القصة

 آمال وعبرات

روناك محمد علي

 كان المفروض ان يكون لي بيتاً وموطناً كبقية الكائنات على هذه الكرة الارضية ، احباب كثيرون يحلقون حولي يتجاوز عددهم عن عدد اصابع اليدين ، كلمات ود ساحرة ارَقْ من زهر البنفسج والياسمين يهدونها لي كما لو كانت كل ايامي عيد وفرحة دائمة وانا اتوسطهم ، موظف بسيط منح ما يقارب العقد من عمره في خدمة الدولة والمجتمع ، زرعت الآمال على مدى مستقبل جميل ، بيت مظلل بالأمان والالفة واطفال ينثرون الاندفاع بحلاوة ضحكاتهم ، تغوص الشمس في بحر الغروب وانا قرير البال لااخشى الظلمة الآتية لاني على يقين من انها ستزول وتزول ، ويحل محلها طليعة فجر منير وتشرق الدنيا كرة اخرى بثوب الضياء . . . .

على هذا الشكل كانت الصور توافي مخيلتي اناشد المثاليات لا يفرق وضعي عن كل من يرجو لنفسه او ذريته حلم غد افضل ، فيا ترى ما كانت العلة والخطأ في هذه الاماني المكبوتة حتى اصل ما وصلت اليه من الحال . . .؟

المحطة تكتظ بالخلق ، افواج من المسافرين متناقضي الاعمار والاعراق حاملي متاعهم ، الكل عازم السفر ينجرف وراء مقصداً مشخصاً ولكن الى اين . .؟ يا ليتني بقادر على استجوابهم ، ها اني اسمع وقع اقدامهم بجلاء وهي تترنم بلحن البلوغ ، الوصول عبر خريطة رسموها وفق مرامهم ، هؤلاء البشر كلاً جاء من مكان ما او يعتزم بقعة اخرى لا أدري عنوانها . . . ، وقوام الامر ان كل الذي اعرفه او أميزه من هويتي الحاضرة اني غريب مضطهد بينهم . . .

ياحسرة وانا الاحظ الجموع الماضية ، اشارة كف يلوح في توديع عزيزاً راحلاً تستفز مشاعري ، اضحك وأبكي لدمعات طفلاً متشبثاً برداء مسافراً ، اي حركة او ألتفاتة تبدو في نظري في منتهى الجمال والشفافية مادامت تقوم على مسلك معلوم . . . ،وانا . . . اين موقعي من هذا . . .؟!  . . . لا فرق بين ذهابي وعودتي ولا لخطى اقدامي من آثار في هذه البلدة كما لو كنت اقطن كوكباً تائهاً في مدارات الفضاء . .

القطار يمضي بي نحو قدام ومناظر لا حصر لها تنجلي بتواصل ، الجبال والهضاب ، الزروع والمروج وحتى السماء وانا اتأرجح وسط الافكار ، علاج الروح بات في الاحياء مع الخواطر ، العشب والاهوار ، رقصات سيقان القصب والبردي ، عذوبة مياه الرافدين وحبات البلح ، اغنية ولع المزارعين للمناجل والبيادر شريط من الخلود يستحيل انقطاع تصاويره لحظة . . .

ـ ما بالك . . .؟ سألني . . .

ـ انا غريب . . . . .

ـ لابد ان الشوق غزا فؤادك . . . هكذا يبدو عليك الحال . .

ـ هي الحياة هكذا دوماً لقاء وفراق . . .

تمتمت وانا اكابد الحسرات ، من في هذا العالم من يفهم ما يجنيه الواحد من البعد ، الانقطاع ، الغربة ،   .   . ؟ لااحد يفهم عدا المجرب . . . .

ـ لم انت هنا . . .؟!

ـ الوطن اشتراه الاسياد يتصرفون به كما يحلو لهم . . .

افلتت منه ضحكة ساخرة . . . لقد قلت انه لاأحد يفهم . . . لا احد يفهم معاناتي وهذه هي المشكلة . . .!!

ـ ومن ذا الذي باع . . .؟

ـ القوة هو الحاكم الغالب في هذه المسرحية . . .

لوى شفتيه باستفهام يردد عن غير اقتناع . .

ـ ليس هذا من المنطق . . . لقد باتت غابة اذاً . . .

سددت بوزي لاادري بماذا اجيب ، السكوت خير من الكلام في احيان كثار ، لربما صاحبي هذا مصيب في استنتاجه ، ما الحيلة مادامت هي الحقيقة هذه ، السلاح هو المتسلط على الشعب ، سياسة الحديد والنار ، الطوامير والمعتقلات تحتشد بالآلاف ولا حتى من جاء بوزراً منهم ، الكل مجرمون تحت خيمة مصالح الجلاوزة الكبار ، الثكالى يتمرمرون ، الضنك ، الحاجة ، النوائب تتوالى هل من ناصر . . .؟   .   . هل من مجيب . .؟

ـ اراك سارحاً . . .

ـ جمالات الطبيعة اخذت بي في نزهة على شواطيء الماضي . . .

ـلم هاجرت . .؟!

ـ كي ابحث عن حرزاً اعتبره وطناً لي . .

ـ وهل افلحت . . .؟؟

ادرت رأسي يميناً وشمالاً وكلي استخفاف ، بدا لي من السخف التطلع الى زوايا مثل هذه الاسئلة الركيكة ، فأما صاحبنا ببليد او انه خلي البال يتوخى في التظاهر بهذا عن عمد ، لمجرد أحداث الثرثرة او انعقاد نقاشاً بلا نتيجة . . .

يوما ما كان المفروض ان اعيش كبقية الخلق ، ارفع هويتي أمام الغير بفخر ورفعة رأس لا ان اغدو عالة على هذا وذاك ، عنواني بات مخطوطاً باحرف معقدة يكاد يعرفه أو لا يعرفه الاخرون ، كل من يراني يدرك اني لست منه ولا من شلته بل سائل ذليل يطمع في من يجود عليه ، وجحٌ يصونه من الحر والبرد يختبىء فيه خوفاً من عفاريت الظلم او لقمة من الزاد تشبع بطنه وكل من يعيش في انتظاره مع السكوت والحرمان ، عيون تتدفق شفقة واستعطافاً رثاء لحالي المريب ، لشد ما تثير في نفسي التقزز مثل هذه الرؤية ، ابغضها الى ابعد الحدود . . .

القطار يسري بقصوى سرعته ، اخرجت من حقيبتي ورقة رسالة خير انيس لي في هذا الجو الجهيم ، اتسلى بمطالعتها للمرة التي لاتحصى ، هكذا اصبحت معيشتنا ، العواطف نلمسها على الاوراق ، اعبق رئتاي بفوعة  طيب الاحرف والانباء ، الشيء الوحيد الذي تبقى في جعبتي يحمل معه رائحة بلدي ، ألثرى ، الاهل ، لازلت اذكر اليوم الاخير كنت في جمعهم وسط الدموع ، بقطتُ متاعي وغادرت المنزل بخفية وخيفة على امل مجهول ، كل شيء استغنيت عنه على ان ابلغ  دار الامان ، يوم اوفر حظاً من هذا الذي كنت فيه ارزق ببضعة قروش اسدد بها رمق اخوتي الصغار ، هم في مسيس الحاجة لتلبية متطلباتهم ، كيف بي ان اعولهم وانا موظف محدود الموارد مرتبي لا يعادل ثمن شراء زوج حذاء في هذا الحصار . . .؟

ـ لعلك الآن حظوت على النهاية المرجوة . . .حصلت على ما تهواه . . . .؟ . . .

ـ وخسرت ماهو غني عن التعريف . . . مسقط الرأس . . . هويتي . . . انقطعت عيناي عن رؤية اعزائي . . .

ـ يهون كل هذا مقابل المسكوكات . . . ردد ضاحكاً . . . .

اضحك ما امكنك من الضحك وليست عليك من لائمة ، هكذا علمنا الحكام البغاة و على هذا دربونا سادة الباطل ، نهجر موطن ولادتنا جرياً وراء القوت و نغمض اعيننا عن الواقع الذي نرسو فيه . . .

بعدما كانت الارض هي الأمّ العزيز ، قبس الامل الدائم ، التفاؤل ، الغنى الابدي ، اليوم ضاعت كل المبادىء وانحطت قداستها تحت راية حكم دكتاتوري ، دروس شنيعة تصيقلنا عليها لايمكن ان تشذب عنها العصور . . . .

الطقس يشع برودة الصقيع ، ثمة ليس ما يسرّ النفس في هذه البلدة الميتة ، لم لاتنقطع ايها القلب عن ترتيل نشيد هفوات الشوق ، ويكأن كل شيء في هذه الدنيا لا تحلو للواحد الاعلى ثرى الاجداد ، ليتني بقادر على اطلاق صرخة متجلجلة ، انادي على الملأ العام بأعلى صيحة وكل من يتمتع بمباهج هذه الحياة الكئيبة ، الزرق والبرق ، الالوان والتوافه برمتها لاتساوي حفنة من ترباء وطني الغالي المنكوب . . .

صررت على اسناني لا اطيق ، الاوراق النقدية هي كل ما في حوزتي الان ، لعل فيها بلسماً لجراحي النازة العقها وتعود علي ببعض التعزية ، الاهل ينجون من الجوع بعذاباتي وتضحياتي هذه ، . . .ولكن . . .الى متى اظل اتخبط في متاهات هذا الشقاء . . .؟ الى متى . . .؟؟

امسكت بورقة وقلماً وقد ومضت في ذهني فكرة تدوين خطاب ، بضع جملات انعكفت على تحريرها وفق العادة ، يوما ما ستصلح الامور ، اليسر يحفف بنا مرة اخرى كما كنا آنفاً ، غيوم الجور تنقشع عن سماء بلدي المظلوم ، على هذا اقنعت نفسي واوهمت الاخرين ، كل شيء سيعود الى نصابه ، ننجو من الضيم ويسبغ علينا خير عميم . . .

القطار اخذ بالتباطؤ قليلاً قليلاً ، صاحبنا هذا افل نجمه بغتة ، لعله نزل قبلي دون ان ادري  . . . .هكذا هي الغربة دوامة من الالم والفراق وثمة فراق . . .

الركاب يتجددون وانا وحيد هائم في غمارهم ، سرت كالسائب وأنا في حالة سخط واستياء لامزيد عليهما ، الهيام يلوعني في اسفاره ابث شكواي الى دهر أصم لا يجيب ، بتُ كورقة خريفية ليس من همّها الى اين تأخذ بها الرياح ، لحظة ما حدثتني نفسي ان اضع الرسالة في مظروف ، البشر ابثه الى الاهل باسرع فرصة بسلوى خبر عن ابنهم المغترب ، لربما في هذا بعض الراحة لي ، واذ كنت اراجع الفكرة في ذهني اذا بي اباغت بعدم وجود الخطاب ، شرعت أفتش حاجياتي وافرز قطع المتاع دون ان اعثر عليه . . .

الشكوك رجعت بي الى الوراء وقد اختلطت علي المسألة ، تداولت تحركاتي بالواحدة عندها انصبت ظنوني على موضع جلوسي في القطار صفيره علا انذاك المحه يمسح المسافات بيننا على مهل ، تملكتني العبرة وانا اراقب العجلات تحتك بالسكة الحديدية وسط ضجيج مرسع ، رحلة زموخ حكمت على رسالتي طيها قسراً وانا ناظر شجين ، ظللت ساكناً لا اريم الى ان انمحوت الصورة وتلاشت الاصوات كاملاً ، عندئذ تحملت اثقال حقيبتي بقرف وامتعاض لا مزيد عليهما ، تمنيت من الاعماق انذاك لو يقرأ كلماتي من يقرأها أو يسمع ويقدر شكوى قلب جريح وهو اسير تائه في ديار الغربة . . . .

 

*        *        *

 

 

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب

 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com