|
بحوث الجريمة والعقاب (1) ـ الظاهرة الاجرامية فارس حامد عبد الكريم ماجستير قانون / بغداد كان لتمثال اله الحرب (كانيوس Janus) في الامبراطورية الرومانية وجهين، الاول يتجه الى خارج حدود روما حيث يتربص بها العدو الاجنبي. بينما يتوجه وجهه الاخر نحو روما حيث يتربص بأبنائها العدو المحلي (المجرم) (1). وكان الرومان يؤمنون ايماناً راسخاً بأنهم لن يستطيعوا الصمود امام العدو الاجنبي مادام السوس ينخر في داخلهم. اثارت الجريمة والظاهرة الاجرامية اهتمام الانسان منذ القدم خاصة وان الحياة الانسانية على البسيطة ابتدأت بجريمة عندما قام قابيل بقتل اخيه هابيل. وبفعله هذا الذي ندم عليه فيما بعد ندماً شديداً، يكون قد اعلن عن فتح باب الصراع الازلي بين الخير والشر الذي ما برح مستمراً ليوما هذا وسيستمر لا محالة مادام الانسان موجوداً الى جانب اخيه الانسان الاخر. وقد نظمت القوانين القديمة قواعد الجريمة والعقاب ومنها، قانون اورـ نمو وقانون حمورابي (حوالي القرن العشرين قبل الميلاد) وسارت على ذات النهج قوانين اليونان (قانون دراكون ـ 620 ق.م) والرومان القديمة (قانون الالواح الاثني عشر 450 ق.م). كما ونظمت بعض الاديان السماوية وغير السماوية قواعد الثواب والعقاب بالنسبة لاعمال المكلفين. قال تعالى (وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (2). أي أن الله تعالى قد خلق النفس البشرية وألهمها القدرة على التمييز بين الفجور والتقوى. ولهذا فان الظاهرة الاجرامية ظاهرة تاريخية وواقعية وحقيقة انسانية دائمة،لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات في كل زمان ومكان ولا يمكن انهائها مطلقاً الا انه يمكن الحد منها الى مستويات مقبولة. وتثير الجريمة اهتمام وانتباه كل الناس على حد سواء، بل ان اخبار الجرائم والروايات التي تتناول الظاهرة الاجرامية هي الاكثر انتشاراً وتوزيعاً في الاوساط العامة من بين ما عداها من اخبار وروايات. ان السبب في ذلك حسب اعتقادنا هو الاحساس العام بان الجريمة تمس شعور كل فرد من افراد المجتمع ولو لم تقع عليه الجريمة مباشرة، فالجريمة ابتداءاً،هي اعتداء على فكرة الحياة الاجتماعية التي تقوم على التضامن بين ابناء المجتمع فضلا عن انعكاساتها الخطيرة على توازن المصالح والقيم داخل المجتمع بما تمثله من اعتداء على تلك المصالح والقيم. ان اولى الابتكارات البشرية لمواجهة الجريمة بشكل واقعي هو القانون، فقد اولت التشريعات القديمة اهمية قصوى لتحديد الجرائم والعقوبات التي تناظرها، وكانت العقوبات في تلك القوانين بدائية وقاسية جداً. ويذهب عالم الاجتماع اميل دوركهايم الى ان دراسة التاريخ تؤكد انه كلما اقترب المجتمع من التحضر كانت العقوبة اقرب الى الرحمة، وكلما كان المجتمع متخلفاً برزت العقوبات البدائية التي تتميز بالعنف والقسوة،كما ان العقوبات تكون مشددة وقاسية كلما كانت السلطة مركزية اقوى. ومن ذلك ان العقوبات في النظم الدكتاتورية تكون ذات طبيعة انتقامية لدرجة الوحشية. ان تطور النظم القانونية والعلمية التي تواجه الجريمة قد قابله في ذات الوقت تطور على ذات المستوى في الاساليب الاجرامية، فقد دخل العلم والتكنولوجيا والتنظيم المؤسسي الحديث عالم الاجرام واصبحت للجريمة منظمات دولية تمارس العمليات الاجرامية عبر القارات. وكتعبير عن اهتمام الانسان بالجريمة تناولت الاساطير القديمة الظاهرة الاجرامية وفسرتها بطريقتها السحرية الميتافيزيقية، وفي القرون الوسطى ساد الاعتقاد بان سبب الجريمة هو الارواح او الشياطين الي تتلبس الانسان فيتحول بالنتيجة الى مجرم. وفي العصور الحديثة كانت الجريمة والظاهرة الاجرامية محل دراسة علوم مختلفة فقد اهتم الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس والقانون بدراسة وتحليل الظاهرة الاجرامية مما ادى الى نشوء علم مستقل هو علم الاجرام الذي تفرع بدوره الى ثلاثة فروع علمية تدرس الظاهرة الاجرامية هي علم الانثروبولوجيا الجنائية وعلم النفس الجنائي وعلم الاجتماع الجنائي،كما اهتم العلماء في مختلف الاختصاصات العلمية بايجاد الوسائل العلمية والتكنلوجية اللازمة لرصد الجريمة وتتبع اثارها وصولاً الى الكشف عنها. ان اعتماد المنهج العلمي التجريبي في علم الاجرام يقتضي تحديد اوجه الظاهرة الاجرامية، والحال ان للظاهرة الاجرامية وجهين، وجه اجتماعي تبدو فيه الجريمة ظاهرة اجتماعية. ووجه فردي تبدو فيه الجريمة ظاهرة فردية تتمثل بالانسان المجرم، كما ان للعلم الحديث دوره في رصد الجريمة والظاهرة الاجرامية.
المبحث الاول ـ الاجرام والظاهرة الاجرامية : ان من بين اهم الوسائل اللازمة لمكافحة الظاهرة الاجرامية هو دراستها دراسة علمية وتحديد خصائصئها وعناصرها وصولا الى تحديد الخصائص المشتركة بين جميع الظواهر الاجرامية، مما يسهل عملية تشخيص الظاهرة الاجرامية من قبل المختصين ورجال الشرطة وملاحقة مرتكبيها والقاء القبض عليهم لينالوا جزاءهم العادل على يد القضاء على ما ارتكبوه من جرائم بحق ابناء مجتمعهم او الاسرة الدولية عموماً. تعريف الظاهرة الاجرامية : يمكننا تعريف الظاهرة الاجرامية بانها، مشروع اجرامي احترافي يقوم على تكرار وقوع نوع معين من الجرائم، باسلوب اجرامي واحد، في منطقة جغرافية معينة، وفي فترات زمنية متعاقبة، وسواء قامت بها جماعة اجرامية واحدة او مختلفة. اما الجريمة العادية فيمكن تعريفها مقارنة بالظاهرة الاجرامية بانها مشروع اجرامي يبدأ وينتهي باكتمال الوقائع المكونة له ولا يحمل معنى التكرار في الغالب وان تضمن معنى الاستمرار. فهي جريمة تقع من فاعل او عدد من الفاعلين على ضحية او عدد من الضحايا في وقت واحد او اوقات متقاربة ومكان واحد او امكنة قريبة وتنهي الجريمة باكتمال عناصرها. مثل قيام فاعل او عدد من الفاعلين بقتل شخص او مجموعة من الاشخاص. وفي ضوء ما تقدم فان مجرد تعدد النشاط الاجرامي لا يشكل بحد ذاته ظاهرة اجرامية، ولا تعتبر الجريمة المستمرة ظاهرة اجرامية مثل استعمال الشخص لجواز سفر مزور لعدد من السنوات، ولا الجرائم المركبة مثل جريمة القتل تمهيداً للسرقة، والتعدد المادي للجرائم كما لو قتل المجرم عدة اشخاص في وقت واحد او اوقات متقاربة جداً ووقف عند حده، وكذلك حالة التعدد الصوري للجريمة كأنطباق اكثر من نص على جريمة واحدة، فهذه الصور من الجرائم لا تمثل ظاهرة اجرامية بالمعنى المقصود في تعريف الظاهرة الاجرامية المتقدم ذكره. كما ان الجريمة العادية تقع على ضحية واحدة او عدد محدد من الضحايا. في حين ان الظاهرة الاجرامية تقع على عدد كبير من الضحايا وغير محدد سلفاً في الغالب. والجريمة الاعتيادية تقع عادة في زمان واحد ومكان واحد او قريب من الفعل الاجرامي الاول ومع ذلك لا يغير من طبيعتها بعد المكان واختلاف الزمان مادام ان المشروع الاجرامي ينتهي بانتهاء الافعال المكونة له، كما لو قام شخص بقتل شخص في بغداد وسافر للبصرة وقتل شخص اخر، ووقف مشروعه الاجرامي عند هذا الحد. في حين ان الظاهرة الاجرامية لا يحدها زمان او مكان اي انها تتم في اوقات زمنية مختلفة او متعاقبة وتقع في منطقة جغرافية اوسع. الجريمة العادية مشروع فردي في الغالب لا يتسم بالديمومة في حين ان الظاهرة الاجرامية قد تكون مشروعاً فردياً وهذا امر نادر او مشروعاً جماعياً وهو الغالب وتتضمن معنى الديمومة والاحتراف المنظم حتماً.
خصائص الظاهرة الإجرامية : ان تحديد خصائص الظاهرة الاجرامية ودراستها باسلوب علمي من اهم الوسائل للقضاء عليها اوالحد منها. ومن تحليل التعريف المتقدم ذكره للظاهرة الاجرامية يتضح انها تتميز بالخصائص الاتية : اولاـ انها مشروع اجرامي احترافي : تقوم الظاهرة الاجرامية على اساس احتراف جاني او عدد من الجناة، القيام بنوع معين من الجرائم، كاحتراف السطو على المصارف او سرقة السيارات، او ارهاب المواطنين. ثانياً ـ انها مشروع منظم : تقوم الظاهرة الاجرامية على اساس تنظيم اداري ومالي وتخطيط مسبق للجريمة، سواء كان هذا التنظيم بدائياً او متطوراً. فيتم قبل مباشرة المشروع الاجرامي توزيع الادوار المناطة بكل فرد من افراد العصابة. ويكون لذلك التنظيم مظاهر متنوعة فقد يتم تخصيص بعض افراد العصابة لجمع المعلومات الاولية عن الضحية والبعض الاخر للمراقبة بينما تتولى مجموعة اخرى مباشرة المشروع الاجرامي وقد تتولى مجموعة اخرى استلام محل الجريمة من المجموعة المنفذة، وقد يتطلب الامر مجموعة اخرى لتسويق محل الجريمة او التفاوض عليه. وفي مجال الظاهرة الاجرامية المؤدلجة كما في التنظيمات الارهابية التي تتسربل بسربال الدين فأنها تقوم على اساس تنظيم مؤسسي لا يفترق عن تنظيم اية مؤسسة اخرى من اشخاص القانون الخاص. وقد يقوم التنظيم الاجرامي على اساس دولي من خلال شبكات موزعة على مختلف بقاع الارض مرتبطة فيما بينها بروابط ادارية او مصلحية، ومن ذلك ارتباط المنظمات الارهابية مع شبكات المخدرات وشبكات غسيل الاموال القذرة. وعرفت اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية لعام 2000 الجماعة الاجرامية المنظمة بقولها (يقصد بتعبير “جماعة إجرامية منظمة” جماعة محددة البنية، مؤلفة من ثلاثة أشخاص أو أكثر، موجودة لفترة من الزمن وتقوم معا بفعل مدبر بهدف ارتكاب واحدة أو أكثر من الجرائم الخطيرة أو الجرائم المقررة وفقا لهذه الاتفاقية، من أجل الحصول، بشكل مباشر أو غير مباشر، على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى...) ثالثاً ـ انها مشروع يقوم على توظيف القابليات الخاصة : يتمتع الجناة في اطار الظاهرة الاجرامية عادة بقدر من البراعة والذكاء والخبرة المهنية او العلمية، فاسلوب ارتكاب الجريمة في هذا الاطار عادة ما يتميز بالابتكار الذي يثير حيرة الناس ورجال الشرطة والمحققين، كما ان تنفيذها يتطلب عادة اشخصا ذوي خبرة، ففي ظاهرة سرقة المصارف يتولى المشروع الاجرامي اشخاص ذوي خبرة في فتح الخزائن المالية وفي حالة ظاهرة سرقة العجلات يتولى اشخاص ذوي خبرة في تصريف السيارات المسروقة سواء بتفكيكها وبيعها كادوات احتياطية او ذوي خبرة في عمليات بيعها او تصديرها ويمكن ايجادهم دائماً قرب معارض بيع العجلات، وفي مجال ظاهرة التزوير يقوم بالعملية اشخاص على قدر من الدراية الفنية، بينما تتطلب الجرائم الارهابية المؤدلجة دينياً متخصصين في الامور الشرعية وخبراء في الاتصالات والاعلام والحاسوب والمتفجرات والتدريب العسكري وغسيل الاموال وخبراء في الاستثمار المالي والمصرفي والتجاري.... وفي جرائم الانترنيت يقوم بالعمليات الاجرامية اشخاص ذوي تدريب عالي في مجال تكنلوجيا الاتصالات. وتهدف الجريمة الالكترونية كظاهرة اجرامية عالمية الى الاستفادة من تقنية المعلومات والاستيلاء على المعلومات المتوفرة على الشبكة الدولية بصورة غير قانونية ومن ثم ابتزاز الجهات المستفيدة من تلك الشبكة كالمصارف والمؤسسات الرسمية والخاصة لتحقيق مكاسب مالية او سياسية او لدعم النشاط الارهابي. وتعد هذه الجرائم من اكثر الجرائم المعاصرة خطورة لما تلحقه من خسائر اقتصادية ومادية على الدول والمؤسسات، فضلا عن صعوبة اكتشاف الجاني. ففي بلغاريا مثلا ضبطت الشرطة حوالي 600 الف ورقة يورو مزيفة قام بتزييفها بدقة متناهية متخصصين في مجال علوم الحاسوب. رابعاًـ انها ظاهرة تتعلق بجانب من جوانب الحياة الاجتماعية : الظاهرة الاجرامية قد تكون ذات طابع اقتصادي تدخل في دورة الاقتصاد العام وتكون جزءاً منه كما في الجرائم المصرفية والتجارية عموماً مثل جرائم تزييف العملة وجرائم الاتجار بالمخدرات وحسب التقارير الامنية الروسية فان حجم الاموال التي تدار من العصابات المنظمة تصل الى 28 مليار دولار اي ما يشكل حوالي 45% من الاقتصاد الروسي. وتحترف هذه العصابات السرقة وتجارة الاسلحة والمخدرات وغسيل الاموال والدعارة. او تكون ذات ذات طابع سياسي كما في ظاهرة اغتيال رجال الدولة او ذات طابع مؤدلج كما في المنظمات الارهابية التي تتستر بستار ديني. او ذات طابع جنسي كما في ظاهرة الاغتصاب. او تتخذ طابع المؤامرة والتخريب الاجتماعي وهدم البنية الثقافية الاجتماعية مثل ظاهرة اغتيال العلماء والمثقفين عامة مثل اساتذة الجامعات والاطباء والمهندسين والشعراء ورجال الاعلام.... خامساً ـ الظهور المباغت: تتصف الظاهرة الاجرامية بانها تبرز للسطح فجأة مما يلفت انتباه الناس جميعاً اليها. سادساً ـ الوضوح : اي وضوح الظاهرة الاجرامية التام بمعنى انها يمكن تمييزها كظاهرة اجرامية من قبل الناس العاديين ورجال الامن من دون عناء، حيث تبدو بصورة ارتفاع واضح للعيان في نسبة ارتكاب جرائم معينة، كظاهرة جرائم الارهاب باسم الدين،او ظاهرة جرائم التسليب في الطرق الخارجية. وتثير شكوى ومخاوف الناس من هذه الظاهرة. سابعاً ـ تحديد الهدف: لكل لظاهرة اجرامية هدفا محدداً، فقد يكون الهدف منها اختلاس الاموال العامة او تقاضي الرشوة، او سرقة المنازل، او اغتصاب الفتيات او ان يكون هدفها سياسياً او دينياً مؤدلجاً. ثامناً ـ ارتفاع عدد المجني عليهم: من البديهي ان يكون تكرار الجريمة سبباً في ارتفاع عدد ضحايا الظاهرة الاجرامية. تاسعاً ـ الخطورة الإجرامية: الظاهرة الاجرامية اكثر خطراً على المجتمع من الجريمة العادية. لان الظاهرة الاجرامية تشكل تحدياً سافراً لسيادة الدولة وللامن العام وتؤدي الى زعزعة استقرار المجتمع وقد تؤدي الظواهر الاجرامية الكبرى الى زعزعة الاقتصاد الوطني وربما انهياره. عاشراً ـ القابلية على الانتشار والامتداد جغرافياً: تتصف للظاهرة الإجرامية بصفة خطيرة تتمثل في قابليتها على الامتداد والانتشارفي مناطق جغرافية واسعة وقد تتحول من ظاهرة محلية الى ظاهرة دولية كما في حالة الارهاب الدولي مماينبغي التصدي لمواجهتها بسرعة وحزم وخنقها في مهدها قبل استفحال امرها. واذا استفحلت اصبح امر مكافحتها معقداً ولكنه ممكناً. عناصر الظاهرة الاجرامية ـ تتحقق الظاهرة الاجرامية باجتماع عدد من العناصر هي : 1ـ تكرار الافعال الاجرامية: التكرار عنصر جوهري حيث لا تقوم الظاهرة الإجرامية على اساس واقعة اجرامية واحدة وانما على اساس تكرار الواقعة الاجرامية بشكل ملفت للنظر. 2ـ أن ينصب التكرار على نوع معين من الجرائم: اي أن تتطابق الجرائم المتكررة من حيث النوع، بحيث يمكن القول إنها تكاد تكون واحدة، من شدة تماثلها. ولكي يتحقق ذلك التماثل، لا بد من توافر حالتين، اولهما وحدة محل الجريمة وثانيهما وحدة المشروع الاجرامي. حيث يجب أن يكون محل الجرائم المتكررة واحدا، كان يكون محل الجريمة دائماً هو الانسان بصفة عامة او الفتيات او العجلات او المصارف او بنات الهوى. وان يكون المشروع الاجرامي واحداً، كقتل انسان او مجموعة من الناس او خطفهم،او اغتصاب الفتيات،او سرقة العجلات او سرقة النقود من المصارف، او تهريب بنات الليل الى خارج البلد. 3ـ وحدة الاسلوب الاجرامي : للمجرم في اطار الظاهرة الاجرامية اسلوبه الخاص في كل جريمة يرتكبها، او كما يقول المختصين في العلوم الجنائية ان له (ماركة تجارية) او بصمة نفسية خاصة به تميزه عن غيره من المجرمين، فيكون اسلوبه واحدا في كل مرة يقترف فيها الجريمة. ويمكن تحديد وحدة اسلوب الجريمة من خلال المعايير التالية : اـ موضوع الجريمة : مثل ظاهرة جرائم السرقة المقترنة بالقتل او السرقة غير المقترنة بالقتل كهروب الفاعل عند اكتشافه، او ظاهرة جرائم السطو على المصارف او ظاهرة جرائم الرشوة. وهذه لا تجتمع كلها عادة في ظاهرة اجرامية واحدة. ب ـ وقت الجريمة : اسلوب المجرم يقترن عادة بوقت معين لارتكاب جريمته مثل منتصف الليل او منتصف النهار او المساء... ج ـ مكان الجريمة : يرتبط الاسلوب الاجرامي عادة بمكان محدد ايضاً مثل المنازل او النوادي الليلية او الاماكن المزدحمة او الطرق الخارجية او الاماكن النائية او البحار... ء ـ ادوات الجريمة : لكل مجرم ادواته الخاصة التي تيسر له ارتكاب جريمته كالسلاح الناري او السكين او الحبال في جريمة القتل او العجلات اوالمراكب النهرية او الحيوانات في جريمة التهريب.... هـ ـ مظهر الجاني : قد يظهر الجاني بمظهر رجل الاعمال دائما بينما يظهر اخر بمظهر الشحاذ بينما يعمد اخرون الى الظهور بمظهر رجال الدين..... و ـ قصة الجاني : لكل مجرم قصته الخاصة التي يمهد بها للجريمة او لدخول مسرح الجريمة، ففي ظاهرة جريمة النصب والاحتيال قد يدعي الفاعل انه فقد ماله وانه بحاجة لاستدانة بعض المال، او انه وهو بصدد تصريف العملة الوطنية المزيفة يدعي انه يبيعها باقل من قيمتها لانه بصدد الهجرة للخارج... او يدعي انه مريض وبحاجة لاجراء عملية جراحية عاجلة كما في ظاهرة جريمة التسول، او يدعي انه من رجال الامن وبصدد البحث عن مجرم داخل المنزل...، وهذه القصة هي ذاتها لكل مجرم في كل جريمة يرتكبها. وقصة المجرم من اهم عوامل تشخيصه والاهتداء اليه. زـ شركاء الجاني : الظاهرة الاجرامية تقوم عادةعلى اشتراك عدد من المجرمين في مشروع اجرامي واحد، سواء كانوا مساهمين اصليين او تبعيين، يتم توزيع الادوار الاجرامية فيما بينهم. ك ـ طريقة دخول مسرح الجريمة والهروب منه : لكل مجرم طريقته الخاصة في دخول مسرح الجريمة. فالبنسبة لسرقة المنازل فقد يتم عن طريق استعمال مفاتيح مصطنعة او كسر الابواب او النوافذ او استعمال الحبال، وبالنسبة لظاهرة جرائم تهريب الاشخاص او البضائع فقد يستخدم الجاني المنافذ البرية او البحرية. 4ـ وجود علاقة بين الظاهرة الاجرامية والمنطقة الجغرافية محل ارتكابها : عادة ما يختار المجرم او المجرمون في اطار الظاهرة الاجرامية منطقة جغرافية محددة لارتكاب جرائمهم، لوجود علاقة ما تربطهم بمسرح الجريمة. فقد يكون المكان مرتبطا بمحل الظاهرة أو هدفها أو محل اقامة مرتكبيها فقد يكون الجناة مقيمين بالقرب من مسرح الجريمة أو ان احدهم مقيما به او بالقرب منه، أو انهم يترددون عليه بشكل مستمر،او أن يكون المكان ذو طبيعة خاصة كمنطقة تجارية أو سكنية او ميناء بحري او غيره. 5ـ الفاصل الزمني بين جريمة واخرى : عادة ما يكون الفاصل الزمني بين جريمة واخرى قصيراً، فالظاهرة الاجرامية ما هي الا احتراف لنشاط اجرامي ومصدر للدخل غير المشروع في حقيقتها ومعناها، والاحتراف يقتضي الاستمرارية.
المبحث الثاني : النظريات العلمية في تفسير الظاهرة الاجرامية : تعددت النظريات التي طرحت بشأن تفسير الظاهرة الاجرامية، فهي ظاهرة فردية وظاهرة اجتماعية في آن واحد، وبالنظر اليها كظاهرة فردية اتخذ بحثها طابعاً بيولوجياً ونفسياً، وبالنظر اليها كظاهرة اجتماعية اتخذ بحثها طابعاً اجتماعياً.
1ـ نظرية لومبروزو ونموذج الانسان المجرم بالولادة : عمل الاستاذ سيزاري لومبروزو (1835ـ1909) في بداية حياته طبيباً في الجيش الايطالي ثم عين بعدها استاذاً للطب الشرعي والعقلي في جامعة بافيا ثم في جامعة تورينو. وبحكم امتلاك لومبروزو الروح التأملية وعمله في الجيش ومراقبته للسلوك الاجرامي للجنود قام بوضع اساس فكرته عن السلوك الاجرامي من خلال دراسته للظاهرة العضوية للمجرمين، ووضع خلاصة بحوثه العلميه في مؤلفه الشهير (الانسان المجرم). حيث ابتدأ رحلته العلمية بالتأمل في سلوك الجنود المنحرفين عن طريق فحصهم ودراسة تكوينهم الجسماني. وكان لومبوزرو يهدف من وراء ذلك ايجاد الخصائص المشتركة بين الجنود المنحرفين ومن ثم مقارنتها مع الخصائص المشتركة للجنود الاسوياء. وقد لاحظ لومبروزو ان الجنود المنحرفين يتميزون بعدة مميزات جسدية لم تكن موجودة في الجنود الاسوياء، حيث لاحظ ابتداءا ومن الناحية الظاهرية ان الجنود المنحرفين يميلون الى احداث الوشم والرسوم القبيحة على اجسادهم كما وتبين له عند تشريحه لجثث عدد من المجرمين الذين ارتكبوا جرائم تتسم بالعنف والقسوة وجود عيوب خلقية في تكوينهم الجسماني وشذوذ في الجمجمة. واثباتاً لدور الصفات العضوية قام لومبروزو بتشريح مايقرب من 383 جمجمة لمجرمين متوفين كما فحص حوالي 5907 من المجرمين الاحياء، ومن ابرز الحالات التي درسها حالة لص وقاطع طريق خطر يدعى فيللا، حيث فحصه اثناء حياته وشرح جثته بعد وفاته. وقد وجد تجويفاً في قاع جمجمته مشابهاً لما هو موجود لدى بعض الحيوانات الدنيا كالقرود والطيور، كما وتوصل الى نتائج مشابهة عند دراسته حالة مجرم خطر اخر يدعى فرسيني الذي اعترف بقتل عشرين امرأة بطريقة وحشية وشرب دمائهن، حيث تبين له اتصاف هذا المجرم ببعض الخصائص الجثمانية والتشريحية. وقد ولد ذلك القناعة لدى لومبروزو بوجود نموذج للانسان المجرم بطبيعته، وهو الشخص الذي ترشحه منذ ولادته خائص بيولوجية معينة لان يصبح مجرماً. وحسب لومبروزو فأن المجرم نمط من البشر يتميز بخصائص عضوية ومظاهر جسمانية شاذة تنتقل بالوراثة، اطلق عليها وصف علامات الرجعة، يرتد بها المجرم إلى عصور ما قبل التاريخ حيث تتطابق الخصائص البيولوجية للانسان المجرم مع خصائص الانسان البدائي الاول. بمعنى اخر ان الإنسان المجرم بنظر لومبروزو ما هو الا انسان بدائي يحتفظ عن طريق الوراثة بالصفات البيولوجية والخصائص الخلقية الخاصة بانسان ما قبل التاريخ. وبالنظر لتعرض نظرية لومبروزو للنقد فقد قام بتعديل بعض ارائه في هذا الشأن، فذهب بشأن الطبيعة الوراثية للاجرام الى ان العلامات الارتدادية لا تحدث لوحدها السلوك الاجرامي وانما يجب ان تتفاعل مع شخصية من يحملها اذا تهيأت الظروف لانتاج السلوك الاجرامي. وانتهى الى القول الى ان العلامات الارتدادية تكون موجودة لدى اغلب المجرمين ولكن ليس كلهم، كما انها يمكن ان توجد لدى غير المجرمين. كما لا يمكن لعامل الوراثة بمفرده ان يرشح السلوك الاجرامي وانما ينبغي ان تتظافر معه عوامل اخرى يكتسبها الفرد بعد الميلاد. وفي نهاية الامر توصل لومبروزو الى تقسيم المجرمين الى خمس فئات هي : المجرم بالولادة، المجرم المجنون، المجرم بالعاطفة، المجرم بالصدفة والمجرم بالعادة. وبالنسبة للانسان المجرم بالولادة، وهو محور نظرية لومبروزو، فانه يتميز عن الانسان العادي بخصائص ومظاهر شذوذ جسمانية من اهمها : صغر حجم الجمجمة وعدم انتظامها، بروز عظام الوجنتين وضخامة ابعاد الفك والشذوذ في تركيب الأسنان، شذوذ في حجم الاذنين، وكثرة غضون الوجه، عدم انتظام وتشابه نصفي الوجه، ضخامة الشفتين وبروزهما، غزارة شعر الرأس والجسم،والطول المفرط للذراعين،، واستعمال اليد اليسرى وضخامة الكفين. كما يتميز المجرم بصفات نفسية مختلفة عما هو موجود لدى الانسان لعادي ومنها : القسوة البالغة وعنف المزاج وحب الشر، انعدام الاحساس بالالم والميل الى الوشم، اللامبالاة وعدم الشعور بتأنيب الضمير وعدم الحياء. وبالاضافة إلى تلك الصفات العامة وقف لومبروزو على بعض الملامح العضوية التي تميز بين المجرمين. فالمجرم القاتل يتميز بضيق الجبهة، وبالنظرة العابسة الباردة، وطول الفكين وبروز الوجنتين، بينما يتميز المجرم السارق بحركة غير عادية لعينيه، وصغر غير عادي لحجمهما مع انخفاض الحاجبين وكثافة شعرهما وضخامة الانف وغالباً ما يكون أشولاً. ومع الانتقادات الكثيرة التي وجهت لنظرية لومبروزو فانه سيبقى المؤسس والرائد الأول لعلم الانتروبولوجيا الجنائية.
2ـ ارنست هوتون والانحطاط الجسماني اعتمد الاستاذ هوتون على علم الاحصاء لدراسة الاجرام،وكان موضوع الدراسة طيف واسع من المجرمين وغير المجرمين موزعين على ثمان ولايات امريكية، وراعى في اختيارهم التماثل نسبياً من حيث الظروف،وكانت العينة محل الدراسة مكونة من (13873) من السجناء، اما الجماعة الضابطة (معيار المقارنة) فتكونت من (3230) انتقاهم هوتون من بين طلبة الجامعات ورجال الاطفاء والشرطة والمرضى الراقدين في المستشفيات، من البيض والسود، واستمرت الدراسة حوالي تسع سنوات. وخلاصة ما توصل اليه، ان المجرمين يختلفون عن الناس الطبيعين اختلافاً واضحاً في مقاسات اعضائهم الجسمانية، وان مظاهر الشذوذ الجسماني هذه تشابه علامات الرجعة التي قال بها لومبروزو، كما انهم يختلفون في الملامح الخارجية، مثل شكل الانف والاذن والشفة والجبهة ولون العين. فضلاً عن اتصاف المجرمين بانحطاط جسماني حدده هوتون بـ (107) صفات ترجع اساساً الى العوامل الوراثية. وقرر هوتون، ان لهذا الانحطاط والشذوذ البدني اهميته البالغة في تبرير السلوك الاجرامي لانه علامة الانحطاط العقلي. واعطى هوتون اهمية خاصة للمقارنة بين طوائف المجرمين حسب نوع الجريمة المرتكبة، وانتهى الى ان كل طائفة تتميز بنوع من الشذوذ البدني تمثل الميل الى ارتكاب نوع معين من الجرائم وهكذا فان الشذوذ والانحطاط الجسماني لدى القاتل هو غيره لدى السارق وعلى النحو الاتي : ـ ان طوال القامة ضعاف الجسم يميلون الى ارتكاب جرائم القتل وجرائم النهب. ـ ان طوال القامة ضخام الجسم يميلون الى ارتكاب جرائم الغش والخداع. ـ قصار القامة ضخام الجسم يميلون الى ارتكاب الجرائم الجنسية.
3ـ فرويد والذات الدنيـا : سيكموند فرويد، عالم وطبيب نمساوي (1856ـ1939) اهتم بدراسة علم الاعصاب، اتصف بالذكاء الشديد الذي دلت عليه براعته الفائقة في عرض افكاره واستنتاجاته. واثرت افكاره وما برحت تؤثر في نفوس عدد كبير جداً من العلماء والباحثين في نطاق المعمورة ودافعوا عنها بكل قوة كلما تعرضت للنقد والتجريح. ومن اهم مؤلفاته (مدخل الى التحليل النفسي)، (نظرية الاحلام)، (افكار لازمنة الحرب والموت)، (الاضطراب النفسي في الحياة اليومية). يذهب فرويد الى ان الكيان النفسي للانسان يتكون من ثلاث اقسام هي الذات الدنيا والذات والذات العليا. الذات الدنيا : وتمثل الجانب الشهواني من النفس الذي يضم الغرائز والاحاسيس والنزعات الفطرية الموروثة من الانسان البدائي الاول. وهذه الذات، بما تتضمنه من ميول ورغبات كالرغبة في الانتقام وتعذيب الخصوم والاعتداء والافعال الجنسية المحرمة، لا تتوافق مع النظام الاجتماعي المتطور وقيمه في الحياة المدنية المعاصرة.لذلك فان الانسان المعاصر يبقيها مكبوتة في اعماق نفسه بحكم عوامل التربية الاخلاقية التي تتطلب منه الخضوع لقيم ومعايير المجتمع السائدة. غير ان هذه الغرائز المكبوتة تظهر للسطح كلما تهيأت لها ظروف واحوال ملائمة، فيكون ظهورها اما ظهوراً صريحاً او ظهوراً مقنعاً، بحثاً عن فرصة ذاتية للاشباع. ويذهب فرويد الى ان الاحـلام تجسد الظهور بشكله المقنع للميول البدائية، وتعبر عن الرغبات المكبوتة في اعماق النفس، كالحب او الكراهية. وعلى هذا التصور فان حالة النوم الطبيعي تقدم لنا مثلاً رائعاً عن مرونة الحياة العقلية وعن طريقها يمكن ان نفسر الارتداد في حياتنا الانفعالية الى احدى المراحل السابقة للتطور فيكون الحـلم ممثلاً للحياة النفسية اثناء النوم ومن ثم يكون موضوعا للتحليل النفسي. ووفقاً لتصور فرويد فان الذات الدنيا هي العالم الذاتي الحقيقي الذي يحرص على بلوغ اللذة والابتعاد عن الألـم. الذات (النفس) : وتجسد الجانب الواعي الذي ينسجم مع الواقع والعقل. وتتصل الذات بالجانب الاجتماعي فتكون وظيفتها القيام بدور وسيط مهمته تحقيق التكييف او التوافق بين الميول والنزعات الغرائزية ولاسيما الجنسية منها من جهة وبين القيم الاجتماعية والاخلاقية والدينية والقانونية من جهة اخرى. وفشل الذات في وظيفتها هذه قد يؤدي الى انفلات شهوات النفس البدائية من مكامنها بما يتعارض تماما مع تلك القيم، او يؤدي الى التسامي بالنشاط الغريزي عن طريق الابقاء عليه مكبوتاً فيما وراء الشعور. ويُشبه فرويد الذات بالفارس، ويُشبه الذات الدنيا بالفرس الجامح، فمهمة الفارس كبح جماح الفرس والسيطرة عليها، والا انساق معها نحو الاخطار والاهوال. الذات العليا : وتمثل ضمير الانسان والجانب المثالي من الحياة النفسية، وفيه تكمن المباديء العليا والقيم السامية التي اكتسبها الانسان اثناء طفولته من والديه ومعلميه ورجال الدين ومن اعتبرهم مثالا يحتذى به اثناء مراحل حياته ومن القيم الاخلاقية والدينية. والضمير مصدر ردع قوي للشهوات ومنه يستمد العقل القوة اللازمة لضبط الميول والنزعات والغرائز البدائية. فوظيفة الضمير مراقبة العقل ومحاسبته عن اي توجه نحو اشباع النزعات بطريقة بدائية ويرشده الى الطريق المتزن لاشباع هذه الرغبات بطريقة مشروعة تتفق مع القيم السائدة، وفي ضوء ما تقدم يرى فرويد ان تآلف وتفاعل الذات الدنيا والذات والذات العليا يحقق الاتزان الداخلي الذي يكون من سمات الشخص الاعتيادي. الا ان هذا التفاعل لا يتحقق بسهولة فقد ينجم عن تفاعلهما حالة من الصراع وعدم الانسجام مما يؤدي بالفرد الى ارتكاب سلوك مخالف لنظام المجتمع وقيمه السائدة يتمثل في السلوك الاجرامي. فالسلوك الاجرامي هو اما نتيجة عجز الجانب العقلاني (الذات) عن اداء وظيفته، واما نتيجة انعدام الجانب المثالي، ومن ثم تقع الجرائم اما عن طريق انفلات الغرائز والميول الشهوانية، واما عن طريق العقد النفسية التي تُكبت في الجانب اللاشعوري من العقل وتقوم بتوجيه سلوك الانسان وجهة اجرامية دون وعي او ادراك منه. وقد تجرف الذات الدنيا بتيارها الذات وتسخرها لتنفيذ رغباتها ونزعاتها الطائشة. ويعطي فرويد امثلة عن الخلل والاضطراب الذي يصيب الكيان النفسي نتيجة عجز الضمير والعقل عن اداء وظيفتهما، ومن هذه الامثلة عقدة اوديب وعقدة الذنب. عقدة اوديب : تتسم العلاقات العاطفية لدى جميع الافراد بنظر فرويد بالازدواج، اي مشاعر الحب والكراهية تجاه الشيء الواحد في نفس الوقت. وحينما يبلغ الطفل مرحلة السادسة من العمر مجتازاً مرحلته الجنسية الذاتية تتجه ميوله نحو اول كائن يؤثر فيه وهو امه ويحرص على ان لا يشاركه احد في حبها وان تبقى خالصة له الا ان امنيته هذه تصطدم بعقبة كبيرة تنافسه في حب امه هي الاب، فيتولد لديه نوع من الغيرة والانانية فيبدأ بكراهيته وعدم الشعور بالراحة عند وجوده مع رغبة شديدة في التخلص منه. الا ان هذه الرغبة تصطدم بنزعة معاكسة لها وهي شعور الطفل بحب ابيه وعطفه وحنانه ورعايته فينشأ في نفس الطفل نوعين متناقضين من الرغبات تجاه الاب هي مشاعر الكراهية والحب. وان لم تقم الذات (العقل) في تكييف هذا الازدواج مع القيم الاجتماعية وذلك بتغليب شعور الحب نحو الاب فان عقدة نفسية خطيرة ستستقر في جانب اللاشعور من عقل الطفل تسمى عقدة اوديب. ولهذه العقدة اثار سيئة منها، انعدام القدرة على تكوين التوازن النفسي والتكييف الاجتماعي وبالتالي الاتيان بسلوك شاذ. كما ان البغض اللاشعوري تجاه الاب يولد في نفس الابن شعور بالكراهية تجاه ممثل كل سلطة كالمعلم والمدير ورئيس الدولة وكل جهة سلطوية او رقابية، ويميل الى انتهاك القوانين والانظمة المرعية رسمية كانت ام غير رسمية. ومن مظاهر عقدة اوديب ان المصاب بها يتعرض لصدمة عنيفة قد تتطور الى انهيار نفسي عند وفاة امه. ويرى بعض علماء الطب النفسي المعاصرين، انه ينبغي على الوالدين الا يظهرا مشاعر الحب المتبادل امام الاطفال، وانه اذا كان لابد من ذلك، فيجب ان يشركا الاطفال في هذا الوجدان. عقدة الذنب : تتحقق عقدة الذنب عندما يطغى على الانسان شعور بالذنب والتقصير، بسبب مغالاة الضمير في تأنيب الذات نتيجة سيطرة استبدادية، فاذا ما غالى الوالدان في توبيخ الطفل ومعاقبته بقسوة فان من شان هذا التصرف الخاطيء من جانب الوالدين ان يسبب خللا كبيراَ في الجانب المثالي للطفل فيكون هذا الجانب قاسياً وصارماً في رقابته وتوجيهه للطفل بحيث انه يجعل من ابسط الهفوات والاخطاء في نظر الطفل خطايا كبيرة يستحق من اجلها العقاب الشديد وبالتالي يستأثر هذا الشعور المرضي بعقل الصغير ويسيطر على ملكاته ويرى فرويد ان شدة الشعور بالخطيئة قد يكون من اقوى البواعث على الاجرام لا نتيجة ارتكاب الجرم ذاته. ومن جانب اخر فان هذه العقدة تصيب الانسان فتظهر عليه علامات الاضطراب النفسي نتيجة غياب الذات العليا فيرتكب سلوكاً شاذاً غيرمألوف وان لم يصل الى حد الجريمة، ثم يستعيد بعد ذلك الضمير قدرته على التوجيه والمحاسبة وهنا تنشأ عقدة الشعور بالذنب والخطيئة لديه. ان هذا الشعور يضغط على صاحبه بالتأنيب المستمر ولا يستطيع منه فكاكاً ولا يتمكن من التخلص من هذا الشعور الا اذا عرض نفسه للمتاعب وقد يرتكب الجريمة ليثير نقمة المجتمع عليه ولا تهدأ نفسه الا اذا نال الجزاء المناسب.
4ـ بونجيه والعامل الاقتصادي يذهب الاستاذ والعالم الهولندي وليم ادريان بونجيه (1876ـ 1940) استاذ علم الاجتماع في جامعة امستردام الى ان الجريمة هي نتاج العوامل الاقتصادية السائدة في المجتمع الرأسمالي. ويبدو تأثر بونجيه واضحاً بافكار كارل ماركس وسذرلاند، حيث يرى ماركس ان كل الظوهر السلبية التي تظهر في المجتمع ومنها ظاهرة الجريمة ترجع اساساً الى الخلل الذي يصيب النظام الاقتصادي السائد، ذلك ان نظام الانتاج الاقتصادي يتحكم في نواحي الحياة كافة ومنها النشاط الانساني المكون للسلوك الاجرامي، وان مظاهر الخلل تصيب المجتمع الرأسمالي بسبب طبيعة العلاقات الاقتصادية السائدة وان اصلاح المجتمع كله يتأتي من اصلاح هذا النظام. بينما يرجع الاستاذ سذلارند السلوك الاجرامي الى الانقلاب الحاصل في القيم والمفاهيم بعد الثورة الصناعة حيث انصب الاهتمام على جمع المال وتكنيزه باية وسيلة وبدون مشقة لتحقيق الرفاهية والسعادة، بحيث ان المال والثروة اصبح يعني القيمة الاجتماعية العالية والادخار فضيلة من الفضائل في حين ان الفقر يعني المذلة والمهانة وقد ادى هذا الانقلاب في المفاهيم والقيم الى زيادة الظاهرة الاجرامية اذ انصب الاهتمام على جمع المال وكنزه اكثر من الاهتمام بطريقة كسبه. فالتاجر في النظام الراسمالي يسعى لبيع سلعته باعلى ربح ممكن حتى لو حصل عليها بابخس الاثمان ويتبع في سبيل ذلك كل الوسائل غير المشروعة كالغش والتزوير والاحتيال والبلاغ الكاذب للصمود امام منافسيه بل وتشويه سمعتهم لازاحتهم عن طريقه لتخلو له الساحة، والافعال المتقدمة ما هي الا جرائم. وفي ضوء ذلك يذهب بونجيه الى ان ضغط النظام الاقتصادي الراسمالي على سلوك افراد المجتمع يرتب اثاراً سيئة على ذلك السلوك ومنها الانانية والشعور بالحقد مما يدفع البعض الى ارتكاب الجريمة. فكل فرد حسب بونجية يكتسب غرائز اجتماعية، ان لاقت ظروفاً اجتماعية صالحة ترسخت في الفرد الغرائز الجيدة مما يعني استبعاد الغرائز الفردية المتسمة بالانانية مما يجعل من سلوكه متسماً بالمحبة والسعي لفعل الخير، بينما اذا لاقت ظروفاً سيئة تأكدت لدى الفرد مشاعر الحقد والانانية ومن ثم تجرف صاحبها نحو الشر والجريمة. ويقرر بونجيه في النهاية بان الظروف الاقتصادية غير الملائمة للنظام الراسمالي بما تفرزه من فروق اجتماعية واسعة من شأنها ان تثير الحقد والانانية لدى الطبقة العاملة ضد طبقة الرأسماليين ومن ثم يندفع بعض افراد الطبقة العاملة، تعبيراً عن هذه الغرائز الفردية، نحو طريق الشر والجريمة. 5ـ دي توليو والاستعداد الاجرامي يرى الاستاذ والعالم الايطالي دي توليو (di Tullio.B) أن السلوك الإجرامي لا يمكن تفسيره بارجاعه إلى سبب واحد، كالتكوين البيولوجي او النفي او العامل الاجتماعي او الاقتصادي كلا على انفراد، بل ان اتحاد هذهالعوامل هو الذي يفسر السلوك الاجرامي. واساس نظريته في تفسير السلوك الاجرامي قائم على فكرة التكوين الاجرامي اي الاستعداد الفطري لارتكاب الجريمة وهو ـ حسب وجهة نظره ـ ما يميز المجرم عن غيره من الناس الاسوياء. فقد ذهب دي توليو الى تصنيف المجرمين على أساس أن الجريمة هي نتيجة تفاعل مجموعة من العوامل الداخلية (البيولوجية) مع مجموعة من العوامل الخارجية (العوامل الاجتماعية). ولذلك يذهب دي توليو الى أن هناك أفراد لديهم ميل أو إستعداد جرمي لا يتوافر لدى الاخرين ويستدل توليو على ذلك بالقول ان محفزاً او مؤثرا خارجيا واحدا قد يواجه شخصين الا ان ردة فعل كل منهما تختلف عن الاخر فقد يكون وقعه على احدهما شديداً مما يدفعه الى ارتكاب الجريمة بينما يتصرف الاخر باتزان ويحجم عن ارتكاب الجريمة. فهذه المؤثرات تكون بمثابة محفزات للنزعة الاجرامية الموجودة اصلاً، وترتبط هذه النزعة لديهم بتكوينهم الجسمي والنفسي الخاص مما يميزهم عن الانسان العادي. وفي ضوء هذا التصور قسم دي توليو الإستعداد الاجرامي من حيث مدى تأثير الاسباب التي تدفع الى ارتكاب الجريمة الى نوعين، الاستعداد الاجرامي العارض والاستعداد الاجرامي الاصيل. النوع الأول منهما يرجعه الى عوامل إجتماعية وشخصية تكون اقوى من قدرة الجاني على ضبط توازن مشاعره فيخلق لديه استعداد عارض او فجائي يحرك عوامل الجريمة لديه واطلق عليه دي توليلو اسم (المجرم بالصدفة او العاطفي) وهو ذلك الشخص الذي يقع في الجريمة تحت تأثير ضغط ظرف استثنائي خارجي مع توفر بعض العوامل الداخلية الخاصة، اذ يصدر الفعل الجرمي عنه عرضا نتيجة لظرف خارجي كالبطالة والازمات الإقتصادية والهجرة او حالة نفسية طارئة كالاستفزاز الخطير او الانفعال الشديد كاليأس والحقد والشعور بالحيف الاجتماعي، مما يخل بتوازن المانع من الجريمة مع الدافع اليها، ويؤدي ذلك الى تغليب الدافع على قوة المانع لديه فيترتب على ذلك احتمال ارتكابه للجريمة. وعلى هذا فان الاجرام بالصدفة يرجع أساسا إلى ظروف خارجية تحيط بالمجرم فضلا عن ظروف شخصية...، على أن العوامل الخارجية او النفسية الطارئة هذه لا تقلل من اهمية العوامل الداخلية لدى المجرم، إذ ليس كل من يتعرض لظروف إجتماعية قاسية او ظروف نفسية طارئة يرتكب جريمة. اما النوع الثاني فيرجعه إلى التكوين الفطري للانسان من الناحيتين الجسمانية والنفسية، وهذا هو الاستعداد الاجرامي الاصيل الذي يدفع الى ارتكاب الجرائم الخطرة واحتراف الاجرام. واطلق عليه دي توليو اسم (المجرم بالعادة أو بالتكوين)، وهو الشخص الذي يعاني من نقص في تكوينه، كالنقص الجسماني أو الخلل في الجهاز العصبي فان تاثير الحالة التكوينية على سلوكه يكون اكثر تاثيراً من الظروف الاجتماعية. ذلك ان المجرم بالعادة يتميز بتوافر ميل داخلي أو تكويني في شخصيته يدفعه الى الاجرام، ففي هذه الحالة تتضاءل المقاومة أو قوة المانع تضاؤلا جسيما امام قوة الدافع مما يخلق لديه ميلاً دائما الى ارتكاب الجريمة. ويبدو واضحاً ان المجرم بالعادة او بالاصالة يكون اشد خطراً من المجرم بالصدفة، لان المجرمين بالاصالة يتسمون بالعود الى ارتكاب الجريمة واحتراف الاجرام ولا يردعهم عقاب من ارتكاب الجريمة والعود اليها بالنظر لاتصاف استعدادهم الاجرامي بالثبات والاستمرار. يتبع... المبحث الثالث : الاساليب البحثية العلمية لمواجهة الظاهرة الاجرامية , الاحصاء، جمع المعلومات الاستخبارية، دراسة الحالة، المسح الاجتماعي، دراس البيئة , المقارنة
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ (1) ـ الاله الروماني كانيوس Janus، وهو اله الشمس، وكان يمثل حارس ابواب السماء كما يمثل اله الحرب والسلم، ونسبة اليه سُمي شهر January (يناير) ويقال انه اله البدايات والنهايات. (2) ـ اية الشمس
المراجع العلمية: ـ د.احمد عوض بلال، علم الاجرام، ط1، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1985. ـ د. اكرم نشأت ابراهيم، علم النفس الجنائي، ط4، مطبعة المعارف، 1968. ـ د. جلال ثروت، الظاهرة الاجرامية، مؤسسة الثقافة الجامعية، الاسكندرية،1982. ـ د. محمد شلال حبيب، الخطورة الاجرامية،رسلة دكتوراه مقدمة الى كلية القانون والسياسة ـ جامعة بغداد ط1،دار الرسالة للطباعة، بغداد،1980 ـ د. محمد شلال حبيب، اصول علم الاجرام، ط2، مطبعة دار الحكمة، بغداد، 1990. ـ الاستاذ عبد الواحد إمام مرسي، الظاهرة الاجرامية ـ اساليب الرصد والمواجهة، بحث منشور في مجلة الامن والقانون، العدد (1) سنة 2003، دبي ـ الامارات العربية المتحدة. ـ د. عبد الفتاح الصيفي و د. زكي ابو عامر، علم الاجرام والعقاب،دار المطبوعات، الاسكندرية. ـ الاستاذ عبد الجبار عريم، نظريات علم الاجرام،ط6، مطبعة المعارف، بغداد، 1960. ـ سيكموند فرويد، مدخل الى اتحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، ط2، دار الطليعة، بيروت، 1980. ـ د.مأمون محمد سلامة، اصول علم الاجرام والعقاب، القاهرة، 1979. ـ د. فوزية عبد الستار، مباديء علم الاجرام والعقاب، بيروت، 1978. ـ د. رؤوف عبيد، اصول علمي الاجرام والعقاب، ط5، دار الجيل للطباعة، القاهرة، 1988. ـ د.محمد سعيد نمور،الخطورة الاجرامية، مجلة مؤتة للبحوث والدراسات، دورية سنوية، العدد 3، المملكة الاردنية الهاشمية.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |