|
بحوث الجواهري .. مرآة شعب وتاريخ أمة الدكتور إبراهيم العاتي / عميد الدراسات العليا الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية- لندن إن المتأمل فيما خلفه الشعراء من نتاج شعري وأدبي يلاحظ أنهم علي قسمين: الأول تغلب الذاتية علي شعره، فيكون ما يكتب صدي لتحولات النفس وانفعالاتها التي لا تنفتح علي الواقع ومعطياته إلا بقدر قليل، أما الثاني فيستلهم ما يدور في الواقع المعاش من أحداث سياسية واجتماعية وفكرية تؤثر في الذات، فتعبر عن ذلك التأثير بشكل فني، أي أن الواقع الموضوعي بما يزخر فيه من قضايا ومشكلات هو الرصيد الحي للفنان، والملهم لإبداعه. وقد نجد قسماً ثالثاً حاول التوفيق بين الاثنين، ربما بشكل غير واعي، فكان شعره مزيجاً من الذاتية والموضوعية. وأحسب أن الجواهري كان من القسم الثاني، فمنذ أن بدأ الكتابة والنشر في العشرينيات من القرن الماضي كانت قضايا الوطن والأمة، بل والعالم الكبير ماثلة في شعره بقوة. وحينما نتصفح ديوانه ونراجع سيرة حياته ينفتح أمامنا تاريخ العراق والأمة العربية، بكل ما يحتويه من صراعات سياسية وعسكرية واجتماعية وفكرية عايشها الشاعر، وكان طرفاً فيها في أحيان كثيرة، فاكتوي بنارها سجناً وحرماناً وغربة رافقته حتى شيخوخته ووفاته.
بين عهدين: إن الحقبة التي عاشها الجواهري في مطلع صباه وشبابه كانت مليئة بالأحداث الخطيرة التي رسمت تاريخ الشرق المعاصر، وتمثلت في غروب شمس الإمبراطورية العثمانية وبزوغ نجم الدول الاستعمارية الكبرى وخاصة بريطانيا. فقد تفتح وعيه علي صراع مستعر في النجف بين دعاة الحركة الدستورية (المشروطة) وبين مؤيدي الحكم المطلق الذين يمثلون تيار الاستبداد أو (المستبدة) كما كان يسمي. وكانت أصداء هذا الصراع تتصاعد بقوة في إيران وتركيا، حيث أعلن العلماء والمثقفون الثورة علي نظام الشاه الاستبدادي، مما اضطر الشاه مظفر الدين علي توقيع الدستور الذي طالب به الأحرار سنة 1906. أما في تركيا فقد كان السلطان عبد الحميد يمارس حكماً استبدادياً منذ أن بطش بدعاة الإصلاح وعلي رأسهم الصدر الأعظم مدحت باشا (1822 ــ 1884) الذي ساعد علي وصول هذا السلطان إلي الحكم علي أمل أن يقر الدستور الذي يقيد سلطات الحاكم ويعطي الحريات للشعب. لكن عبد الحميد قلب له ظهر المجن، فسجنه في الطائف بالحجاز، ومات مخنوقاً في سجنه. ورغم ذلك فإن دعاة الدستور قد واصلوا نشاطهم بسرية، وكان النجاح الذي حققته الحركة الدستورية في إيران قد أنعش آمالهم في تحقيق الشيء نفسه في تركيا، وهكذا كان، فقبل أن يبطش بهم عبد الحميد حصل الانقلاب الدستوري سنة 1908، الذي قامت به جمعية الاتحاد والترقي والذي أزاح السلطان من الحكم. وتقديراً من الاتحاديين لدور النجف الريادي في الحركة الدستورية فإن أول فرع للجمعية بعد بغداد كان في النجف ثم في مدن العراق الأخرى، وقد افتتحه مبعوثهم للعراق ثريا بك (1). وقد استبشرت الشعوب المنضوية تحت لواء السلطنة العثمانية بالخير، وخاصة الشعوب العربية التي عانت من القهر والظلم وغياب الحريات لعدة قرون، لكن الاتحاديين قد خيبوا آمال العرب بسلوكهم نفس النهج الاستبدادي السابق، بل زادوا عليه سياسة التتريك التي هدفت إلي تذويب الهوية العربية وإحلال اللغة والثقافة التركية محلها، منطلقين في ذلك من نزعتهم القومية الطورانية المتطرفة التي تأثروا فيها بالحركات القومية العنصرية الألمانية أبان دراستهم العسكرية في ألمانيا. وقد بلغت القطيعة أوجها حينما نصب والي الشام جمال باشا (السفاح) المشانق في دمشق وبيروت لأحرار العرب الذين كانوا يطالبون بالحدود الدنيا من حقوقهم في الاستقلال الذاتي، والاعتراف بهويتهم القومية، ورفض سياسة التتريك، وغير ذلك من المطالب التي وعد بها الاتحاديون. وقد عبر الشيخ محمد رضا الشبيبي عن الجحود الذي أبداه الاتحاديون الترك تجاه العرب الذين قاتلوا معهم ضد الجيش البريطاني الذي نزل في البصرة، حينما أعلن العلماء بقيادة السيد محمد سعيد الحبوبي الجهاد ضد القوات الغازية، وتحركوا مع العشائر العربية لصد العدوان، والتحموا معهم في معارك ضارية في الشعيبة التي انكسر فيها المجاهدون والجيش التركي، وتوفي الحبوبي في الناصرية. يقول الشبيبي في قصيدته التي يتنبأ فيها بزوال الدولة العثمانية: قوم من العرب وخز النحل حظهمُ وحظ قوم سوانا الأري والعسلُ عند المغانم لا ندعي، ويفدحنا من المغارم ثقلٌ ليس يحتملُ تأبي الحوادث إلا أن نملّكمُ ولا ــ ودين التآخي ــ ما بنا مللْ أين الرهين بأموال لنا ذهبت؟ ومن يَقيد بإخوان لنا قتلوا ؟ إما شهيد معلّي فوق مشنقةٍ أو موثقٌ بحبال الأسرِ معتقلُ يا من بظل بني عثمان قد نشأوا أضحيتم، إن ظل القوم منتقلُ وقد أدت سياسة التنكيل بالمواطنين التي اتبعها العثمانيون في سنواتهم الأخيرة إلي حصول ثورة شعبية في النجف عام 1915، حيث حوصرت الحامية التركية من قبل الأهالي وطلب رجالها الأمان فأعطي لهم، وخرجوا من النجف نهائياً، فكانت أول مدينة عربية تتحرر من نفوذ الأتراك، وبقيت تحكم نفسها بنفسها لمدة سنتين، حتى دخول الإنكليز بغداد عام 1917واحتلالهم العراق بأكمله، ليبدأ فصل جديد من فصول الغطرسة والاستعباد. وقامت ثورة النجف عام 1918 التي قتل فيها الحاكم العسكري الكابتن مارشال، ووقوع النجف كلها بيد الثوار، فحوصرت المدينة من قبل القوات البريطانية ومنع عنها الماء والغذاء، فمر الناس بأيام عصيبة من الجوع والعطش، وبعد خمسة وأربعين يوماً من الحصار، وبعد قصف مدفعي شديد استطاع الإنكليز فتح ثغرة بسور المدينة واقتحموا النجف وبدأت حملة مطاردة للثوار حيث ألقي القبض عليهم، وقدموا لمحكمة عسكرية حكمت علي أحد عشر منهم بالإعدام ونفي أكثر من مئة شخص من قادة الثورة ووجهاء المدينة إلي الهند. وقد تعمدت السلطات البريطانية دعوة عدد من شيوخ العشائر الفراتية لحضور مشهد إعدام أولئك الأبطال في الكوفة، فترك ذلك أثراً سلبياً عليهم، وكان حافزاً للثورة الكبرى عام 1920. كانت ثورة العشرين التي انطلقت شرارتها في الرميثة في الفرات الأوسط، ثم عمّت مناطق كثيرة في العراق، عملاً سياسياً وعسكرياً منظماً ساهمت فيه المرجعية الدينية التي أفتت بالجهاد، والنخب السياسية من مختلف شرائح المجتمع العراقي، وشيوخ العشائر، وقوي الشعب المختلفة، وذلك بعد أن يئسوا من الوعود البريطانية بالاستقلال. وقد جعلت المحتل يعيد حساباته في حكم العراق بنفس الطريقة التي كان يحكم بها الهند، فوافق مرغماً علي مطالب الثوار في تأسيس الحكم الوطني بقيادة فيصل بن الحسين، رغم المعاهدات التي كبل بها العراق فيما بعد، وكانت مثاراً للصراعات السياسية خلال العهد الملكي، بين القوي الوطنية والقوي الممالئة للاحتلال. وفي هذا الخضم من الأحداث المتسارعة والتجارب القاسية تفتح وعي الجواهري، فكان الشأن السياسي موضع اهتمامه الأول، وسوف يصاحبه في مساره الشعري، ويصبح علامة فارقة في شعره.
ثورة العشرين: كانت أولي قصائد الجواهري هي قصائد سياسية، حيث كتب عدة قصائد في ثورة العشرين التي شهدها وهو شاب، وأشهرها قصيدته المطولة (الثورة العراقية) التي كتبها عام 1921، أي بعد عام واحد من الثورة، ويقول فيها (2): لعل الذي ولّي من الدهر راجعُ فلا عيش إن لم تبق إلا المطامعُ غرورٌ يمنينا الحياة وصفوُها سرابٌ وجنات الأماني بلاقعُ نُسر بزهو من حياة كذوبةٍ كما افترّ عن ثغر المحبّ مخادعُ هو الدهر قارعه يصاحبك صفوهُ فما صاحب الأيام إلا المُقارعُ إلي مَ التواني في الحياة وقد قضي علي المتواني الموت هذا التنازعُ ألم تر أن الدهر صنفانِ أهلُهُ أخو بطنة مما يعد وجائعُ إذا أنت لم تأكل أكلتَ، وذلةٌ عليك بأن تُنسي وغيركَ شائعُ تحدّثُ أوضاع العراق بنهضةٍ ترددها أسواقُها والشوارعُ وصرخة أغيارٍ لإنهاض شعبهمْ وإنعاشهِ تستكُّ منها المسامعُ يمهد الشاعر في قصيدته بمقدمة يعبر فيها عن تفاهة الحياة ومظهرها المخادع الذي يجب أن لا يصدنا عن العمل الدؤوب والصراع العنيف لتحقيق الأماني، لأننا في عالم لا يرحم الضعيف، ولا يهاب إلا القوي (إذا أنت لم تؤكل أكلت). إنه مجتمع الذئاب الذي تحدث عنه الشعراء والفلاسفة منذ أمد بعيد. يقول أبو الطيب المتنبي: إنما أنفس الأنيس سباعٌ يتفارسنَ جهرة واغتيالا من أطاق التماس شيء غلاباً واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا ويقول أحمد شوقي: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ثم يعرج الشاعر علي مجريات الثورة وبطولات الثوار، وخاصة حينما أغرقوا في نهر الكوفة الباخرة الحربية (فاير فلاي)، التي حصدت أرواح الكثير من المواطنين، بالمدفع الذي غنمه الثوار في معركة (الرارنجية)، يقول: وفي الكوفة الحمراء جاشت مراجلٌ من الموت لم تهدأ وهاجت زعازعُ أديرت كؤوسٌ من دماءٍ بريئةٍ عليها من الدمع المذال فواقعُ ومما دهاني والقلوب ذواهلٌ هناك وطيرُ الموت جاثٍ وواقعُ وقد سدت الأفق العجاجة والتقتْ جحافل يحدوها الردي وقطائعُ وقد بحَّ صوت الحق فيها فلم يكنْ ليُسمعَ إلا ما تقول المدافعُ كميٌ مشي بين الكُمات وحوله نجومٌ بليلٍ من عَجاجٍ طوالعُ هم استسلموا للموت، والموت جارفٌ وهم عرضوا للسيف والسيف قاطعُ ثم يربط نضال الشعب العراقي لتحقيق الاستقلال والحرية والنهضة، بمجمل النضال العربي وشعوب الشرق عموماً ضد الاستعمار، يقول: وقد خبروني أن في الشرق وحدةً كنائسهُ تدعو فتبكي الجوامعُ وقد خبروني أنّ للعُرب نهضةً بشائر قد لاحت لها وطلائعُ وقد خبروني أن مصر بعزمها تناضل عن حقٍ لها وتدافعُ وقد خبروني أن في الهند جذوةً تُهاب إذا لم يمنع الشرِّ مانعُ هبوا أن هذا الشرقَ كان وديعةً فلابد يوماً أن تُردّ الودائعُ لقد ترسخ في الوعي السياسي للجواهري منذ وقت مبكر مبدأ الكفاح المشترك للشعوب العربية مع كل الشعوب الشرقية الأخرى التي نهضت لتحقيق الاستقلال، وسنري كيف سيواكب مجريات هذا النضال في مختلف المناسبات.
إعلان الانتداب: حينما صرح (تشرشل) وزير المستعمرات البريطاني عام 1922 بوضع العراق تحت الانتداب البريطاني، وصادف تصريحه أول أيام عيد الفطر، فكان يوماً مشهوداً حين أعلن الإضراب العام، فأغلقت الأسواق، وانطلقت المظاهرات الواسعة، مستنكرة التصريح المذكور، ومطالبة بالحرية والاستقلال، وامتنع العراقيون عن المعايدة. فكانت قصيدة (تحية العيد، أو الملك والانتداب) التي نشرتها جريدة (الرافدان)، لكنها حذفت بعض أبياتها خشية من الرقابة الشديدة علي الصحف يومذاك. يقول الجواهري (3): لمن الصفوف تحف بالأمجادِ وعلي من التاج الملمع بادِ ومن المحلّي بالجلال يزينه وَقر الملوك وسحنة العُبادِ شوالُ جئتَ وأنت أكرم وافدٍ بالعيد تُسعدُ كعبة الوفّادِ أما العراق فلستَ من أعيادهِ وعليه للأرزاء ثوبُ حدادِ عجباً تروم صلاح شعبك ساسةٌ بالأمس كانوا أصل كل فسادِ صرِّح لهم بالضد من آمالهم أو لست ممن أفصحوا بالضاد؟ ....... سل عن تشرشل كيف جاذبه الهوى حتى استثار كوامن الأحقادِ هيهات من دون الذي أمّلَته وقعُ السيوف ووثبة الآسادِ ومواطنٌ حدبت علي استقلالها بالسيف تُرضعه دمَ الأكبادِ يكفيكمُ بالأمس ما جربتمُ فدعوا السيوف تَقرُ في الأغمادِ أبني الشعوب المستضامةِ نهضةً ترضي الجدود فلات حين رقادِ هذا تراث السالفين وديعةٌ لا تخجلوا الأجدادَ بالأحفادِ
شعره يفصح عن مذهبه السياسي: لقد كتب الجواهري قصائده تلك وهو ما يزال في النجف، لكن أكثرها كان يُنشر في بغداد، وفيها بدأت تتضح الخطوط العامة لمذهبه السياسي، الذي يتمثل في التنديد بالمحتل البريطاني، وفضح الساسة الذين يدورون في فلكه، وترسيخ الوحدة الوطنية، والدعوة للوحدة العربية، وإنصاف الطبقات المحرومة. يقول في قصيدة نظمها عام 1924(4): جددي ذكر بلادي إنني بهواها أبد الدهر رهينْ أنا لي دينان: دينٌ جامعٌ وعراقي وغرامي فيه دينْ هذه بغداد هذا كرخُها هذه دجلةُ والماء المَعينْ دجلةٌ والنيلُ والشام معاً و(الصفا) تندبُ شجواً و(الحجونْ) قطعت أوصالها، وافترقت فشمالٌ ليس تدري ويمينْ إن الشاعر لفرط إيمانه بالوحدة الوطنية وحبه لبلده العراق، يضفي عليها هالة من القداسة، ويجعلها بمثابة الدين الثاني الذي يؤمن به إضافة للدين الجامع. وتلك الوحدة هي رديف للوحدة الشاملة للأقطار العربية التي حاول المستعمر تفتيتها من الداخل عن طريق الصراعات الدينية والمذهبية والعرقية. وهو يعبر عن وعي قومي مبكر لم يتجسد بمعناه السياسي والأيديولوجي في الأقطار العربية إلا بعد عقود. ولقد بقي الجواهري وفياً لهذا الطرح الوحدوي حتى شيخوخته، حيث يقول في قصيدة (يا ابن الفراتين) التي كتبها عام 1969، أي بعد حوالي خمسين عاماً من قصيدته السابقة: دعوا إلى الوحدة الكبرى فقلت لهم نذرٌ لذلك مني الروح والجسدُ خمسين ظَلْتُ أغنيها كما نغمت أمُ الوليدِ يناغي عندها الولدُ ولا مباهاة، أهلي كلهم رضعوا منها اللبان وفي أحشائها لحدوا فإن سألتَ فعن شوقٍ لموعدها كعاطش يبتغي ورداً فلا يجدُ هاتوا بها علَّ أن يستصلحَ الجسدُ فقد تقطع عن أنياطهِ الكبدُ ففي فلسطينَ خيلُ الرجس محكمةٌ رباطها وببيت (المقدس) الوتدُ(5)
الجواهري مدرسة متميزة في الشعر السياسي: لقد واكب الجواهري نضال الشعب العراقي منذ العشرينيات لتحقيق الاستقلال التام غير المقيد بالمعاهدات التي تجعل منه حبراً علي ورق. وبلغت قمة تألقه في الأربعينيات، وإن كان شعره قبل ذلك لا يقل قوة. ولم يكن الجواهري بالشاعر المترف الذي يراقب الأحداث من بعيد فتجود قريحته بشعر مصقول ليس فيه حرارة العاطفة وفورة الدم وسَوْرة الألم، بل كان ملتحماً بالأحداث التي تجري في العراق والمنطقة عموماً، ومسخراً شعره لمناصرة الحركات الوطنية وفضح من يقف في وجه مطالبها المشروعة في الحرية والاستقلال التام، ومحاربة الفساد الحكومي، والتعبير عن مطالب الطبقات المحرومة في المجتمع العراقي، بلغة تحريضية حادة ولكنها في أعلي المستويات الفنية، فعرّضه ذلك إلي السجن والتشريد وإغلاق الصحف التي كان يصدرها، ومحاربته في رزقه، ومنعه من دخول بعض الدول العربية، واغترابه في المنافي حتى وفاته في التسعينيات من القرن الماضي. وتجدر الإشارة هنا إلي أن الجواهري صاحب مدرسة جديدة في الشعر السياسي. فإذا كان هذا الشعر عند الآخرين يمتاز بالمباشرة والتقرير واللغة الخطابية، فإنه عند شاعرنا يخضع للمعايير الفنية والجمالية، ويفيض بالصور المبتكرة التي حببته إلي نفوس الناس فحفظته عن ظهر قلب، وصارت تردده كلما مرت بهم تجربة مماثلة حزينة أو سارة. وإلي ذلك أشار الشاعر العراقي الراحل مصطفي جمال الدين قائلاً: (نحن في الأربعينيات من هذا القرن ــ العشرين ــ ما كنا نجد شاعراً سياسياً يخضع السياسة والفكر السياسي للأسلوب الفني الحديث مثل الجواهري، فكان شعره في الأربعينيات مدرسة جديدة في الأدب غير موجودة من قبل)(6). وخير نموذج لشعره السياسي، ما كتبه في تلك المرحلة خلال وثبة كانون الثاني 1948 التي هبّ فيها الشعب ضد معاهدة بورتسموث التي رأت فيها القوي السياسية العراقية خرقاً للسيادة الوطنية، وتكريسا للاحتلال البريطاني للعراق. فخرجت المظاهرات السلمية في بغداد والمدن العراقية الأخرى، لكن الحكومة قابلتها بقسوة متناهية، حيث أطلقت الشرطة الرصاص الحي علي المتظاهرين فسقط أخوه جعفر مضرجاً بدمه، واستشهد معه قيس الآلوسي وعدد آخر من المتظاهرين، فتفاعل الجواهري مع هذا الحادث الجلل وكتب قصائده الخالدة ذات النفس الملحمي في رثاء أخيه جعفر وبقية الشهداء، وندد بمن ارتكبوا ذلك العمل، ودعا إلي الاقتصاص منهم. ولعل أشهر قصائده في هذا المضمار قصيدة (أخي جعفر) التي ألقاها في الحفل التأبيني الكبير مساء 14 شباط 1948 في جامع الحيدرخانه في بغداد، بمناسبة مرور سبعة أيام علي استشهاد أخيه محمد جعفر الجواهري وإخوانه من الشهداء في معركة الجسر والتي يقول فيها (7): أتعلم أم أنت لا تعلمُ بأن جراح الضحايا فمُ فمٌ ليس كالمدعي قولةً وليس كآخر يسترحمُ يصيح علي المدقعين الجياع أريقوا دماءكمُ تُطعموا ويهتف بالنفر المهطعين أهينوا لئامكمُ تُكرموا أتعلم أن جراح الشهيد تظلُّ عن الثأر تستفهمُ أتعلم أن جراحَ الشهيد من الجوع تهضم ما تَلهمُ تمص دماً ثم تبغي دماً وتبقي تُلح وتستطعمُ فقل للمقيم علي ذُلهِ هجينا يُسخَّر أو يُلجمُ تقَحمْ، لُعنتَ، أزيز الرصاص وجرِّب من الحظ ما يُقسمُ وخُضها كما خاضها الأسبقون وثنِّ بما افتتحَ الأقدمُ فإما إلي حيثُ تبدو الحياة لعينيكَ مكرمةً تُغنمُ وإما إلي جَدَثٍ لم يكن ليفضُله بيتك المظلمُ
كانت
هذه القصيدة نشيد الثوار في العراق وغيره من الدول
العربية، ترددها
الأجيال وتحفظ الكثير من مقاطعها، وتستحضرها كلما مرت
بها محنة أو نكبة
سياسية، وما أكثر نكبات العرب في ذلك الحين وحتى يومنا
هذا. وسر شهرة هذه
القصيدة هو صدقها الفني، وتدفق صورها المرعبة المضمخة
بالدم القاني الذي
يصرخ بالجماهير للثأر والثورة، وخلع لباس الذل والخوف
للعيش بحرية وكرامة.
حيث يلتحم الشاعر بالمناسبة وتفاصيلها، بل يبدو وكأنه
أحد المتظاهرين
الذين شهدوا واقعة الجسر مع أخيه جعفر، لكنه لا
(يشخصن) القضية لأن أخاه
من أبطالها، بل يبقي علي بعدها الوطني والإنساني العام
الذي يُلهم عشاق
الحرية أينما كانوا.
أخي جعفراً لا أقول الخيال وذو الثأر يقظان لا يحلمُ ولكن بما ألهم الصابرون وقد يقرأ الغيبَ مستلهِمُ أري أفقاً بنجيع الدماء تنوّر واختفت الأنجمُ وحبلاً من الأرض يرقي به كما قذف الصاعدَ السلَّمُ وجيلاً يروح وجيلاً يجيء وناراً إزاءَهما تضرمُ وقد صدقت الأحداث نبوءة الشاعر، ذلك أن سفك الدماء لم يقدم حلاً للمشكلات التي يزخر بها الواقع، بل زادها تعقيداً وهو ما حصل في العراق الذي تتبادل فيه الأجيال مسلسل الدم المسفوح منذ عقود، ولا يبدو في الأفق الملوّن بحمرة الدم أي بارقة أمل، باستثناء نار الحقد التي تلتهب في الصدور وتتطاير شظاياها إلي الواقع، وهو المنجم الذي يغترف منه الجواهري معظم أشعاره. ومنها رائعته الأخرى (يوم الشهيد) التي ألقاها كاملة في أول مؤتمر عام للطلبة العراقيين في ساحة السباع ببغداد في آذار عام 1948بمناسبة أربعينية أخيه جعفر: يومَ الشهيد تحيةٌ وسلامُ بك والنضال تؤرَّخُ الأعوامُ بك والضحايا الغُرّ يزهو شامخاً علمُ الحساب، وتفخر الأرقامُ بك والذي ضمَّ الثري من طيبهم تتعطرُ الأرَضون والأيامُ بك يُبعثُ (الجيلُ) المحتمُ بعثُه وبك(القيامة) للطغاة تقامُ(8) وفي رثائه للشهيد قيس الآلوسي الذي استشهد في الوثبة عام 1948يقول (9): يا قيسُ يا رمز الشهادةِ عُِّطرت بدمٍ خضيبِ كرَّمتَ بالكفنِ المخضبِ منكَ والخدِّ التريبِ وطناً بمثلك من بنيه يستجيرُ من الخطوبِ ويرُد أنصبةً إليهم ما حبوه من نصيبِ بالمجد تخلعُه الحُقوبُ عليهمُ تلوَ الحقوبِ والغار تضفرهُ لهمْ ريانَ من طفَح القلوبِ ويستمر الجواهري في قصيدة أخري تنتمي لنفس الحقبة، باستلهام قيم الشهادة وربطها بإطارها الوطني السياسي والاجتماعي العام، واستخلاص الدروس والعبر من تلك المواجهة لبناء الوطن الواحد الذي مزقته الآراء والأهواء، وافتقاد القيادة الصالحة، فضلاً عن تدخل المستعمر في شؤونه. يقول في قصيدة (دم الشهيد): خذوا من يومكم لغدٍ متاعا وسيروا في جهادكمُ جِماعا وكونوا في ادّراء الخطب عنكمْ يداً تبني بها العَضدُ الذراعا ذروا خُلفاً علي رأيٍ ورأيٍ إلي أن يلقيَ الأمرُ القناعا وخلوا في قيادتكم حكيماً يدبرُها هجوماً أو دفاعا رحيب الصدر ينهضُ بالرزايا ويُحسنُ أن يُطيع وأن يُطاعا(10)
إن
قصائد الجواهري في تلك المرحلة تستحق أن تكون (معلقات)
الشعر السياسي
العربي الحديث، ولا نجد لها نظيراً في القوة والدفق
العاطفي المشحون،
والبناء الكلاسيكي المتين والمفعم بالتجديد، والذي
يؤرخ لمرحلة شديدة
الخطورة بالنسبة للعراق والعالم العربي.
شاعر القضايا القومية والإنسانية: لقد أشرنا فيما سبق إلي انشغال الجواهري بما كان يدور في العالم العربي من تطورات سياسية واجتماعية شبيهة بما يجري في العراق، لأن الشعوب العربية حينذاك كانت تسعي لتحقيق الاستقلال التام، وترسيخ قيم الحرية والعدالة، والعيش الكريم لكافة المواطنين، وليس للطبقات الحاكمة ومن يدور في فلكها فقط. وهكذا تجد في شعره أصداء قوية لقضية فلسطين، ولنضال الشعوب العربية في سوريا ومصر والجزائر وغيرها، ضد الاحتلال والهيمنة الاستعمارية. ولكن القضية الفلسطينية التي واكبها الجواهري في شعره منذ الثلاثينيات بقيت هي القضية الأم في شعره السياسي القومي، لأن المخطط الذي وضع لها منذ وعد بلفور كان يقضي بسلخها عن الوطن العربي، وإحلال كيان دخيل محلها يقوم بتشريد شعبها وارتكاب المجازر الفظيعة في حقه لينزح عن وطنه، وهو ما حصل بالفعل. وكان الشاعر قد زار فلسطين عام 1945 فاحتفلت به الأوساط الأدبية والثقافية هناك، وأقيم له حفل تكريمي في مدينة يافا فألقي فيه قصيدة (يافا الجميلة) ومطلعها: بيافا يومَ حطَّّ بها الركابُ تمطّر عارضٌ ودجا سحابُ ولكن بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ قامت الحرب عام 1948، ودخلت الجيوش العربية فلسطين، واشتد رحي المعارك بينها وبين العصابات الصهيونية، فكتب قصيدته (فلسطين) التي يحث فيها المجاهدين علي نجدة فلسطين وشعبها فيقول: حماةَ الدار لم تتركْ لشعري فلسطينٌ سوى كلمٍ مُعادِ بكيت مصابها يفعَاً ووافتْ نهايتها وخمسونٌ عدادي قدحتُ لها رويّاً من زِنادي وصٌغتُ لها رويّاً من فؤادي(11) ويضيق بنا المقام لو تتبعنا شعر الجواهري في الحرب العالمية الثانية، ونضال الشعب المصري وصموده ضد العدوان الثلاثي، وكذلك نضال سوريا للتخلص من الاحتلال الفرنسي، وثورة الجزائر وغير ذلك من نضال الشعوب الحرة في العالم، الأمر الذي يحتاج إلي دراسة منفصلة نؤجلها إلي وقت آخر. ولكن النتيجة التي نخلص إليها أن شعر الجواهري كان سجلاً حياً وكتاباً مفتوحا نقرأ بين طياته تاريخ العراق الحديث والمنطقة العربية، وحركة الشعوب في مسيرتها نحو العدل والحرية. ولا نعني به التاريخ الجامد الذي يُعني بتسجيل الوقائع وضبطها، وإنما التاريخ الحي الذي يكتبه الشاعر بدمه ودموعه، بغضبه وانفعالاته، بثورته وسكونه. فشتان بين كاتب يؤرخ لحروب سيف الدولة مع الروم، وبين شاعر كالمتنبي وصف تلك المعارك وخاض غمارها وخلدها في شعره... هذا التاريخ الحي هو الذي خلّد قصائد الجواهري وكأنها قيلت اليوم، علي الرغم من مضي عشرات السنين علي نظمها، لاسيما وإن المشكلات التي عالجها الشاعر مازالت علي حالها... لم تُحل ولم تتغير!
هوامش ـــــــــــــــــــــــــــــ (1) الشيخ جعفر آل محبوبه: ماضي النجف وحاضرها، ج1، ص28، ط2، مط الآداب، النجف، العراق، 1958. (2) محمد مهدي الجواهري: ديوان الجواهري، ج1، ص99 وما بعدها، نشرة وزارة الإعلام، بغداد، 1973. (3) المصدر نفسه، ص147. (4) المصدر نفسه، ص271. (5) المصدر نفسه، ج5، ص366. (6) د. إبراهيم العاتي، اللقاء الأخير مع مصطفي جمال الدين، كتاب (سيد النخيل المقفي)، ص285، إصدار المكتبة الأدبية المختصة، قم، 1418هـ. (7) ديوان الجواهري، ج3، ص259 وما بعدها. (8) م. ن، ص 269. (9) م. ن، ص288. (10) م. ن، ص294. (11) م. ن، ص321.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |