شاعر الثورة
العراقية الوطنية .. أحمد الصافي النجفي
"إن البلاد كما
الحسان تفاوتت حسنا *** وان عروسها بغداد"
د . شاكر
الحاج مخلف / رئيس تحرير جريدة المدار الأدبي
الولايات
المتحدة الأمريكية
shakirmikhlif@yahoo.com
ولد
شاعر العراق الكبير " احمد الصافي النجفي " في مدينة النجف
الأشرف في العام 1897 وتلقى علومه الأدبية والدينية وبقية
العلوم الطبيعية ومحاضرات عن الفلك والكواكب والطب الإسلامي في
مجالس الدرس من خلال جهود علماء الدين، بعد ذلك أنطلق في
مشواره العلمي والمعرفي معتمدا على نفسه مطبقا أصعب المناهج في
التعليم الذاتي مبحرا في كتب الفكر والتراث والأدب العربي
القديم وكذلك في مصادر العقيدة الإسلامية وفروع الحكمة
والفلسفة ، كما تبدو واضحة آثار البيئة العلمية والدينية التي
كانت تحيطه بها أسرته التي كان يغلب عليها الطابع الديني
والعلمي وكذلك الأدبي ، وهي تتمتع بمكانة مرموقة لدى أهل تلك
المدينة وفعالياتها، كما يعود التأثير الآخر للأصدقاء الذين
رافقهم في مسيرته ، حيث عرف عن اغلبهم ميولا تتطابق مع ميوله
واهتماماته الأدبية والفكرية، وصار فيما بعد يتبارى معهم في
مجال نظم الشعر وحفظه، أن سجل حياة الشاعر العراقي الكبير احمد
الصافي النجفي يشير إلى انه تمكن من نظم الشعر وقرضه في أعوام
حياته الأولى وبالتحديد في سن التاسعة من العمر…
بعض الأنام يرى الحقيقة مرة
فيفر منها مطبقا عنها الفما
كيلا تلاحقه فتدخل فاه أو
يبقى يشاهد وجهها المتجهما
وأنا أراها مرة فألوكها
كي أغتذي منها وإن تك علقما
ولكم تقاليد شغفت بحبها
زمنا وكنت بظلها متنعما
دب الفساد لها فرمت أصونها
بالحافظين مطهرا ومعقما
لكن عييت بأمرها فتركتها
لما رأيت فسادها مستحكما
كانت حافظة الشاعر احمد الصافي النجفي للشعر تثير الدهشة
والإعجاب خاصة لدى العلماء ورجال الدين وكان يبدو كالنجم
متألقا في المجالس الأدبية والتجمعات ذات الطابع الفكري
والثقافي،ويذكر عنه في طفولته حفظه للقرآن الكريم بفترة قياسية
تجاوز فيها أقرانه وصار حديث الناس في النجف، كما أتقن اللغة
العربية وعلومها وكذلك اللغة الفارسية وتفوق فيها…
مرحلة الشباب
عندما أكتمل البناء الفكري والثقافي والأدبي للشاعر احمد
الصافي النجفي الذي صار يشار أليه بالبنان يوما بعد آخر وتحول
من شاعر مدينة النجف إلى شاعر العراق والعرب، وجد لنفسه قاعدة
قوية ومجالا خصبا عندما عمل في الصحافة كما أشتغل في الترجمة ،
حيث قام بترجمة العديد من الكتب والمؤلفات من اللغة الفارسية
الى اللغة العربية ، ومن أثاره النادرة في هذا المجال ترجمته
الرائعة لرباعيات الشاعر الفارسي " عمر الخيام " والتي طبعت في
دور النشر اللبنانية أكثر من عشرة طبعات، وحظيت باهتمام الكثير
من الأدباء والدارسين وكتبت عنها مقالات كثيرة أشادت بجهود
الشاعر النجفي الدقيقة والمتميزة حيث تمكن من نقل أفكار الخيام
إلى العربية راسما صوره الخمرية دون أن تفقد تلك الرباعيات
الشعرية قيمها الفكرية أو الجمالية وتقع الرباعيات التي ترجمها
في ثلاثمائة وإحدى وخمسين رباعية.
قلبي على نفسي يفيض قساوة
وعلى بني الدنيا يفيض ترحما
ابكي على غيري إذا ما نابه
خطب فيجري الدمع منهلا دما
لكن أثور إذا دعتني نكبة
وأعود من حكم القضا متبرما
وعليّ دمعي في البلاء متحجر
حتى ولو وقعت على الأرض السما
يرثى الأنام لحالتي إما رأوا
بؤسي وأنظر حالتي متبسما
آلام روحي غير آلام الورى
ولكم فرحت بما رأوه مؤلما
كم يحزنون لما أراه سعادة
أو يرقصون بما أراه مأتما
جوائز مبكرة
بعد ترجمته لرباعيات الخيام ونشره الكثير من القصائد الشعرية
ذات الحس الوطني والقومي في جريدة " السياسة " التي كانت تصدر
آنذاك في القطر المصري الشقيق والتي كان يرأس تحريرها الأديب
المعروف " محمد حسنين هيكل " والتي ألقت الضوء على شاعرية
الصافي النجفي وصار معروفا في لبنان وسوريا ومصر وبلدان عربية
أخرى، وتقديرا لجهوده الأدبية الكبيرة في مجال الترجمة من
العربية إلى الفارسية وكذلك من الفارسية إلى العربية، قلده
النادي الأدبي في مدينة طهران وسام العضوية وعلى اثر ذلك توالى
صدور مجموعاته الشعرية والتي بلغت " خمس عشرة " مجموعة شعرية……
النجفي كما رآه العقاد وزيادة وآخرون
حظي احمد الصافي النجفي بتقدير كبير من لدن معاصروه من الكتاب
والأدباء والشعراء وغيرهم ، وشغلت به المحافل الأدبية والفكرية
، فقد قال عنه الكاتب " محمود عباس العقاد " الشاعر احمد
الصافي النجفي يمثل بحق أشهر شعراء العربية رقة وثورة وإخلاص
للقضايا الوطنية والعربية ، كما قالت الأديبة المشهورة " مي
زيادة " الصافي النجفي شاعر كبير دون منازع يعيد أمجاد الشعر
العباسي إلى الأدب العربي المعاصر ، ولم يتوقف العقاد عند ذلك
المديح بل كتب عنه كراسا أختار فيه نماذج من شعره المتعدد
الأغراض وقال فيه" لا يكفي أن يدرس الصافي أديب واحد، وذلك
لسعة آفاقه الشعرية وعمق تفكيره وأساليب بنائه للصورة الشعرية
وقوة مضامينها، كما قارن نقاد آخرون في مسيرة النجفي والمعري
الحياتية والشعرية، وأفادوا أن كلاهما قد عانى من البؤس
والفاقة وكلاهما أيضا قد قادته أوضاعه المعيشية ومحيطه البيئوي
إلى التمرد ورفض صور التردي، وصفه أحد أقرانه من الأدباء"
عندما تجالس الصافي النجفي تحس أنك تجالس الطبيعة الساحرة
الطاهرة ..
عيني ترى مالا يرون وعينهم
مالا أراه ففي أي عمى
ماذا تهمني الفتوق بمئزري
سيظل عرضي سالما لن يثلما
ما شأن جسمي والرداء فإنني
مهما بي اتصلا غريب عنهما
الشاعر الفيلسوف
يغلب على شعر الصافي النجفي الكثير من السمات المرتبطة بشيوع
الحكمة والأفكار الفلسفية والعلمية فيها، وربما نجد أن الكثير
من أغراضه الشعرية تكاد تقترب من ذات المظاهر في بناء قصيدة
أبو الطيب المتنبي المشحونة بالفكر الفلسفي والعقلي وسبر أغوار
ما وراء الطبيعة ، والصافي النجفي يعترف ضمنا في الرد على تلك
الآراء بأنه متأثر كثيرا بشعر المتنبي وأيضا تلك الفلسفة
والحكمة تسربت إلى شعره من خلال دراسته العميقة للفلسفة التي
درسها في المراكز العلمية والدينية أو تلك التي قرأها فبي
الكتب يضاف إلى ذلك البعد ، تلك الشفافية التي أشتهر فيها،
وأيضا سعة الإطلاع وولعه الشديد بقراءة كتب الحكمة والفلسفة
العربية الإسلامية القديمة، وكذلك ميله القوي إلى نتاج الشعراء
المتصوفين والمعتزلة،فقد وجد في ذاك المخزون الكبير الذي يستند
أليه وجعله في أبياته القليلة ليطير محلقا وناسجا فضاءا للحكمة
والمعرفة والعلم في أفكار وتأملات فلسفية تفتح العقول التي
تتأملها وتقودها إلى أسئلة عديدة، وكان الصافي النجفي ذات يوم
يصف الموقف المتقلب في مظاهر الطبيعة، عندما أخذ الثلج يتساقط
والناس قد تجمعوا من حوله في حالة اندهاش، فقال :
لقد أصيب لحاف السما ببعض الفتوق
فاصبح القطن يهمي من ذا اللحاف العتيق
وقال أيضا واصفا جمال الطبيعة والبيئة في لبنان وسوريا في
قصيدة فريدة اعتبرت من اجمل القصائد العربية التي تصف مواقع
البيئة السورية الجميلة :
أيا " بقين " فيك الحسن يسبي
فمآبك غير غانية وصب
ضياء البدر أخفته شموس
تطل عليك من شرق وغرب
إلى " بقين " سمرت بألف قلب
وعدت إلى الشام بدون قلب
كما نظر عميقا إلى البيئة الفلاحية وكيف يستحوذ نظام الإقطاع
على جهود الفلاحين الذين يواصلون الليل با النهار في عمل مضني
دون الحصول على الحياة الحرة الكريمة، وهو يرى أن دوره
التحريضي يقضي إن ينبه أبناء شعبه من الحيف الذي لحق بهم وكمن
يضع أمامهم مشعل منير ليكشف عن سجف الظلام، كمن يمهد بذلك إلى
الثورة:
رفقا بنفسك أيها الفلاح
تسعى وسعيك ليس فيه فلاح
هذي الجراح براحتيك عميقة
ونظيرها لك في الفؤاد جراح
عرق الجبين يسيل منك لآلئا
فيزان منه للغني وشاح
الشاعر الثوري المعارض
في رحلة عمره التي امتدت زهاء الثمانين عاما، كتب الصافي
النجفي شعرا متميزا يضم بين دفتيه المواقف المتعارضة مع السلطة
والمنتمية إلى الشعب، فقد نبذ التسلط العثماني وعاصر أدوار
الحكم الملكي المتعاقبة على العراق ، وكانت بداية المواجهة
بينه وبين السلطة تتمثل في الموقف الوطني الذي اتخذه إبان
الثورة العراقية الكبرى " ثورة عام 1920 " تلك التي انطلقت
شرارتها من جنوب العراق ردا على الاحتلال البريطاني الغاشم
للبلاد ثم تطورت لتشمل كل مدن العراق دون استثناء وساهمت فيها
القوى الوطنية وفي مقدمتهم رجال الدين النجباء ووجد الصافي
النجفي نفسه مكلفا من قبل قيادة الثورة ليكون وسيلة الاتصال
ونقل المعلومات بين القيادة وجماهير الثورة في النجف وما
يجاورها من مدن أخرى، وقد تمكن من إيصال رسالة الثورة في
مناهضة قوى الاحتلال ومطالبته بالاستقلال من خلال الكثير من
القصائد الوطنية التي كتبها ودون فيها تفاصيل الثورة ومواقف
الثوار والحوادث التي حصلت من المقاومة الباسلة والقتال الذي
تكبدت فيه بريطانيا وقواتها افدح الخسائر وهي تواجه بترسانتها
العسكرية شعبا اعزلا لا يملك سوى أسلحة بدائية ولكنه يملك
الأيمان ويسعى إلى الحرية ، وعندما تمكنت بريطانيا من إخماد
الثورة ، كان الصافي النجفي من الأشخاص المطلوبين للاعتقال
والمحاكمة ثم الصادر بحقهم عقوبة الشنق، وبصدد ذلك يقول :
ولئن أشنق تكن مقبرتي
منبرا يعلن جرم الإنجليز
ثم غادر العراق متخفيا نحو الأراضي الإيرانية ، وظل من هناك
يرسل قصائده الوطنية مساهما في تأجيج غضب الجماهير ونقمتها على
وجود بريطانيا وقواتها والعملاء الذين كانوا ينفذون سياستها
الغاشمة وهو يخاطب القوة المحتكمة إلى الفعل القسري المضاد
لتطلعات الجماهير قائلا :
أيها القوة مهلا فاحذري
أن في التاريخ للناس خبر
وإلي أصغي قليلا و انظري
ومعي سيري ترى فيه العبر
كم هوة من قوة قبل الأجل
وعروش وشعوب ودول
بعد ما صالوا بجند وخول
إنهم بالسيف قاموا وعلوا
وبه أيضا من الأوج هووا
طاف مدنا ودولا عديدة منفيا مطاردا من أنظمة متتابعة تسلطت على
حكم البلاد ورفعت الشعارات الكاذبة لتخدير عقول أبناء الشعب
العراقي وساهمت في تثبيت أقدام المحتلين والدخلاء،اكثر من
خمسين عاما قضاها بعيدا عن العراق تطلب رأسه جميع الحكومات،
وتهاجم قصائده كل الحكومات، أرتحل منفيا إلى إيران والكويت
وسوريا ولبنان ،عرف الفاقة وشظف العيش في المنافي وعاش زاهدا
متعففا، يكد ويكتب وينتظر بزوغ الأمل في وطنه ، وعندما كان في
لبنان أثناء الثورة العظيمة والمجيدة " ثورة مايس 1941 "
ووصلته أنبائها وسيطرتها على مدن البلاد وهزيمة رموز الاستعمار
البريطاني القبيح، كتب العديد من القصائد الثورية عنها و عمل
مروجا لأخبارها، وقد تنبهت السلطات البريطانية وحكام لبنان
العملاء إلى خطورة صوته الوطني المدوي ، فأمرت باعتقاله وزجه
في السجن ببيروت، وقد كتب قصيدة رائعة يصور مشاعره وهمومه وهو
يواجه قرار الشنق...
ولما علمت
الذنب خدمة موطني
حلا السجن في
عيني وطاب لي الشنق
وفي عام 1958
فرح احمد الصافي النجفي بذاك التغيير السياسي وتصور أن بلاده
ستتخلص من سيطرة الاستعمار ومن قبضة العملاء والخونة ولكن ذاك
الحلم الكبير تهاوى رمادا بعد بروز أعاصير الحزبية العفنة
وماجرته على البلاد من دمار وحقد اسود همجي وجد فيه الصافي
النجفي ردة كبيرة لاحدود لها، لم يختلف ليل الإنجليز الذي أحاط
بالعراق نصف قرن عن ليل قاسم وما تبعه .
النهاية المأساوية
واصل الصافي
النجفي حياته الصعبة خارج حدود الوطن أقام إقامة طويلة في
لبنان قريبا من مركز الثقافة ودور النشر كان يواصل طباعة
دواوينه الشعرية ويترجم بعض الكتب عازفا عن العودة إلى العراق
وهو يرى أن رياح الديكتاتورية العاتية قد هبت على بلاده ، وهي
لاتقيم وزنا للثقافة والحضارة، وكم طاف به هاجس الشوق والرغبة
للعودة إلى ثرى العراق والسير في دروب النجف مدينته التي رأى
فيها النور، لكنه كان يتراجع عن تنفيذ تلك الرغبة ، لذلك وطن
نفسه على العيش بقية حياته في لبنان الذي وجد فيه حظوة وتقديرا
كبيرا من لدن رجال الدين الشيعة وفعاليات الصحافة والثقافة
ودور النشر والمنتديات الأدبية ،حاصرته الحرب الطائفية
اللبنانية، كان يبحث عن الهدوء والآمان على ضفاف المتوسط، وفوق
كورنيش لبنان أصابه رصاص الحرب فعاد إلى مدينته التي انطلق
منها ليوارى في ثراها، تغنت قصائده بالوطن فيقول متباهيا بكعبة
المجد والجمال:
ان البلاد كما الحسان تفاوتت حسنا
وان
عروسها بغداد
..
من قصائده المشهورة
رِفْقَـاً بِنَفْسِـكَ أيُّهَـا الفَـلاَّحُ
تَسْعَى وَسَعْيُـكَ لَيْسَ فِيهِ فَـلاَحُ
لَكَ فِي الصَّبَاحِ عَلَى عَنَائِكَ غُدْوَةٌ
وَعَلَى الطَّوَى لَكَ فِي الْمَسَاءِ رَوَاحُ
هذِي الجِّرَاحُ بِرَاحَتَيْـكَ عَمِيقـَةٌ
وَنَظِيرُهَا لَـكَ فِي الفـُؤَادِ جِرَاحُ
فِي اللَّيْلِ بَيْتُكَ مِثْلُ دَهْـرِكَ مُظْلِمٌ
مَا فِيـهِ لا شَمْـعٌ وَلا مِصْبَـاحُ
فَيَخُرّ سَقْفُكَ إنْ هَمَتْ عَيْنُ السَّمَا
وَيَطِيـر كُوخُـكَ إذْ تَهُبُّ رِيَاحُ
حَتَّى الحَمَامُ عَلَيْـكَ رَقَّ بِدَوحِـهِ
فَلَـهُ بِحَقْلِـكَ رَنَّـةٌ وَنُـوَاحُ
هَذِي دُيُونُـكَ لَمْ يُسَـدَّدْ بَعْضُهَا
عَجْزَاً فَكَيْفَ تُسَـدَّدُ الأَرْبَـاحُ
بِغُضُونِ وَجْهِكَ لِلْمَشَقَّـةِ أَسْطُـرٌ
وَعَلَى جَبِينِـكَ لِلشَّقَـا أَلْـوَاحُ
عَرَقُ الحَيَاةِ يَسِيـلُ مِنْـكَ لآلِئَـاً
فَيُـزَانُ مِنْهَـا لِلْغَنِـيّ وِشَـاحُ
أَتَصُدّ جَيْشَ الطَّامِعِينَ وَلَـمْ يَكُنْ
لَكَ في الدِّفَاعِ سِوَى الصِّيَاحِ سِلاحُ
قَدْ كَانَ يُجْدِيكَ الصِّيَاحُ لَدَيْهُـمُ
لَوْ فَجَّـرَ الصَّخْـرَ الأَصَّمَ صِيَاحُ
يَتَنَازَعُونَ عَلَى امْتِلاكِـكَ بَيْنَهُـمْ
فَلَهُـمْ عَليْـكَ تَشَاجُـرٌ وَكِفَاحُ
كَمْ دَارَتِ الأقْـدَاحُ بَيْنَهُمُ وَلَـمْ
تُمْـلَ بِغَيْـرِ دُمُوعِـكَ الأَقْدَاحُ
حَسِبَ الوُلاةُ الحَاكِمُونَ عَلَى القُرَى
أَنْ ثَـمَّ أَجْسَـادٌ وَلا أَرْوَاحُ
كَيْفَ التَّفَاهُمُ بَيْنَ ذَيْنِـكَ ، نَائِحٌ
يَشْكُو العَذَابَ وَسَامِـعٌ مُرْتَـاحُ
قَدْ أَنْكَرُوا البُؤْسَ الذِي بِكَ مُحْدِقٌ
أَفَيُنْكِـرُونَ الحَـقَّ وَهْـوَ صَرَاحُ
عَجَبَاً أَيُنْكِرُ بُؤْسَ سُكَّانِ القُـرَى
إلاَّ وُجُـوهٌ كَالصَّفِيـحِ وِقَـاحُ
يَا غَارِسَ الشَّجَرِ المُؤَمَّـلِ نَفْعُـهُ
دَعْـهُ فَـإنَّ ثِمَـارَهُ الأتْـرَاحُ
إقْلَعْـهُ فَالثَّمَـرُ اللّذِيـذُ مُحَـرَّمٌ
لِلْغَارِسِيـنَ وَلِلْقَـوِيِّ مُبَـاحُ
أَصْبَحْتَ تُورِثُكَ الحُقُولُ أَسَىً فَمَا
يَهْتَـاجُ أُنْسَـكَ نَشْـرُهَا الفَيَّاحُ
تَرْتَاعُ مِنْ مَـرْأى النَّخِيلِ كأنَّمَـا
سَعَـفُ النَّخِيلِ أَسِنَّـةٌ وَصِفَـاحُ
يَا وَاهِبَ الخَيْـرِ الجَزَيلِ لِشَعْبِـهِ
أَكَذَا يُجَـازَى بِالعِقَابِ سَمَاحُ
أَفْنَـتْ حُقُولَـكَ آفَـةٌ أَرْضِيَّـةٌ
عَاثَتْ بِهَا وَشِعَـارُها الإصْـلاحُ
طَيْرُ السَّعَادَةِ طَارَ عَنْـكَ مُحَلِّقَـاً
وَعَلَى وَلائِـكَ رَفَّ مِنْـهُ جَنَاحُ
قَدْ أَقْسَمَ البُؤْسُ الذِي بِكَ نَـازِلٌ
أَنْ لا تَمُـرَّ بِـدَارِكَ الأفْـرَاحُ
تَقْضِي حَيَاتَكَ بِالعَنَاءِ وَلَـمْ تَكُنْ
في غَيْـرِ أيَّـامِ السَّقَـامِ تُـرَاحُ
سِرٌّ بِبُؤْسِكَ فَاضِحٌ لِذَوِي الغِنَـى
لَوْ أنَّ سِـرَّكَ في البِـلادِ يُـبَاحُ
حَتَّـامَ يَا هَذَا لِسَانُـكَ أَلْكَـنٌ
وإِلامَ أَلْسِنَـةُ الطُّغَـاةِ فِصَـاحُ
كُلُّ الجُنَاحِ عَلَى الضَّعِيفِ إذَا اعْتَدَى
أَمَّا القَـوِيّ فَمَـا عَلَيْـهِ جُنَـاحُ
يَا رِيفُ إنَّ كِتَابَ بُؤْسِكَ مُشْكلٌ
يَعْيَـا بِحَـلِّ رُمُـوزِهِ الشُّـرَّاحُ
أَطْيَارُ رَوْضِكَ غَالَهَا بَازُ العِدَى
وَعَـدَا عَلَى أَمْلاكِـكَ التِّمْسَاحُ
الوَرْدُ قَدْ خَنَقَتْـهُ أَشْوَاكُ الرُّبَـى
ظُلْمَـاً وَفَـرَّ البُلْبُـلُ الصَّـدَّاحُ
يَا رِيفُ مَالَكَ شُرْبُ أَهْلِكَ آجِـنٌ
رَنِـقٌ وَشُـرْبُ وُلاةِ أَمْرِكَ رَاحُ