحابها أو حتى نفاقهم. وخلال تنقله الوظيفي بين مدن وقرى الوطن يستعرض الوالد تباين سلوك الآخرين معه، ويحاول أن يفهم ويوضح بجرأة وبعيدا عن ردود الفعل الأسباب التي تحدد سلوكهم تجاهه.
وفي مدرسته الجديدة "سيد سلمان" كما يسميها في قرية "اصيبح" وبعيدا عن عائلته، يتعرف على "أصدقاء" من فئة اجتماعية أخرى هم من بسطاء الناس وفقراء المجتمع فيكتب عنهم: (هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءاء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم .... ). هؤلاء هم كناس البلدية هويدي الأطرم ، وطاقة الخبازة وفليفل، وغيرهم من بسطاء القرية. فيجلس ويحدثهم ويمزح معهم ببساطة دون تكبر واستعلاء فيكتب: ( الناس في مختلف ميولهم، ونفسياتهم، ودرجات وعيهم وتجاربهم، منبع أنهل منه الثقة بالحياة، وأتعلم منه الشيء الكثير....). تواضع الوالد كانت أكثر ما تخشاه السلطات الأمنية، لأنها ترى أن هؤلاء الفقراء يتأثرون بصدق الوالد وما يطرحه من أفكار تضيء لهم حياتهم وتكشف لهم أسباب بؤسهم، والفئات الكادحة أسرع من يتأثر بالأفكار الوطنية وبالظلم الاجتماعي والطبقي. وأستمر والدي في علاقاته الاجتماعية المتواضعة مع الفئات الشعبية والفقيرة إلى آخر أيامه.

وتستمر النكبات تلاحق العائلة. فيتحدث الراحل كيف سمع في نادي الموظفين خبر قرار الحكم بالإعدام على شقيقه حسين "صارم" ورفاقه "فهد وحازم". ولم يخطر بباله أن إعلان قرار حكم الإعدام تم بعد تنفيذه!؟. لا بل أن السلطات لم تسمح لعوائل الشهداء بمقابلة أبنائها وتوديعهم الوداع الأخير!. ومنعت عوائلهم من إجراء مراسيم الفاتحة، كما لم تسلم جثامينهم الطاهرة لعوائلهم. ماعدا الشهيد حسين حيث نجحت والدته وزوجته بلقائه لعشرة دقائق فقط!؟ كما منعت عائلته أيضا من إجراء مراسيم الفاتحة. هكذا كانت إنسانية النظام الملكي التي يتشدق بها البعض ممن يحاولون عن قصد تزييف التأريخ أو لا يعيرون أي اعتبار لحياة الآخرين!.
ولوعة الوالد بإعدام شقيقه كانت عظيمة وتركت أثرها في حياته. وأشهد أنا –أبنه- أن والدي لم ينساه لحظة، حتى بعد أن عانى من مرض الشيخوخة القاسي الذي أفقده الذاكرة، والتي أنسته معظم أفراد العائلة القريبين منه، لكن لم ينس شقيقه -حسين- أبداً! وعندما يذكره -في آخر أيامه- يبكي كالطفل بلوعة ومرارة يتفطر لها القلب. ورثى الشهيد بعدة قصائد هي -أحباءنا، فتى التاريخ، رمز العقيدة، اُمك، يا صليباً، على القبر، شباط-. ورغم قسوة المصيبة على العائلة يبقى الوالد متماسكا مصراً على مواصلة نهج الكفاح من أجل الثأر من الطغاة. ويرى أن المستقبل سيضع نهاية مخزية للطغاة، حينها لا يجدون مأمنا فيه على أنفسهم من غضب الشعب، وهذا ما حدث للطاغية نوري السعيد وأخيرا لصدام وربما لما بعد صدام. ففي إحدى مراثيه الشعرية "شباط" يقول:
حـلفت يمينـــاً لا أســـيل مدامعـــي إذا لم تُسـل من قاتليك الدما الحمــرُ
بيـــوم ســيأتي لـيس منه تخلــــص يضيق على الطاغي به البر والبحرُ
يتحدث الوالد عن علاقته بمؤسس الحزب الشيوعي "فهد" وطريقته الفذة وموضوعيته في معالجة الأمور وأسلوبه السلس وقوة منطقه في الإقناع. وينقل عن فهد كيف غضب من أحد الرفاق لأنه يسخر من بعض المعتقدات الدينية، مؤكدا لهم ضرورة قراءة القرآن والإطلاع على قصص الأنبياء في وقوفهم بوجه فراعنة زمانهم، وكان دائم الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم. ويتحدث الوالد عن شجاعة وصلابة الشهيد زكي بسيم "حازم" أمام جلاديه، ويروي قصة تحكي صموده وصلابته.
ويرى الوالد أن السر في إخفاقات الحركة الوطنية، هي أنانية الأحزاب الوطنية وقيادات الحركة الوطنية، وحبها للظهور على المسرح منفردة، ورغبتها في الانفراد بقيادة الحركة الجماهيرية والوضع السياسي. ولابد أن أؤكد بكل أسف أن هذه الظاهرة السلبية ملازمة لطبيعة القوى السياسية لغاية يومنا هذا. وكأن والدي لم يكتب استنتاجه هذا لأربعينات وخمسينات القرن الماضي وإنما لأيامنا الحالية!
تطليقه للعمل الحزبي لن يمنعه من مزاولة نضاله ولكن بطريقته الخاصة. فكتب أكثر من مقالة باسم مستعار يفضح فيها الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات مدينة الناصرية. وينتقد نفاق ملاكي دور السينما، فهم من ناحية يعرضون الأفلام السيئة التي تزيد من التفسخ الأخلاقي، ومن ناحية أخرى يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول!؟. وكان لمقالاته هذه أثرا كبيرا في أوساط المجتمع الناصري وأثار غضب السلطات الإدارية والأمنية، التي تحركت دون جدوى للبحث عن كاتب المقالات.
ويشيد كثيراً بطيبة أهالي الناصرية وتضامنهم معه وموقفهم النبيل واهتمامهم بالعائلة خلال اعتقاله بالرغم من أن فترة إقامته بينهم لا تتجاوز بضعة أشهر. هذا الموقف والانطباع عن أهالي الناصرية كنت أحسه من خلال أحاديث الوالدين طيب الله ثراهما، فكانا كثيراً ما يقارنا تلك المواقف النبيلة والشجاعة بمواقف واجهته في مدن أخرى يذكرها بأسى ومرارة بسبب نفاق وخبث طوية البعض أو جبن وأنانية البعض الآخر!؟
بعد تسع سنوات من العيش في الناصرية نجح الوالد في الانتقال إلى كربلاء، ليكون قريبا من النجف حيث يسكن والديه المسنين. ويتناول بمرارة في موضوعة (أينما تول وجهك سبقتك سمعتك) خبث البعض في مديرية معارف كربلاء وغيرهم للعمل على مضايقته وأبعاده عن العمل في مركز المدينة ونفيه إلى نواحي المدينة!؟. فيكتب بمرارة (أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف). لكنه أيضا يكتب بإيجابية في نفس الموضوع، فيثمن موقف مدير مدرسته "مهدي علي" وكذلك موقف مدير الشرطة فيكتب (على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير).
يرى الوالد أن للمعلم مهمة تربوية وأخلاقية إضافة لمهمته التعليمية، فيكتب في موضوعة "حصن الاخيضر" (وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة ...). والتعليق الذي عثرت عليه بين مخطوطات الوالد على كلمة أحدهم "مهذار" تبين رأي الوالد بالمعلم ومهنة التعليم في بلدنا، فكتب:
(أخي مهذار. قرأت كلمتك المنشورة في عدد التآخي 1294 بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق". فاسمح لي أن أثرثر معك قليلاً، وبين الهذر والثرثرة تقارب في المعنى. وعسى أن أكون كالثرثار يجري فيه ما يكون منه كل شيء حي.
أنت تريد معلماً يضيء ولا يحترق، أمر لا يمكن أن يكون أبداً. فكل مضيء لابد أن يحترق، حتى الشمس، هذا الكوكب العظيم، يحترق منه ما يناسب جرمه العظيم. والمصباح الكهربائي، الذي يمنحنا ضوءاً جميلاً، هو أيضاً لابد أن يحترق.
أنك تعيب الشمعة إذ تترك بسبب احتراقها سخاماً. فلا تريد لهذا السبب أن يكون المعلم -شمعة- كي لا يترك -سخاماً-. ما ذنب الشمعة، وقد أنارت لأجيال كثيرة من البشر، متعتهم بالنور، حتى أنها -ولأنها كانت أرقى وسائل الإنارة- عاشت حقبة كبيرة من الزمن في قصور الأغنياء والمنعمين، بعيدة عن أكواخ المعدمين! وظلت حتى يومنا هذا رمزاً للنور والمعرفة. ولهذا السبب أطلق القدماء على المعلم هذا القول -شمعة تضيء وتحترق- ليته كان -شمعة- فمن الممكن أن نجمع حطام الشمعة الذائب فيعود شمعة من جديد. إن أقرب شبه للمعلم -جسر خشبي- يعبر عليه الملايين أو الألوف، حتى إذا تآكلت الأخشاب أبدلت بغيرها، ورميت إلى اللهب لتتحول إلى رماد.
كم يا أخي من المعلمين أضاؤا واحترقوا، ولم يتركوا سخاماً. تركوا ذكرى عبقة كأريج الزهر، تزيد أرجاً كلما تقدم الزمن. ولكن الأكثرين أيضا احترقوا وتركوا سخاما. لأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شموعا في الظلمة تنير حسب ما يرغب المتحكمون/ الجمعة 30/3/1973)
مربي بهذه الروح وبهذا الفكر لا تذهب جهوده سدا مع تلامذته. فقد برهن تلامذته من مدينة الناصرية مدى وفائهم وحبهم وتقديرهم لمعلمهم. فهم لم ينسوا دور الوالد في توجيههم وتشجيعهم نحو الأدب والاهتمام بلغتهم العربية. وعاش الوالد ولمس وفاء بعض طلبته النجباء -من مدينة الناصرية- فيذكر ذلك بفخر في موضوعة -حصن الاخيضر- فيكتب: (وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لَمْ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد .... ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه عبد الرحمن مجيد الربيعي، كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا).
إن أفضل شهادة على دور الوالد كمربي وإخلاصه وحبه لعمله التعليمي في توجيه تلامذته الوجهة الصحيحة هي شهادة بعض الأوفياء ممن تركت توجيهات الوالد أثرا في حياتهم. وسأترك القارئ مع بعض ما كتبه تلامذته الطيبين.
في حديث للأستاذ القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مجلة -الزمان الجديد- بعددها السابع/ منتصف مايو 2000 في زاوية -الدرس الأول- تحدث عن دور معلمه علي الشبيبي في اكتشاف موهبته الأدبية وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فكتب: (... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر.
لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.
ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية.
وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.
وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان)
أما الأستاذ د. محمد موسى ألأزرقي كتب في خمس حلقات (عن الطفولة والأمهات والوطن الذبيح) وتطرق في أكثر من حلقة عن دور معلمه علي الشبيبي في تنمية قدراته في اللغة العربية واهتمامه بتوجيهه الوجهة التربوية الصحيحة. ومما كتبه في الحلقة الأولى (کنا منذ الصغر مولعين بالقراءة والتظاهر بأننا مثقفون. وقد عمل استاذنا علي الشبيبي، معلم اللغة العربية علی ترسيخ السمة الأولی فينا، دون الثانية .... وقد اکتسب ذلك الولع بالنسبة لي طابعاً آخر بفعل تشجيع استاذي علي الشبيبي، الذي وجد ان "صوتي جميل" وکان يطلب مني ان "اجوَّد" بعض السور القصيرة خلال ساعة درس مادة الدين والقرآن)
ويضيف الدكتور الأزرقي في الحلقة الثانية (.... إني شخصياً اعترف له فضله في توجيهي لحب اللغة والأدب والقرآن، فما زال صوته يتردد في مسامعي وهو يتلو قصيدة الفخر بالأرض العربية ومهبط الوحي بلا شوفينية وبدون تطرف:
لحصاها فضل علی الشهب وثراها خير من الذهب
تتمنی السماء لو لبست حلة من ترابها القشب)
ويواصل الدكتور الأزرقي فيكتب في الحلقة الرابعة (کان المرحوم علي الشبيبي، وهو أخو الشهيد "صارم" الذي اُعدم مع الشهيد "فهد"، مرشداً حقاً. فعلی مدی ثلاث سنوات، منه تعلمت قراءة القرآن بشکل صحيح، أين أقف، وأين امدُّ الکلمة، وأين أشدُّ عليها، وأين أغير نغمة صوتي. تعلمت منه حبَّ العربية وآدابها وقراءة الشعر والقاءه، فقد کان هو نفسه شاعراً. ومع انه بدأ حياته کرجل دين، فأنه نزع العمامة، واصبح معلماً متفتح الفکر سليم السيرة، يجعل الطالب يشعر أنه أکثر من معلم له، ويمکن الأعتماد عليه والثقة به، رغم أنه کان جاداً للغاية فيما يتعلق بأداء الواجبات وحسن التصرف والسلوك).
ورغم الظروف الصعبة التي كان يعاني منها الوالد فهو لم يتوان عن متابعته للأوضاع السياسية المحلية والعربية والعالمية. فيتناول ما أستجد من أخبار علمية ومن أحداث سياسية، ويكتب رأيه فيها بصراحة دون تحفظ. وكعادته تبقى صفة حب التعرف على وطنه والإطلاع على مدنه وما تحويه من كنوز وآثار تلازمه بالرغم من ضيق مورده المالي. وخلال جولاته القليلة يتحدث عن مشاهداته بأسلوب شيق محاولا أن يغني مادته بما سمعه وشاهده وقرأه من معلومات.

عدنا وعادت حالنا القلقة

مطلع قصيدة "صفير العسس" للشيخ علي الشرقي:
عدنا وعادت حالنا الراكدة يسألنا التــأريخ ما الفــائدة
غادرت الموقف، وبغداد، أحمل ذكريات مرة وحلوة، مما لقيت، وممن التقيت بهم من كهول وشباب. ذوي مواهب فذة، وشجاعة رائعة، ومواقف صلبة من أجل معتقدهم، ووطنهم، وشعبهم. ولا غرابة إن وجدت كثيرين انهارت عزائمهم، وافتقدوا معنوياتهم، فأدانوا أنفسهم ورفاقهم، وكشفوا سرّهم، وسرّ منظمتهم، لا عن خيانة كانوا يبيتونها، إنما غلب الخوف عليهم، فأفقدهم عزم الرجولة، وبأس المناضل المندمج بعقيدته.
أتذكر إن رفيقاً -جديداً على التنظيم- قال للرفيق الشهيد فهد، ماذا يكون الإنسان، انه دم ولحم أمام التعذيب الوحشي؟ إن طاقة الإنسان محدودة! أجاب فهد، رفيق تصور لو أن الشرطة ألقت عليك القبض لمجرد إنها رأتك تمشي مع شيوعي. وأنت لا تعرف عنه شيئاً مطلقاً. وإن الصدفة جمعتك به في ديوان أو مقهى. فلو هددتك الشرطة إنها تنزع عنك جلدك بالخيزران، وتريك "عزرائيل" فبماذا تفيد؟! أية معلومات عندك، أو لديك عنه؟
قال الرفيق، لا أدري ما أقول. وأنا لا أعرف شيئاً.
قال فهد، من يحسب نفسه رفيقاً، يدرك عظم مسؤوليته، والمخاطر التي تترقب على ما يكشف من معلومات. فليفرض انه لا يعرف شيئاً مطلقاً. في هذه الحالة كن كذاك الذي هو فعلاً لا يعرف شيئاً. أما من يفقد صوابه لمجرد تصوره انه سيموت تحت العذاب، فانه مات معنوياً وأنحدر إلى أسفل درك؟!
بعض الذين انهاروا أنطبق عليهم المثل العامي "لاحِظَت برجيلهه ولا خذت سيد علي!" فقد حكم عليهم بالسجن لمدد مختلفة، وبعضهم اُخلي سبيلهم فانحدروا، يعلنون الأسف على أيام أضاعها بما لا يجدي نفعاً!؟ ثم يتهمون غيرهم بما هم منه براء.

لا بأس، أصبحت الآن طليقاً. حين عدت إلى الناصرية بدأت بزيارة الرجل الشهم أبو فريد "ضياء شكاره" ولأتعرف منه على انعكاس ما حدث لدى مدير المعارف والآخرين.
أنا دون صحابي أعادوني مستخدماً!؟ حين قابلت مدير المعارف، أعلمني أني نقلت إلى مدرسة تدعى "أصيبح" تقع بين سوق الشيوخ وگرمة بني سعيد. وقد باشرت فيها بالأمر الإداري 17069 وبتأريخ 20/3/1948. مدير المعارف قال ليهون الأمر عليّ "نقلتك أنا لمصلحتك، أريد أن تكون بعيد عن أعين موظفي الشعبة الخاصة، لينسوك. وسأعيدك أول السنة الدراسية الجديدة!"
قبل أن أتوجه لأباشر في مدرسة "أصبيح" قصدت مدرستي السابقة "الغربية الابتدائية" لأسجل مباشرتي، ثم انفكاكي. زميلي المعلم "أحمد المغربي" استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم "شنون عبيد" ومحب فن التمثيل "عبد الوهاب ألبدري" كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة.
وقلت للسيد المغربي، أرسلت كتابك "شجرة الدر" بعد أن أكملت قراءته هناك في الموقف، وأرجو أن لا أكون قد أزعجتك فيما كتبت معه!

- وأنا أعدت كتابك "شجرة البؤس" إلى أهلك، أما كتابي فلم أستلمه، فِدوه لك!
قلت، هذا غريب، فقد أخذته إلى البريد يد أمينة، معه هذه العبارة "صديقي الحميم. أبعث إليك شجرة درك، فأعد إلى أهلي شجرة بؤسي، والله يعلم أي الشجرتين كانت بؤساً على صاحبها!"
ودوى في الغرفة ضحك وتعليقات من المعلمين.
قال أحد الزملاء: نكتة بارعة ولاذعة والله يعلم، ربما سببت حكم الإعدام على شجرة الدر!.
كان زميلي المغربي شديد الانكماش، بعيد عن كل ما يجلب الشبه، وهو منكت، سريع النكتة وحاضر البديهة.
وفي اليوم الثاني قصدت -گرمة بني سعيد- فمعلمو مدرسة -أصيبح- يقيمون هناك. ألقيت رحيلي عند مقهى "عبد العظيم" انه يتحلى بأريحية عالية، وكرم نفس، سارع بنفسه وأخبر مدير المدرسة خزعل، واستأجر لي مكاناً أقيم فيه، هو حانوت مبني من الطين، وجاري معلمان، أحدهما من أهالي الشطرة ومن أسرة كريمة.
توجهنا في اليوم التالي إلى المدرسة، إدارتها وصفوفها من أكواخ كالحة كئيبة. تضم أعداد من الطلبة في ست صفوف. لا يشغلها غير المدير ومعلم من أهالي السماوة "شمخي جبر" وأنا جئت لأكون ثالث الأثافي.
شمخي معلم رياضة، يشغل صفين في ألعاب الكرة، وأنا أشغل أثنين والمدير أيضاً. وهكذا نتبادل الصفوف. المضحك في هذه المهزلة، إننا جميعاً متساوون في جهلنا لدرس الإنكليزية. وبنفس الوقت، هذا المزج بين صفي الخامس والسادس لا يجعل الوقت كافياً لتطبيق مواد المنهج. فاقترحت غلق الصف السادس، وعدد طلابه لا يزيد على العشرة. وحين زار المدرسة المفتش عبد الحسين الفلوجي أيد اقتراح غلقه، وتم لنا ذلك.
راحتي قلقة أول الأمر، مسكني له فتحة لتجديد الهواء تطل على ساحة كبيرة، يحيطها سور من الطين، في أغلب الأحيان تأوي إليه الكلاب، فتقلق راحتنا بنباحها، بينما تدخل القطط إلينا من هذه الفتحة، فتقلب القدور والأواني بحثاً عن الطعام. هذا غير مريح وان كانت تريحني من الفئران والجرذ. عبد العظيم صار أوثق الأصدقاء، وصرت أستعين به، فيشتري ما أحتاج من لحم وخضار وغيره.
قبل أن نلغي السادس، دخلت أشغله مع الخامس، وقبل أن أتحدث إليهم -على العادة- عن أسلوبي مع طلابي، رفع أحدهم سبابته. قلت له تكلم.
- أستاذ أحنه شلون ندخل بكالوريا وأحنه لسه ما طبقنه من الدروس شي؟ أستاد نقدر نطالع الدروس كله وحدنه! لكن شلون بالحساب، الإنكليزي، العلوم؟
كانت نبرة صوته مزيجة بين اللهفة والأسى. وجدت في الإجابة حرجاً شديداً. إني الآن في قرية يحكمها شيوخ العشائر، ولاؤهم للحكم معلوم، لكني نسيت ورحت أتحدث إليهم عن واجب آبائهم ورئيس العشيرة. إن عليهم أن يطالبوا المسؤولين بتعيين ملاك للمدرسة كامل، إنهم يستطيعون مواجهة أولي الأمر! مدير الناحية، القائممقام والمتصرف، لا بل حتى الوزير.
رفع آخر سبابته، وقال "استاد أولاد الشيوخ والسراكيل آبائهم يودوهم لمدارس القضاء لو لللوَ -اللواء أي المحافظة-، نبقه احنه أولاد الفلح، زين ما يغلقون المدرسه، ونبقه نسرح بالهوش! استاد احنه عدهم ما نسوه خساير ومدرسة!".
هذا الجواب كان رد على اقتراحي. يريد بهذا إن المسؤولين لا يهمهم من أمرنا شيئا لأننا أبناء فلح "فلاحين" وأبناء الشيوخ والسراكيل يدرسون في المدن معتمدين على إمكانيات آبائهم!
نهض آخر وبدا منفعلاً. وجه كلامه إلى زميله: "انه موش وياكم بهالمدرسة، أخوتي وأولاد عمي وغيرهم قضوا الابتدائية ونجحوا وراحوا للمتوسطة".
كان الجدل حاداً، كاد يؤدي إلى شجار. أشرت إليهم بلزوم الإصغاء، ورحت أتحدث إليهم، إن من حق كل فرد أن يختار المدرسة التي يريد الدخول فيها، هنا أو هناك، حسب إمكانياته. بإمكان آبائكم أن يطالبوا بملاك معلمين كافٍ.
رد علي! آخر: "منو يطالب، أبوي؟! بيده المسحاة وحاير بضيمه؟!"
أدركت خطر الحديث فغيرت مجراه. تحدثت إليهم عن بؤساء كيف شقوا طريقهم، وحققوا مرادهم. مدام كوري، مكسيم غوركي، أديسون، كانوا فقراء مثلكم، بعضهم مشرد. مدام كوري عاشت أسبوعاً كاملاً على باقة فجل وسقطت بسبب الجوع والجهد. مهما يكن عليكم أن تطالبوا.

القمار والأفكار
مقهى عبد العظيم صغير. هناك مقهى آخر، أكبر منه. في مقهى عبد العظيم يأتي عدد قليل من المعلمين، بينما يأوي إلى المقهى الآخر أغلب المعلمين والشرطة، وكاتب الناحية. يقتلون الوقت بلعب -الورق- المعلمون أكثر عدد حتى من الشرطة، إنهم معلمون في القرى المجاورة.

أصيبح "سيد سلمان" قرية المؤمنين، ومدرسة مركز الناحية، معظمهم آثروا السكن في الناحية مع عوائلهم، لأن الناحية أرحب، ولأنهم فيها يكونون على علم بعالم اللواء وكلّ ما يهمهم. لم أتذكر أسم المدرسة، فأطلقت هذا الاسم عليها، وهو قبر عرف بهذا الاسم "سيد سلمان"، وسدنته أغنياء مما يؤتى به لصاحب القبر.

كان أحد السادة من آل جمال الدين، بعمته يرتاد المقهى للمقامرة!. وقد قصدتها مرة للإطلاع. تعرف هو عليّ، قرأ من شعر الشبيبي الكبير"الشيخ جواد" وأبنه الشيخ محمد رضا. فسألته مستنكراً ارتياده هذه المقهى مع هؤلاء الشباب المقامرين. أجاب، ومن أجلهم أقصد هذه المقهى لا الثانية، وللسبب الذي ذكرته حضرتك نفسه، لأبدي النصيحة وأرشدهم إلى ما يصلح حياتهم!؟
حسناً أما أنا فقد ناقشت المعلمين منهم. فأجاب بعضهم بصراحة. اللعب بالورق، وقتل الوقت حماية يا أخي من التهم المهلكة! إني أقضي كل الوقت هنا، ولن أعود إلى البيت إلا لتناول طعام العشاء، ثم أعود لفترة معينة.
قلت لسيدنا المحترم، أسمعتم؟ أجاب السيد المحترم، أنا أيضاً لو سألتني، تلك أو القمار؟ لقلت القمار! القمار ضرره عليه وحده، أما تلك فوباء أصفر؟!

كان أحد المعلمين بينهم دائماً متهماً بالشيوعية، كان حاضر النكتة، خاطب السيد: وباء أحمر لا أصفر. فضج الجلاس بالضحك.
أنصرف السيد للحديث معي. سألني إن كنت شاعراً؟ أجبته بالنفي، أي أني كذبت. في مثل هذا الوقت ومع هؤلاء الناس، لا يصح أن أدلهم على الطريق نحو حقيقتي. أما هو فقد قرأ عليّ شعراً كثيراً، بعضه سياسي، وبعضه تقليد ومنبعث عن عقلية طائفية! لم أسمع من قبل ما قرأ عليّ، ربما هو له حقاً. ولكن بيتين مما قرأ نسبها له أيضا، كانا ذا معنى رائع. بغض النظر، إن هذا لا يميل إليه طبعي. والبيتين هما:
أبا حســنٍ إنْ أخـــــروك وقـدّمــــــــــوا عليـك ثلاثا فـهـــو في نقصهــم يكفــــي

كـذا ألِــفْ الآحـــــــــاد إن هي اُخـــرت عن الصفر في التعداد عادت إلى الألف
ولما حدثت أحد أصدقائي الأدباء، كان شاباً عصامياً، تخرج على الدراسة القديمة، عن البيتين المذكورين، فأستغرب إدعاء السيد وقال أنهما للشاعر "....." (الاسم غير واضح/الناشر)
كنا نعتقد إن الأفكار الطائفية سيقضى عليها في عصر العلوم التكنولوجية والفضائية، ولكن الاستعمار عمل على إثارتها لأنها خير وسيلة لهدم وحدة الأمة.
ورأيت من المناسب أن أزور مدير الناحية، وهو من السادة آل ياسر. أما المفوض فهو من قرية الخضر، وتقع بين الناصرية وسوق الشيوخ. بعد أن لقياني أثناء ما كنت أتمشى في العصر الأخير، على ضفاف النهر. بادرني المدير معتذراَ، إني لم اعرف محل إقامتك، يؤسفني أن لا يوجد هنا مكان مناسب، وقد أرسلت من يبلغك أن تتفضل غداً للغداء معاً. شكرته، فراح يحدثني عن علاقة أسرته بالشبيبين. وعلمت أنهم من سكان العزيزية -لواء الكوت-. في ذلك اليوم، وقد علم بالدعوة أحد المعلمين، قال: الحذر واجب. وقد اُبلغ المدير والشرطة بضرورة مراقبتك، لا تترسل بالحديث!. وأضاف: المدير هذا كان هنا قبل هذا -موظفاً صحياً- فهو يعرف ناسها معرفة تامة!

كان المدير والمفوض كلاهما على مائدة الغداء، ثم الشاي، قد جعلا أحاديثهما تدور حول الأحداث التي مرت بالعراق، إنها أشاعت الفوضى والتخريب. واقتصرت التعليق بأمثال شعبية "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع و من التناقضات يعرف الصواب، لم يعرف الصدق إلا من الكذابين، ولا فضل العقل إلا من الحمقى، ولا النزاهة إلا من ذوي الطمع"

وسألاني كيف أقضي وقتي، قلت، أحياناً في واحدة من المقاهي. فحذراني من الاتصال ببعض المعلمين وسمياهم، ورجحا إن لم أجد بداً -مقهى المقامرين- على -مقهى عبد العظيم-!؟. في الأولى شباب يرفه على نفسه فيقضي الوقت بتسلية بريئة؟! هؤلاء يعتبرون واجبهم في حدود الوظيفة، وللرجال القادة المسؤوليات العظمى. ثم قال المدير، وهل تطالع؟

- لدي كتيب صغير، استعرته من مكتبة المدرسة -التلميذة الخالدة- عن مدام كوري لمؤلفه أحمد الصاوي.
قال المفوض، زين الَك خلك وتطالع، آنه بس أباوع الكتاب انعس؟!
ألمفوض حصر توصيته لي بمقاطعة أثنين من المعلمين، أحدهما مدير مدرسة مركز الناحية "محمد إسماعيل" والثاني معلم صابئي. لمست من الأول رجاحة عقل في سلوكه، وفي الثاني ذكاءه ووطنيته.
وبدا لي المفوض له حقد خاص ضد مدير المدرسة، فقد وصمه بأنه لوطي ومن حيث لا يدري ساق اتهاما له بأنه يعادي أبني لأنه أبن شرطة!

وانتهت الزيارة وقررت أن لا أبقى أيام الجمع في الناحية، سأقضي الخميس ونهار الجمعة في سوق الشيوخ والناصرية.
 

 

Google

  في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com