دراسات نقدية

 

3- عودة ومصائب وعواصف / 7
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


 

محمد علي الشبيبي
Alshibiby45@hotmail.com

 

لجنة تطهير

لا بأس يا دنياي! أمطري كيف شئتِ، مصير الجميع واحد، وبعض عذاب نلاقيه عذب، إن لم نشعر ساعته إلا بالمرارة. فإنه حين نودع هذه الحياة وقبل أن تختفي ملامح النظرات، تنبعث صور الماضي فتشير إلى أن العاقبة خير، وإن الذكر سيعبق بعطر النزاهة، والوفاء لكل ما هو حق ومن أجل الوطن والناس.

جاءت برقية ولكن العنوان خطأ. اللقب محرف، الشبيبي حُرفت إلى "السبتي" وكان هذا في 20/10/1952، القصد واضح "صحة أمك في خطر". وأعيدت للتصحيح ثم عادت إليّ. الفيضان خطير جداً، ومنذ أيام شاركنا جميعاً مع الناس في درء الخطر. نحمل التراب لأحكام السد، ومازال النهران في طغيانهما. أنه الغضب، ولكنه أيضاً لا يُبتلى به إلا الأدنون. أما الأعلون فأنهم في حصن حصين.

وعجلت بالرحيل، وكاد يكون الرحيل الأخير. الشرطي الحارس على رأس الجسر الخاص بمرور القطار "جسر البربوتي" منعنا أولا وبعد عشرة دقائق، قال: أعبروا. وقبل أن تصل السيارة منتصف الجسر الخاص لاح القطار يزمجر وضوءه يعشي الأبصار فكاد يهلكنا لولا همة السائق. فما بين وصولنا المنحدر وبين مرور القطار إلا رمشة الجفن بلا مبالغة. وصلت قبل منتصف الليل، وجدتها مسجاة وكأن أنفاسها تتعثر. قبلتها وقلت: أنا علي جئتك، بعد أن تعرضت لموت قاس، أنا وأطفالي -محمد ورابعة وأمل- وأمهم. كان هذا نتيجة غباء الشرطي، وكاد هو الآخر يلقي حتفه على يد السائق إذ عاد إليه بعد مرور القطار، وأنقذناه منه بعد عناء. فقد السائق وعيه وهو يجره ليرميه في النهر، مع خنق ولكمات قوية، وهو يصيح: سبع نسمات يسحقهم القطار فلا يترك لهم أثراً، دعوني ألقنه درساً لا ينساه.

وحين عدنا وجدت تهديداً جديداً. فقد علمت أن لجنة شكلت باسم تطهير الجهاز الحكومي. لو استطعتُ أعلنتُ: أبدؤوا برأس السمكة أولاً! ثم من هم الذين يوكل إليهم أمر التطهير؟ أنا واثق أن بعضهم لا يهون عليه أن يسبب الحرمان لأحد. ولكن ماذا لو كانت المسألة -كما هي العادة- فلان وفلان إلى كثير من أمثالهم إنهم مشهورون بأن منهم -حِسن وأصدقاء حِسن- وأمثاله؟ والأكابر ينصون على أسمائهم نصاً. لا أتذكر تماما هل أن قرار تطهير الجهاز الحكومي شرع أثناء وزارة العمري أم في عهد نور الدين داود. لكن الذي وجدته في مذكراتي 26/12/1952 بينما المعلوم إن سقوط وزارة العمري كان في 23/11/1952 بانتفاضة سيأتي الحديث عنها.

هذا الأمر صار حديث الجميع. والإشاعات حدث عنها ولا حرج. شعار الذين اعتادوا على الثرثرة دون أن يفكروا بالمصائب إذ تقع على رؤوس من يلوكون أسماءهم بالظن والإشاعة.

وتنفست الصعداء، إذ علمت أن ثلاثة من أعضاء اللجنة كانوا من أنبل من تعرفت عليهم منذ أمد. أحدهم لطفي علي قائممقام القضاء، ومفتش التربية عبد الحميد البكر، ومدير الثانوية حسين قاسم العزيز.
ولكن نجاتي تأكدت من هذا السيف البتار. فقد مرّ المتصرف عبد الكافي عارف على اللجنة، ومن الصدف أن كانت ملفتي بين أيديهم. جاء يوصيهم، الله، الله بالناس، لا تظلموا على الضنة والتهمة. ولاح له أسمي على الملفة. فسأل: ماذا وجدتم بهذه الملفة الضخمة؟

قال البكر: فيها كثير من الشكر والتقدير من مفتشي التربية، ولا توجد عقوبة. أما ما يخص السياسة فليس فيها ما يدينه أبدا، قيل، ويقال. وأيده القائممقام وزاد: أني أعرفه شخصيا. وأيدهما الأخير. وسأل المتصرف: أهو متزوج؟ أجابه أحدهم وله سبع من البنات والبنين، وخدمته ست عشرة سنة! فقال كفى، أنا أعتمد عليكم.
وهكذا جاءني البشير بالنجاة. إنها من تدابير وزارة العمري والشعب لم ينس أن يقول له: ليرجمها منكم من كان بلا خطيئة، وقد أطاح بها الشعب بانتفاضته فحل محله من هو أدهى وأمر.

بعض الذين لا يفهمون من الحياة إلا أن يتنسموا هذا الهواء المسمم لكنهم تعودوه كما تعود شارب الأفيون. فكثير من ضعفاء الشخصية صار يردد "الحمد الله آني يعرفوني الجميع من أصحاب الأزنيف والكأس". وأذكر إن المتصرف -قبل أكثر من عام- أخذ يؤنب مدير الثانوية لأنه مثقف ومسؤول إعدادية ... ليكف عن لعب الورق باستمرار في النادي! ردّ المدير عليه، أعتقد أنك أيضا تعلم أن المثقف حصل على ثقافته من الكتب ولكن اليوم المسألة تختلف. فالكتاب يجلب التهم، بينما القمار واللهو هما السبيل الوحيد الذي تثبت للشعبة الخاصة سلامتي من تلك التهمة الشنيعة، إذ هم يرونني عصرا وليلا حتى الثانية عشرة حول طاولة الورق. فرأسي -بارد- وبيتي في أمان من التحري.

تشرين بعد كانون
أجل جاء تشرين الثاني، فقلنا إنه بركان عنيف لن يخمد حتى يطيح بالنظام الجائر ويدمر الاصدام. إنه أشد عنفا من كانون الثاني، ووثبته أعظم، واندفاع الجماهير والتحامها بقيادة الأحزاب الوطنية أكثر وأقوى. فهل ستمضي حتى ينهار وكر الاستعمار، وينزاح عن صدورنا هذا الكابوس الثقيل.

حين استقال الوكيل العام وحل محله مصطفى العمري لم يطرأ تغير في السياسة، وقد خلف الوكيل العام خلفه ركاماً من المشاكل، صب كل حقده على الصحافة الوطنية، وأهان زعماء الأحزاب الوطنية في توقيف بعضهم، والتعدي على كرامتهم في التهجم عليهم في صحيفة حزبه والصحف الموالية له ولأسياده حتى ضاقت الصدور، واحتبست الأنفاس وكأن الهواء قد تسمم، والشمس لم تشرق.

هذا الثعلب الماكر، لا يستريح بمغادرة كرسي رئاسة الوزارة إلا ليعود، بأكثر شراسة، وأشد قسوة، ليتعب الشعب وقادته، فينفذ مطالب أسياده.

وقد خلفه هذه المرة "عمري" وإن أختلف عن قريبه نوعا ما "أرشد" فإنه لا يختلف عنه، في إنه أمين على سياسة -الوكيل العام- ريثما يستريح، ويدبر له الأسياد تخطيطا جديدا. خصوصا وإن كثيرا من الشعوب -بعد إنهاء الحرب- هبت لتحرير نفسها من ربقة الاستعمار فنجحت بعضها ومضى قدما، وانتكست أخرى. مصر، والشعب الإيراني، وكوريا الشمالية التي أدهشت العالم في إبداعها الخطط المذهلة لمقاومة العدوان الأمريكي من خلال الاستحواذ على كوريا الجنوبية ودفعها لتطفئ جذوة الثورة فتضمن أمريكا مصالحها ومركزا استراتيجيا لتهديد جيرانها، فباءت بالفشل.

في 25/7/1952 أعلن نبأ تنازل ملك مصر "فاروق" عن العرش وإنه غادر الأراضي المصرية. وفي 16/8 أذيع عن محاولة انقلاب ضد حكم مصدق وقبض على المتآمرين وفر الشاه وزوجه إلى العراق. وأشيع عندنا إنه ربط نفسه بشباك الحسين طالبا النصر على خصومه. وفي 19/8 دبر فضل الله زاهدي -مرة ثانية- انقلابا نجح فيه وقتل وزير الخارجية "حسين فاطمي" وقبض على مصدق (اليوم الاثنين 14/11/1988 وأنا أراجع وأتصفح لأصلح خطأ أجده أو نقصان، أدركتني حسرة إذ عرفت إنا في خسران فيما قمنا وبذلنا. وكل وضع مازال كما هو أو أشد لتغير أسلوب المستعمر الأمريكي، فوا أسفاه على الجهود والتضحيات الضائعة)
وقف قادة الأحزاب الوطنية وصحافتها بيقظة وحذر وطالبوا الوزارة "العمرية" بمطالب الشعب التي لا غنى عنها. الانتخابات بالطريق المباشر، ضمان الحريات لخوضها، إطلاق الحريات، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، سقوط معاهدة 1930. أما الطلاب والعمال والكسبة في المظاهرات التي ثارت منذ حدث الاعتداء على طلبة كلية الصيدلة، فبعد أن كانت المظاهرة تأييد الطلبة، تحولت إلى انتفاضة عارمة. ذلك لأن الطلبة كانوا عندما ألغي التعديل الظالم أنهوا إضرابهم وعادوا، ولكن أمر دُبر ضدهم بليل فثاروا من جديد، وهبّ الشعب لمساندتهم، وليحقق كل أمانيه.

حياها شاعر العراق وحذرها: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه ما ينفجر عنه الغيظ المكبوت اليوم من التأريخ الموحش المتراكم، تأريخ الحكم الوطني المرتجل بما أنفجر عنه أمس. وخاطبها، كوني واعية! نعيدها ألف مرة ومرة!؟

الأحزاب قدمت مذكرة، والصحافة تستنكر الاعتداء، ومكتب العمال الدائم يدعو للإضراب السياسي، فيلبي العمال. حتى بلغت المظاهرات ذروتها، وحدثت مصادمات مع الشرطة، وكانت الضحايا.

عمت المظاهرات مدن القطر الكبيرة، البصرة، الموصل، النجف، كربلاء، الناصرية، الديوانية، الحلة، والسليمانية. وذكر القادمون من النجف، إن المتظاهرين في بغداد أحرقوا مركز الاستعلامات الأمريكي، ورفعوا شعار "سقوط النظام الملكي؟!؟

لابد إن الأمور قد تطورت تطورا مخيفا. وجد العمري -في 23/11/1952- إن لا مناص من أن يغادر مكانه، فاستقال. الشعب المتظاهر بعماله وطلابه وسائر فئاته يريد الحل الجذري، وتشكيل وزارة ائتلافية برئاسة "الجادرجي" وإشراك الحزب الشيوعي، وسقوط النظام الملكي. الواقع إن الحكم الملكي مازال قويا وإن لم تكن قوته كما يتصور بعضهم. غير إن الشعب العراقي بانتفاضته كما صوره الشاعر ألجواهري:

هو الفــرات وكم في أمـره عجب في حـــالتيه وكم في آيه عبــــــر

بينا هو البحر لا تستطيع غضبته إذا اســتشــاط فـلا يبقي ولا يـذر

إذا به واهـن المجـرى يعــارضه عــود ويمنعه في ســيره حجـــر

وفعلا كان هذا إذ سكنت فورته حالما أعلنت الأحكام العرفية. يرى بعض المواطنين الذين يقفون على الأرصفة، ويخشون أن تمس نار الهياج أصابعهم، أن في المسألة تطرف في غير أوانه، أي أن يكتفي بمجيء وزارة وطنية، وتحقيق مطالب الشعب العاجلة. وإن الهتاف بسقوط النظام الملكي، خطر على الانتفاضة، بينما يرى آخرون، أن هذا ترقيع، فقد جربنا كيف تدور الدائرة من جديد من وكلاء الاستعمار ويطفئون الجذوة بالتدريج. ونعرف عن الشعب حين يثور وحين يخمد إلى الاستكانة. وحين تفاقم الخطر، استعان الوصي بالجيش. ثم عهد بالوزارة إلى نوري الدين داود، رئيس أركان الجيش. فأعلن الأحكام العرفية وأغلق الأحزاب الوطنية. وجد حكم نور الدين بالبطش وأمعن بالإرهاب، إعداما وسجنا وغرامات. وانتهى كل شيء. فهل ضاعت الدماء التي سالت، والأرواح التي أزهقت!؟

النجاح في الثورة منوط ومتوقف بقيادة واحدة. ولن يتم والقيادات متعددة ومختلفة النيات والأهداف. في الوقت نفسه، لا ولن توجد لحد الآن قيادة يمكنها أن تجذب الشعب وحدها إلى الهدف. والى جولة ثالثة. لابد أن يطيح هذا النظام. ولكن ما الذي سَيَجد؟ هذا مالا يستطيع أن يتكهن به أحد. أما الانتخابات فقد أخذت طريقها لنتائجها المتوقعة بظل هذه الحكومة، وأحكامها العرفية.

عام جديد

أجل عام جديد، ولا أؤمل خيرا من جديد. أنا واحد من هذا الشعب، الذي ينتفض، ثم لا يحقق شيئا. دُقت الباب وسمعت أصواتا فرحة، وجدت ثلة من المعلمين، بين ناصري، وشطري، ورفاعي، ومن سوق الشيوخ.
صافحوني، وجوههم تتهلل بالبشر والحبور! احتج أحدهم عليّ. كيف لم أحضر انتخاب الهيأة الإدارية لجمعية المعلمين؟ قال الثاني لقد انتصرنا. انتخبناك، ثلاثة أنتم من الخيرة الذين نعتمد عليهم. فزت أنت، وعلي عبد الطالب، وحسين علي الراضي! كان هذا في 24/3/1953. وفاز بالانتخاب أقوى شخصية في التعليم هو ملاحظ الذاتية سيد حسن سيد مهدي ومعه عبد الوهاب ألبدري، واثنان نسيت اسميهما وعلى أية حال هم جميعا ممن يرى أنه لا يصلح أن نثير حولنا أية شبهة فلا نتخطى أية حدود مرسومة. ليس في الإمكان أبدع مما كان.
كيف تم هذا؟ وأنا لم أرشح نفسي؟ قال ثالث، أنه انتخاب مباشر يا أخي! وعلا الضحك. إنهم مسرورون. ماذا أعلق أنا على رأيهم. إنه فوز ونصر، ولكنه نموذج من فوز الكتل التقدمية الوطنية في الوزارات! أحد أقطاب المعارف، وثلاثة آخرون فازوا. معنى هذا يفسره المثل الشعبي "ذاك الطاس وذاك الحمام" هؤلاء لا يؤمنون بان في الإمكان تغيير المرسوم في لوح سياسة التعليم، لأنها جزء من السياسة العامة للحكم القائم. ألم نرَ بأم أعيننا ماذا انتهت إليه انتفاضة تشرين 1952.

وحضرت انتخاب واقتسام المهام والعضوية لإدارة الجمعية. وكان أن صرت مساعد للسكرتير. ومع ذلك لابد من العمل، وفي أول اجتماع عرضت مقترحاتي. كانت مقترحاتي، إنّا يجب أن نمدَّ الجمعية بالحياة. وتساءلت لماذا لا يهتم المعلمون بها، وما سبب أن الأكثرية لم ينتسبوا إليها؟ أسمحوا لي أن أدلي بمقترحاتي:
أرى أن نعمم على المعلمين بيانا حول ما ستنتهجه الهيأة الإدارية الجديدة.

أولا- عليهم أن يقدموا مقترحاتهم لتدارسها وتقديم ما يلائم.

ثانيا- السعي الجاد لحل مشاكلهم. والدفاع عن المعلم بكل مستلزمات الدفاع ولو لزم الأمر توكيل محام عنه.

ثالثا- إقامة أسبوع ثقافي، لعرض مواهب المعلم ، علمية، أدبية وفنية. وإصدار نشرة لنشاطات الجمعية والمعلمين.

لاحظت أن الثلاثة يتبادلون النظرات مع كبيرهم. هذا الكبير أنا أحترم سلوكه، فهو لا يضمر كيد لأحد، إن لم يحاول مساعدته، ولكنه إنسان يهاب وبخوف شديد أن يعرض نفسه بما لا يرتضيه أولو الأمر. أما الثلاثة فهم كما يقول الشاعر "ولك الساعة التي أنت فيها" والغريب إن ثالثنا هو الآخر أبدى جبنا، أعلن عنه صمته.
في الأسبوع الثاني، حدث أن أقامة متوسطة "سوق الشيوخ" حفلة. ولاحظ مدرس الرياضة أن الشرطة المكلفين بحراسة الباب لمنع من لا يحمل بطاقة الحفلة من الدخول، أن الشرطي يستوفي منهم -لحساب جيبه- درهما أو أكثر ويسمح لهم بالدخول، فأنبه المدرس. ورفع الشرطي الأمر إلى المفوض -الموجود أيضا- وتم بينه وبين المدرس شجار انتهى إلى الاشتباك بمعركة. وأوقف المدرس بالتهمة الشائعة، والماركة المسجلة "شيوعي"!؟

وبناء على المقترحات السابقة، طلبت من الهيأة الإدارية الاجتماع للنظر في أمر المدرس الذي أوقف، فساد صمت ووجوم. وقال ألبدري قبل الرئيس "سيد حسن" أعتقد أن المسألة خارجة عن مسؤوليتنا فإن المدرس المشار إليه، أوقف بموجب برقية من وزير الداخلية! الرئيس قال، اعملوا أنتم، أنا لا أشارك وإذا أحببتم أستقيل؟!

وجهنا وجوهنا -أنا وزميلاي- نحو مدير المعارف عبد الوهاب الركابي فأشار بما أعرفه عنه من جبن يغلفه بتأويلاته المنطقية. ثم يهمزني، أنت تهتم بهذا المدرس لأنه من "الربع" خل القضية للمسؤولين!؟
في طريقي إلى البيت أخذ كثير من معارفي، وبعض الذين أعرف عنهم أنهم يحبونني، يلومونني فلم أسمع غير: لا تخلي نفسك ضحية، لا أحد يستحق، أنت وحدك تتناولك سكاكينهم! صدقوا والحق. ولكن لا بأس، فلقد أثبت للذين وضعوا ثقتهم بي إني عند حسن ظنهم، ولابد قد وصل إلى علمهم أنباء موقف أعضاء اللجنة التقليديين في كل دورة.

والركابي لا يفتأ يتابع دسه ضدي، ففي خلال بحث الأضابير في لجان تطهير الجهاز الحكومي لم يخجل من حث اللجنة ضدي. قال لهم، دققوا جيدا انه عاود نشاطه. من حسن الحظ أن اللجنة تعرفه جيدا، وان المسؤول الأعلى -المتصرف- وقف مني موقفا نبيلا. والظاهر انه حين علم برأي اللجنة، فكر بطريق آخر، فقد لقيني في الطريق، فراح يحدثني، وكأنه صديق يُسر إلى صديقه نبأ يخشاه، ويدله على طريق الخلاص. قال: أكتم ما أقوله لك، الشرطة أرسلت إلينا كتابا سريا بأنك تتصل بمشبوه يدعى فاضل سيد مهدي بائع سجاير! قلت: إنه شقيق زميلي المعلم صالح مهدي، وأنت تعرف ككثيرين غيري من المعلمين لا نستغني عمن يمكن أن يساعدنا بالقرض خلال الشهر، وأنت أعرف براتب المعلم!

وبعد أيام أطلعني مدير المدرسة سيد باقر على كتاب المديرية السري "بضرورة مراقبتي وإعلامهم بما يبدو مني من تصرف". فقلت لمدير المدرسة "أشد الناس نذالة من زكى نفسه على مذبح غيره"! وهذه عنوان كلمات كنت أنشرها باسم "سوانح".

وتصل أخبار الوالد الشيخ. مجالسه في هذه الظروف الحرجة، زادت اندفاع جماهير النجف. حدثني بعض من زار النجف. قال: مجلسه في الميدان الكبير يمتد إلى قرب مبنى القائممقامية. وإن مكبرات الصوت اثنا عشر مكبرة، فإذا توجه إلى مجالسه في الكوفة، أو المشخاب، تقدمت سيارته ثلاثة دراجات بخارية وخلفه اثنتان، للمحافظة عليه من الغدر. وقص عليّ بعضا من لذعاته وإشاراته إلى الساسة وسياستهم.

وأقامت جمعية المعلمين احتفالا كبيرا في 15/3/1953 بمناسبة زيارة الملك فيصل الثاني وخاله الوصي على العرش عبد الإله، يصحبهم وزير الداخلية عبد الوهاب مرجان الذي أفتتح خطابه بالآية الكريمة "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا"

أما مدير التربية "حسين الصياح" فقد ذكر فيما ذكر كلمة فيصل الأول "لو لم أكن ملكا لكنت معلما" ولكنه أخطأ فقال العكس؟ فوضع المحتفلون أكفهم على أفواههم . ودوى ضحكهم أكثر حين رأوا عبد الإله نفسه وابن أخته قد ضحكوا كثيرا وبصوت عالٍ، حين أخطأ المعلم عبد الوهاب البدري وهو يهتف: يعيش صاحب "اللمو" الأمير على عرش "الإله"! أراد، صاحب السمو الوصي على عرش العراق.

وللناس في عبد الإله أحاديث وإدعاءات. لا أدري مدى صحتها. قالوا: أن مدير الشرطة قد أستدعى بعض المغنين والراقصات لسهرة خاصة حضرها عبد الإله، دون الملك؟ وإنه نزل إلى مستواهم في مرحه واستحسانه، فكان يماشيهم بأصابعه، ينقر على علبة السجاير وفقا للحن وهو جالس مثلهم على الأرض لا على الكرسي. وعقبوا: أنه أمر بمنحهم مقدار من الدنانير، لكن مدير الشرطة طردهم!؟

وفي هذا الشهر نفسه -في 6/3 و 15/3/1953- أعلن نبأ موت "ستالين" من إذاعات العالم. وبعد تسعة أيام أعلن نبأ وفاة رئيس جمهورية جيكوسلوفاكية "غوترولد" على أثر التهاب الرئة أثناء تشييع جنازة ستالين.

ثم فاجأ الناس حر لم يسبق أن مر علينا مثله، واشتدت وطأت الرطوبة، وتسمع لبكاء الأطفال رنينا محزنا، وزاد الطين بلة، أن مشروع الإسالة أصيب بعطب، وشح الثلج وغلا سعره، لأن أصحاب المعامل أخذوا يهربونه إلى سوق الشيوخ والسويج، والكويت، ولم يحرك المسؤولون ساكنا.

ما هو الحظ؟ كيف يتعثر؟ الناس إذ يتحدثون يقولون حظي يتعثر؟ حظي أنا أيضا عاثر. لم اُرفع منذ عام 1946 قبل أن أفصل من الوظيفة بنفس العام. وما أزال بنفس الراتب خمسة عشر دينارا. ففي رسالة إليّ من عبد الرزاق محي الدين في بداية تعييني معلما عام 1935، وكان طالبا في كلية دار العلوم المصرية، قال عن هذا الراتب الهزيل "إنه كحلم الأعزب لا يصبح منه إلا على قذارة الثوب ونجاسة البدن".

إني أحمله فوق الطاقة، إنه لا يطيق إيجار الدار، والماء والكهرباء، والمعيشة اليومية، وما يحتاجه الصغار من كساء وغيره، وما تأتي به الأيام من مرض طارئ. فألجأ كغيري إلى المعارف والأصدقاء. لابأس الميزانية تختل بعد عشرة أيام بتخطيط مسؤولة البيت. لكن الحظ منذ 19/4/1953 عثر عثرة أربكت ميزانيتي شر إرباك. بحيث لا يستطيع تقويمها إي خبير اقتصادي. فقد اُبلغت من قبل محاسب المعارف: "إن إعلامهم لي بانتهاء الأقساط الواجب دفعها عن التوقيفات التقاعدية، التي سحبتها عند فصلي من الوظيفة، ثم لما عدت، طلبت إعادتها أقساطا. إن هذا حدث سهوا وهو لم ينته!؟".

غريب أمر هؤلاء الموظفين، هم يخطئون وعاقبة الخطأ عليّ أنا. وأشد ألما أن يطلب دفع المتبقي مرة واحدة. مرحا لهذا اللطف. وهذا الحرص على المعلم. راتبي 15 دينار والمطلوب دفعه عشرون دينار!؟ وبتوسط مدير المعارف، تنازل حضرته أن جعل القسط 5,250 دينار.

كان بإمكاني أن أتوسل بشتى الوسائل سواء في نطاق الرسميات، إلى الجهات العليا والصحافة. ولكني تدرعت بالصبر، فهذا ليس أول مكروه، ولن يكون الأخير. محاسبنا واحد من موظفي الحكومة التي لا تقيم وزنا للكرامة، ولا تشعر بمعاناة الموظف الصغير وبالخصوص المعلم الذي كاد يكون رسولا. ولكن في شعر شوقي.
 

 

Google

  في بنت الرافدينفي الويب

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 © حقوق الطبعوالنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين

Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.

info@bentalrafedain.com