دراسات نقدية


3- عودة ومصائب وعواصف/ 4

من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


 

محمد علي الشبيبي
Alshibiby45@hotmail.com

صفحات مضيئة

ترى الفتى ينكر حق الفتى مادام حيــــاً فإذا ما ذهب

لجّ به الحرص على نكتة يكتبهـــا عنه بمـاء الذهب

فماذا أكتب؟! سمعت من فهد الكثير الكثير، وراقبت سلوكه بدقة، إذ طالما أقمت معه، بل سهرت معه، الليل كله، أثناء طباعة الجريدة الأرمينية "هيك". سهراً يصاحبه الحديث بشتى الأمور. وكنت صريحاً في توجيه الأسئلة، سواء عن حياته، أو عما يصعب عليّ تفهمه، أو ما قيل عن الفكرة أصلاً، على ألسن أعدائها. فكان يجيبني متبسطاً في لهجته، وفي رنة صوته، فيدهشني بتسلسل كلامه، وكأنه يقرأ عليّ شيئاً في صحيفة بيده. يدلي بالمقدمة، ببنيتيها الموضوع والمحمول، وينتزع النتيجة المنطقية معقولة مقبولة لا لبس فيها ولا غبار.

حدثته يوماً عن عدد من الشباب. هم ثلة لا يفترق بعضهم عن بعض من سابق أمرهم. بين معلم، وطالب في كلية الحقوق، لي بهم سابق معرفة، ولكني لا أنسجم معهم. فأنا أمج بعض الأحاديث التي تتعلق بالجنس وتجر إلى استعمال كلمات تليق بذوي المستوى العادي.

قلت، أثارني من هؤلاء أنهم في سياق حديثهم المعتاد، وهم في مقهى مكتظ بمختلف روادها، لم يتحرجوا أن يتعرضوا لشخصية تاريخية مقدسة عند الناس أجمع -مدعين إن أحد الأئمة كان شديد الشبق بحيث يسيل لعابه لمجرد رؤية امرأة-، بلهجة الإنسان العادي بفشار يندى له جبين أقل مدعي بالثقافة؟!

ودهشت حين لاحظت الانفعال في قسمات وجهه، وكأنه أحد جلاس تلك المقهى، وكأنه رأى أولئك المتحدثين وسمع حديثهم. أحدهم يقيم معنا في البيت، لكنه لا يعرفه، سأل عنه مراتٍ كثيرة. يقول إن هذا الرجل يدهشني برنة صوته، وحضور ذهنه، وسعة ثقافته. فأجبناه: إنا مثلك. أليس من الواجب أن نتجنب معرفة أسم من لا يربطنا به تنظيم. كل ما نعرفه عنه، انه من أهالي البصرة، ويكنى بـ "أبو شكر".

حين تجمعنا ليلاً، أنا وأبو شكر، وأحد أفراد تلك الثلة، وكان خريج ثانوية مسائية ودخل كلية الحقوق بمساعدة الحزب، ورفيق مشارك في هذا المسكن والإيجار باسمه، سأل أبو شكر:

- هل لديكم استعداد أن تعتبروني الليلة ضيفاً فتعشوني؟

قال الاثنان معاً: سيكون ما تحب.

وعقب أحدهم وأسمه محمد علي (هو محمد علي الزرقة وقد طردته الحكومة إذ ذاك فعاد إلى موطنه في سورية) أنا لي شاغل هام لا يمكن تركه، وصاحبي لا يحسن طبخ الرز، فمن يقوم بهذا؟

كنت أنا، حين آتي لأمر حزبي أقيم معهما، فقلت أنا أجيد طبخ الرز، إلا أني أعتدت على استعمال المصفاة. أبو شكر "فهد" أبتسم، وقال يجب أن تتعلم الاقتصاد الموجه، فأسلوبك هذا في الطبخ أسلوب غير موجه. انه ينتمي إلى العقلية الإقطاعية. إن الماء الذي تتخلص منه بالمصفاة أخذ أهم ما في الرز من فائدة غذائية!

وراح يشرح لي كيف أضع كمية من الماء بتقدير يناسب كمية الرز. ويبقى عليك أن تكمل العملية حين لا يبقى من الماء شيء. كما لو كنت استعملت المصفاة تماماً. وفعلاً أنجزت الطبخ كما أشار فنجحت خير نجاح، وتولى أحد الرفيقين عمل الآدام.

بعد العشاء وخلال شرب الشاي، أخذ أبو شكر بالحديث. بدأه مستشهداً -طبعاً على أثر مناسبة- بحكاية النبي محمد حين نزلت عليه الآية الكريمة "وأنذر عشيرتك الأقربين". قال: إن هذه الآية تشير إلى أمر هام في أسس التنظيم لأية دعوة. فقبل إعلان النبي محمد الدعوة، دعا الأقربين من عشيرته، أعمامه وأبناء عمه، إلى وليمة أعدها، ثم دعاهم إلى كلمة التوحيد "قولوا لا أله إلا الله تفلحوا" ليضمن له من يسانده حين يعلن دعوته إلى كل قريش.

ومضى يتحدث كيف يجب على كل رفيق أن يبدأ بأهل بيته، والديه، أخوته، ليكونوا سنداً في نضاله. ولكن كيف؟ أن يكون أكثر حشمة، وأكثر اهتماما بكل واحد منهم، يحترم كبيرهم، ويحنو على صغارهم وضعفائهم، يحترم عقائدهم، ويتبنى حل مشاكلهم، ولا يهمز معتقداتهم بنقد، أو سخرية. إنهم شبوا عليها. ثم إن علينا أن نحيط بتأريخنا. ونتفهم أسسه لنتمكن من خوض موضوع حساس عند الضرورة، وبشكل بعيد عن الإثارة. أما إن بعض رفاقنا يجيد لذة أن يسخر من صلاة جدته وأمه، وتعبد والده، ومن الشخصيات المقدسة لديهم، إن مثل هؤلاء الرفاق إن فعلوا هذا هم واحد من أثنين، جاهل مغرور، أو عدو مندس يقصد تشويه سمعتنا. وبصراحة إنه بهذا يريد أن يقول للناس -وفي مقدمتهم أهل بيته- إنا جئنا لهدم معتقداتهم، ومحاربة مقدساتهم. فهو إذن محرض ضدنا؟ لا أبداً، لسنا من هذا أبداً. إنا دعاة تكتل ضد الاستعمار، وضد الجهل والفقر. والأديان السماوية فيها ما يزال سنداً يمكننا أن نذكر به الناس جميعاً ليكونوا صوتاً واحداً ضد هذا الثلاثي المخيف. اقرأوا في القرآن ووقوف الأنبياء أمام فراعنة زمانهم، تجدوا أنفسكم كأنكم تشاهدون جماهير تلك القرون كأن أصواتها تهز قصور الفراعنة وتنذرها بالموت المحتم. كان يستشهد بآيات من القرآن الكريم.

صاحبي الذي كان لا يجيد طبخ الرز، أخذ ينظر إليّ شزراً. حين انتهى الحديث وتحولنا إلى الأحاديث الاعتيادية، أقتنص كلمة عابرة ليشير إلى أني أنا سبب ما تطرق إليه أبو شكر، وبلهجة وكأنها بريئة، قال:

- أبو حسين أصبح بإمكانه أن يتعلم أشياء كثيرة فقد تخلص من مفاهيمه السابقة.

قلت: ما هي مفاهيمي التي تشير إليها!؟
أجاب: مثلا، بناء على إنك لا تحسن الطبخ إلا بمصفاة، معنى هذا انك تبقى بحاجة إلى أن تكلف أحد وربما لا يتاح لك هذا، ومثل هذا يصادفك في النضال أيضاً. فمثلاً، إذا كنت مسؤولاً في تنظيم ريفي -أي بين الفلاحين- تمتنع إذن أن تنتقل إلى بغداد لتنظيم العمال! أليس كذلك؟

قلت: هذا يجيبك عنه أبو شكر. وأؤكد لك سلفاً أنه نعم كما تقول. وأنت مخطئ إن اعتقدت أن الأمر سهل. إن عليّ أن أكون عارفاً بمحيط بغداد، ومن جميع ما يهم عن ناسها وتقاليدهم، وعمالها ونوعياتهم، بل حتى درجة التزاماتهم للقيم والتقاليد، أليس الكثير منهم منحدرين من طبقة الفلاحين؟

وبعد أيام كاد هذا الرفيق أن يوقعنا في النجف بشر ورطة. وأعلنها تهديدات مدمرة، لو لم نتداركها بأعراض حكيم. لقد سيطر على كمية من كراس "العمل بأجرة ورأس المال" ترجمة يحيى قاسم، صاحب جريدة "الشعب". كنت سلمتها له ليوصلها إلى صاحب مكتبة في النجف، يبيعها حسب أتفاق بيننا على أن يحسم من ثمنها ربحاً له. حين أنفعل من حديث فهد "أبو شكر" أعتبره موجهاً ضده. وأمتنع صاحب المكتبة، من تسليمه ثمن الكراس، فهدده أن يخبر الشرطة بحقيقة الكتاب ومن زوده به. ثم أرسلت إليه طلب مواجهته، فرد علي: أصمت وإلا جعلت نهايتك على يد الشرطة! فآمنت عند هذا بأنه مندس وليس بجاهل مغرور، ودفعنا أثمان الكراس من جيوبنا!

ومرة دعيت إلى بغداد على عجل، فخرج معي عضو من المحلية. وقبل أن أركب السيارة قال: إن صديقاً عرض

عليّ مشكلة صادفته -وقص عليّ- وقال، أعرضها على الرفيق "فهد" لنر الموقف الصحيح لمثلها.
أجبت صاحبي، أحذر مثل هذا الصديق، انه خطر. ولن أعرض ولن أتفوه عن هذا أبداً! كانت استشارته عن هذا بصريح القول، إن أحد رفاقه -وقد اكتشفت أخيراً انه هو نفسه كما أعتقد فهد ذلك- جاء إلى دار رفيق له، سأل زوجته عنه. فأجابته تفضل انه موجود؟! وحين أستقر، جاءت إليه وراودته عن نفسه، وانه أخذ يقنعها بخطورة المحاولة وقبحها، ولكنها هددته إن لم يفعل فستتهمه عند زوجها إن هو أصر على امتناعه. وراحت تذكر له مبررات خيانتها له. فوعدها أنه سيستجيب مدعياً انه يراوغها بهذا وفي هذه الأثناء طرقت الباب. وكان مجيء الزوج هو المُخلّص! وعقب إني أسأل، ما العمل؟ إن لم أعدْ، ستنفذ ما قررت من تهمة ضدي؟!

ولست أدري، كيف تعرضتُ ونقلتُ حديثه. وإذا بالرفيق "فهد" ينتفض، وبشيء من الحدة، قال، "فلان" هو طلب منك هذا؟ قلت نعم. أجاب هذا هو بالذات. هذا يستحق الأبعاد. إنه خطر. لا يصح أن يسمح له باتصاله مع أية عائلة!. وقال، لدى الإنسان عقل واهتمام بالقيم والعِرض، والشهوة. أيهما يكون ضعيفاً يتغلب الآخر. فبطبيعة الحال إذا كان لا يقوى على كبح جماح شهوته ورغبته الجنسية، فإنه إنسان أقل ما يكون صالحاً لتحمل رسالة مقدسة، أي فرق أيها الرفيق، بين سارقي أقوات الشعوب وبين الذين يعتدون على أعراضهم.

لكن حادثاً آخر أيد وثبت إنها محاولة من قبله، وإن لم أعرف من ذلك الرفيق؟ الحادث أن فتاة استأجرت غرفة من بيته. كانت أرملة فقد توفي زوجها منذ عام. وأغتنم هذا "الشريف" أن جاء البيت حين كانت زوجته غائبة عن البيت فحاول الأرملة. فكادت محاولته أن تجن الفتاة، وهددته بالصياح، وانتقلت بنفس اليوم من أجل عرضها. لقد قصت الفتاة حكايتها على زوجتي!

وان أنس لا أنس يوم جئته "فهد" أحمل رسالة لنشرها في جريدة "القاعدة". كنت أفكر إني جئت بأمر ذي أهمية كبرى، إذ كانت حول "جمعية دينية" احتلت مركزاً هاماً. ولكن رجالها اهتموا كثيراً بالتشنيع على الحركة التحررية بمجموعها، إنما حصة الحزب الشيوعي تفوق كل حصة. والأنكى من ذلك إنهم اعتبروا أبانا أحد أهدافهم لأنه أبو "علي" وأبو "حسين". فكروا ذات مرة في أمر غاية في الغرابة، فكروا في إيجاد مدرسة على غرار كلية الشريعة، فحرضوا جندهم أن يجمعوا تواقيع لطلب تأسيس تلك -الكلية- ثم أرسلوا أحد شياطينهم إلى والدنا، يطلب منه، أن يعلن أمر هذا الطلب، ويطالب الناس بضم أصواتهم لتأييد الطلب. كانت صيغة الحديث بشكل طائفي صريح، وقذر. فما كان منه "والدنا" إلا أن تطرق إلى الموضوع، لكن بشكل آخر

أعلن "والدنا" من على منبره، أن هذا الطلب مشروع، وممكن. ولكن لا على أن يكون أساسه شيعة وسنة. سنة يملكون كلية أسمها "كلية الشريعة" وشيعة لا يملكون مثلها. فقد ذهب عهد النعرة الطائفية، وإن لم يقبر تماماً. الواجب يقضي أن يُقضى عليه تماماً.
كلية الشريعة موجودة منذ أمد، وقد تخرج منها عدد من شباب الشيعة، والمعروف إنها ليست حكراً لطائفة دون

أخرى، وعلى الذين يريدون أن يعيدوا الطائفية ويبعثوها أن يدركوا أن بعثها لا ينفع غير الاستعمار.

وأشار إلى أن بعض الذين يدعون ويطالبون لهم وجهان. وجه يلتقون به مع القائممقام ومدير شركة الترامواي، وآخر يحرضون به العوام على مثل هذا الطلب، لا باعتباره أداة خدمة وطنية وإسلامية، بل بدافع منافسة طائفية، لأنها مجال ظهور زعامة.

لقد هاجمتُ هذه الجمعية بعنف، وإن مساعيها لصالح الاستعمار، ومصلحة جيوبهم. وإنها مثار فتن عواقبها وخيمة ضد العراقيين وخاصة الشيعة.

قدمتها له وراح ينظر فيها، وأنا أتابع نظراته، وملامح وجهه. كانت أمارات استغرابه ترتسم تحت عينيه، تعبر عن استغرابه حركة حاجبيه، وتقلص تجاعيد وجهه. وبعد الانتهاء التفت إلي، وقال:

- ما كنت أتصور أنك ساذج إلى هذا الحد. إسمع قادة هذه الجمعية ومؤسسوها من رجال دين، وهم -على أية حال- محترمون في الوسط ألنجفي عامة. ويستطيعون بكل إمكانية أن يستعينوا برجال الحكم على إنزال أية ضربة بكم، بينما الآن لم يفعلوا غير وشوشة مخنثة ودعاية. فلماذا تريد إثارتها، الكي تعلن ذلك؟! إن كنت حكيماً فأدعهم -باعتبارهم رجال دين- أن يقوموا بواجبهم ويهبوا للمطالبة بتوفير ما يجب للنجف من توفير الغذاء والكساء، والإصلاحات، وشجب وجود الجيوش البريطانية في بلادنا، إلى أمثال هذا. وذكرهم إنهم بما لهم من وعي ديني وغيرة موروثة من قادة الإسلام في وقفتهم وجهادهم في ثورة العشرين. فان استجابوا نكن قد اكتسبنا صوتاً جديداً له أهميته إلى جانبنا. وان رفضوا وعارضوا، استطعنا عند ذلك أن نفند اعتذاراتهم، ونكشف حقائقهم، وبنفس الهدوء. قم الآن، وأكتب هذا.

وفعلاً أبدلت كلمتي حسب إرشاده. إنها نظرة حكيم، وتوجيه مرشد.
وللشهيد "زكي بسيم" موقف من معذبيه وجلاديه. يدل على مدى صبره وشجاعته، واندماجه في قضية حزبه. جرحوا أخمص قدميه بالمشرط، وكبسوا الجراح بمسحوق، بهدف تعقيم الجراح، وزيادة الألم فهي تسبب حرقة شديدة وان كانت مؤقتة ورغم هذا كان قويا ومتماسكا، وصاح بوجوه جلاديه أجلسوا لأقص عليكم حكاية. تعجب الجلادون من هذا الصلب العنيد، وكانوا قد فعلوا هذا به بعد أن ضربوه أكثر من أربعمائة عصا على أخمص قدميه!

وقص عليهم حكاية حاكم مستبد. أمر رئيس شرطته، أن يجمعوا المصاحف من الجوامع والبيوت والمكتبات ليتخلص من الإسلام! وبعد أن أتم رئيس شرطته الأمر كما أراد. خرج مع رجاله يتجول في البلد. وجد مستجدياً أعمى قد جلس على دكة جامع يقرأ القرآن!؟ فثار الحاكم غضباً. وقال لرئيس شرطته ألم أقل لك، أتلف جميع المصاحف حتى لا يبقى إسلام! فما هذا؟
قال رئيس شرطته يا سيدي، أنا أتلفت المصاحف المخطوطة، ولكن ما فيها والشريعة الإسلامية قد أستوعبها

المسلمون في صدورهم، وحفظوا القرآن عن ظهر غيب.

قال الشهيد زكي هذا. وألتفت إلى نايل عيسى وجلاوزته "ليست الشيوعية في قدمي، لقد انتشرت بين كل العراقيين، من يحبها ومن يبغضها. لقد دخلت في أدمغتهم. فما تنفعكم أن تدموا أقدامي، وظهري. هيهات أن تحولوا دون انتشارها فافعلوا ما تريدون!؟".

قص عليّ حكاية موقف الشهيد هذا ضابط من التحقيقات الجنائية. قال: لقد أدهش -نايل عيسى- الذي كان يشرف على تعذيبه بنفسه، ويشارك في التعذيب أيضاً. وراح الجميع ينظرون ويستمعون له وهو يقص عليهم الحكاية كأن لم يكن قد لقي تعذيباً.
ولئن وقف فهد وحازم وقفاتهم من خلال تنظيمهم -السري- ونشراتهم السرية التي توزع على المنتمين

والمؤيدين. فأن شقيقي حسين "صارم" قد حدد موقفه ورأيه في النشرات التي أصدرها باسم "حزب التحرر الوطني" وفي الخطب التي ألقاها في شتى المناسبات الوطنية التي قام بها حزبه، وفي كتبه المتعددة، خصوصاً خطابه الذي كان يزمع إلقاءه في مكان أعد له فمنعته الشرطة وكان ذلك في 10/12/1946. فليس إذن لدي ما هو أعمق مما أعلن هو. وقد أعلن ذلك بجرأة وشجاعة فائقة تحدت كل قوانين نوري السعيد التي رسمها له الاستعمار.

وأخي "حسين" لم تكن المدرسة وحدها نشأته. أنا كنت الموجه والمسؤول عن مسك زمامه ومرشده، أكثر من الوالد، وكان يكن لي احتراما كبيرا. ثم الأساتذة الذين صادف أن كان تلميذاً عليهم، أمثال: يحيى قاف في مدرسة الغري الابتدائية، وذنون أيوب والشهيد كامل قزانجي، والشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في ثانوية النجف. وأعرف بعد نزالاته في معترك السياسة كثيراً من مواقفه الجريئة مثلما أتذكر جرأته وتحديه في طفولته وكنا نسميها عصبية أطفال. وقد ذكرت بعض ذلك في كلمة نشرت في مجلة الثقافة الجديدة بعددها 4 سنة 1969.

ولقد شهدت موقفاً لا أكتم القارئ، إن الخوف تملكني منه، ولم أجرؤ على أن أعلن هذا الخوف إذ أن الظروف كانت حرجة للغاية. ففي أعقاب حكومة رشيد عالي، وعودة عبد الإله ونوري إلى العراق ثانية مع هزيمة رشيد وفرار قادة الثورة ضدهم وضد الإنكليز. قرر نوري ورهطه، إن على جميع المواطنين حين يسمعون السلام الملكي، عقوبات صارمة على من يخالف ما يلي: الماشي يقف مسبلاً يديه، ولا يتحرك الواقف، والجالس يقف؟!

دخلت أنا وأخي الشهيد وصديق مقهى البلدية، القريب من مقهى الزهاوي. وما أن جلسنا حتى عزف السلام الملكي. وقف الجميع، وتهيأت والصديق، ولكن حسين أمسك بأيدينا، توسلنا إليه همساً أن لا يوقعنا بورطة. لكنه أصر. انتهى السلام، عاد الناس إلى أحاديثهم. لكن جندياً من فلاحي العمارة أخذ ينظر إلينا بعينين تهددان بانفجار بركان غضبه. همست بأذنه أترى؟. أجاب لا عليك، أنا المسؤول، والزم الصمت. زميل الجندي أخذ يهدئه، ويطلب أن يدع هذا لغيره، لا تكن أخي سبباً في أذى الناس!. أما صاحبه الثائر، فيصر أن يكسر رؤوسنا بـ "البصطال" ويضع الحديد بأرجلنا!

طال تهديده، وصاحبه يلح ويرجوه أن يهدأ. ولكن حسين باغته بتقديم علبة السكاير له ولصاحبه. أما هو فرفض، وأما صاحبه فتقبل، ورجا منه أن يأخذ، ولعل لدى الأخوان عذراً. هكذا أقنعه، فأخذ. وزاد فأولع لهما السجاير وهو يبتسم.ستغرابه حركة حاجبيهح ثم توجه يسأل:

- من أي بلد؟ وأي قبيلة؟

مازال الجندي في حالة انفعال: وأجاب بلهجته العمارية: من العمارة.

- لا شك إنك فلاح، وأبن فلاح؟

- نعم. وإذا كنت فلاح؟
- نتشرف. ولكن الأرض التي تفلحونها، ملك لكم؟

- لو كانت ملكاً لما صرت جندياً!

- إذن المشكلة واحدة. مشكلتي ومشكلتك. أنا جئت هذه المقهى حين صار مروري عليها بعد تعب أكثر من ثلاث ساعات، كنت أبحث عن حاجتين، الخبز والسكر! أما السكر فلم أحصل على شيء منه مطلقاً، وأما الخبز، فعلى كل محلات البيع زحام كبير وأنا أتنقل من محل إلى آخر، وما أبعد محل عن آخر؟
وأنت طبعاً أبوك فلاح، أنه فلاح في أرض (قال الجندي: أراضي محمد عريبي). أكمل حسين كلامه: أعرف،

أعرف. ولكن محمد عريبي مالك الأرض هو النائب في المجلس أيضاً. أليس كذلك؟ ومن أجل الحصول على الخبز والشاي، أضعت من عمري ثلاث ساعات. ومن أجل أن تعيش ويعيش أبوك، تموت من أجل أن تبقى الأرض ملكاً لمحمد عريبي!؟.
وسأل حسين الجندي، هل سمعت قصة "ام البروم"؟ أسمع أذن. إنها مقبرة. فيها كوخ لرجل عجوز يعيش على

بيع الماء في أباريق، ومشارب لزوار المقبرة ومن يأتي لدفن -جديد- في مدينة الأموات، وتفقد قبر وقراءة الفاتحة. لكن الناس فوجئوا ذات يوم، بذلك العجوز يصيح ويشتم بأعلى صوته أمام بناية "المتصرفية". فيسمع المتصرف، ويسمع مدير الشرطة، الشتائم على المتصرف، ومدير الشرطة، ووزير الدفاع؟! ويسرع الشرطة ويجرون الرجل العجوز إليهما بالركل والكفخات. وينتصب العجوز بشموخ أمامهما. صاح به مدير الشرطة:

- أنت مخبول، تشتم رجال الدولة بأعلى صوت!.

ردّ العجوز: أعطوني أبني؟!

- أبنك؟ أبنك عندي؟ أبنك منو؟ آنه منو؟

- أبني أخذتوه جندي!

- من أي وقت؟

- من سنه.

- وتطالب بيه قبل أكمال الخدمة، حقيقة أنت مخبول!
- لا أبداً، لكن أسمع. كنت أعيش من بيع الماء بمقبرة "ام البروم" أبني لما أخذتوا جندي إذا مات أقول: مات يدافع عن مكسبي اللي أعيش منه، لكن ام البروم أنكربتْ وراح تحولهه بلدية البصرة إلى كازينوات وحدائق؟ منين راح أعيش؟ وعَن من يموت أبني؟ عن قصوركم؟ وأبوه وأمه وأخواته يموتون جوع!!

هذه هي الحكاية يا أخي أعتقد إنك فهمت. لماذا، لم أقف للسلام الملكي؟ وتذكر إنك تخدم جندياً لتساعد أباك وأمك وبقية إخوانك، في أرض لم ينل منها من يزرعها "أبوك" حتى مالا يكفي لقماش يستر أجسادكم؟

نهض الجندي، ومد يده يصافحنا ويقول: أعذرني، يا أخي أحنه مـ....، أنت وعيتني، اعتبرني من هاليوم صديقك. أنت فتحت قلبي. علمني وآمر ...

أدخلنا حسين في مأزق حرج. ولكنه علمنا معنى الشجاعة والثقة بالنفس والمنطق الرشيد. وأقسم إني لم أنسه أبداً، وما وضعت رأسي على وسادتي للنوم إلا وتراءى لي وجهه، منتصباً بقده وقامته الشامخة فيسيل الدمع من عيني، وقد رثيته في سبع قصائد. وحين توفى ولدي "همام" لم أرثه بغير قصيدتين، ولم أنس أن أذكره أيضاً، فقد كان يحب أبني هذا حباً كبيراً. ومن غريب الصدف أن أبني توفي وله من العمر اثنان وثلاثون عاماً تماماً في عمر عمه وشبابه. أواه ... سوف لن أنساهما حتى أوسد في اللحود!
 

 

Google

  في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com