بحوث

نزيل في الشعبة الخامسة

محمد السعدي

 الاهداء .......

 

الى زنابق الرافدين – شهداء الحركة الشيوعية العراقية

 

 زنزانة رقم 3

 

للذاكرة مساحات تتسع لحجم الحدث وقوته وهناك ثمة بشر ذاقو ا طعم المرارة والخيبة في هذا المكان المخيف لكنهم لم يميطوا اللثام عن أفواههم للكشف ولو عن جزء بسيط من تفاصيله ولاحتى عن أركان بنائه وشخوصه ومهرجانات الدم والموت فيه . وثمة بشر أخرون أنجرفوا مع مياه المستنقع نحو مياه نهر دجلة , فضاعوا تحت أمواجه .وضاعت معهم ذكريات المكان وألام المشهد المرعب ... انها الشعبة الخامسة – الاستخبارات العسكرية العامة – وأنا احد الناجين بل ممن كتب لهم التاريخ فرصة الانقاذ بأعجوبة بل في غفلة تاريخية من الزمن القاتل , لكن ذاكرتي مازالت تختزن بتفاصيل تلك اللحظات و المشاهد المرعبة التي شهدتها في ذلك المكان الكارثي , المقتطع من الجحيم وما جرى لنا فيه من مشاهد محزنة واوقات مرعبة من الموت البطئ , أسعى مستذكرا لحظاتها لتدوينها عبر هذه الصفحات المنسية في الذاكرة العراقية التي يحاولون تعطيلها بل نسفها من الاساس لتكن في طي المنسيات , ولم تشهد الحياة السياسية في العراق من تجروء للبوح بالمكان وظروفه واساليب التعذيب فيه , سأدلوا بشهادتي لتكن محفزا للاخرين عن زمن غادر وتاريخ مظلم مغلف بالخوف والظلم والمعاناة لابناء العراق .

 عمر ايضا مر بهذا المستنقع مقابل تهمة ترويج وترديد النكات على النظام وقادسيته ونتاجا لذلك فقد لاقى تعذيبا شديدا واربعون يوما في هذا المكان المسكون برائحة الموت , ورغم انه كان ضمن الجهاز الحزبي البعثي ومؤسسات النظام وبكل بساطة هذا هو ماقد جرى لعمر فكيف سيكون الامر معي وبأي وسائل جديدة من التعذيب سألقاه ... منذ سنوات مضت بالحسرة كنت احد نزلاء هذا المبنى المطل على نهر دجلة والمتداخل مع ظلال اشجار الحمضيات والفواكة يوحي من النظرة الاولى للمرء عبارة عن متنزه أمن للعشاق , اما في داخله فمسالخ بشرية للمعتقلين السياسين الذين يناضلون في سبيل الحرية وتوفير الخبز لابناء شعبهم المضطهد .

87 يوما قضيتها في هذا المبنى في صراع مع وحوش بشرية للحفاظ على المبادي والقيم الانسانية... للحفاظ على الانتماء لحزب سياسي معارض لمشروع السلطة في العراق ونحمل مشروعا لوطن ديمقراطي ..... ولسنوات طويلة مضت عملت ضمن تنظيمات الداخل (العمل السري) وتحديدا خلال الفترة الزمنية ما بين 1980 -1983في العاصمة بغداد وأروقة كلياتها ضمن تنظيم منظمة الصدى بعد ان انقطعت الخيوط الحزبية في التنظيم السابق في محافظة ديالى - قرية الهويدر- . منظمة الصدى تأسست بعد عام 1979 على انقاض تحطم تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي في عموم العراق على أثر الضربة الموجعة التي وجهت الى التنظيم من قبل الحزب الحاكم بعمل غادر بعد عرس دام خمس سنوات تخللته تناقضات وصراعات حادة في المواقف من القضايا الاقليمية والدولية نتج عنها فراق ابدي . ضمت المنظمة العديد من العناصر الشابة والمتحمسة لرد اعتبار الحزب بعد الهزيمة التي مني بها , ( صدر حديثا للرفيق مام صالح وكانت له وقفة مع منظمة الصدى , كتابه بعنوان- وه ك خوي- وتعني بالعربية كما كان أو مثلما حدث) . يقول مام صالح في طي صفحات كتابه ( يخبره في يوم من الايام الرفيق أشتي الطالباني بأن له خط تنظيمي واسع باسم الصدى ويتألف من مدينة بغداد وكركوك والسليمانية ومدن جنوبية وبالاخص في المدارس وجامعة بغداد والمعهد التكنيكي في كركوك , ويعلم بذلك الرفيق عمر علي الشيخ ( ابو فاروق )عضو المكتب السياسي للحزب , وقبل سفره الى موسكو يبلغ مام صالح الرفيق بهاء الدين نوري عضو اللجنة المركزية بنشاطات الرفيق أشتي ( الصدى ) وبين فترة وفترة كان يرسل رسائل حول النشاطات. في سوريا التقيت بأحد أبناء أخوال أشتي وبلغني تحياته وقال بأن أشتي يقول , أن تنظيمنا قد توسع وانا من ناحيتي أفهم قصد أشتي . ودارت الايام والتقيت بالرفيق أشتي في بيت عبدالله الملا فرج ( مام علي ) في نوكان .ترتبط المنظمة مركزيا بتنظيم محلية كركوك من خلال كادرها ( أشتي شيخ عطا كان لها صوت مسموع في عموم العراق من خلال نشاط اعضائها الذين تميزوا بالجرأة والاقدام وكان نشاطها ملحوظ في الوسط الطلابي وكنت من العناصر المكشوفة في كلية الاداب _ جامعة بغداد وعضو بارز وفعال في شحذ الطاقات الجديدة الى كردستان وخصوصا من يصعب بقاءه في الداخل ومقطوعي الصلة الحزبية. وخلال فترة تم الاتصال بمجموعة من الناس وايصالهم الى المناطق المحررة في كردستان حيث كنا على اتصال مباشر بتطورات الاحداث هناك .من بين هذه الأسماء

1_ فهد عبد الجبار عبود من اهالي الكاظمية استشهد في كردستان عام 1984 في منطقة باني شهر.

2_ طالب عبود جميل من اهالي قرية الهويدر ( علي عه رب ) استشهد عام 1988 في اخر انفال حكومي في منطقة كرميان .

3 _ وحيد عبد الرحمن دبش من اهالي الحرية في بغداد مقيم في السويد .

4 _ خضر عبد الرزاق جعفر من اهالي قرية الهويدر مقيم في السويد .

5 _ عبد الزهرة عباس من اهالي قرية الهويدر مقيم في المانيا .

وهناك اخرين لم تعد الذاكرة تسعفني لايراد اسمائهم.. واخرين لم يسمح الظرف بالمرور عليهم لدواعي أمنية . كنت مرتبطا بشبكة من العلاقات على مستوى أساتذة جامعة واعلام ادبية وشخصيات فكرية للتبادل في وجهات النظر حول مجمل قضايا تطورات البلد من خلال تزويدهم بالادبيات الحزبية التي تخص الساحة السياسية وخصوصا الساحة الكردستانية , كما عملت ايضا في مدن عديدة منها الكاظمية ’ الشعلة ’ الحرية ومدن كردستان وأرياف محافظة ديالى ... وحين تطلب الموقف لم اتخل عن أداء الواجب الحزبي في حمل السلاح لسنوات طويلة في كردستان ضد النظام العراقي من اجل اقامة وطن ديمقراطي وحكم ذاتي لكردستان . كانت تجربة كبيرة وثمينة اعطتني اكثر مما اخذت مني . كانت تجربة فخر واعتزاز في مسيرة حياتي رغم كل مااعترتها من اخفاقات لم توقف مسيرتها النضالية وهناك من تجرأ ولم يلبي نداء المسيرة النضالية ضد اعدائها الطبقيين بالتقليل من اهميتها الوطنية والكفاحية ’ بل ذهب بهم الخوف والتردد باعتبارها حركة تستهدف الجنود العائدين من جبهات القتال مع ايران أو ممن عادوا في اجازة الى أهاليهم من وحداتهم العسكرية لافراغ التجربة من محتواها النضالي والفكري تحت منطلقات فكرية فارغة ... مازالت تلك التجربه وستبقى وساما في صدور المناضلين ممن خاضوا غمارها وعاشوا ايامها. غير انه لم يشكل في مسيرة نضال الشعوب الاسلوب الاوحد والامثل لمواجهة الدكتاتوريات في العالم ولكنه يبقى واحدا من اساليب النضال في مواجهة المنعطفات التاريخية رغم انه كان مفروضا علينا من البعثيين وتبنته القاعدة الحزبية وفرضته على قيادة الحزب الشيوعي العراقي لمقارعة الدكتاتورية في العراق .

وهنا من حق القاريء أن يتسائل : هل كان حملنا السلاح لمقاتلة النظام صحيحا , وانه المخرج الوحيد؟ وحين حملنا السلاح هل كنا على صواب , وهل الخطأ في التكتيك , وهل كان هذا الخيار الوحيد لنا من اجل اقامة وطن ديمقراطي للجميع ؟ هل قربنا ذلك من طموحنا لاقامة وطن ديمقراطي وحكم ذاتي لكردستان ؟ هل كان متوقعا ان يعاملنا ذلك النظام بما عرف عنه من قسوة واستبداد...معاملات انسانية قانونية عادلة بعد تبني السياسة الجديدة( الكفاح المسلح واسقاط الدكتاتورية) وهل يوجد خيار ثاني ؟ هذه الاسئلة وغيرها الكثير ظلت تدور بذاكرتي وانا افكر بكتابة أوراقي المتعلقه بالايام السالفة .

تلكم اسئلة هامة وجدية ... ولكن ليس من مهمة هذه الاوراق ان تجيب عليها فمهمتها تنحصر في رواية شهادتي

شهادتك يا عمر ... قد حفزتني ... على ان اروي شهادتي ايضا .

في عام 1969 كنت في مقتبل العمر وذات مساء خريفي داهم مجموعة من المسلحين بيت جارنا أولاد خماس الططو مجيد ورشيد وعلى أثر الضجيج أحتشد الناس . كان الناس يراقبون المشهد عن بعد ويتهامسون فيما بينهم . هل ان رشيد ومجيد متواجدان في البيت ’ الكل يترقبون النتيجة لمعرفة ما ستؤول اليها الامور بعد مداهمة البيت بهذه الطريقة البوليسية . المسلحون في الداخل وعلى السطوح والناس تجمهرت في الدرابين المجاورة وفجأة يتدافع المسلحون وهم يبعدون الحشد بقوة وحقد ويقتادون الاخوين باتجاه السيارة التي تنتظرهم بحراسها المدججين بالسلاح وتنطلق بسرعة جنونية وسط حشود الناس نحو اتجاه مجهول وغير مبالين ان دهسوا. دب الضجيج والتساؤل والفضول وكنت انا أتسائل ايضا , لماذا اقتادوهم عنوة وبهذه الطريقة ؟ ماذا فعلا ليستحقا هذا العقاب ؟ ولكثرة الحاحي بهذه الاسئلة وفضولي المتزايد , اجابني ردام احد كادحي القرية ’ الذي ينظم شعرا رغم انه لايجيد القراءة والكتابة ..... أنهم شيوعيون .. شيوعيون – هذه الكلمة سمعتها اول وهلة وبقيت طيلة تلك الليلة افكر بها ’ ماذا تعني شيوعيون ؟ ومرت ايام ولم اجد اجابة لها ... هذا المشهد اعاد الى ذهني احاديث أهلي واهالي اهل القرية حول بطولة خالي الشيوعي خزعل السعدي ... كان مصدر الهام ومثار اعجاب لكادحي القرية. في خضم هذا التداعي والتسائل ولم يمض الا اسبوع فاجأ اهل القرية ان احد ابنائها ثابت حبيب زيدان ملقى في احدى المقاهي على اثر التعذيب الذي واجههه في اقبية دوائر الامن , كونه احد ابطال القيادة المركزية الجناح الذي تبنى سياسة جديدة تهدف الى اسقاط النظام بقوة السلاح .وبهذه السياسة بات نهجا معارضا لسياسة اللجنة المركزية وخطابها السياسي الهادف الى التعاون مع الحكومة المركزية . هذه الواقعة عززت تساؤلاتي السابقة ولهذا سرعان ما اغتنمت الفرصة حين جاء احد أقربائنا للبيت على اثر خروجه من سجن – قصر النهاية –عبد الرحمن اسماعيل علاوي من ناحية بهرز ,كنت اسمع عنه الكثير من خلال احاديث البيت عن بطولاته النضالية وذات يوم رأيت شريطا سينمائيأ لفيلم ( الفراشة ) كنت اتخيل بطله عبد الرحمن نفسه وانها فرصتي للحصول على الاجوبة التي ظلت تقلقني طويلا . وكانت كدمات وجروح التعذيب لم تشف اثارها من عبد الرحمن بعد عام قضاه في ذلك المبنى السيء الصيت ( قصر النهاية ) . بدأت أسئلتي تزدحم للبحث عن جواب . وبحثي يقترب من ذلك الحلم . الذي بدأ يقترب من روحي , لكن الذي حدث وفي ليل شتائي قارص. تم اقتحام بيتنا وبلمحة بصر غيبوا والدي وقريبنا ولم أشاهده الا بعد عام , اما عبد الرحمن فلم اشاهده الا بعد سنوات عندما هاجم في بيتنا احد اولاد خالي لانه انتمى الى حزب البعث , في النهاية استقر في بغداد للعمل في المقاولات العامة لكنه ظل امينا لتلك المباديء وعقيدته ازدادات رسوخأ في الطريق الذي أنتهجه فضلا عن نعمة الله عليه فلم يتوان عن فتح بيته للشيوعيين المطاردين من اجهزة النظام عامي 1978 – 1979 في بغداد بالرغم من تحفظاته التي كان يجهر بها علنا ضد سياسة قيادة الحزب مع البعثين في مرحلة الجبهة الوطنية . لكن غيبه الموت عام 1980 تاركا ورائه سجل نضالي اقتدينا به .

يذكرني هذا المشهد المأساوي في قرية الهويدر بجرائم عام 1980 سيقت عشرات العوائل عنوة وقسرا الى ايران . بعد ان طل علينا السيد الرئيس بنياشينه العسكرية متوعدا بمهر فريال الغالي بعد أصابتها بجروح في تفجيرات المستنصرية . وحاليا فريال التي كانت أنذارا ببدأ عملية التهجير القسري تعيش لاجئة في الدانمارك . كانت الاشارة الاولى ببدأ تهجير العوائل بعد ان تم حجز أفذاذ اكبادهم . في قرية الهويدر كان لنا مهرجانا اخر يستمر لمدة اسابيع يبدأ في السادسة مساءا بعد ان تغلق القرية وتسد منافذها وتعتم من الضوء في جو ارهابي لايسمح لهم باقتناء حتى حاجاتهم الشخصية ويقومون بافراغ البيت من البشر وانتزاع أهله عنوة وغلق ابوابه . كنت في حينها طالبا في السادس الادبي أستعد لامتحان البكالوريا . وفي درابين بساتين القرية كنا نحن اولادها نطالع دروسنا حين دار النقاش مع البعض حول هذه الاساليب متعرجين من خلال النقاش الى التصفيات التي تمت في الجهاز الحزبي البعثي عام 1979 باعدام محمد عايش ورفاقه . ضمن رؤى تلك السنين اعتبرتهم يسار البعث وهذه هي بداية الرده عما حملتموه وبشرتم به . هذا الحديث عرضني الى الملاحقة وحرماني من الامتحان لولا جهود والدي رغم انه تعرض الى ضغوطات كبيرة لكنه انقذ حياتي .

كانوا يقتحمون البيوت ويضعون الناس في السيارات ونحن اهالي القرية في المقاهي نلوح لهم مودعين اهالينا بغضب واستنكار والم وصمت ... كسر صمتنا عندما وقف الكادر البعثي المقرر تسفيره , مترجلا من السيارة هاتفا ببيت شعر من شعر المتنبي في وسط جموع اهالي القرية:

بلادي وان جارت علي عزيزة وأهلي وان شحوا علي كرام .........

كنت في الصف الثالث المتوسط حينما اختارني الاستاذ زهير خزعل احد الطلبه المتفوقين على مستوى المحافظة وجال بنا في المحافظة بحضور أستاذة ومدراء تربية .

في فضاءات قرية الهويدر .. وجداول بساتينها .. وأزقتها الطينية .. وصفيح بيوتها . تجسد طموحي بتحقيق حلمي بالانتماء . الى كل الخيارات الجميلة.

مرت الايام وكبرت ونما احساسي بالاشياء التي من حولي والتي صارت تشكل هواجسي واحلامي . فكان لابد من الاختيار والانتماء والتنظيم والدخول في معترك السياسة . فبدأنا المشوار النضالي على اسس جديدة يملؤها النقاش والقراءة والبحث والمعرفة من مراجع الفكر والفلسفه .. دكتاتورية البروليتارية .. رأس المال ..الديسبلين .

كنا نتسابق الى حفظ هذه المواد من المصادر والكتب ولكن دون فهم كاف لها . لكن الممارسة الفعلية غذت التجربة وكان لتلك السنين جدواها في الفعل والفكر عندها ادركت ان الاهتمام لابد ان يستند الى قضايانا الوطنية والقومية ..الى تاريخنا وتراثنا الاسلامي , لانه يشكل المنظور الاعمق في عكس الثقافة والوعي بالتاريخ والحضارة على وجود الانسان وفاعليته في المجتمع .

لسنوات عديدة وانا لازلت اعيش تلك الايام واتذكر تلك الساعات المظلمة والمخيفة من حياتي والتي مازلت حتى الان أعاني وأتألم من قساوتها وأثارها وتهاجمني الكوابيس وافكار عديدة تراودني ويلازمني الخوف على الرغم من قوة الانسان وشموخه .. ولكن لاسباب سياسية في بلدان الشرق يضعف ويلطخ بالوحل والاوساخ ........ لانه يتشبث بالحياة ويدافع عن ديمومتها . كل مارويته ياعمر في اعترافك وشهادتك على مالاقيته من قسوة في الشعبة الخامسة كان غيض من فيض.

هل تعرف انا مررت ايضا بهذا المكان الجحيم ومازلت ادفع ثمنه من حياتي وصحتي وروحي ؟ هل تعرف مرات عديدة كانت تداهمني الكوابيس ومهرجانات الدم ورهبة المكان واستغاثة الناس لابقى صاحيا الى بزوغ الفجر ؟.

مازلت اتذكر الناس هناك ولا احد يسمع استغاثتهم ... الا ممن استغاث مثلهم وحس باوجاعهم , سيعيش مثلهم .

تحاصرني بعد هذه السنين الاف الاسئلة وانا اتعذب في البحث عن اجابات شافية لها . باديا في الكتابة , ربما تدلني وترشدني الى حلول واستنتاجات تخفف من اوجاعي او راضيا ببعضها ,هذا مصير من يعارض الاستبداد ويطمح لبناء مجتمع خالي من العسف والظلم ..هذه مسلمات في المجتمعات التي تحكمه دكتاتورية الحزب الواحد . الى يومنا هذا وذاكرتي تحتفظ بتلك الوجوه الكالحة والبعيدة عن الانسانية والتحضر ... لايمتون بصلة للبشر والادمية رغم انهم ( بشر ), لقد تحولوا الى قساة ووحوش ... وأسأل نفسي مرددا وانا قابعا في زنزانتي النتنة وهم

 يتلصصون علي من خرم الباب الوحيد ليلا ونهارا ... من أية طينة جبلوا وهل للقساوة خلقوا ؟ يتلذذون بتعذيبك ويتجلون بألمك وموتك . حامد .... احمد .....محمد ومئات من الاشخاص لم تحضرني أسمائهم ولكن وجوهم لن تمحى من ذاكرتي ماحييت .. ذاكرتي التي ارادوا تدميرها عبثا وبدون جدوى . لكنهم استطاعوا ان يحدثوا شرخأ في نفسيتي ويؤثروا الى حد ما على معنوياتي .... بخزين التهم الموجه اليك .. وزد على ذلك اساليبهم القذرة بشراسة التعذيب ووحشية التفنن في قتل النفس . تمر بك لحظات وانت مطروحا على الارض واقدامهم تسحق رأسك .. انهم وحوش بشرية , محاولا استجداء غصة للتنفس ربما تشعرك انك مازلت حيا .

في يوم 7- 6 – 1987 وقعت في قبضة الاستخبارات العراقية في ظهيرة صيف حار في الطريق ما بين كركوك وطوزخورماتو ... وبعد تسعة ايام كنت مربوطا في زنزانة رقم ثلاثة , وهي واحدة من زنزانات ذلك المبنى المستطيل. هكذا يوحي للمارة من على جسر الائمة . والمطل على نهر دجلة حيث تخفي بعض معالمه اشجار بساتين الكاظمية التي يؤدي احد فروعه الى طريق منطقة التاجي . تلك الزنازين البيضاء اللون والمختلفة الاحجام .. زنزانتي كانت لاتتسع الا لشخص واحد, حالكة الظلام لا ترى الضوء الا عندما تقف وترى من خلال فتحة صغيرة واقعة في اعالي الباب بحجم قبضة اليد ومع هذا مشبكة بالحديد, منفذ الضوء بحجم القلم لتتمكن من خلاله ان ترى بصيصا من الضوء .. وقد يعرضك هذا البصيص الى جعلك في قائمة الموتى فيما لو شاهدك احدهم وهو يجوب الممرات جيئة وذهابا . فرشت الزنزانة ببطانية سوداء رثة تنتشر منها رائحة دم . دهشتي الاولى بدأت مع دبيب القمل, لكن بعد فترة وبحكم التعود ... باتت حركة النمل لهوي الوحيد في قضاء الوقت وحساب المستقبل من خلال اصطياده , لكنه بدا يزداد يوما بعد يوم . في كردستان العراق أيام النضال في الكفاح المسلح ومقارعة الدكتاتورية , كان يجمعنا موقد النار الساحر وانفجارات اصوات البلوط لاجل اعدادها للأكل في ليالي الشتاء القارص ورغم قساوتها لكنها تبقى الامثل في حياتي لاهدافها النبيلة ... وكان لدبيب القمل حصته ايضا في البحث عنه في مثل هذه الاجواء من اوقات فراغنا بين عقد وزوايا ملابسنا ورميه في النار لنستمتع بأصوات انتحاره.

عندما كان يطرق سمعي بقربهم من زنزانتي ومن ذلك الباب الحديدي الموصد بسلاسل واقفال ينتابني الخوف ببداية مشوار جديد للتعذيب والالام ........... للموت الذي كنت انتظره بحكم أهانة الحياة هناك يصبح مألوفا ولا عليك الا انتظاره ... بل تمنيته وحاولت الاسراع بموتي ولكن بدون ان اتمكن منه في تلك اللحظات المرة والمفجعة في حياة الانسان . كنت احاول الحفاظ على ما املك من اسرار وما احمله من امانة لكي لا ارغم على البوح بها, مستعينا بقوة الاعتداد والاصرار . فانا احتفظ لاولئك البشر مواقفهم الشجاعة والنبيلة في الاستعداد والنضال ,. للناس الذين فتحوا بيوتهم لي , سيبقون خالدين في ضميري .. وساحميهم حتى لو ارادوا قطع رقبتي وهذا عهد قطعته على نفسي في لحظة وقوعي بين ايديهم .

كانت كلما تطول الفترة يزداد التعذيب وحشية وخوفي يتفاقم من المجهول وما تخفيه الايام القادمة .. لانه في كل جولة من التعذيب يفاجئونك بمعلومات جديدة ربما بعضها تخمينية اكثر مما هي حقيقيه . لكن كاي جهاز استخباراتي يبني احتمالات لاجل الوصول الى نتيجة .

تقع زنزانتي في ركن المبنى المستطيل وتحمل رقم ثلاثة .... وبمرور الوقت تصبح عندهم مجرد رقم . كانت تقابل بركة المراحيض ( التواليت ) والتي هي عبارة عن غرفة مغلقة باربعة جدران .... وبعمق متر ... ولها منفذ الى نهر دجلة تفرغ عندما تمتلي وهذا يحتاج الى ايام ولها فتحة بوسع الباب للدخول والخروج وتحتوي على دكة ....

عندما اذهب الى تلك البركة يكون جسمي قد غاص الى نصفه في الغائط .... وعندما اخرج اقف صامتا على البركة ونظري تحت الارض . ويقوم احدهم بتنظيف جسمي من مسافة بعيدة من خرطوم الماء ( الصوندة ) يرش احدهم الماء عليك من مسافة بعيدة وبقوة دفع كبيرة وان ارادوا التقرب منك ستكون في عداد الموتى .... ولديك ثواني معدودة لقضاء الحاجة . وان اضطررت ستكون في داخل الزنزانة . جناحنا كان يتضمن زنازين انفرادية بارقام فردية . كنت الاقرب الى موقع المراحيض من الجانب الايمن من الدخول الرئيسي . وكان استعمالها جماعي . ومقابل زنزانتي توجد طلعة موصدة بباب حديدي احيانا تفتح . أشعر بها من خلال نسمات الهواء العذبة . كنت اتسابق مع اقدامهم ووقعها لاتمتع بنظرة خاطفة الى مياه دجلة العذب من خلال فتحة الباب الحديدية ... كنت اعرف ان هذا النهر قد روي بدماء الاف الشهداء ليكونوا طعاما للاسماك بعد اعدامهم . هذة الوقائع تعيدني الى ماضي بعيد من ايام النضال والحماس يعيد بي روح الاصرار والمواصلة . رغم رهبة الخوف والموت . هذا المبنى الرهيب لي معه ذكريات عشتها ففيه كنت اصغي لاصوات رفاق واصدقاء ساقهم الحظ العاثر اليه . وقد علق احدهم وهو يشيد ببسالة رفاقنا الالمان عندما قال ....... لقد شيد الالمان الشرقيون هذا المبنى خصيصا لقتل الشيوعيين العراقيين .

كانوا يستخدمون كل الاساليب لاجبارنا على الحبو او تقليدنا لاصوات الحيوانات كاسلوب لتجريدنا من ادميتنا ولزرع عوامل الخذلان واليأس والاحباط فينا . حتى عندما تنتهي من حاجتك وفي الطريق الى الزنزانة تجدهم في طريقك واقفين ويتحينون الفرصة في توجيه الضربة تلو الاخرى مع سيل من السب والشتائم السوقية .

كانوا يتسلون بتعذيبنا . لكنهم يتظاهرون بالضجر من وجودنا . فبعد النزول من دكة عتبة باب دخول التواليت مباشرة يكون في انتظارك احدهم يحمل في يده طاسة من الماء والصابون ليقوم بمهمة صوبنة وجهك .... وما عليك راغما الا ان تنظر الى الاسفل ..... وممنوع ان ترفع عينك او تنظر الى احدهم ... اما مهمة الثاني تكون بيده ماكنة حلاقة ليقوم بحلاقة وجهك بطريقة همجية وفي طريق العودة الى الزنزانة تختلط في وجهك فقاعات الصابون مع سيل من الدماء .

كنت ارغب كثيرا ان ابقى داخل الزنزانة لاتجاوز هذا المواقف المؤلمة . جربت مرة واحدة فهجموا علي داخل الزنزانة حين حاولت التباطؤ في الخروج . وفي نفس اليوم بلغوني بقانون المعتقل حيث تواجه فورا عقوبة الاعدام . دمدمت مع نفسي هامسا ان كنت محظوظا لاتخلص من هذا العذاب . ومن القوانين الصارمة جدا هو قانون النوم ... النوم يكون اجباريا في الساعة الثانية عشرا ليلا والنهوض في الساعة السادسة صباحا وخلاف ذلك ستكون حياتك في خطر دائم . مرة كنت منهكا من تعذيب اليوم الذي سبق حيت لم استطع المقاومة ... غلبني التعب والنعاس والالم , فاستسلمت الى النوم ضنا مني انهم اكتفوا بتعذيبي هذه الليلة . ولكنهم كالكلاب المسعورة يتلصصون ليلا من خلال خرم الباب المشبك بسبب العتمة في الزنزانة والتي لم تسمح لهم رؤيتي داخل الزنزانة . ففتحوا باب الزنزانة ليتأكدوا من وجودي داخلها . ورغم قوة صليل الاقفال والسلاسل الحديدية لم تفيقني من نومي ولم احس بوجودهم في الزنزانة من شدة الارهاق والتعب . ولكني فزعت ولم اشعر بشيء الا عندما انقضوا علي . في داخل زنزانتي التي لاتتسع الا لتمدد جسمك فيها تلقيت حصتي من التعذيب لهذا اليوم, تعذيبا مضاعفا ربما اختاروا هذا المكان لزحمة الواقفين في دور الانتظار والجالسين على ركابهم امام غرف التعذيب والمجهزة باساليب وادوات حديثة ومتطورة ومرات عديده اخرجوني الى ممرات غرف التعذيب معصوب العين مقيد اليدين وموضوعة الى الخلف واحيانا مقيد القدمين من المساء حتى طلوع الفجر ... واعود ثانية الى الزنزانة في انتظار دوري الذي يكون قد اقترب قليلا . وانا في حالة الانتظار المشدودة الاعصاب يشق سماعي الانين والصراخ وصوت التوسل احيانا بالكف عن الضرب والتعذيب , وهذا لايزيدهم الا ضربا مبرحا بالكابلات والصراخ بالكلمات البذيئة وسماع الاصوات الهستيرية , بعد أن عذبوني ضربا وشتما أجبروني أن أقف داخل الزنزانة حتى الصباح مرفوع اليدين وعلى رجل واحدة وكأني اقف على قمة جبل سورين الذي احتضنت صخوره وضمني داخل كهوفه لسنين . هذه الذكريات تدور برأسي لتعود بي الى عام1987 .

 

 

 

 

 

 

مدن كردستان تنتفض

 

في عام 1987 وفي صيف ساخن باحداثه السياسية حدث تململ جماهيري وفعاليات عسكرية واسعة في مدن كردستان تواكبا مع تطورات الاحداث , أدت الى سقوط ناحيتي ( نوجول) في قاطع كرميان بيد انصار الحزب الشيوعي العراقي و قرداغ) في محافظة سليمانية بيد قوات البشمركة المشتركة . في خضم هذه التطورات والاحداث المتسارعة والتي سبقت التقيمات والتقديرات بسرعة حدوثها , كنت في الطريق مع مفرزة انصارية متوجها الى قاطع سليمانية وكركوك بعد ان تركته في نهاية 1985 الى قاطع بهدينان بعد ان سدت منافذ العبور وصعوبة التحرك والتوجه بالنزول الى بغداد الحبيبة نتيجة سياسة الاحتراب مع قوات الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) . أدت بنا هذه النزاعات المسلحة الى حصرنا في الشريط الحدودي مع ايران في مناطق سليمانية , مستعينين بمفارز صغيرة تعمل بالسر والخفاء وهم من ابناء المنطقة ( كري منطقة ) .

وصلت الى قاطع بهدينان الفصيل المستقل الذي يعني بتنظيمات الداخل والذي يوجد فيه عشرات من الكوادر الحزبية . لكن عدد الرفاق الذي يتوجه الى الداخل من مجموع عدد الفصيل لايتناسب لاطرديا ولاعكسيا مع العدد الموجود .

في قاطع بهدينان كانت كل الطرق سالكة تقريبا بما فيها النزول الى بغداد طبعا على الرغم من وجود بعض المخاطر الجدية. . كان رفاق محلية الموصل متمكنين من مد الخيوط والاتصالات بالمدن والقصبات الميحطة بمدينة الموصل وحتى داخل المدينة . وكان للرفاق ابو داود – خديداختاري- وصباح كنجي وعامل تأثيراتهم الواضحة في التحرك في دشت الموصل . من خلال هذه العلاقات والتحركات تمكنت من النزول الى بغداد مرتين في عام 1986 من خلال المحطات الحزبية . وسبقني في النزول الى بغداد مجموعتين كانت الاولى مكونه من الرفاق الشهداء ابو احمد – ابو سرمد – ابو بشرى – ابو سالار . اما التحرك الثاني فكان ممثلا بالرفاق , الشهيد ابو اثير ( علي الجبوري ) وابو عبير ( عبد فيصل ) .اود ان اذكر هنا ان عملية الصعود الثاني الى كردستان , اخذته على عاتقي الشخصي ربما في حينها كنت مضطرا . وصلت من بغداد الى الموصل . وركبت سيارة أجرة الى قضاء شيخان وفي وسط الطريق نزلت متوجها الى احدى القرى الصغيرة حيث توجد لنا فيها عائلة اشورية رب البيت مقاتل معنا . بقيت ليلتان في البيت وكان يوجد في البيت ضيوف من بغداد, جرى الحديث معهم في الليل ودارت نقاشات بيننا طويلة وتساؤلات محرجة عن تطورات الوضع السياسي ومستقبل وجدوى تجربتنا في تغيرات الوضع السائد وكنا جالسين على اضواء الشموع لانه كانت مشمولة بخطة السلطة في قطع التيار الكهربائي عن القرى . اما في النهار كنت لااخرج من محيط الغرفة تحسبا ان يراني احد من اهالي القرية . في اليوم التالي تسللوا من الجبل ليلا بعد وصول خبر وصولي .جاء رب البيت مع الرفيق عامل . لكن عويل الكلاب في القرية دفع الربايا والمواقع العسكرية المحيطة بتشغيل التنوير على القرية مما اضطررنا على التخفي داخل القرية تحسبا من تقدم الجيش ومفارز المخابرات باتجاهنا , لان امكانية العودة الى سلسلة جبال القوش وشيخان في نفس الليلة ضربا من المستحيل بسبب تعب الرفيقين وقرب بزوغ الفجر . لضرورة الخبر وأهميته اضطررت العوده ثانية بسبب الارتباك الحاصل و الذي من الممكن ان يعرضني الى الموت . حيث تمكنت من ايجاد عمل مناسب ومكان أمن بعيدا عن اعين الرقيب في العاصمة بغداد . وبدأت التحرك بهدوء ودقة بعد ان توفرت مستلزمات التحرك للعمل الحزبي بمد الخطوط والاتصال بالناس وسط صعوبات جمة في ساحة العمل الحزبي التي تركتها مضطرا عام 1983 ثلاث سنوات كانت كافية وكفيلة في ظل الارهاب بضياع الجهود السابقة التي بنيت بالدم وذهب ضحية هذا العمل رفاق أخص بالذكر كريم خروع من اهالي السماوة البطلة , حيث اعتقل اثناء عمله في صيدلية خاله بشارع الجمهورية ببغداد . واثناء تلقي الخبر حاولت الابتعاد عن اللقاءات تحسبا ان يدلي باعترافات تسبب لنا كارثة , لكنه كما أتضح وعرفناه فيما بعد فقد استشهد تحت التعذيب ولم يعترف مدافعا وببساله عن الشيوعية وهذا يعد واحد من جنود الحزب المجهولين .

كان عام 1986 عام حزن وضياع رفاق درب . عام بداية تحطيم تنظيم المنطقة الوسطى وتحديدا في بساتين ( جديدة الشط )حيث تمكنت مجموعة بطلة من الشيوعيين العراقيين من التسلل من جبال كردستان وبناء قواعد حزبية في ريف ديالى . منطلقين من احدى بساتينها للعمل الحزبي . تعرضوا الى هجمة شرسة في ساعة صفر واحدة يوم 01-01 –1986 . وكان مسؤول التنظيم ابو ناصر وقيادة الحزب في كردستان بعيدين عما حدث من تطورات . يجهلون المعلومات عن اسباب وخطوط الضربة بكل تفاصيلها ودقائقها . كان الموعد الحزبي المهم والمحدد لي مسبقا مع الرفيق والصديق سلام العجيلي ( ابو الجاسم ) المقيم حاليا في مدينة أستوكهولم . تكرر الموعد مرتين حسب الاتفاق في بغداد وتحديدا في موقف الباص مقابل السينما الواقعة في حي الاعظمية . التي تحولت الان الى مسرح السلام . ولكن لم التقيه في كلا المرتين شعرت بالقلق ورحت ابحث عن اسباب عدم حضوره في الموعد المحدد . كنت اعيش في ظروف صعبة من ناحية السكن والتحرك بأمان .

بدأت الشكوك تطاردني في تحركاتي واتصالاتي . والاحتمالات السيئة التي ربما

كانت اكثر من الواقع . لكن عمل بهذا المستوى وفي مثل هذه الظروف تستدعي ذلك . ومما زاد تخوفي هو تلقفي لاطراف حديث من بعض الاصدقاء القريبين لنا والذين التقيتهم في بغداد . كلامأ يفيد بان وكر للشيوعيين تعرض للمداهمة في مدينة الراشدية ... وحسب معلوماتي فان ابو الجاسم متواجد في هذا المكان . أذن سأكون انا تحت مراقبتهم .

تحركنا انا والرفيق ابو الجاسم في نهاية شباط 1986 من موقع الفصيل المستقل في منطقة ( زيوة ) مع مفرزة انصار من الشيوعيين باتجاه مناطق دشت الموصل . وكان موقع الفوج الاول واقليم كردستان أخر نقطة التقاء لنا ووضع اللمسات الاخيرة لاسلوب عملنا وطرق التحرك والاتصالات في الداخل . ودعنا بعضنا انا وابو جاسم بعناق كبر العراق . وتعهدنا بروح الشهداء ان نحافظ على مبادئنا, وسبقته في النزول الى بغداد باتفاق بعد ايام معدودة سألتقيه في بغداد .

ان تقديراتي وضمن تجربتي البسيطة والمتواضعة وهذا ماخرجت به من عملي في هذا المجال ان الرفيق في لحظة تركه الموقع يفقد الاتصال بالمركزفتصبح اخباره في خبر كان . حيث لم يعد التنظيم ولاحتى يحاول المتابعة عن حياة الرفيق ولهذا تبقى الشكوك هي الكفة الغالبة في هذا النوع من العمل ,فثمة رفاق وقعوا بيد السلطة وتعاونوا معها واخفوها عن الحزب وكانوا يقدمون تقارير كاذبة عن حياتهم في داخل العراق . والتجربة كشفت بمختلف الطرق عدد من الحالات تورطوا بهذا العمل . والذين يتربعون على عرش هذا النوع من العمل الخطر والمهم لم تسعفهم مؤهلاتهم على مواكبة حقيقة مايجري في الداخل . واصبحت قيادة هذا النوع من العمل اسلوبا للتظاهر والاستعراض .... اكثر مما هو نضالي ومقدس . وزد على ذلك ان هذا النوع من العمل خضع الى اسلوب المنافسة . ايهما قادر ان يزج اكبر عدد من الرفاق الى الداخل بدون تمحيص وتدقيق ولهذا ظلت منظمات الداخل مجهولة وملغومة من الداخل . وهذا ما اثر بدوره على سمعة الحزب بين الجماهير وضعف مواقعه . احد مندوبي المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي دعي للحضور من الداخل . لكن اثناء وقائع جلسات المؤتمر حجر وعزل في مكان معزول لكثرة الشبهات حوله غير ان الاصطفافات بعد المؤتمر والتي لم تخلو من الكولسه والاقليميات والارتياحات عادته مرة ثانية الى الداخل رغم الاعتراضات الشديدة وقد ادت تلك السياسات الى الحاق افدح الاضرار فيما بعد بالتنظيم واستشهاد عدد من الرفاق . ودعت ابو جاسم مع رفاق محلية الموصل خديدا ختاري ( ابو داود ) وصباح كنجي وعامل . بعد يومين من المسير على تلال واطراف مدينة الموصل .

رافقت مسيرتنا تحركات مكثفة وواسعة أشبه باستنفار عسكري من أجهزة السلطة في المنطقة . مما دفعنا ان نختفي في شكوت ( كهف صغير ) لمدة ثلاثة ايام في سفح جبل متين مطل على الشارع بين اقضية القوش وشيخان . وكان غذاءنا اليومي في كل الوجبات زيتون معد قبل فترة وجيزة ومخبأ في الكهف . ولم يكن قد جهز للطعام لكن اضطررنا على أكله جعلنا أن نقضي عليه . بعد ان خفت التحركات من خلال المعلومات التي وصلت لنا . تحركنا ليلا باتجاه دشت الموصل وكانت الاراضي محروثة حديثا ومعدة للزراعة ونزل عليها مطرا كثيفا مما عاق تحركنا وأخرنا في الوصول على الموعد المحدد بعد ان ضللنا الطريق الى قرية ( دوغات ) . داهمنا الصباح وبدأت حركة السيارات بين الموصل ونواحيها فضاق الوقت بنا والخطر يداهمنا . لكن ما اسعفنا هو وجود حفرة صغيرة ومعدة لهذه الايام من الطواريء ومهيأ بشكل جيد . كانت من داخلها مغلفة بالخشب ومدخلها عبارة عن صخرة بمستوى انبساط الارض لاتثير اي انتباه وحشرنا بها ثلاثة رفاق انا وصباح وابو داود رغم انها لاتتسع الا لشخص واحد . من الساعة الخامسة صباحا حتى السادسة مساءا . كنا نسمع ضجيج اصوات السيارات وحديث الرعاة واصوات الماشية . تحت جنح الظلام تحركنا باتجاه قرية دوغات الى بيت احد رفاقنا . واستقبلنا بحفاوة كبيرة . في الصباح توجهت مع احد الرفاق من التنظيم المدني بسيارته ( التاكسي ) الى مدينة الموصل . ولدواعي أمنية بقيت في الموصل اتجول وحدي للتأكد من عدم مراقبتي. في الليل ذهبت الى المحطة وركبت مع عدد من الناس في سيارة متوجهة الى العاصمة الحبيبه . مع طلوع الفجر كنت في بغداد في منطقة علاوي الحلة . ذهبت الى من كنت أحس بحسن استقبالهم لي . هدى – عالية – سعد - علي - ورغم كل ظروفهم الصعبة والرعب الذي يسكن نفوسهم . فتحوا لي ابوابهم بعد قلوبهم وفاءا لمعروف قديم سبق لي ان قمت به . بدأت اعيد اتصالاتي بعدما فقدت الأمل في اللقاء بالرفيق ابو الجاسم . ابحث عن ادوات الامان بحدود السكن, مع هذا بقيت أمر على نفس الموعد والمكان وانا جالس في الباص عسى لعلي اعثر على ابو جاسم .

قضيت الايام الاولى بصعوبة بالغة وخاصة في الليل . كانت ساحة النهضة في بغداد ولمرات عديده مناما امنا مفترشا ارضها لقضاء ليلة اخرى مع الجنود القادمين والذاهبين الى جبهات القتال مع ايران . لكن كنت في الاغلب اقضي ليالي التعيسة في القطار الواصل بين بغداد والموصل . اتصلت اولا بالدكتور كريم دبش( يعيش الان في اليمن) وحددت موعدا للقاء به في الكاظمية . جرنا الحديث الى كورنيش الاعظمية مشيا على الاقدام فهو مكان لا يثير اي انتباه باعتباره ملجا امنا لتسامر العشاق . عادت بي الذاكرة سنيين الى الوراء عندما كنت طالبا في الجامعة, كنا نذهب مجموعة من الطلبة الى مكتبة الاعظمية للقراءة ومتابعة الدراسة وبعدها نذهب الى اماكن الهدوء هذه لنتمتع بشواطيء ومياة دجلة العذب .

ثمة طلبة جمعتهم ظروف الدراسة والزمالة والرفقة وضربا من التجاذب الروحي رغم التباعد الجغرافي والانتماء السياسي. وذات مرة انا وزميلتي انعام وهي من اصول هندية بالرغم من وشائج الصلة في علاقة متنامية من خلال الاهتمام المتبادل والذي لم يدم طويلا لصعوبة الاجواء السائدة انذاك , دار نقاش بيننا اثر ظهور ( القائد) في اجتماع مجلس الوزراء عام 1982 , وامتد النقاش حتى قرار اعدام وزير الصحة العراقي رياض حسين لمحاولته (استيراد ادوية سامة لمعالجة جرحى الحرب) . كانت انعام تناقشني بقناعة مؤكدة ادعاءات( السيد القائد) . في الوقت الذي لم تسألني يوما لماذا لم اكن بعثيا . كنا انا والدكتور كريم في كورنيش الاعظمية نرى العشاق يتهامسون تحت ضلال الاشجار ونحن مشغوليين في استقراء الوضع السياسي وامكانية العمل الحزبي في الداخل . في هذا الوقت لم تنقطع محاولاتي رغم كل الظروف الصعبة التي واجهتني في تفسير غياب ابو جاسم عن الموعد والاحاديث المتناقلة على ألسن الشارع من ان هناك كبسة تمت لوكر شيوعي في قرية ( جديدة الشط ) الذي يعد المرجع الحزبي لي . تكللت محاولاتي بالنجاح للوصول الى الموقع من خلال أمراة مسنة ومازالت حية ترزق في العراق . بعد ان تمكنت من الوصول الى الموقع , تعرضت الى التهديد بالتسليم الى السلطات من قبل الشيخ صفوك خوفا من ان تكون مرسلة من النظام لان هذه الاساليب كانت مألوفة وزد على ذلك كان اغلب افراد عائلة هذا الشيخ معتقلين وبضمنهم النساء أم ستار وسفانة . لكن استطاعت ان تقنع العائلة بشرف مهمتها من خلال تقديم بعض التطمينات . وحصلت على رسالة تفصيلية حول الضربة واضرارها وابعادها النفسية والمادية . سلمت الرسالة لي في بغداد في منتصف عام 1986 . هنا توجب صعودي الى كردستان لانه قيادة التنظيم كانت تجهل تفاصيل الهجمة على الموقع الحزبي . في هذا الوقت ايضا كنت المراسل الحزبي ربما الوحيد لصحافة الحزب وخصوصا طريق الشعب حيث يتم تزويدها بالاخبار اليومية والدقيقة وممكن مراجعة أرشيفها لعام 1986 وبمعاونة رفاق واصدقاء لي . واحدة من الاخبار التي نشرت في طريق الشعب هو طرد ابن خالي الطيار سعدي طالب السعدي كوني من اقربائه ومعادي للسلطة . حيث استدعي الى دائرة الاستخبارات العسكرية كونه اخفى معلومات عني وسليل عائلة معادية . بعد سقوط النظام 2003 عثروا اقربائي على وثيقة في المخابرات العامة معنونة الى كافة المؤسسات الامنية والحزبية في البحث عني ومذكور ايضا اسم ابن خالي سعدي السعدي وموقعه من قبل علي حسن المجيد. وسأقوم بنشرها في نهاية الكتاب .

بعد فترة من وصولي الى قاطع بهدينان بلغت حزبيا بتغير مجرى عملنا الحزبي و العودة ثانية الى قاطع سليمانية وكركوك وكانت هناك مستجدات أملتها علينا ظروف العمل اللاحق وهي الاندساسات التي كشف عنها من خلال اعترافات البعض وتقديمها لاجهزة السلطة خطوط العمل والمحطات في التحرك نحو الداخل . كان فالح حسن ( ابو بهاء ) واحدا من هؤلآء المندسين و تمت تصفيته جسديا بعد ان ادلى باعترافاته الكاملة ولجسامة الاضرار التي لحقها بالتنظيم.ولطبيعة المخاطر وجديتها على صعيد الوضع الامني في العراق طلبت وبالحاح من ابو ناصر ان اعود الى الداخل وبنفس الطريق، وفي حالة الصعود سالتحق من قاطع سليمانية وتحديدا عبر منظمتي السابقه ( الصدى) التي اعتز باسلوب عملها وطريقة تحركها ودورها الكبير في لملمة الناس المقطوعة من الحزب او بالاحرى التي تركت بدون توجيهات عملية للمرحلة المقبلة وعلى اسس تنظيمية جديدة املتها ظروف البلد أنذاك حيث انها واكبت كل تطورات البلد من المتغيرات . أبدى ابو ناصر تحفظاته على منظمة الصدى والتنسيق معها لدواعي أمنية. اما انا فكان ترددي وخوفي من خلال بعض الحجج المقنعة لكن لم تراع ولم يعتد بها وحدث ما توقعته وطرحته. واخيرا التزمت الصمت مما فرض علي من توجيهات وقرارات بعدما شعرت ان حججي لم تلق ترحابا فالنتيجة كانت مأساوية وغير مرضية للجميع.

تحركنا مع مفرزة انصارية صغيرة من منطقة بهدينان وتحديدا من مقراتنا في منطقة ( زيوة ) باتجاة منطقة لولان عبورا الى قاطع سليمانية ومرورا بالمدن الايرانية . وفي لولان تأخرنا عدة شهور بسبب رداءة الجو حيث الثلوج غطت قمم الجبال فعرقل عبورنا . استقريت في منطقة بوربيان مع ابو ناصر و علي الشرطي الطاريء علينا اصلا ووجوده كان خطأ. عقدت اللجنة المركزية اجتماعها الاعتيادي وهذا اول اجتماع يعقد بعد المؤتمر الرابع للحزب. حضر ابو ناصر الاجتماع وكان واضحا عليه انه قد بلغ من قيادة الحزب بانه من العشرة المبشرة باحتلال مواقع قياديه مرموقه, خارجا ببركان من الهمم والمعنويات العالية . بالامس فقط كان مترددا ويشكوا كثيرا ويطالب بالسفر الى الخارج للراحة ,علما ان الرفيق ابو ناصر كان من الناس المناضلين ويتمتع بنكران ذات قل نظيره . في بهدينان عندما تعرضت غرفة الرفيق ثابت حبيب ( ابو حسان ) الى قصف مدفعي من السلطة وهدمت على إثره قام ابو ناصر وبمساعدتي ببناء غرفته مجددا في الوقت الذي لم يجرؤ العديد من الرفاق على التقرب من غرفة ابو حسان لخلافاته مع الحزب حول الوضع الامني . بعد المؤتمر الرابع تم تعين اعضاء اللجنة المركزية من قبل سكرتير الحزب عزيز محمد – فبقى لغزا محيرا واحد داخل والاخر خارج . في لولان ايضا ودعنا الرفيق مهدي عبد الكريم أثر سكته قلبية ألمت به ولم تمهله طويلا . وفي اليوم التالي تم تشييعه ودفنه في مقبرة لولان رغم كثافة الثلوج . وابنه رحيم عجينة في تشييع مهيب وحزين ومؤثر.

في منطقة لولان التقيت بالشهيد البطل علي الجبوري ( ابو احمد ) كان توا عائدا من بغداد ,وجدته هذه المرة محبطا من خلال استعراضه للوضع التنظيمي والسياسي . تحدثنا لايام عن مجمل قضايا تخص الاوضاع والعمل في داخل العراق تربطني بهذا المناضل وشائج رفاقية عميقة فعندما حاولت من سوريا الخروج الى براغ تطلب الموقف كتاب تأييد للحصول على فيزة للجواز اليمني الذي احمله وممكن الحصول عليها من مقر الحزب في دمشق , هم الرفيق ابو احمد الذهاب الى المقر حامل جوازي للحصول عليها ,التقى في المقر لبيد عباوي حيث امتنع الاخير عن اعطائي كتاب تأيد للسفارة الشيكية بسببا علاقتي بباقر ابراهيم وعامر عبدالله فهم يستطيعون حسب رأيه الحصول على الفيزة فواجهه الرفيق ابو احمد بعنف مسمعا اياه كلمات ربما لم يسمعها طيلة حياته .في المساء التقى ابو احمد بالرفيق ابو داود طالبا منه ان يبلغني بالذهاب الى المقر وسيجد الكتاب جاهزا وهذا ماتم فعلا . في لولان – كشفت مايجول في دواخلي من تردد وخوف حول طرق واساليب العمل في التوجهات الجديدة والمرتبطة بتغير امكنة عملنا وتحركنا الجديد . لكنه حاول ان يخفف عني عبء التردد بحديثه المسؤول والعقلاني لكنه لم يهمل افكاري ورؤيتي للمستقبل . في خضم هذا النقاش والحلول سؤلنا في لولان من قبل العاملين في موقع الاعلام باعتبارنا واصلين جدد من بغداد عن مانشيت عريض وجذاب في صدر جريدة الحزب طريق الشعب يشير الى ان هناك في بغداد وتحديدا في كلية التربية الرياضية واكادمية الفنون الجميلة اندلاع موجة من الاحتجاجات والمظاهرات ادت الى الاصطدام مع اجهزة السلطة في بغداد ,وفي هذا التاريخ المحدد كنا انا وابو احمد في بغداد , نفينا الخبر وبدل بمانشيت اخر . وكانت السلطة العراقية لمرات عديدة تقوم بتضليلنا من خلال تسريب اخبار كاذبة لنا عن طريق وكلائها في المنطقة .فكيف الخبر سيجد مصداقيته في تسريب وكلاء السلطة لنا وان وقوع الحدث يشير في ذلك الى كليات مغلقة مثل التربية والاكاديمية . حدث ذات مرة عندما كنت في قاطع سليمانية في منطقة مصيف أحمداوة عام 1984 ان هناك مظاهرات في بغداد بمنطقة السنك, انه خبر منشور في جريدة مركزية وبالنتيجة فهو عار عن الصحة. ينبغي اولا التأكد من صحة الاخبار لما له من اضرار بليغة على سمعة الحزب وضعف موقعه وبمصداقية خطابه السياسي بين الجماهير .

في الربيع ذابت الثلوج من قمم الجبال فتوجهنا الى ايران قاصدين مناطق زيوة التابعة لمحافظة الرضائية حاملين أوراق الحزب الديمقراطي الكردستاني تحسبا وتمويها على المخابرات الايرانية وكان معنا عمر الشيخ ابو فاروق . بعد يوم واحد وصلنا الى مناطق زيوة مقر حزبنا بقيادة الرفاق ابو هيوا وابو حكمت . بعد يومين من وجودي طلبت من ابو ناصر ان اسبقهم الى مناطق ( بشدر ) حيث مقرات الحزب الجديدة رغم اجواء المدينة الهادئة والبعيدة عن الصعوبات وحاجة الرفاق الملحة للراحة والاستجمام للابتعاد عن اجواء حرب الانصار واليوميات المملة احيانا . بعد الحاح واصرار مني سافرت الى مناطق بشدر مع احد الرفاق الاكراد وبقيت في الموقع (دولا كوكه) بانتظار تحرك المفرزة ووصول ابو ناصر من ايران . في معمعة هذا التأخير التحقت في مواقع الربية للكمائن المتقدمة والمطلة على سهول مناطق ( قلعة دزة ) لمراقبة تحركات اجهزة السلطة وجحوشها وان نتفاجأ بافواج من الجحوش تسلم نفسها بقادتها واسلحتها من خلال العبور من موقعنا الى مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني في الاراضي الايرانية وفي وقتها طلبت من مسؤول المفرزة بالتحقيق معهم وتجريدهم من السلاح, تحجج المسؤول بأمر قيادة القاطع السماح لهم بالعبور عبر موقعنا .

تخلف عنا الرفيق ابو جاسم في موقع بهدينان بسبب الام في رجله والتحق بنا لاحقا في قاطع سليمانية وفي منطقة زيوة الايرانية , قبل السفر ألتقينا انا والشهيد علي الجبوري ابو احمد بالرفيق سامي حركات بناءا على موعد مسبق مع ابو احمد وكانت بالنسبة لي المرة الاولى التقي به والذي اصبح فيما بعد ومن خلال هذا اللقاء تقارب فكري وسياسي بيننا. وجدته عكس ماقيل عنه من سخافات بحق رفيق الامس فهوشاب دمث الاخلاق ومعشره طيب ودافيء ويحمل مؤهلات سياسية وفكرية ومشاريع ثورية مؤجلة , طموح تتلمس من خلاله رؤياه السياسية و أصراره على التحدي وروح المواصلة وقد تم اللقاء خلسة وبعيدا عن اعين الرقيب وكان ضيفا على مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني في زيوة الايرانية. وقد شكا لنا سوء المعامله ولغة التخوين والتهميش بحقه وما تعرض له من قساوة وتعذيب هو ورفاقه في الزنزانات الفردية في منطقة ( بارزان ) واستشهاد الرفيق منتصر تحت التعذيب الذي كان يمارسه النصير سياميد وهو من اهالي اربيل والذي سلم نفسه الى السلطات العراقية فيما بعد وكانت اللجنة التحقيقية برئاسة الدكتور مهند البراك ( صادق ) .وبعد ان اخذت الامور منحا خطيرا دفع بالرفيق ابو جاسم ( قاسم داود سلمان ) الى مخاطبة عزيز محمد جالبا معه بعض ادوات التعذيب وقميص الشهيد منتصر مضرجا بالدماء . وما كان من الاخير الا ان أمر باطلاق سراحهم وتركهم على الحدود الايرانية باعتبارهم عملاء للسلطات العراقيه فوقعوا بقبضة ورحمة المخابرات الايرانية . كان سامي حركات يتحدث لنا بألم عما تعرضوا له من ممارسات دنيئة . فالرفيق ابو احمد استنكر هذه الاساليب في التعامل مع الرفاق الذين يختلفون مع سياسة الحزب محاولا تهدئة الموقف بحديث استطاع ان يمتص به غضب سامي وهو يتحدث بعصبية . ان ظاهرة اتهام الاخرين ترسخت في العقد الاخير ربما واحدة من اسبابها الظروف الاستثنائية التي مر بها الحزب في الابتعاد عن الجماهير , لكن هذه الظاهرة زادتهم انعزالا وابتعادا . ربما يكون الاسلوب الاضعف هو مهاجمة مخالفيهم في الرأي والفكر . وهذا احد النتائج السلبية جراء انعدام الديمقراطية في الحياة الحزبية. في السنوات الاخيرة اخذ هذا الاسلوب يضعف بل يفقد مصداقيته بل والأكثر من ذلك برزت انعكاساته السلبية بفرز نتائج وخيمة على سمعة الحزب وجماهيرته ونفور اعداد متزايدة من التنظيم واختلت مواقعنا الطبيعية وسط الناس والمجتمع . تقول الاديبة والفنانة – حياة شرارة ... على لسان اختها بلقيس شرارة ..

 ( ان بعد تردي الوضع العام . عام 1961 حيث وجد ان عراق نوري السعيد وعراق الثورة لايختلفان . فقررت حياة الذهاب الى موسكو للدراسة لانها كانت مصممة على ترك الحزب الشيوعي بعدما خاب ظنها في العمل السياسي . وكانت على اختلاف مع الشيوعيين ولم يكن بوسعها ترك الحزب والبقاء في الداخل حيث سيتحول بعض اعضائه الى مهاجمتها ونعتها بالخيانة والجبن . الامر الذي كانت تتجنبه . كانت في صراع نفسي متواصل . فكان تقديمها طلب الالتحاق بالبعثة لاتمام دراستها فرصة مناسبة للتخلص من هذا الجو والابتعاد عنه . وقد صورت تلك الخيبة على لسان احد ابطال روايتها .. وميض برق بعيد ) . هنا تعود بي الذاكرة لسنوات مضت كانت حياة تدرسني لمدة ثلاثة سنوات الادب الروسي من خلال تسطير فطاحل الادب الروسي الذي تميز بالجرأة والواقعية ومقارعة الظلم . بعد وصول ابو ناصر الى مواقع بشدر كنت حينها مرابطا في الربية نستقبل افواج الجحوش المسلحة المنهارة بتركها مواقع السلطة ووضع خدماتها تحت تصرفات الحزب الديمقراطي الكردستاني وهذا تقليد موروث قديما في الساحة الكردستانية فعندما يختل موقع احد الطرفين المتنازعين يصطفون مع الجهة الاقوى والغالبة في النزاع . بعدها نزلت الى وادي ( دولا كوكا ) حيث مقرات حزبنا الجديدة . بعد ايام معدودات لملمنا صفوفنا بالتحرك باتجاه العمق من مفرزة انصارية مكونة من 11 رفيقا باتجاه مدن قرداغ – كفري – كالار – وهذا يتطلب المرور باربيل والعودة ثانية الى سليمانية وكركوك . والمفرزة لم تكن مؤهلة للقتال بحكم مهامها . كانت تضم الرفاق الشهيد ابو احمد – الذي كانت مهمته العودة الى الداخل – والرفاق ابو لينا وابو ناصر . رافقت مسيرة المفرزة صعوبات جدية لسببين الاول عدم وجود دليل يعتمد عليه من خلال معرفته بطبوغرافية المنطقة، أي ان يكون ابن المنطقة (كري منطقة) ملما بالربايا ومنافذ تحركات السلطة . الثاني الاضطرابات السياسية في مدن كردستان مما أدى الى المزيد من التحشدات الامنية والاستنفار العسكري . كانت المفرزة بقيادة ملازم فاضل وهو خريج دورات اليمن الديمقراطية وهو شابا حيويا وجريئا . قاد المفرزة بحرص وأمان . وبعد يوم من المسير المتواصل وصلنا الى منطقة بشتاشان وتسلقنا جبل قنديل وتمتعنا بمناظره الخلابة وذوبان الثلوج رغم معاناتنا من كثافتها في قمة الجبل . وبعضنا و كنت احدهم تجرأنا التزلج على الجليد من قمة الجبل الى قعر الوادي . والتقينا في الوادي بقوات من انصار الاحزاب الاخرى . كانوا محصورين لكثافة التحشدات الامنية والعسكرية في المنطقة وتحديدا الطريق الذي يربط اربيل براوندوز .

كانت نوايا السلطة الهجوم على الوادي وعلى القوة المتجمعة فيه ,مما سرع تحركنا باتجاه قرية- ورته- من الجانب الاخر الذي يؤدي الى وادي بليسان حيث كان و مازال يعاني اهله وحيواناته وأشجاره من اثار القصف الكيمياوي المدمر الذي حول القرية الى اشباح . ولصعوبة الطريق في الوصول الى الصوب الاخر , كان هناك منفذا صغيرا عبر جسر ضيق يؤدي الى قرية ورته .

ولولا ارادة الخالق لتحول هذا الجسر الى مقبرة لمفرزة شيوعية . بعد يوم من الانتظار في الوادي ولزحمة المعلومات بوجود هجوم كبير من السلطة عليه ولتبخر بعض قوات الاحزاب , دفعنا الى اتخاذ قرار بالعبور خصوصا بعد وصول دليلنا المهلهل والمرتبك . بعد مسير ساعات من الليل مشوبة بالحذر والتوتر وفي منتصف الليل اصبحنا على مشارف الطريق العام الذي يربط اربيل براوندوز . لاحظنا الاشارات بين الربايا من خلال الاطلاقات النارية وتحرك السيارات في الشارع ونحن غير مباليين لصعوبة وضع المفرزة . حيث لم نتوقف رغم خطر الموت . نزلنا الى الشارع العام وكنت مع الملازم فاضل نحتل مقدمة المفرزة في الوصول الى الجسر الوحيد الذي يؤدي بنا الى قرية ورته . كانت مفرزة من الاستخبارات العراقية بانتظارنا فوق الجسر مختبئين خلف بناية قديمة . ومنذ اللحظة الاولى حين وضعنا قدمنا انا وفاضل على الجسر صرخوا بنا بالاستسلام مع سيل من الطلقات النارية ولم يكن امامنا الا العبور الى الجهة الثانية من الجسر تحت وابل من النيران والى الآن لم اصدق كيف نجونا وباعجوبة . اما رفاقنا فقد تسلقوا القطوع وعبروا النهر سباحة . في دشت اربيل ودعنا الشهيد ابو احمد متوجها الى الداخل بعد معاناة من اورام في القدمين وبروز فقاعات واكياس مائية في رجلي بسبب ضيق الحذاء الذي ارتديه . اما الشهيد ابو احمد فهناك كانت تركة قديمة لكن لم يكن اكثر مني حظا في النزول الى الداخل . نحن واصلنا المسير الى مناطق قرداغ واستقرينا باول موقع للحزب لترتيب تحركنا الجديد الى مناطق كرميان فوجدت في القاعدة اجزاء من رواية مدن الملح لعبد الرحمن منيف – واستغليت الوقت في قراءتها . كنت انا وابو ناصر وعلي الشرطي الذي تم سحبه من قلة الخيل في ملاكات التنظيم – اعتقادا من انه سوف يسد الفراغ أثر الخسائر التي أصابت تنظيم المنطقة الوسطى بعد الضربة التي وجهت الى التنظيم في بدايات 1986 في محافظة ديالى قرية ( جديدة الشط ) .لا بد من الاشارة هنا ان البعض من الرفاق كان يعتقد وجوده داخل التنظيم المدني يضيف له موقعا مهما والبعض الاخر كان يدرك جيدا بعدم قدرته على النزول الى الداخل وهذه مهمة التنظيم الرئيسية لكن كان متشبثا في البقاء او سحبه الى التنظيم لاسباب عديدة منها الابتعاد عن اجواء الانصار والبعض من اجل مكاسب شخصية حتى البعض الح في العودة الى الداخل هروبا من حياة الانصار ولهذا كان الوقوع في يد السلطات سهلا والانهيارات كانت تحدث سريعا.

علق الكادر الفلاحي – مام علي – على هذا النوع من التنظيم الذي اصبح مدعاة للتفاخر اكثر من ان يكون عملا نضاليا مقدسا . علق ساخرا ..... ان الرفاق يقودون التنظيم في بغداد عن طريق الناظور .

في كرميان تحدثت مع ابو ناصر لترشيح كريم عرب الى التنظيم وكان لهذا الترشيح صلة في الحديث منذ فترة زمنية عندما كنا في بهدينان . وتم سحبه الى التنظيم وفعلا توجه الى الداخل لاستطلاع الاوضاع هناك وامكانية بقائه والعمل لكنه عاد بعد ايام لهلع الناس وخوفهم من استقبال السياسين . كريم عرب , هو عبد العظيم الكرادي بعد ايام من التحاقه في صفوف الانصار , أصيب بشظية مدفع برأسه أثر قصف مقرات الحزب في منطقة (كرجال) كنت حينها في قاعدة التنظيم المدني في منطقة (هزارستون). وقد عدت توا منه الى مقر القاطع فوجدت عبد العظيم يتلوى ألما الى حد انه دخل في غيبوبة لبرهة من الزمن. فتحركت سريعا واتصلت بقيادة القاطع لترتيب سفره الى ايران للعلاج. وبسرعة رتبت سفره ورافقته الى الحدود الايرانية باتجاه مدينة مريوان الحدودية. وضعت مبلغا من النقود العراقية في جيبه وكانت هذه النقود شخصية وتعود لي . روى لي بعد عودته من العلاج عندما كان نائما في مستشفى مريوان وشعر بتحسن حالته الصحية حيث تلمس جيوبه فوجد النقود فتسائل باستغراب من اين اتت هذه النقود ؟ وهذا يعني كانت صحته متدهوره ولم يعد يعي ماحدث له طوال الطريق الذي استغرق قرابة الساعتين .

بعد الوصول الى مناطق كرميان والتي حرمنا فيها من ممارسة اي نشاط سياسي وعسكري لسنوات خلت نتيجة الاحتراب مع قوات ( أوك ) اي تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطلباني ونتيجة الاحتراب المشار اليه فقد كان من الصعوبة بمكان الاتصال بالجماهير بعد ان سدوا كل اشكال التوغل الى بغداد فبقينا وبمفرزه صغيره من ابناء المنطقه متخفين عن عيون السلطة وقوات اوك على حد سواء.

كرميان......... مناطق واسعة ومحاذية لمدن كثيرة مثل كركوك، كفري، كالار،

 

طوزخورماتو، قرة تبة وقرى وقصبات اخرى تمدك بالعلاقة بالجماهير .

في صعودي الاخير الى كردستان عام 1983 كنت حينها طالبا مواظبا على الدراسة في المرحلة الثالثة من كلية الاداب – جامعة بغداد . في تلك الفترة حصلت حالات اندساس عديده داخل التنظيمات المدنية للاتحاد الوطني الكردستاني ولحساب الاجهزة الامنية التابعة للسلطة ومن بينهم المدعو انور المزوري وهو من اهالي كفري ,فاثناء وجودي عام 1982 في مناطق كردستان لمهام مستعجلة تم تشخيصي من قبل انور ,كنت حينها اتجول في القرى مع المفارز وكان معي النصيرين خضرعبد الرزاق وعبد الزهرة عباس حيث كانا ملتحقين قبل شهور قليله وانا الذي رتبت طريقة التحاقهم بكردستان , شكوا لي من ملل الحياة وطرق النضال في كردستان, وبعد فترة تركوا سلاحهم وسلموا الى القوات الايرانية باعتبارهم جنود هاربين من الجيش العراقي . لكن في اللقاء الذي تم في كردستان طلب مني خضر ان احصل له على مبلغ من المال من اهله لانهم مازالوا يستلمون رواتبه لكونه جندي في جبهات القتال طيلة فترة غيابه . بعد ايام من عودتي الى القرية سررت الدكتور عزيز أسماعيل باعتباره قريبا من نشاطي وعلى اطلاع ببعض تحركاتنا . وللأمانة لم اكن اعرف ان خضر بعد استلامه المبلغ سيسلم نفسه الى القوات الايرانية لانه يتنافى مع توجيهات منظمتنا ( الصدى ) ففاتحنا صديقنا الطبيب فالح حافظ من اهالي الزعفرانية ووجهنا له دعوة لزيارة قريتنا ( الهويدر ) وبعد ان اتفقنا على طريقة التحرك وفي الليل وبعد ان استطلعت المكان شخصيا وتأكدت من وجود اخيه فاضل في البيت , سلكنا طرق البساتين و نادرا مايسلك في الليل من المارة . بعد ان اعطيت له كلمة السر بين الاخوين , وصلنا الى عتبة باب بيتهم وأشرت الى صديق الطبيب وانسحبت الى طريق فرعي آمن في انتظاره وكنت حاملا مسدسا للطواريء . وعندما طرق الدكتور الباب خرج له فاضل وبدقائق معدودة تمكن من انجاز المهمة . وانسحب الدكتور سالكا طريقا اخرا بالاتفاق معه . وكنت انا اسير خلفه ووصلنا الى بيت الدكتور عزيز بأمان . وبعد ايام تمكنت من ايصال المبلغ عن طريق التنظيم الى الشخص المعني في كردستان وبعد استلامه توجهوا الى ايران وهذا ما لم يريح الاخرين ولا التنظيم التابع الى المنطقة الوسطى . لكن الذي حدث وهذا ليس مفاجئا لاحد ممن يتابع الوضع السياسي في ايران وتحديدا العراقين بسبب ظنك العيش وصعوبة السفر من ايران عادوا الى مواقع الانصار في منطقة كرجال موقع قيادة قاطع سليمانية وكركوك حيث لم يستقبلوهم ولاحتى سمحوا لهم في المبيت ولو لليلة واحدة ولاحتى من اجل الانتظار في الوقت الذي كان مقرنا مفتوحا للمشبوهين والمدسوسين من قبل السلطة رغم طلبهم ( خضر وعبدالزهره) أنهم جاءوا للقاء بي . كنت في حينها في موقع التنظيم المدني في منطقة هزارستون جبل ( سورين ) فتوجهوا لي لكن للأسف الشديد فان برقية قيادة القاطع سبقتهم طالبت بعدم استقبالهم بل وحتى طردهم من المقر . لكن بعد وصولهم وقفت بشدة ضد هذه التوجهات الغير انسانية تجاه رفاق الامس . فتمسكت ببقاءهم في المقر وحتى مبيتهم وهذا ينسجم مع رؤيتي للحياة والمباديء التي احملها بعيدا عن الثأر والانتقام رغم الرفض الجماعي داخل المقر . في الصباح الباكر توجهوا الى الاراضي الايرانية باسماء اخرى .

في عام 1987 التحق بقاطع بهدينان رجل مخابرات لكنه من عائلة شيوعية , كانت مهمته تصفيتي جسديا حسب اعترافاتة التي قدمها الى اللجنة التحقيقية . كنت من حيث المبدأ واقف ضد تصفيته وسبق لي ان نشرت خبرا عنه حين كنت في الداخل نهاية عام 1986 في جريدة الحزب ( طريق الشعب ) . الجدير بالذكر أن السلطات الحكومية داهمت بيتهم للبحث عنه للتمويه على عمله اللاحق واعطائه دفعة للتزكية لغرض الالتحاق بصفوف الحزب الشيوعي العراقي وهذا ما تم فعلا وقد شخص بالصدفة وتعرض للتعذيب وأدلى بمعلومات خطيرة ومهمة . رغم ان اسمه كان منشورا في جريدة طريق الشعب تحت عنوان , أحذر هؤلاء .

في منطقة كفري صيف 1987ويا للمفارقة العجيبة فلقد جمعتني الصدفة في بيت حزبي بالمدعو انور المزوري وعرفته بنفسي وبحضور كادر التنظيم المدني كريم كومنست وكان مندهشا وبدأ يسرد لي القصة اياها محاولا تبرئة نفسه و بسبب التعذيب الذي تعرض له في مديرية استخبارات كالار – حصل على المعلومات الشخصية عني من قبل النصيرين – سليم – أكرم .لغرض الانصال بي والحصول على مبلغ وقع بيد الاستخبارات مع رسالة شخصية موجهة لي . وبعد ضغط شديد حسب ماروى لي قاد مفرزة من الاستخبارات الى بيتنا في قرية الهويدر . ونجوت بأعجوبة بعد ان طوقت مداخل القرية ومخارجها واحتلو بيتنا لايام وبعثروا كل اشيائي الجميلة واستطاع ابن جيراننا اموري نقل مكتبتي الى بستانهم ودفنها وتلفت بتراكم السنين والرطوبة عليها . وتمكنت بنفس اليوم الوصول الى اقرب قاعدة حزبية مدنية وكنت ارتدي الملابس المعتادة في القرية . وصلت سالما الى بيت مدير بلدية كفري الشيخ عطا الطالباني ومكثت هناك 17 يوما ودارت سجالات ونقاشات عديدة حول الوضع السياسي وتطوراته واختلفنا حول رؤاه وواقعيته واحتمالاته المرتقبة والتكيف مع اشتداد الحملة والتجاوب مع المنعطفات . كان يعتبر الحوار لامتصاص الازمة والمصالحة الوطنية مع السلطة من انسب الحلول لأزمة الحزب تمهيدا للعوده الى احضان الجماهير وقيادتها .كان يعتبر التوقيع على قرار 200 السيء الصيت أبلغ الاساليب النضالية لمواجهة القمع والارهاب الحكومي , منطلقا من تجربته وقراءته للاحداث .وكان يكرر دائما السياسة فن الممكنات وهذا كان بتقديري ينسجم مع ضرورات المرحلة الراهنة . لكن بعد مرور عشرين سنة من التجربة أدركت فحوى استنتاجاته واهميتها – رغم اني كنت في البداية معارضا لها – فبحكم تجربتي انذاك أعتبرتها مساومة على الافكار والمباديء ووقفت ضدها جملة وتفصيلا واعتبرتها أراء غريبة ومتطرفة . علق الرفيق – فهد – حول التعهدات والتواقيع ,عندما يجبر الرفيق على ذلك – ان هذا التعهد لاقيمة له لانه غير دستوري – وان الرفيق زكي بسيم مر بمثل هذا الظرف وانهار في التحقيق وأعترف لكن بقيت مكانته في الحزب وهذا ينبع من حصيلة مرارة الرفيقيين في السجون وقربهم من نبض الجماهير وحرصهم على مصلحة الحزب والشعب . وهذه السجالات حدثت 1983 عندما تمكنت الافلات من قبضتهم بمساعدة المرحوم مهدي حميد السعدي بعد ان طوق بيتنا من قبل رجال الامن . تمكنت من الوصول الى بيتهم بمساعدة الاخرين . أذ تم تهريبي في باص خشبي مع اقفاص الرمان الهويدراوي الى منطقة السعدية وأخذت تاكسي الى مدينة كفري وعندما سألني سائق التاكسي ادعيت ان اختي تعيش في كفري وجئت ابلغها باستشهاد اخي في جبهات القتال . وصلت الى بيت شيخ عطا او بالاحرى الرفيق ومدير بلدية كفري – ان كلمة الرفيق كان يستحقها بجدارة – بعد ان نسبت الى كل الجحوش والجبناء . بقيت عندهم 17 يوما حيث حاول اقناعي بعدم الالتحاق بالجبل لحاجتهم لي في الداخل . سمعني بألم ماكتبه عن كوكب الشرق الراحلة ام كلثوم من خواطر وتأمل .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهويدر

 

قرية قديمة وعريقة ومهمة تفع شمال مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى بمسافة خمسة كيلو مترات بطريق مبلط . وقد انشأت هذه القرية سنة 929 ه – 1910 م واسمها فارسي مأخوذ من ( هودار ) أي مجمع الهواء وقيل ان اسمها تركي جاء من الهواء العذب . وهذه القرية كانت قد تكونت بسبب عوامل الطمي التي حصلت لنهر ديالى بعد ان تغير مجراه. وهي عامرة بالبساتين وخاصة مزارع البرتقال والرمان والتمور بانواعه المختلفة. ولسحر عثق التمور فانه يطلع علينا أخضر اللون وبعد ايام يتحول الى ألاصفر كعناقيد الذهب . تحتوي القرية على قرابة 1200 دار ويبلغ عدد سكانها نحو ثمانية الاف نسمة جللهم من العرب, لهم تقاليدهم العشائرية وعاداتهم الاجتماعية وخاصة في الشعلئر الدينية ايام محرم عاشوراء . الهويدر تعد قرية صغيرة حصرها نهر ديالى بمنفذ وحيد يربطك بمركز المدينة وقد تبدو للمشاهد كجزيرة وسط المياه ومحاطة بكثافة البساتين . تعرضت مرتين الى تدمير طبيعي أثر فياضانات نهر ديالى . لكن بقيت ملامحها طاغية ومعالمها واضحة وحافظت على تكوينها القروي رغم الخراب الذي أصابها من أثر الفياضانات . تمسكت هذه القرية بطابعها الشيعي الحاد والذي يصل احيانا الى مستوى التقوقع رغم قربها من مركز المدينة بعقوبة . امتازت قرية الهويدر بالزراعة ونخليها المتميز وجمال طبيعتها وصفاء نهرها وطيبة أهلها . وخرجت رموز سياسية وادبية تركوا بصماتهم على مكانة القرية . امثال طلعت الشيباني وزير اقتصاد حكومة قاسم 1958 اول حكومة وطنية في العراق .وايضا خزعل السعدي القائد العسكري والسياسي وسعدون شاكر وزير داخلية حكومة البعث وشخصيات ادبية وفكرية . تكاد تكون نسبة الامية ضئيلة جدا. ومازال اسم القرية عليه افتراضات وسجالات وهناك رواية اخرى تقول ... ان الامام علي ( رض ) مر بجيشه في القرية في احدى حروبه وطلب من جيشه ان يهودروا للراحة والامان ومن هنا جاءت التسمية . وهناك رواية تقول ... الاصل كلمة ايرانية بمعنى نسيم الهوى العليل حيث تمتاز به القرية . اضافة الى امتيازهم بالطيبة والكرم من خلال تعاملهم مع الاشياء وتفاصيل الحياة اليومية .

كان القادم لها من مكان اخر خارج نطاق حدودها .. يتفاجأ كباقي مناطق العراق عندما يهم بالخروج من مقهى لدفع حسابه ويكون مدفوعا من احد ابناء القرية .

عام 1980 اقدم النظام العراقي على جريمة كبيرة , سادتها اجواء الرعب والحيف الذي لحق بالناس . ففي جو أرهابي اقدم على تهجير مايقارب 500 مواطنا بحجة التبعية الايرانية من اجل تصفية حساباته وخلافاته السياسية. فكان العدد الاكبر منهم ينتمون الى العراق وحاملي الجنسية العراقية القديمة ومنهم وليس قليلا من اعمدة النظام في القرية . هجروهم قسرا بعد ان اختطفوا شبابهم من ذويهم والى الان لم يذكر لهم ذكر ربما غيبوا في غياهب السجون .

هجروهم بعد ان جردوهم من كل ممتلكاتهم الشخصية , البعض ماتوا على الحدود حنينا للعراق . في هذه الاجواء هب أهالي القرية لشراء ماتركوه من بيوت وبساتين وباتفاق الجميع لتكون أمانة عند عودتهم . سبق هذا العمل الهمجي حملات اعتقال واسعة في العراق شملت تنظيمات الحزب الشيوعي وحزب الدعوة في حملة تستهدف وجود احزاب اخرى تعمل في البلد وللتفرد في الساحة السياسية العراقية وتكريسا لعقدة الحزب الواحد . شملت الاعتقالات عشرات من الشباب وبعضهم غيبوا في السجون . والبعض الاخر أطلق سراحه بعد ان وقعوا على القرار 200 السيء الصيت ( الذي يحمل موقعه التبرئة من العمل السياسي ويلزمه بالعمل داخل حزب البعث ) .

وكنت انا في عمر وبمستوى من الوعي لم يؤهلاني تقييم وتحليل الاوضاع بدقة كافية وواقعية . لكن مع مرور السنين تعمقت معرفتي مع تنظيم ( الصدى ) في بغداد .وكنت اتردد بشكل دائم على بيت شيخ الشيوعيين الشيخ عطا الطالباني بحكم عملي الحزبي مع أشتي والتي أمتدت لسنوات كانت صعبة جدا في الحياة السياسية العراقية وتفاصليها, لايفصل بينها الا مشاهد الدم والقتل من 1980 الى 1983 . فالظروف وتطورات البلد السياسية وقربي من هؤلاء الرفاق دعتني ان أنظر الى التطورات التي تحدث برؤية اخرى اكثر انفتاحا وتجاوبا مع التغييرات الحاصله. واعتماد المرونة والعقلانية في في التعامل مع المنعطفات السياسية وعلى ضوء الواقع المفروض في البلد خدمة للشعب والحزب والوطن .

مازالت وللأسف الشديد طروحاتنا في معالجة قضايانا وعملنا الحزبي والسياسي نهمل هذا الجانب الحيوي . لو نلاحظ خطابنا السياسي في الفترات الاخيرة من عملنا تنقصه الحنكة والسياسة في التعامل مما جعلنا نخسر العديد من الرفاق الذين يأسوا من النضال والميل الى العوز, وابعدنا مسافات عن مزاج الجماهير ونبض الشارع الذي هو روح الحزب ورصيده المعنوي والمادي . ان واحدة من انجازات وثمرات الجبهة الوطنية مع البعثيين عام 1973 هي اتساع تنظيمات الحزب في عموم العراق فكان لقريتنا نصيبها الواضح باتساع تنظيمات الحزب من خلال التحاق طاقات شابة وواعدة بركب التنظيم مما ادى الى استفزاز القوى التي تنظر الى هذه الممارسة بريبة وحذر . اما الان فلقد تبخر العديد ويتحمل حزب البعث المسؤولية الاولى لما تفرد به من حل للخلافات بطرق الارهاب والقمع بدلا من اسلوب مواصلة الحوار والتفاهم ,وبهذا يكون قد قضى على بوادر طيبة في العمل السياسي لمستقبل العراق . كما لانعفي انفسنا كشيوعيين من المسؤولية بسبب سياستنا الخاطئة وخطابنا السياسي الذي لايمت الى الواقع بصلة . في صيف 1988 وفي دمشق كنت عائدا من تجربة مرة من داخل الوطن حيث جمعتني الصدفة باحد الرفاق من اهالي السماوة المعروف بابي حازم , ومن خلال استقراء اللوحة السياسية العراقية كان محمل الوضع اكثر من الواقع حاولت ان اقرب له صورة الناس في الداخل ورؤيتهم للعمل السياسي والموقف وانعكاساته السلبية من الخروج الجماعي خارج العراق ,وكانت الايام هي الكفيلة بالرد على تصورات الاخرين . تعود بي تجربة العمل السياسي في العراق الى عام 1979 والهجمة الشرسة في القضاء علينا كتنظيم ووجود ,وردا على هذه الهجمة وتنظيم صفوفنا , صدرت وثيقة حزبية (( مناضل الحزب )) من قبل الرفيق باقر ابراهيم في الداخل وفيما بعد عرفت من ابو خولة أن الرفاق الشهداء صفاء الحافظ وصباح الدرة مساهمين فيها وكان الهدف من اصدارها هو لرأب الصدع في العلاقة مع الحزب الحاكم من خلال رؤية سياسية واقعية اعطت حلول لازمة مشتعلة وكنا نحن وقودها واشعلتنا بنارها جميعا واصبحنا رمادا حتى بدون ومضة شرارة . في تجارب العمل السياسي وما يحرك اجندته كان من الممكن كسب الوقت من خلال المناوره في ظروف قد تكون اكثر نجاعة من المواجهة نفسها .

في عام 1982 وفي مهمة خاصة الى الاراضي المحررة ( وفي وقتها انقطعت ايام من الجامعة ) وجدت رفاقنا بتصورات بعيدة عن واقع الحياة السياسية في العراق . كانوا يناقشوني بان النظام على حافة الهاوية فتعجبت لهذا الطرح وهم ايضا تعجبوا من طرحي بان النظام قوي ويحتاج الى سنين من التضحيات والنضال حتى نستطيع ان ننال منه .

تعود قوة التنظيمات السياسية المعارضة في القرية بكل أطيافها والوانها الى الطابع الاجتماعي والديني لسكان اهالي القرية فتنظيمات القوى الدينية كانت الابرز

 من خلال احتدام المواجهة مع السلطة وهذا مرتبط بالتركيبة الاجتماعية لاهالي القرية. كانت لقوة الحدث التراجيدي في يوم عاشوراء انعكاساته الواضحه على تفكير الناس ومعتقداتهم . تتفرد القرية في تجسيد هذا الحدث بكل مأسيه وصوره المحزنة على ارض الواقع من خلال التقاليد والتشابيه المحزنة والتي فاقت كل التصورات والوقائع مما اثارت حفيظة كل الانظمة المتعاقبة على العراق . يبرز اللون الاسود ويحتل نفوس الناس ويغطي الجدران والاعمدة والشوارع . والسواد هو الذي لايميز الناس بين بعضهم ,حزن شديد وبكاء في كل زاوية وركن من القرية مكتسحا الوجوه جميعها . السواد يعم كل اهالي القرية من طفل عمره سنة الى اكبر شيخ فيها . لافتات تنادي بالثأر لقتلة الحسين وتغلق المحلات وتغص القرية بالزوار من خارجها وتفتح امامهم بيوت القرية لتناول وجبات طعام دسمة ومتنوعة لاجل الحسين وصحبه وانتقاما من قتلته .أماكن تصرخ وعزاء ونواح ولطم في زوايا القرية وبيوتها . تشابيه تقلد وتمثل مقتل القاسم وعطش العباس ومأساة عبدالله الصغير ,الذي قتل في واقعة الطف مع أهله وناسه . الامام الحسين كان صاحب رسالة انسانية بثورته ضد الطغيان والظلم وحري بنا نحن اليساريون أن نستشهد بها في الدروس والبلاغة . يبقى الناس ملتزمين بلباسهم الاسود حتى حلول يوم الاربعين حيث تغلق المدارس وتعطل مرافق الحياة وتبدأ السيارات بنقل الناس الى كربلاء ليسطروا مشاهد قتل الحسين وصحبه .وعرفت القرية بسبب من تمثيلها لهذا الحدت المأساوي .ويعد عزاء الهويدر متميزا ومشهودا له . قال لي الصديق محي الاشيقر نقلا عن والدته ان الهويدراويون يلطمون من كل قلوبهم وموجوعون . عام 1980 السنة الاولى في الجامعة كان الاستاذ جليل كمال الدين ,أستاذ الادب المقارن يسأل الطلبة عن سكناهم ,قال لي معلقا ان عزاء الهويدر مؤلم في كربلاء . والهويدر تعد اخر معقل تم القضاء فيه على هذه الاحتفالات حين صدر القرار من السلطة العراقية بالغاء هذه المظاهر. كانت ايام عاشوراء تجسد وتمثل من قبل الشيوعيين والقوى الاخرى.

اعود الى القرية وتاريخها حيث فتحت فيها اول مدرسة ابتدائية سنة 1920 , كانت هناك قبلها مدرسة أهلية ويدرس فيها على طريقة الملا تسمى اليوم مدرسة الهويدر الاولى للبنين ومازالت وكنت احد خريجيها ولها الفخر والمكانة في بث روح العلم والمعرفة وفي تخريج نخبة من المتعلمين والمثقفين . أهم ما تشتهر به الهويدر هو البرتقال وبودنا ان نذكر ان هناك انواع جديدة من البرتقال دخلت زراعتها في الهويدر نذكر منها , برتقال دموي , لالنكي هرفي . ويوجد في القرية مستوصف صحي . وهي مضاءة بالكهرباء ومشمولة بمشروع ماء بعقوبة الموحد وفيها سوق يحتوي على دكاكين كبيرة وتوجد فيها مقاهي جميلة وواسعة .

نحن الشيوعيون فهمنا للتراث والواقع كان مغلوطا وهذا متعلق بدوافع الانتماء للحزب فكان في الاغلب لم ينم عن وعي ودراية بل كان عبارة عن دوافع ولائية ولاتخلوا من دوافع عشائرية . وبعد حفنة من السنين والتجارب تحضرني واقعة للدلالة – حول الانتخابات السويدية – حيث ذهبوا جميعا الى صناديق الاقتراع حتى ممن لايعرف ان يقرأ لانتخاب حزب اليسار حتى بدون مراجعة بسيطة لبرنامجه الانتخابي فضلأ عن انه مرتعا للصهيونية .

تفرد الشيوعيون بميزتيين , تجلتا أكثر سطوعا في المهجر وهما عدم الوفاء لرفاقهم – رفاق الامس يجلدونهم اذا اختلفوا في الرأي معهم وثابيا انهم غير معنيين بتاريخهم ولامبالين به ,لم يكترثوا بتقليب ونبش صفحات ذلك الارث النضالي والانساني الذي لفه النسيان المتعمد والغموض لمدة 70 عاما ,ممن تجرأ وكتب , سفهه وحوصر لانه لايتفق مع السياسة العامة لذلك النهج السياسي الذي أجبرنا على الادمان عليه .

قضيت عدد من الايام في بيت شيخ عطا في مدينة كفري . ولدواعي أمنية أضطررنا التوجة الى تكية الطالبانيين في مدينة كركوك مع الشيخ وزوجته ام كوران وبنتهم شيلان , وهناك التقيت برفيقي – أشتي – لمدة يومين ودارت نقاشات واسعة ومؤلمة . توجهت فيما بعد الى مناطق كردستان ( شهرزور ) المحررة وبمرور الايام وبطؤها , بدأت الاسئلة تحاصرني بحثا عن أجوبة قريبة وواقعية . هل تؤدي بنا هذه الطرق الى النيل من النظام وغطرسته ؟ بدأت صفحات من المعاناة والتسائل وارتداد في المواقف والمعنويات , حيث مسيرة الحياة وتكرارها واساليب العمل وتخلفه عن مواكبة التطورات وانعكاساتها على مزاج الناس وهموم حياتهم . مراحل نضالنا مرت بتقادم الايام بعيدة كل البعد عما نصبوا اليه ونطمح لتحقيقه من اهداف معلنة . بمرور عام على وجودي في كردستان تلقيت أكثر من رسالة وأشارة من الرفاق في الداخل باتجاه العودة ثانية الى بغداد وكانت أخرها رسالة الدكتور (جهاد) طمأنني فيها بتوفير مستلزمات التحرك وضمان وجود سكن في بغداد . لكن من الاسباب التي عاقت هذا التحرك والتوجه الى بغداد هو التمرد الذي وقع في قاطع سليمانية عام 1984 والذي كان من الممكن أحتوائه , لكن للأسف الشديد هناك من كان يدفع الامور الى لحظة التصادم والاحتراب . قاد ملا علي بالتنسيق مع بهاء الدين نوري مجموعة من البيشمركة وكوادر حلبجة وشهرزور باتجاه دشت شهرزور معلنين تمردهم بتحقيق ان يعقد المؤتمر الرابع للحزب ومحاسبة بعض رفاق قادة قاطع سليمانية وكركوك .

اما بهاء الدين نوري فقد بقى في مقر القاطع في منطقة كرجال يسخر ويعلق من ردود الفعل وطرق معالجتها . كانت تربطني علاقة طيبة بالرفيق بهاء الدين نوري فعندما سمع بأنني سوف اتوجه بأول مفرزة الى موقع الاحداث تلاطف معي قائلا نحن في انتظاركم ان تجلبوا لنا رأس صدام حسين ( سوف انشر في الصفحات الاخيرة من الكتاب أخر رسالة وصلتني منه وهو يستعد للسفر من ستوكهولم الى كردستان الحبيبة وكانت هي الأخيرة , ينقل لي فيها مشاعره ورؤاه النضالية للمستقبل ).

توجهت مع اول مفرزة بقيادة ابو لينا ( محمد النهر ) المسؤول السياسي في القاطع مع الشهيد ابو عناد الى مناطق شهرزور. جميع القوى كانت تتمركز هناك , المتمردة والمواليه . كان الهدف الاول هو شق صفوفهم من خلال التحرك على بعض الرفاق بالتخلي عن المجموعة المتمردة من خلال الحوارات والاجتماعات التي كانت تعقد في القرى امام مرأى ومسمع جماهيرنا . كنا رفاقا بالامس واليوم فريقيين متحاربيين . الجميع متوتر ومستعد للقتال والحوارات جارية على قدم وساق , ربما طلقة واحدة حتى لو كانت عن طريق الخطأ ستؤدي الى ماسأة وكارثة مرعبة . وبعد وصول التعزيزات لنا بقيادة ابو تارا المسؤول العسكري للقاطع مع قوات من الفوجين السابع والناسع . اخذت الامور منحى اكثر خطورة حيث القوى المتمردة انسحبت الى القرى المجاورة ,وهنا بدأت لعبة ( القط والفأر ), نطارد بعضنا ونتربص ببعضنا الاخر . ترد لنا معلومات بوجودهم في قرية ما ,نتحرك باتجاهم ,يتركوه قبل وصولنا لهم وهذا ما تم معنا ايضا .

حسمت هذه اللعبة بوصول معلومات لنا وهي أن هناك نيه في شن هجوم علينا بقوات معززة من الاتحاد الوطني الكردستاني والمسمات بقوات ( أوك ).أتخذ قرار بالانسحاب فهزمنا , وقد سادت الفوضى والارتباك صفوفنا , ظللنا الطريق بالرغم من اننا كانا نسلكه يوميا . عبرنا في نفس الليلة باتجاة مقراتنا – عبر ممر قرية شيلمر – الطريق العام بين حلبجة وسليمانية . الاستياء والتذمر واضح على الجميع . القينا باجسادنا في مسجد القرية للراحة ومع طلوع الفجر تسلقنا الجبال باتجاه مقراتنا على الحدود الايرانية . سكنا في شريط حدودي مع ايران في منطقة تدعى(كرجال) واصبحت تحركاتنا محدودة وانصب اهتمامنا على البناء والتموين . كان لنا منفذا يكاد ان يكون الوحيد للاتصال بالجماهير و هو مصيف ( أحمداوه ) المحاط بالربايا الحكومية. كان عدد العملاء والوكلاء داخل قرية المصيف ليس بالقليل ولمرة واحده فقط جربنا التحرش والتعرض لهذه الربايا لانه في الاونه الاخيرة زادوا من كمائنهم ضدنا فوق ممرات وطرق تسلكنا الى القرية مما عاق ذهابنا الى القرية التي تعد مصدرنا التمويني والجماهيري الوحيد . في مساء خريفي تسلقنا الجبل حاملين معنا مدفعا بعيار 82 ملم . كنا اربعة رفاق ابو تارا المسؤول العسكري للقاطع , ابو مناف , ابو حاتم وانا. نصبنا المدفع في كتف الجبل وضبطنا الحيثيات ووجهنا فوهة المدفع باتجاه الربايا الحكومية واطلقنا قذيفتيين باتجاهها . في اللليل سمعنا من نشرة الاخبار الرسميه العراقيه , ان العدو الفارسي المجوسي قصف بشكل عشوائي قرى بيارا وطويلة مما سبب أضرار بالمدنيين , انهما كانتا قذيفيتينا .

ان القضية الكردية شغلت مكانا مهما في مشروعنا السياسي والفكري , عبرنا عنه بكل مصداقية ووضوح ودافعنا عن حقوق الاكراد القومية بمبدئية وعناد وهما أقترنا بهموم شعبنا وتطلعاته لغد أفضل وهذا الخيار يشكل جزءا من تكويننا العقائدي , لكن وللأسف الشديد لم يرتقوا الى هذا المستوى من التطلع والاحتضان . كانت نظرة رفاقنا الاكراد لنا حيث تقاسمنا معهم المعاناة والاستبداد والجوع في كردستان لا ترتقي بمستوى هذا الهم والوجع , ويعبرون عنه في مناسبات عديدة – عن عدم رضاهم علينا – وتفاعلهم مع قضايانا الوطنية والقومية . وأدت هذة الافكار الضيقة وروح التعصب القومي الى الاعلان عن ولادة حزب شيوعي كردي مما وضع شرخا في تاريخ الحركة الشيوعية العراقية . يقول لينين .... وجود حزبين شيوعين في بلد واحد حتما يكون احدهما على خطأ.

عام 1984 والمكان قاطع سليمانية وكركوك ,أكتشفت شبكة تجسس داخل مقراتنا لصالح النظام العراقي . كان العدد الاكبر من الرفاق الاكراد قد تم اعتقالهم الا البعض منهم تمكن من الهرب .وبدأ التحقيق معهم وظهرت اعترافات جديدة امتدت الى أهالي القرية. كان الملا دانه ممولنا التمويني وصاحب الدكان في قرية (أحمداوة) هو خط الاتصال الساخن بهذه الاحداث وتم زج النصير منير ( ابو أنور) في السجن جورا وقسرا ولاعتبارات لا تخلوا من نوازع قومية شوفينية, انتهت بالاعتذار منه . في معمعة هذه الاحداث وضبابيتها كان لنا في المقر أسيريين المانيين, تم أسرهما في واحدة من عمليات الانصار, وكانت هناك مفاوضات جارية للافراج عنهما وبتدخل أقليمي . تعرض مقرنا الى قصف مدفعي ولاول مرة يصيب هدفه بدقه وبوقت تجمعنا على الغذاء والراحة وسقطت قذيفة واحدة لاغير من القذائف التي أطلقت علينا وسط تجمعنا مما ادت الى استشهاد الرفيق درويش وقتل ايضا احد الاسرى الالمان في الوقت الذي كنا نستعد فيه الى تسليمهم الى السلطات العراقية وكنت انا من المكلفين بالموضوع .في اليوم التالي ذهبت مع اسير واحد لتسليمه الى القرية ليأخذ طريقه الى مدينة سليمانية وكان جريحا .طيلة مسافة الطريق كنت أكرر عليه ان صدام هو الذي قتل رفيقك وجرحك . وفي مستشفى سليمانية حاول الاعلام العراقي ان ينتزع منه تصريحا يشير الى تعرضه للتعذيب ونحن من قتل رفيقه قبل اطلاق سراحه , كان رده لهم انتم من قتلنا ويقتل الناس .

 أشرفت على التحقيق قيادة قاطع سليمانية وكركوك ,لكن بعد ايام اخذت العشائرية والمحسوبية دورها الفعال اما المبادىء والقيم النضالية فقد ركنت جانبا من خلال تمييع وتسويف القضية وعدم متابعة اعترافاتهم . بدأت تتوافد على مقرنا وفود عشائرية وسلطوية وتعقد صفقات مساومة مع أعضاء قيادة القاطع احمد باني خيلاني وابراهيم صوفي . وادت هذه الصفقات الى تهريبهم بحجة أنهم استطاعوا الفرار من الاعتقال . ولي هنا موقف نابع من انتمائي وحرصي على التجربة التي يتطلع لها الشعب العراقي بفخر واعتزاز . وهذا الموقف تحملت بسببه تبعات سيئة لكن اعتبرته جزءا من مهامي المبدئيه والوطنية وغير نادم عليه وحتى في حينها دافعت عنه بصدق ,مستذكرا رفاقنا وعمليات التعذيب التي يتعرضون لها يوميا في اقبية المخابرات وشهدائنا الذين سقطوا تحت هذا التعذيب . في يوم متميز في حرارته من عام 1984 , كنت في قرية ( أحمداوه ) لمهام ادارية واستطلاعيه وبعد انتهاء المهمة وخلال صعودي الى مقر القاطع عبر ممرات وشلالات وبساتين مصيف أحمداوة الغني بفاكهته المتنوعة وشلالاته الساحرة ومناظره الخلابة ولشدة الحرارة والتعب أحتميت بالفيء وتحت ظلال احد اشجار الرمان والتي منحتني دفأ وحنينا الى قريتي وأهاليها الهويدر ولتنوعها وتميزها بفاكهة الرمان . يقول العراقيون ( عندما تدخل الفاكهة الى المعدة تسلم على القلب – اما فاكهة الرمان فالقلب يسلم عليها ) .

في تدفق هذه الاحلام ورومانسية الاجواء القادمة من اصوات خرير الشلالات , سقطت عيني على خيانة تهريب السجناء من قبل قيادة قاطع السليمانية , حيث قادهم النصير سالار – خريج الاقتصاد الاشتراكي من المدرسة الحزبية في بلغاريا – ومعلمي في تعلم اللغة الكردية بهدف ايصالهم الى اقرب نقطة من المدينة . عبروني ولم ينتبهوا الى وجودي , حزنت على الايام وعلى مستقبل التجربة . بكيت وعادت بي السنين الى الوراء ألما وحزنا على رفاقنا الذين غيبوا في اقبية التعذيب ,هؤلاء الخونه هم الذين سرقوا مشروعنا وسمسروا باحلامنا ودفعونا الى ان نعيد النظر في مبادئنا , وحرفوا مباديء الحزب تحت مطاليبهم ونزواتهم .مما زادني حزنا في اليوم التالي انهم أشاعوا وبصفاقة ان السجناء هربوا وجوقة المتملقين والطبالين عزفوا على هذا الايقاع ,بنوطة رائحة الخيانة .

تحت ظلال هذه الاحداث . عقد اجتماع موسع لقيادة الافواج والكادر الحزبي في مقر القاطع , نحرت الذبائح لاستضافة المجتمعين وهذا تقليد مألوف في حركات الانصار . في اليوم الاول التقيت ابوعادل الدكتور والمستشار السياسي للفوج الخامس عشر وتحدثنا عن الوضع ومن خلاله وانسجاما مع افكاري وحبي للتجربة سررت له مارأيته حول تهريب السجناء وخطورة هذا المنحى التأمري وانعكاساته التدميرية على أفاق تطور حركة الانصار – تسمر مستغربا لحديثي – في الوقت الذي كانوا يناقشون في الاجتماع الموسع أثار وتداعيات هروبهم من السجن . عاد الى الاجتماع وفي جعبته هذه المعلومات وحسب ماروى لي فيما بعد حين طرح الموضوع في الاجتماع على الجميع, صعقوا لهذه المعلومات , لكنهم تركوا الموضوع جانبا وفتحوا تحقيقا معه حول مصدر المعلومة , فاعترف سريعا ان المصدر لطيف – ولطيف هو الاسم الحركي لي- حملته في اول يوم وصولي الى كردستان ومنحه لي الشهيد البطل وقائد تنظيم المنطقى الوسطى الرفيق ابو جلال الذي استشهد في الداخل عام 1986 . بعد الافصاح عن هذه المعلومة الخطيرة والجريمة الكبيرة التي طويت مع كان واخواتها والى الابد . اصبحت من المغضوب عليهم وسرعت في ترحيلي الى التنظيم المدني , الذي كنت اساسا محسوب عليه . التحقت برفاقي في التنظيم المدني الى جبل سورين في كهف ( هزارستون ) وتعني بالكردي ألف عامود (دنكة) كانوا شبه معزولين وسط ربايا السلطة ومواقع الجيش الايراني . ومن الرفاق الذين كانوا في الموقع وسقطوا شهداء . ابو احمد من ناحية الدغارة استشهد في الداخل . ابو سرمد من نفس الناحية استشهد في بيته في مقاومة بطولية . ابو احمد ( بختيار عرب ) استشهد في كردستان ,ابو سالار استشهد في الداخل , أشتي استشهد في كردستان , عمر ( ابو علي السماك ) استشهد في قضاء الصويرة , الشهيد يوسف عرب استشهد في مدينة حلبجة واخرون ممن جسدوا ملاحم بطولية في مواقفهم واستشهادهم .

ان موقع هزارستون – موقعا متداخلا وحساسا بسبب وقوعه وسط الربايا العراقية والمعسكرات الايرانية مع تنظيمات الاحزاب الاسلامية الموالية لايران , مطل على ممشى وممر عبور المهربين وعملاء السلطة والهاربين من بطش النظام الى ايران . كنا محاطين بالجنود الايرانين وسط مواقع الاحزاب الحليفة . كانوا يشقون الطرق ويحددون المواقع ويضعون علامات الدلالة الى محافظات النجف وكربلاء المدن العراقية المقدسة . كان الجنود الايرانين موهومين ومظللين وهم يحملون في ارقابهم مفاتيح الجنة ولايحملون من العتاد سوى ما يساعدهم للدفاع عن انفسهم .

شهد هذا الموقع وتحديدا في فترة وجودي واقعتين ... كان الرفيق ابو احمد ( بختيار عرب ) المسؤول الحزبي للموقع ,رفيق دمث وشجاع وعملي والعديد من الشيوعيين يتحلى بهذه الصفات لكن عندما تناط لهم مسؤولية ما وحرصا على هذه المهمة يبدون سلوكا مغايرا , اضراره تتشظى على الجميع وابو احمد واحد من هؤلاء , قد يكون بحكم الظروف التي نعيشها ولاسيما هناك من يدفع الامور بهذا الاتجاه كوننا عسكر , ففي اجتماع حزبي لتقييم الوضع السياسي ومجريات التطورات في البلد بقيادة الشهيد , لم نمهله حتى فرصة التحدث حول الوضع وبعد كولسة وتأمر سيقتا الاجتماع وبتأثير مباشر من بعض الرفاق تم رفضه بالكامل كونه مسؤولا سياسيا بالاجماع وتم عزله بالكامل من قبل المجتمعين . وهنا اسجل نقدا شديدا لنفسي لتبني هذه الخطوة الغير حضارية ,ولكن ربما اشفع لنفسي لهذا السلوك الغير معهود بسبب صغر سني وقلة تجربتي في العمل . في اليوم التالي وفي الصباح الباكر حملت المحضر مع البريد الحزبي وبعد عدة ساعات سلمته الى المسؤولين في قيادة سليمانية وكركوك وكان ردهم سريعا باعتباره سابقة خطيرة في العمل التنظيمي وتعاملوا مع الامر باعتباره واقعا وقبل على مضض , ومع المزيد من جانبهم بالضغط وشد الخناق علينا ومحاربتنا بكل الوسائل والطرق المشروعه والغير مشروعه وكأننا جهة معادية وتم استدعاء الرفيق ابو احمد الى المقر وارسل فيما بعد الى ايران للعلاج والراحة .

الحدث الاخر الذي يستدعي الوقوف عنده ايضا , في ربيع 1985 وفي اجتماعنا الدوري لتقيم ودراسة التطورات السياسية والعسكرية في المنطقة , طلعنا بعد نقاش مستفيض وفي ساعة متأخرة من الليل لاوضاع المنطقة والتحركات المحيطة بها بنتيجه مفادها : ان الوضع يعمه الهدوء والامن ولاتوجد أي مؤشرات وبوادر لتحركات عسكرية معادية في المنطقة – هذا ماخرجنا به في الليل – اما في الصباح فكان يخفي لنا عكس توقعات الليل فبينما كنت أهيأ نفسي للتحرك الى مقر القاطع ,حاملا لهم محضر الاجتماع وتفاصيله التي تشير الى هدوء الوضع في المنطقة باغتتنا القوات العراقية في احتلال اهم الرواقم في المنطقة والدبابات تدك في المواقع الايرانية التي هي خلف مواقعنا وموقعنا من الناحية العسكرية اصبح ساقطا بيد القوات العراقية رغم عدم دخولهم مقرنا ,وفي حينها كان يهمهم المواقع والرواقم الايرانية . ولم يمض على اجتماعنا الا سويعات والقوات الخاصة بقيادة علي عربيد عميد أمر لواء مغاوير ينتمي الى عشيرة المحمداوي من مدينة العمارة قد قتل في ظروف غامضة ودفن في مقبرة كركوك حيث سكناه . وهو الذي قاد عملية الانفال ودخل الى مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني في سركلو وبركلو بعد أن أجتاح مقراتنا . تجتاح المنطقة جبل سورين ووديانه . تحت شدة القصف وضراوته واحتدام المعركة انسحبنا من المقر باتجاه الجبال والوديان مخلفين في المقر حاجاتنا الشخصية , توزعنا على عدة مواقع وكان معي في الموقع ملازم كرم (ابو الفوز) وكنت احمل ناظورا وشاهدنا كيف تتسلق القوات العراقية رواقم الايرانين التي احتلت من العراق في فترات سابقة من فصول الحرب العراقية – الايرانية . وبعد السيطرة على الرواقم وتسليم الجنود الايرانين الى القوات العراقية , وكانوا يحملوهم وهم احياء ويرموهم في الوديان مع اصوات الاستغاثة الذي يكسر بصداه الهدوء ,صادفنا ضابطين ايرانين فرا من المعركة بعد ان حوصروا وتمكنوا من الخلاص باعجوبة باسلحتهم الخفيفة وطلبا مني الناظور الذي كنت احمله لرؤية مصير جنودهم . في البداية ترددت لحسابات جمة لكن بعد الحاهم علي اعطيته لهم وعادوه سريعا وكانوا مشدودي الاعصاب فذهبوا باتجاه الاراضي الايرانية .

اما مصير محضر الاجتماع فمزقته ورميته في الوديان وبدون اي ذكر له ,الى يومنا هذا . بقينا مختفين في الجبال بدون أكل وشرب بانتظار سدول الليل لنتمكن من الانسحاب تحت ظلال ظلامه ,لكن مع حلوله بدأت قذائف الجيش العراقي في التنوير برمي القذائف التي تنفلق فوق رؤوسنا مما ادى الى اعاقة حركتنا وبطأ في الانسحاب .ومما زاد الامور تعقيدا وبطأ هو كمائن ومفارز البازدار ( حرس الامام الخميني ) الذين استنفروا في المنطقة معززين بقوات اضافية مع بعض المناوشات العسكرية التي لم تحقق شيء يذكر لهم . تحت هذه الجواء انسحبنا الى مناطق (باني شهر) قاصدين مقرات رفاقنا في الفوج التاسع لانصار حزبنا . تمكنا من الوصول بعد منتصف الليل منهكين من التعب والجوع . في الصباح الباكر استلمنا برقية سريعة من قيادة القاطع تقول ( ان انسحابكم كان هزيمة سياسية وعسكرية لوجهة الحزب ولارجاع وجه الحزب ما عليكم الا العودة ثانية الى الموقع لسحب ممتلكات الحزب ). ممتلكات الحزب ووجه الحزب كانت عبارة عن تسعة صواريخ بازوكا فاسدة , حتى ان الجيش عندما دخل المقر في نفس الليل , صادر ممتلكاتنا الشخصية وترك الصواريخ في مكانها . اما قوات الحزب الاشتراكي ( حسك ) بقيادة الحاج محمود فقد سبقتنا في الانسحاب مع بقايا القوات الايرانية المهزومة . على ضوء برقية القاطع عقدنا اجتماعا عاجلا في مقر الفوج التاسع لمناقشة البرقية ولو اخذنا في نظر الاعتبار الاصول التنظمية فقد كانت الاغلبية ضد العودة ثانية الى المقر, مما يدحض فكرة العودة الى المقر وسحب الممتلكات , لكن للظروف المحيطة بنا ولاعتبارات سياسية واخلاقية أتخذنا نحن الاربعة قرار العودة بغض النظر عن كل النتائج . تطوعنا اربعة رفاق وهم لطيف , ابو حاتم , د ابراهيم والشهيد أشتي . ورغم حدة النقاش والسجال بقى اكثر الرفاق متمسكين بعدم العودة وبذرائع مختلفة قد يكون بعضها واقعيا ,عندما ضغط ابو حاتم على ملازم كرم بمرافقتنا باعتباره ضابطا خريج اليمن الديمقراطية علق قائلا ان كلمة جبان اهون من الانتحار .

لكن الذي حدث ولفت انتباهنا والذي لم يعد مألوفا في حياة الانصار . هو ان رفاقنا في الفوج التاسع وهم اصلا اولاد المنطقة ; مام سردار ; احمد رجب ;عمر حامد واخرين لم يبادروا حتى بالسؤال عن حاجتنا للمساعدة ; ولو دعمنا معنويا

في الليل تحركنا نحن الاربعة نحو المجهول وسط جبهة حرب ساخنة بين دولتين حيث المعارك مستمرة وعادت طاحنة بين الجيشين . سلكنا طرق غير مسلوكة سابقا ,لانه طرقنا كانت مكشوفة وتحت رحمة المدفعية العراقية, ومع هذه الاحترازات العالية تعرضنا الى تفتيش واستفسارات في اكثر من موقع ايراني . وبصعوبة بالغة تمكنا من اجتياز كل الصعوبات والمخاطر في الوصول الى موقع مقرنا فوجدناه منهوبا ولم يتركوا لنا شيء من حاجاتنا الشخصية , كانت في عهدتي كاميرا تصوير صغيرة تعود الى الرفيق محمد اللبان والتي بدورها سرقت ايضا. وجدنا بطانيات نومنا ملفوف بها قتلى , ولحلكة الظلام لم نتمكن من ان نميز هل كانوا قتلى ايرانين ام عراقين ؟ ساد في وسطنا شيء من الارتياب. وبخطوات سريعة سبقت سرعة التنوير العراقي تمكنا من سحب صواريخنا الفاسدة .وباعادتها يكون قد اعدنا وجه الحزب ,كما جاء في تذيل برقية القاطع الموجه لنا . أ ستغرقت عملية سحب صواريخنا الفاسدة 12 ساعة بينما في الاوقات العادية يقطع الطريق بساعتين فقط. صادفنا في طريقنا ( فيطو وصبحة ) وهما الحماران الذان كنا لانبخل في استخدامهما في واجبات المقر ,من احضار الحطب والتموين والماء للمقر ومستلزمات أخرى . وسمين بهذه الاسماء نكاية من فيطو التكريتي مسؤول نادي الصيد وصبحة والدة صدام . مرت ايام معدودة وتم توزيعنا على الافواج والمقرات وكان نصيبي الفوج الخامس عشر وموقعه لايبعد الا أمتار عن مقر الفوج التاسع , يكادا ان يشكلا زاوية حادة مقدارها 180 درجة . كان الفوج الخامس عشر يترنح تحت وطأة الصراعات والتناحرات الطائفية بين كردي وعربي ونحن اصحاب مشروع وقضية وانتماء ومصير واحد . أما النظام العراقي وجيشه فهو مستمر في خططه لاجتياح المنطقة بعد التحركات الايرانية المريبة في شق الطرق وتعزيز القوات الايرانية , لكنها انهارت سريعا ,وفرت بترك مواقعها في ليلة واحدة بعد ان استغرقت شهور في بناء الرواقم والربايا .

امام كل هذه الخطط والتحركات للجيش العراقي , لم نكن نملك معلومات كافية تفيدنا في رصد هذه التحركات , اي يمكن القول انها في مستوى الصفر . كنا في وادي ( خور نوزان ) عددنا يصل الى السبعين مقاتلا وكنا معرضين يوميا الى التنوير والقصف المدفعي , وهذا واقعا مألوفا في حياتنا , وبمرور السنوات أعتدنا عليه . يوميا وفي كل ليلة كنا نخرج اربعة رفاق من الحزب الشيوعي مع مفرزة من الحزب الديمقراطي الكردستاني ( نوجة خانقين ) نكمن في راقمين مطلين على الشارع العام بين مدينة سليمانية وحلبجة , أي أكثر قربا الى مدينة حلبجة والرواقم عبارة عن ربايا عراقية سابقة تركت من الجيش العراقي لشدة مخاطر الهجمات الايرانية في الجنوب . كانت المسافة بين الراقمين يمكن ان ترى بالعين المجرده وهما الاكثر قربا من منافذ تقدم الجيش العراقي وتحركاته . شكا رفاقنا الى قيادتهم لاكثر من مرة ورجوهم بتوخي الحذر واليقظة من اهمالهم وعدم الالتزام بالالتحاق في واجبهم الليلي والذي تكرر في الاونة الاخيرة . وفي ليلة قمرية من يوم الاربعاء وصوت فيروز يصدح ... ياجبل البعيد خلفك حبايبنا ... من اذاعة الكويت , يشجن فينا ذكريات الاهل والاحبة والحنين لهم والى ماضي نستمد منه الروح والحياة لمواصلة الغد تحت تلألؤ النجوم الساطعة , تخلفت مفرزة الحزب الديمقراطي الكردستاني عن الالتحاق بالربية ,تجاوزنا الموضوع بالسخرية والنكات . ربما كان هناك فخا منصوبا لنا , رافقتها ليلة هادئة غير معهودة , لاصواريخ تمر فوق رؤوسنا لتدق مواقع الايرانين ولاتنوير يضيء ظلامنا. .

وصلنا الى موقع الربية وكنا اربعة رفاق وكان ابو زاهر عضو مكتب الفوج مسؤول المفرزة , وفي هذه الليلة انشغل بالنا بسبب عدم التحاق مفرزة الحزب الديمقراطي الكردستاني بموقع الربية . كان موقع ربيتنا مكانا عاريا من تحصينات المناورة والأمان ويفتقد الى ابسط مقومات حرب الانصار ,قمة جبلية جرداء لايحميها غير الليل والظلام , اللذان يمنحاننا القوة وحرية الحركة والاستطلاع .اما موقع ربية الحلفاء التي هجروها في تلك الليلة المقمرة. كان موقعا لربية عسكرية عراقية اخليت لشدة المعارك في الجنوب مع القوات الايرانية .كان موقما محصنا عسكريا , معدا لجبهة قتال . كان موقعا مشرفا على طريق انسحابنا في حالة وقوع هجوم او تقدم نحونا , ويشكل ممرا لعبورنا الوحيد الموصل الى مقر القاطع على ضوء الخريطة الجديدة للمنطقة , لو لم تخل هذه الربية من جنودها لكانت هناك طرق وتحولات جديدة . بدأنا واجباتنا في الساعة الثانية عشر ليلا بعد تمتع جميل وممتع بضوء القمر ولوحة النجوم وصوت فيروز يكسر سكون الليل ويشجن النفوس من اذاعة الكويت . كان نصيبي في الحراسة الساعة الثانية ليلا بعد تسلمي موقع الكمين من ابو زاهر وبعد دقائق معدودات تخترق مسامعي اصوات تعبر الرجع البعيد وتنذر بخطورة القادم . ودبيب اقدامهم تخطوا نحونا مع هبوب نسمات صيف كردستان , اصوات خافته وخائفة تهمس بتبريكات الانتصار وسيطرتهم على المنافذ تتسرب مع نسمات الهوى .للوهلة الاولى وقع نظري على ربية حلفائنا .الجيش العراقي يتزاحم في زواياها بحثا عن السيطرة . لم يكن امامي الا ان ابلغ مسؤول المفرزة ابو زاهر بعد ان تأكدت من تطويق المنطقة كاملة واحكموا طوق الحصار علينا , أمرنا مسؤول المفرزة بالانسحاب , ربما رحمونا بترك منفذ وحيد للانسحاب تحت مرمى بنادقهم .المعلومات المؤكدة التي وردتنا فيما بعد تشير الى ان التقدم بدأ باتجاهنا في الساعة السابعة مساءا , وهذا كما اكدت سلفا يدخل ضمن حملة عسكرية اجتاحت المنطقة بكاملها وخطط لها مسبقا ومعلومات قيادة قاطعنا كانت بعيدة كل البعد عن الوضع ومستجداته .

نجونا بأعجوبة وبسرعة البرق ولم اعرف الى الان لماذا لم يطلقوا النار علينا ؟ كان مصيرنا معلقا بضغطة زناد .

بوقت قياسي قصير جدا وبسرعة حركة الانصار ,وصلنا الى مقر الحزب في الوادي وبلغنا الحرس ان يوقظ الرفاق من نومهم وان المنطقة أجتيحت ومطوقة من القوات الخاصة العراقية .وبعد ان استعد الجميع , انتشلنا كل ماخف وزنه وغلا ثمنه من حاجات وممتلكات الحزب وايضا الشخصية , وانسحبنا باتجاه مقر رفاقنا في الفوج التاسع في وادي ( باني شهر ) الذين كانوا يغطون في النوم تحت رعشة نسمات كردستان المنعشة . بدأنا الصعود الى الجبل باتجاه الاراضي الايرانية عبر وادي ضيق ووعر تضطر في بعض اماكنه التسلق زحفا على البطون . في الليل وقبل الدخول الى الاراضي الايرانية وبعد رد وأخذ من النقاشات والاحتمالات والاتصالات بين الشد والجذب , أتخذ قرارا سريعا يقضي بالعودة الى المقرات لسحب ممتلكاتنا ولابراز قوتنا امام العشائر .وسرعة القرار ارتبطت بمعلومات مؤكدة عن عدم دخول القوات العراقية الى المقرات . تحركنا قوة كبيرة رغم سطوع اضواء التنوير التي حولت المنطقة الى نهار ساطع وكان نصيبي ايضا ان اكون في كمين متقدم ويشرف على حركة الجنود ان حاولوا التقدم باتجاه مقرنا . استغرق الكمين مدة ستة ساعات وسبقته ساعتين من المشي قبل الوصول الى المقر . كان الجو حارا والعرق يتصبب من جبيني وبلل العرق المالح اللاهب عيني وشفتي كنت متأهبا لكل طاريء بعد ان تأخر الرفاق طويلا في الوادي والاتصالات مقطوعة والعطش يكاد ان يطرحني لولا قدوم الرفاق من الوادي والتنوير مشتغل . سحبت حالا وربما بطريقة لم تريحه قارورة الماء من ملازم ماجد من حزامه وانطرحت ارضا وفرغت قارورة الماء في فمي وقضيت عليها . بدأنا الانسحاب باتجاه رفاقنا الذين تركناهم في الوادي وكانوا مشدودي الاعصاب والقلق لتأخرنا الطويل .

وفي الليلة التالية قامت قوة من الحزب الديمقراطي الكردستاني ( نوجة خانقين ) ,وهو الفرع التابع لمدينة خانقين بشن هجوم في سبيل أ قتحام الربية , ظنا منهم ان الجيش لم يرتب بعد وضعه العسكري في الربية التي احتلها منذ يومين متناسين انها كانت ربية عسكرية تركها الجيش قبل سنوات لاحتدام المعارك في الجنوب بين القوات الايرانية و العراقية . الهجوم فشل في الاقتحام مع فقدانه لثلاثه من عناصره وايضا اربعة جرحى من الحزب الديمقراطي ولم يحقق اغراضه في استعادة شبر من الربية , لكن في الليلة نفسها امطرونا بوابل من الحمم البركانية وحتى في هذا الموقف لم يبلغونا في نية هجومهم لاخذ الاحتياطات اللازمة في التحرك والاستعداد . بعد ان فشل هجومهم بساعات وعادوا الى مواقعهم في الجهة الثانية باتجاه المقرات في مناطق كرجال – صب الجيش جام غضبه باتجاهنا – اعتقادا منه ان الهجوم جاء من جهتنا فامطرونا بحمم بركانية من القنابل والصواريخ مابين كل ثانية واخرى كان يطلق باتجاهنا صاروخا وقنبلة ,أهتز الجبل وتفتت الصخور وانقلعت الاشجار . ونحن موزعين في الكهوف والقطوع على شكل مجاميع صغيرة , لا احد يعرف عن بعضنا الاخر ونحن مختبئين يلفنا الرعب والخوف في الكهوف الجبلية ونحتمي بصخورها لمدة سبعة ساعات متواصلة وبدون انقطاع ورائحة البارود تزكم انوفنا وتشق بدويها القوي طبلة مسامعنا . جميعنا لم يمهل حتى الى ان يمد يده او عينه الى عتبة الكهف . الجميع في انتظار بزوغ الفجر , متوقعين هجوما كاسحا غطى بقصف صاروخي جنوني وفي الصباح سيكون الجيش العراقي فوق رؤوسنا . في الصباح خرجنا من الكهوف بعد ان توقف القصف ننظر بحيرة ودهشة الى بعضنا , مندهشين من حالنا وفي اننا مازلنا على قيد الحياة . في نفس هذه الليلة دخل الجيش الى مقراتنا وعرض التلفزيون العراقي خيمنا في ( خور نوزان ) , أشيائنا متناثرة ومبعثرة وليعلق المذيع العراقي ... انه مكان العملاء وادلاء الخيانة ,هكذا ينعتوننا ونحن اصحاب قضية وفكر .

في الصباح بدأنا الانسحاب نحو الاراضي الايرانية والى داخل المعسكرات الايرانية والبازدار وتنظيمات العراق من قوات بدر . وفروا لنا الطرق السهلة والغذاء والماء ووسائل النقل للوصول الى مقراتنا في مناطق ( كرجال ) . استقبلنا كجيش مهزوم من رفاقنا في قيادة سليمانية وكركوك وحاولوا توجيه عقوبات عسكرية الى الرفاق في مفرزة الكمين – وكنت احدهم – لكن الوقت ومستجداته لم يمهلهم فالتطورات العسكرية كانت تسير بوتائر سريعة سبقت تخميناتنا وتحضيراتنا . قرروا الرحيل باكبر قوة الى مناطق ( شرباجير ) تحت رحمة التواجد الايراني واستفزازاته , لكن كان قرار الحزب التاريخي والوطني بعدم مد يد التعاون والتسيق مع الاحتلال الايراني الذي كنا نرى فيه اغتصابا لارضنا ووطننا . كنت مع اول مفرزة وطات قدماه جبال شرباجير . اختير اكثر من موقع ليكون مقرا للقيادة واخيرا تم تشخيص موقعين لايفصل بينهما الا نهرا صغيرا وكان موقعي في مقر قيادة القاطع وبدأنا العمل ببناء المقرات والغرف و بسرعة قياسية شيدنا مقر غرفة القاطع بقيادة الرفيق وبطل بناء المقرات احمد لالو وهي عبارة عن مقرات مكشوفة للمارة وهدفا سهلا وبسيطا للطيران العراقي , لكن لربما للقيادة التاريخية حساباتها الاستراتيجية والعسكرية الموغلة في العمق والحسابات وللدلالة على الفطنة والعبقرية لم يدم بناء المقر طويلا ففي اول غارة عسكرية عراقية هوى المقر , وبعد ان تركته توجهنا الى قاطع بهدينان (السلاسل الجبلية المحيطة بمدينتي دهوك ونينوى ) في نهاية 1985 . في معمعة بناء المقر وجدنا انا والنصير ابو حاتم مزرعة اعناب كبيرة و بعد ما تخمنا من طعمه قررنا ان نعمل شراب منه , فقمت بتحضير قناني وعبوات تحضير كبيرة الحجم واخفيتها بعناية في الجبل وقمنا بقطع العنب وعصره في تلك الاواني وقد استغرق اياما عديده كنا نتسابق مع أي فرصة لاستغلالها أنا وابو حاتم وقمنا بحفر الارض بعد ما انهينا من عصير العنب ودفناه تحت الارض في مكان امين وبعيدا عن الطرق السالكة , لكن لم ننتبه الى اننا كنا مراقبين من الملازم فاضل ووصلت الامور الى حفر الارض للتأكد مما كنا نقوم به , واكتشف هذا الامر لاحقا. بعد مرور شهر على ذلك لاحظنا اكثر من رفيق اوحى لنا بذلك مما دعانا لان نقوم ولتجاوز العقوبات التي ستفرض علينا دعينا الى اقامة امسية ترفيهية وكان اول المدعوين الرفيق ابو لينا وبعض من مسؤولي القاطع وتمتعنا بشراب كان مذاقه طيبا و بليلة جميلة تجاوزنا فيها الالتزامات الحزبية والعسكرية – وانستنا قليلا هموم العمل والصعوبات .

شرباجير, مناطق جبلية واسعة ,وعرة , مفتوحة ومطلة على مدينة السليمانية . تمتاز بكثرة الانهار والبحيرات المليئه بالاسماك وكذلك بتنوع فواكها . الناس هناك يعيشون في قرى متباعدة عن بعضها . القوات الايرانية ماضية في شق الجبال وتبليط الشوارع وبتعزيز القوات المسلحة والبازدار , وذلك بهدف الهجوم الواسع على مدينة سليمانية ولصد الهجمات التي تنوي منظمة مجاهدي خلق القيام بها او على الاقل الحد من تاثيراتها و التي تنشط في هذه المناطق انطلاقا وتغطية من القوات العراقية . المعسكرات الايرانية متداخلة مع مقراتنا ويدخلونها متى يشاؤن بحجة انهم أظلوا الطريق . روى لي الرفيق عمر ( ابو علي السماك )الذي كان معي في نفس الكهف الجبلي في ليلة الحمم البركانية والذي التقيته فيما بعد في مدينة قم الايرانية والذي ترك الانصار خلسة بعد ان سئم من اساليب العمل فيها . هناك أيضا عدد من الرفاق في تاريخ التجربة الحوا في العودة الى الداخل رغم احتمالات الموت المفترضة فيها ومواجهته هربا من تسلكات المسؤولين والذين لايتوانون في مواقف كثيرة عن محاولة افراغ التجربة من مضامينها الثورية والوطنية . اراد هؤلاء الرفاق والذين واجهوا الموت في الداخل بالحفاظ على هذه المضامين والاهداف الوطنية , لاننا كنا نشعر ان هذه تجربتنا وتاريخنا وشرفنا ولابد من الدفاع عنها . سرني احد الرفاق ; عندما كان في الداخل ; كيف انه استلم رسالة حزبية من احد الرفاق والذي انتخب عضو في اللجنة المركزية في المؤتمر السابع , ينتحل فيها صفة باقر ابراهيم عندما كان مسؤول للتنظيم المركزي في الحزب انذاك من اجل شحذ معنويات الرفيق في الداخل . وهناك مفارقات ومواقف عجيبة غريبة , طويت مع مرور السنين , وللاسف الشديد والى الان استمر هذا النهج – وبتغطية مشبوه محاولين نسف التجربة وتاريخ الناس وقيم الشهداء. هنا في مالمو السويدية على سبيل الذكر تكونت مؤسسات ولجان تعني بتجربة الانصار وتم عقد المؤتمرات والاجتماعات . تجربة الانصار ......... فيها تاريخ الناس لايمكن ان يلغى او يهمش . حاول صدام ونظامه الاساءة لكنه لم يستطع . كذلك حاول البعض السير على نفس الطريق من خلال الغاء تاريخ البعض من الانصار وذلك باستبعادهم قصرا لدوافع شخصية وسياسية ولأراء معارضة لهذه الفعاليات التي هي جزء من تاريخهم وعلى سبيل المثال فقد دعى احد الزملاء باعتباره نصيرا علما انه لم يمض ساعة واحدة في حركة الانصار وهناك العديد على هذه الشاكلة المضحكة .

والشهيد عمر ( ابو علي السماك ) من اهالي الصويرة في محافظة الكوت ; أستشهد في احداث 1990 أثناء محاولته العودة الى مدينته من ايران للقاء بزوجته وفلذة كبده ( رماح ) والتي فارقها منذ عام 1978.

روى لي ... عندما سلم نفسه الى الايرانين في منطقة شرباجير حيث ادعى انه ملتحق من بغداد و هاربا من بطش النظام وقادسيته , لكنهم واجهوه بادلة دامغة عن وجوده في مقرات الحزب وطبيعة عملنا وتفاصيل يومية اخرى دقيقة .

حركة الانصار في قاطع سليمانية وكركوك تحديدا شهدت عملية احتراب عنيفه , اذ اشتعلت في احداث بشتاشان في الاول من أيار عام 1983 ولم يطفيء فتيلها الا بفرط مشروع المفاوضات بين الاتحاد الوطني الكردستاني وأجهزة السلطة العراقية عام 1985 . كانت هذه الحرب واحدة من عربونات المفاوضات الدائرة بينهما و ان نحصر في شريط حدودي وتصبح استراتيجتنا دفاعية (سلبية) وينصب اهتمامنا على بناء المقرات وقيام الدورات وتجميع الحطب والطبخ . مما ابعدنا عن اهدافنا الحقيقية و التي ضحينا وجئنا وناضلنا من أجلها وتحملنا حياة غير طبيعية بكل تفاصليها فيكفي ان تكون خارج المألوف الحياتي والانساني .

لكن بقينا وبعناد متمسكين في انجاز مشروعنا الوطني والثوري . ظاهرة الانسحاب للشيوعين من العمل السياسي لم يألفوها سابقا ولم يشهد تاريخ العراق بهذا الحجم المرعب من العزوف عن العمل الحزبي اذ تعد سابقة خطيرة وغريبة في تاريخ الشيوعيين العراقيين حيث استفحلت في السنوات الاخيرة , لكن العامل الاعظم وذو التأثير الاكبر لايعود الى بطش وارهاب السلطة الدموي فقد كان من قبل مواقف بطوليه سجلها التأريخ للشيوعيين وتحديهم للظروف الصعبة في سنوات ماضية حيث تعرضوا الى ابادة جماعية خاصة في اعوام 1963 و 1970 . لكنهم وكالمعهود بهم جاءوا بقوة اكبر وبمواصلة أكثر تحديا . لكن سياسة التشهير والتخوين ومصادرة حق الرأي الاخر هي التي ابعدتنا عن الجماهير ودقت أسفين العزلة بين ابناء شعبنا وأفرغت محتويات ومضامين نضالنا الوطني والقومي , فروحية الاخذ برأي الاخرين وتفنيدها والرد عليها بالحجة والمنطق قد ابعدت وحل بدلا عنها سياسة الارهاب الفكري والسياسي .

بعد سفر طويل ومضني وخطير وصلنا الى مناطق كرميان صيف 1987 ; وهي المحطة الاخيرة التي تقودك الى بغداد الحبيبة . في اللقاء الاخير مع ابو ناصر في منطقة قرداغ , طلبت منه تحديدا نقطة مهمة وهي ان اتولى شخصيا مسؤولية النزول الى بغداد وسميت الرفيق الذي سيسهل لي هذه المهمة لثقتي العاليه بقدرته على ذلك وهو أحد كوادر منظمة ( الصدى ) في بغداد وذلك في الفتره مابين 1980 –1982 . وهو زميل دراسة ورفيق لي في كلية الاداب – جامعة بغداد – عمر احمد اسماعيل المعروف ب ( شيروان ) الذي أستشهد في مزرعة الشيوعيين , مزرعة الشيخ عطا في أطراف مدينة كفري عام 1987 , بعد ان حوصر من قبل مفرزة فرسان ( جحوش ) . في انتفاضة التسعينيات , أنتقم من امر المفرزة وقتل مع ابنه من قبل اخوان شيروان الذين كانوا ايضا ضمن تشكيلات وافواج الجحوش انتقاما وثأرا لدم اخيهم شيروان . لكن مقترحي لم ينل القبول من قبل ابو ناصر بل جوبه بالرفض القاطع . كانت وجهة العمل التعاون مع محلية كركوك وسليمانية . كنت أساسه ونهايته بالكارثة التي وقعت بي . محلية سليمانية وكركوك كانت بقيادة قادر رشيد ومساعديه شيخ صلاح البرزنجي ومام فتاح الكادر الفلاحي الذي لم تكحل عيناه ببصيص أمل عن اولاده الاربعه الذين غيبوا في سجون البعث منذ سنوات قضت . اما مام صالح احد المهمين في هذا التنظيم كان مسافرا في دورة حزبية في احد البلدان الاشتراكية السابقه . كان الادرى والاقرب بسبل وطرق العمل وتفاصيله وانطلاقا من صلته القريبة بتنظيمات منظمة الصدى ونشاطاتها في بغداد منذ عام 1980 . لكن كان الموعد يطول ويتعقد بتعقد الوضع في الداخل مع رفاق درب وأصدقاء وأحبه , يبتعد يوما بعد يوم . في اللقاء الاخير ومفارقتي لهم منذ سبعة شهور من تاريخ صعودي الاخير من بغداد الى قاطع بهدينان في مناطق الموصل ودهوك , كانت تجري احاديث يومية ومتواصلة مع قيادة محلية سليمانية وكركوك وخاصة مع مسؤولها المؤقت قادر رشيد الموجود حاليا في ضواحي مدينة استكهولم وذلك لترتيب أمر قضية نزولي الى بغداد . حاولت عابثا طرح مقترحي ثانية وهو مساعدتي في الوصول الى مدينة كفري أو الى مزرعة الشيوعيين والتي سبق لي وان عشت فيها ومررت فيها لمرات عديده وذلك يعني وصولي الى بيوت رفاق درب ومناضلين ابطال في منظمة الصدى , كنت على اتصال و معرفة بهم . كل النشاطات والتحركات كانت تتم من خلالهم وبمساعدتهم اللوجستية والسياسية , لكنهم للأسف الشديد وربما الى الان لم استطع حل لغز ودوافع رفضهم وبشتى الذرائع الغير مبررة في سد هذا المنفذ امامي الذي أئتمنته ودافعت عن صدقية . وللمهزلة وصل بهم الحد الى مد أثارة الشكوك حول الوضع الامني لهذا الخط , لكن في الوقت نفسه هناك تنسيق بينهم وعلى مستوى عالي , ومسؤول هذا الخط الان عضو ( م – س ) ومسؤول محلية كركوك . الصديق الوفي – والشيوعي الشجاع – الذي جربته خلال لقاءتنا الدائمة في المعهد البريطاني في الوزيرية وشوارع بغداد وأروقة كلية الاداب وزوايا المستنصرية .... أشتي شيخ عطا . في البدء لم اتمكن من هضم واستيعاب فكرة قادر رشيد الجهنمية حول طريقة توجهي الى بغداد لكن بعد تطميناته لي وسد منافذ العبور الاخرى امامي وزد على ذلك ظروف العمل الصعبة وطبيعة المنطقة وخوفي الذي بدأ يتعاظم من تسرب الخبر الى أجهزة السلطة كما حدث مع الرفاق الاخرين – كانت الشهيدة ام ذكرى ضحية هذه التسلكات – فبعد تلقيهم الخبر يستقبلوك باول سيطرة ويسلموك الى خيوطهم الممتدة الى داخل العراق وتبقى تحت رحمتهم وسيطرتهم و متى ما شعروا بخطورتك في الشارع يعالجوك بحسب اجندتهم المخابرتية و ربما تبقى سنوات تحت كنترولهم المخابراتي وانت تعتقد انك تعمل بعيدا عن أعين الرقيب , وتجربتنا تثبت هذه المشاهد والمواقف وهذا ما حدث لرفاق عديدين ولم يعرف شيء عنهم الى الان ولكن لا أحد يهمه أمرهم ومتابعة مصيرهم . هناك من وقع بأيديهم واخفى حقيقة وضعه عن الحزب بل نجح في تمربر سقوطه وبنى للحزب خطوطا وهمية والحقيقة كانت هي مارتبته اجهزة المخابرات العراقية . في نهاية المطاف والنقاش مع محلية كركوك توفر لي شيء من القناعة والتي تعززت بعد ان سدت امامي كل منافذ العبور بعمد , فتوجهت على الخط الذي رسم لي نحو عمق المدن . قد يلومني العديد من الاصدقاء والرفاق والاحبة عندما يطلعون على هذه السطور من ارض الواقع بدون تزويق ولارتوش فهذه هي الحقيقه و هذا الذي حدث معي وبامكان العشرات من الرفاق الذين مازالوا احياء ان يغنوا هذه المادة بالدحض والنقاش .ربما سيتسائلون ..... كيف تستسلم بهذه البساطة لتكون كبش فداء ؟ لاسيما واني عملت لسنوات ليست بالقليلة في مجال تنظيمات الداخل منذ بدء انهيار تنظيمات الحزب في محافظة ديالى وتحديدا منتصف عام 1979 , خاصة وقد توفرت فرص السفر الى خارج العراق أو الالتحاق بمواقع الانصار في كردستان حيث كانت في بداية تشكيلاتها . ناضلنا وواجهنا النظام في عقر داره متحدين كل اساليبه الترغيبية والترهيبية رغم قساوة الايام وحزن الناس وكوابيس الخوف ومشاهد الموت والحروب , لكن للضرورة احكام . وبعد ان ضاقت بي السبل والخطر اخذ يداهمني وفي اي لحظة من الممكن ان يلتف حول رقبتي . البقاء صار يعني الموت المحقق حينذاك توجهت الى كردستان لاكمال مشواري النضالي , لكن الواقع لم يكن بمستوى الطموح وطموحنا كان بكبر العراق , عراق الرافدين دجلة والفرات فكنا على قناعه ان الداخل هو السبيل الوحيد والمنشود في تحقيق اماني الشعب . مازالت صرخة الكاتب الجزائري الطاهر وطار ترن في مسامعي في مخاطبته للمناضلين في احدى رواياته ...... جو – جو – جو ........ والمقصود الداخل .

بدأنا في بناء أول خلية حزبية بعد هزيمة 1978– 1979 وهنا اقصد الهروب الجماعي من ساحة النضال وتركها للبعثين في الاستفراد والاستحواذ على مقدرات شعبنا العراقي المادية والمعنوية والسياسية . أطلق مسؤول خليتنا المناضل والشهيد فاضل هاشم الكورجي اسم ( ديالى ) ونحن اعضاء الخلية انا وثامر البغدادي لم نتردد لحظة واحدة في الموافقة على هذا الاسم لمعانيه الكبيرة والعميقة في نفوسنا . كان فاضل يكرر دائما علينا ان شعرتم بأي خطورة توجهوا فورا الى كردستان , فرفضنا هذه القناعات . ثامر الذي توفي اثناء انسحاب القوات العراقية من الكويت في جريمة المطلاع , الطريق الذي يربط مدينة البصرة بمدينة الكويت اذ تعرض الجيش العراقي الى أبادة جماعية أثر أنسحابه الغير مخطط حيث واجه قصفا شديدا من قبل الطائرات الامريكية لتلك الحشود المنسحبة .

لقد كانت قناعاتنا السياسية والفكرية والاجتماعية تنصب على مواصلة النضال في الداخل ,ولهذا السبب فقد اعطي الحق للاخرين في لومي وانتقادي لهذه البساطة في الوقوع في الكمين . ولكن في تلك الظروف وذلك الزمان كان لي الحق وايضا طبيعة الظروف التي احاطت بي ربما تمنحني الفرصة في ان اغامر في هكذا مواقف , وباعتبار قادر رشيد كادر منطقة ( كري منطقة ) وباعتباره بمستوى مسؤول محافظتين في ظروف العمل السري , أعتقادا مني وربما من الاخرين في ان ما يهمه هو مصلحة الحزب وكيانه والحفاظ على كوادره واعضائه وبعيدا عن الاهمال المتعمد او الارتبطات الاخرى التي تستهدف الحزب ورفاقه . كان مقترح الموت لقادر رشيد لي هو ..... التوجه الى ( قادر كرم ) الشارع الرئيسي بينها وبين محافظة كركوك بمحاذاة احدى ربايا السلطة التي تشرف وتحمي هذا الشارع العام بين بفداد وكركوك . ارتديت ملابسي المدنية التي كنت احملها على كتفي منذ شهور والتي كنت قد اشتريتها من محلات الموصل قبل صعودي الاخير . وتركت ملابس النضال في احد بيوت القرية وذلك على أمل في ان اعود الى لبسها ثانية. وحصلت على كلمة السر المختلقة خشية تعرضي الى سؤال من ازلام الربية. كلمة السر والانقاذ هو كاكا قادر رشيد يوجه تحياته النضالية لكم . ناقشت بالحاح طبيعة العلاقة بهذه الربية لكنه كان يردعني مبررا عناده بأنه جزء من العمل السري المقدس . كان يبرر ويفند , متباهيا بحصول هذا الاختراق وسط ربايا الجحوش الطلبانين وبعبقرية التنظيم السري داخل مؤسسات الدولة وتشكيلاتها , لكن الواقع أكد عكس ذلك وهم الذين أخترقونا .

حاول تطميني ذاكرا احد رجال الربية وهو كاكا حمه , طلبت منه ان يخبرهم بقدومي وكان هذا هو اتفاقنا , لكنه أخل به .

واخيرا تم اختيار الساعة واليوم للتحرك باتجاه القرى المحيطة والقريبة من مراكز المدن والقصبات . توجهت عصرا من احدى القرى مع الرفيق ماموستا علي واخر من البشمركة – التي كانت تشكل احد معاقل الحزب الرئيسية والجديدة – بعد اختفاء وانقطاع دام قرابة ثلاث سنوات وذلك بسبب الاتفاقات والاصطفافات بين السلطة المركزية والاتحاد الوطني الكردستاني . كانت واحدة من عرابينها قتل الشيوعيين وتحطيم قوتهم العسكرية المتنامية مما اثار حفيظة القوى المعادية , وأحداث بشتاشان المرعبة كانت باكورة هذا الاتفاق . اما اسم القرية التي انطلقنا منها في تلك الامسية الهادئة فلم اعد اتذكر اسمها لتراكم السنين , كانت عائلة مام علي تسكنها . ابو فيان , أب لثلاثة شهداء سقطوا في معارك الشيوعيين البطولية والتحق بقائمتهم الشهيد ابو فيان . ودعت بحزن ممزوج بكبرياء المناضلين ذلك المساء الصيفي خمسة حزيران 1987, ودعت رفاقي ابو شوان , شيخ صلاح صاحب الجملة المعادة والمكررة يوميا ( وقف الهدهد في باب سليمان بذله ....)... ومام فتاح الكادر المفجوع بتغييب اولاده الاربعة في سجون البعث .مع هطول الليل ونسمات كردستان المنعشة , وصلنا احدى القرى الاكثر قربا من شارع المدينة , شارع قضاء قادر كرم برفقة مامستا علي ( علي الروسي ) وأحد الانصار , دخلنا القرية بصعوبة وخلسة بسبب ا لهجوم الذي تعرضنا له من الكلاب ونباحها ولربما ستكشف سرنا وتحركنا . توجهنا فورا الى احد بيوت القرية والتي تربط أهل البيت بعلاقة تؤهلنا اللجوء اليهم في مثل هذه الظروف التي تحتاج الى الكتمان والسرية . قدم لنا وجبة عشاء بسيطة . وكالعاده في هكذا مناسبات , دارت نقاشات حول الوضع السياسي في المنطقة مع أهل البيت وكانت سيدة البيت أمية لكنها تصدرت الحديث عن نوايا السلطة وامكانيتها في قتلنا اذا ارادت , وفعلا تأكد هذا الحدس المبني على المعطيات لأمراة مسنة عاشت ويلات الحروب ودموية الانظمة التي تعاقبت على الحكم في العراق , فبعد عام أجتيحت المنطقة عن بكرة أبيها وقدمنا قافلة عزيزة من الشهداء الابطال امثال ملازم ابويسار , علي عرب , عمار , ملازم سامي واخرون .

بعد ذلك ذهبنا الى النوم بعد ان فرشوا لنا على سطح البيت . فتحنا المذياع واستمعنا الى اخر تطورات الحرب العراقية الايرانية في جبهات الجنوب والوسط , تبادلنا النقاش حول الحرب ومعطياتها . كنت في حينها متوجسا وخائفا من وقوع شيء ما , ربما لم يكن في الحسبان حدوثه على المدى القريب , حاولت ان اخفي هذا التوجس من خلال حديثي ومشاركتي في النقاش , لكن تخوفي بقي واضحا من خلال اسلوبي في الكلام و الحاحي في طرح الاسئلة والاستفسارات مما دعا الرفيق علي الروسي الى سؤالي ...... هل انت خائف ؟ فقلت له نعم انا غير مطمئن لهذا الطريق الغامض وسلوكي كان واضحا ويدفع الى هذا التوجس ., فليس من السهل الوقوع بايديهم وتصبح رقما في ملفاتهم بعد ان كنت مناضلا ويحسبون لك الف حساب , وهذا ماثبت بالدليل عندما وقعت بايدهم . كم كان اهتمامهم بمصيري وانا خارج قبضتهم الحديدية (هذا ما تأكد لي من خلال مجريات التحقيق ) . كانوا يكررون علي , ان القيادة تشرف على التحقيق معك من خلال كاميرات التصوير المختفية في زوايا غرف التحقيق المرعبة .

تساءلت مع نفسي مرارا في تلك الليلة الاخيرة قبل التوجه الى الحبيبة بغداد . في المرات السابقة من النزول لم ينتابني أي شعور بالخوف والتوجس , بل كنت جريئا اكثر مما ينبغي , بهذه الكلمات خاطبني الرفيق عامل ..... ويسرد بالقول مئات من الرفاق توجهوا الى بغداد عن طريقنا ...... لم نصادف مثيلا لك بالشجاعة والاقدام وبدأ يعدد لي اسماء الرفاق .

الافكار والاحتمالات بدأت تداهمني قبل النوم في ذلك الفضاء الكرمياني من صيف 1987 تحت تلألؤ النجوم وسطوعها في السماء . ماذا سيكون مصيري اذا وقعت بايديهم ؟ هناك رفاق سبقوني وقد ضيعوهم وبدون اثر يذكر لهم بأستثناء قصاصة ورق مهترئة تسلم الى ذويهم و تنذر بقتلهم . تشكل هذه القصاصة من الورق عقد موقع بالدم , فاذا ما تسربت معلومة او اقيمت مراسيم عزاء سيكون مصيرهم هو الحاقهم بالشهيد .

أستلقينا بعد طول نقاش, ممل ومكرر مع أهل البيت , توجهنا نحو النوم لكن لم يكن سهلا فرغم التعب ولكن لم يغمض لي جفن حتى الصباح فقد كنت على موعد مع المجهول , وكان حدسي في مكانه .عند الصباح وبعد تناول وجبة الافطار المكونة من اللبنة الكردستانية مع الخبز الحار , كانت محطتنا القادمة هي قرية الشهيد ( كاوه ) الذي أستشهد قبل ايام في واحدة من أشرس معارك الشيوعيين البطولية في قادر كرم . توجهنا بعد ذلك الى قرية متقدمة , يتواجد فيها عدد قليل من الانصار وتعد شبه مهجورة وربما لانها خط تماس بين الانصار وقوات الحكومة . في اللحظات الاولى من وصولنا الى تلك القرية واثناء الحديث مع الانصار الذين استقبلونا بفرح لمعرفة بعض الاخبار حول قدوم رفاق من قواطع أخرى الى قاطعنا الذي شهد عددا من الفعاليات والعمليات العسكرية والتي أحتلت اهتماما واسعا في صحافة الحزب وأحاديث الاحزاب والناس . وفي جوهذه الاحاديث أغارت الطائرات السمتية علينا في القرية وتوزع الرفاق في القطوع والملاجيء التي كانت معدة مسبقا لهذه الاحتمالات للاحتماء بها من الصواريخ . أما انا فتوجهت الى احد بيوت القرية ودخلت غرفه واحتميت بملجأ معد على شكل حرف ( ل ) عثرت عليه صدفة , ربما الضرورة قادتني الى ذلك , لانه للمرة الاولى أدخل القرية. في الللحظات الاولى , لم يسعفني الوقت لمعرفة القرية وزواياها وطرق الانسحاب واماكن الاحتماء والاختفاء . ولقرب الطيار من الارض فقد تمكن من رصدي وانا ادخل البيت . كنت مجردا من السلاح للمهمة الملقاة علي , وبسرعة صاروخية تمكن الطيار من قلب طائرته في الجو وبدأ يقصف البيت بملجئه بصاروخين مما حول البيت الى اكوام من الانقاض والاحجار والاخشاب , لكن الملجأ الذي حماني بسبب طبيعة بناءه حيث سقطت شظيا القصف في مدخله . شققت طريقي وسط هذا الركام من الاتربة والاحجار والغبار الذي أكتسح وجهي وملابسي . في لحظة تأمل في حينها وانا انظر الى أنقاض البيت المهدم , كيف نجوت بهذه الاعجوبة الربانية ؟. بعد مرور عشرة دقائق من حدوث هذه المصادفة الغريبة والمضحكة والاليمة , تبادلت مع الرفيق علي الروسي حديث قصير وسريع ,انتهى بقرار شخصي مني , ان اتوجه حالا الى بغداد وذلك كما كان مقررا لي ومتفق عليه وكذلك ضرورة عدم اللقاء برفاقنا في القرية , لكن الذي حدث وربما خارج ارادتنا وايضا بسبب ظروف المنطقة العسكرية كلها أملت علينا دخولنا القرية . كان دور الرفيق علي الروسي يختصر على مجرد ايصالي بأمان الى الشارع العام بين بغداد وكركوك باعتباره ابن المنطقة وكادرها الحزبي ومن المؤكد انه يعرف نقاط الخلل والضعف في سيطرة قوات السلطة على مداخل المدينة ومخارجها . هناك في قاطع بهدينان ودشت الموصل قد يختلف الامر تماما فهوأكثر أمانا وسهولة , وتمتد الاتصالات الى داخل مدينة الموصل بسبب بجهادية الرفيقين صباح كنجي وعامل . صادف ان تأخر نزولي لايام لورود معلومات عن تحركات السلطة في المنطقة . في نزولي الاخير من ذلك القاطع , أخرني الرفيق خديدا ختاري ( ابو داود ) لعدم الاستقرار في المنطقة ولحين توفير وسيلة نقل سهلة وامينة من قرية ( دوغات ) الى الموصل .

أنهيت الحديث مع الرفيق علي الروسي سريعا وارتديت ملابسي المدنية وودعت ملابس النضال ثم أودعتها لدى الرفيق علي وصعدت بصحبة الرفيق على الدراجة الناريه والذي رافقنا طيلة مسيرتنا . بعد دقائق كنا على مقربة من الشارع العام في منطقة مفتوحة ومجردة من الصخور والاشجار والجبال . ترجلت من الدراجة مودعا الرفيق , حاملا معي بعض ادبيات الحزب وحاجاتي الشخصية التي لاتتعدى ان تكون ماكنة حلاقة وفرشة اسنان ومبلغا من المال مقداره 350 دينار .

توجهت نحو الاراضي الزراعية وباتجاة احدى النقاط المتفق عليها .الساعة تشير الى الحاديه عشر ظهرا وشمسا عمودية وارض تفوح بالحرارة . عندما اقتربت من الشارع أنتابني شعور غريب هو . مزيج من الخوف والاحباط واليأس. أنتبهت ومن الوهلة الاولى حين اقترابي من الشارع الى وجود تحرك غير طبيعي داخل الربية ومحيطها وان هناك من حمل بندقيته محتميا بساتر الربية ووجه فوهة سلاحه نحوي . في هذه الاثناء حلق الطيران السمتي من جديد في السماء , ترددت وفكرت بالرجوع من حيث أتيت , لحظات حرجة من التردد والاقدام واصبح كل شي أمامي مستحيلا وضربا من الانتحار في كلا الحالتين , في حالة التراجع سأكون هدفا سهلا لمرمى الطيران بعد ان اصبح على مرتفع قريب من رأسي وتحت مرماه كان يحوم حولي ويطرق مسامعي حديث الطيار مع موقع الربية,عندها شعرت بالهزيمة وبالحصار يطوقني من كل جانب , لايوجد أمامي سوى مواصلة السير باتجاه الشارع وحين وصولي الى اخر نقطة في الشارع هجموا علي ثلاثة من رجال الربية المدججين بالسلاح وبأصوات هستيرية صرخوا بوجهي من انت ؟ أرفع يديك الى الاعلى .في البدء كنت مترددا ومخنوقا فقلت لهم : أبلغكم تحيات المناضل قادر رشيد , لم يلفت أنتباههم هذا الاسم أو ربما ضاع تحت صراخهم أو ضربهم لي . سحبوني من ملابسي الى داخل الربية تحت وابل من الركلات والصفعات وبأخماس البنادق . أدركت سريعا بانه ربما سبقت وقع الحدث وتداعياته المأساوية وأن ورقة رفيقنا المراهن عليها خاسرة بل كانت مختلقة وبعدها تم تسليمي الى الاستخبارات بمنتهى البساطة والغدر .حين كنت مطروحا تحت ركلاتهم هاجمتني جملة من الافكار والتخريجات التي قد تسعفني في تبني رواية ربما تشفع لي بالخلاص منهم.

وكانت روايتي مألوفة ومطروحة مرات عديدة مثل الظروف التي امر بها في كردستان وربما غير مقنعة في حينها لهم .

حيث أدعيت في أول سؤال وجه لي وفوهة البندقية في فمي مهددا بالقتل , جئت هنا للبحث عن أخي الجندي المفقود في المعارك وأعطيتهم أسما مستعارا , لكن قوبلت هذه الرواية بالاستهجان ربما لكثرة تكرارها . كانت ردود أفعالهم قد عكست سخافة وتكرار هذه الرواية لكن لم اكن أفطن ان مفرزة كبيرة من الاستخبارات في كركوك في طريقها الي . في لحظات ربما لم تحسب في زمن , رميت في المقعد الخلفي من صالون سيارة الاستخبارات العسكرية مع خمسة رجال لايتشابهون في الهندام بل في القسوة والتعذيب . الشر والحقد يجدح في عيونهم ولتنطلق السيارة الى المجهول . مكان مازلت أجهله , يبدو أنه اسطبلا للحيوانات من خلال معالمه وروائحه , رغم الظلامه الدامس الذي كان يلفه لكنك تحس به وبنتونته وقبضة النفس ورائحة الموت , لاحركة ولا بشر قد توحي لك بالحياة , ولابصيص ضوء يشعرك بالنهار . قضيت الليلة الاولى من الساعة الواحدة ظهرا الى اليوم الثاني بدون تحقيق ولاكلام ولاسؤال, بدون أكل اوماء ولاحتى اصوات تدلك على وجود روح وبشر , لقد تركوني هنا لاموت وحيدا , هذا ما تساءلته مع نفسي , ربما طبيعة المكان ورائحته تدفعك الى هذا التساؤل المخيف.

كنت وحيدا أهمس مع نفسي خوفا من أحد يسمع همسي . كسر سكون الصمت المطبق علي وقع اقدام الحرس الثقيلة في الممر الضيق لينتزعوني من زنزانتي المظلمة بعد ان ربطوا يدي وعصبوا عيناي الى موقع الاستخبارات العسكرية في كركوك . تعرفت في هذا المكان على وجوه كالحة جديدة . كانوا ستة أشخاص وهم الذين يعذبونني ويحققون معي . كانو مصرين على انتزاع أعترافات سريعة وسهلة مني , قابلتهم بتحدي ربما يفوق أصرارهم مما دفعهم الى أستخدام أساليب قذرة ووسخة للحط من معنوياتي . في داخل المبنى الاستخباراتي , كنت في غرفة مستطيلة وبيضاء ومجهزة كمكتب أداري . تم ربطي حول عمود داخل الغرفة معصوب العينين مربوط القدمين . أستمروا في تعذيبي بدون توجيه أي سؤال لي أو حتى استفسار بسيط , أكتفوا بالضرب والشتم والسب وكانوا ينادون بعضهم البعض ابو ليلى , ابو جاسم ,كمال . ابو ليلى كانت لهجته كردية وكمال مصلاوي اما محمد فلهجته البغدادية كانت واضحة ..كانت ومازالت رنة أصواتهم محفورة في ذاكرتي أذ لم تتمكن الايام ولا السنين من محوها . تحت جنح الظلام قرروا ان ينقلوني الى مكان أخر , متوعدين بأنه سيكون أكثر رعبا وبئسا من الذي قبله ومصيري الموت . بعد ان رفعوا الغطاء عن عيني والتي كانت عبارة عن قطعة قماش سوداء نتنة وفي اللحظات الاولى ومن شدة قبضة قطعة القماش وطول المدة تراءت امامي ثمة أشباح , تبين لي فيما بعد أنهم أربعة اشخاص يرتدون الزي الزيتوني ويتقمصون هيئة جلادين محترفين . كان أحدهم يحمل انواط شجاعة (من المؤكد انها منحت له تكريما لدوره في حرب القادسية والتي مازال سعيرها وهاجا وتمنح حاملها أمتيازا كأن يكون صديقا لرئيس الجمهورية صدام حسين ). لفت انتباهي من هؤلاء الاربعة محمد البغدادي , أذ كان معي طالبا في كلية الاداب – جامعة بغداد –ولكن في قسم أخر . وكان نائبا لرئيس الاتحاد الوطني في الكلية ومساعد كريم علو رئيس الاتحاد الوطني . وكان محمد يتردد يوميا على القسم الذي كنت أدرس به مما أدى هذا التردد المستمر الى حدوث معرفة بسيطة بيننا أقتصرت على السلام . كان سؤاله الاول لي و بعد ان رفع الغطاء النتن عن عيني ...... هل تعرفني ؟ أجبته وبدون تردد ولا خوف وبشيء من التحدي والذي أعتلى نبرة صوتي لقساوة الاوجاع والالام لساعات طويلة من التعذيب والاهانات ورغم غبار السنين العجاف وقساوتها في جبال كردستان , سنوات طواها النسيان والتبتل عن حركة المجتمع ووجوه الاحبة , قلت له نعم أنت محمد .......وكنت أحد الناشطين في التنظيم البعثي في كلية الاداب . تذكرت وانا في هذا الوضع الذي لا احسد عليه محاولاته اليائسة وتطفله , مستغلا موقعه الحزبي و لمدة سنة للتقرب من زمليتنا ومسؤولة قسمنا في الاتحاد الوطني للطلبة نضال نوري . كان رد فعله عنيفا ومؤذيا ومنذ الوهلة الاولى عندما نطقت أسمه , هجم علي متلعثما ببعض الكلمات , كيف تتذكرني بعد مرور كل هذه السنين ؟ وقفز علي كانقضاض الذئب على فريسته واخذ يصرخ وينهش منهارا ومتوعدا بقتلي, الشر والحقد يتطايران من عينيه وبدأ بالضرب المؤذي من كل جانب . كانوا اربعة جلادين , لكن صوت محمد كان متميزا ونبرة صراخه اخذ شكلا هستيريا ومن بين ماقاله وهو في هذا الحال....... كيف تمكنت الافلات من قبضتنا عام 1983 حينما صدر قرار القاء القبض عليك من أجهزتنا ؟.

كانت جولة دموية ; قربتني من الموت بل عشت فيه . سقطت بعدها على الارض مدميا ومغمى علي من قسوة التعذيب وقوة الضرب المبرح وعلى أكثر المناطق الحساسة من جسم الانسان . ولم أعد الى وعي الا بعد ساعات حيث وجدت نفسي محشورا في زنزانة مع مجموعة من المعتقلين وسط صمت وذهول .في اللحظة الاولى من وعيي نظرت اليهم باستغراب وبصمت مطبق متسائلا : من أنتم ؟ عيون الجميع مصوبة نحوي بنظرات حزينة مكبوته توميء لي بخطورة المكان وحجم الخوف وقذارة الاساليب والممارسات . رغم قصر المدة التي قضيتها مع هؤلاء المعتقلين والتي تعددت مشاربهم واختلفت التهم الموجهه اليهم , لكن الجميع كان يتعرض للارهاب والتعذيب اليومي . ذاكرتي تسعفني لأذكر بعضهم :

1 – هادي – جندي مكلف من اهالي الكوفة متهم بقتل مسؤول حزبي في الكوفة مع أخ له مركون في زنزانة أخرى ,لاقى تعذيبا شديدا . وكان احد السجانين من مدينته بل من محلته وكان من اكثر الجلادين قساوة معه, كما روى لي , كان يطلب الدعاء الى ربه في صلاته بان يطلق سراحه لينتقم من هذا الجلاد .

 2- مظفر , من مدينة الكوت , مسؤول حزبي بصفة عضو شعبة , شكت به الاستخبارات العسكرية بأنه يأوي ويتستر على سياسي من حزب الدعوة . أدى به هذا الشك الى الاعتقال لعدة شهور في زنزانة فردية وتحت التعذيب الجسدي والنفسي وهو يحمل هذه الصفة الحزبية ومازال يعتبر الحركة الشيوعية بانها حركة صهيونية وهذا ماظهر في اول نقاش معه عندما عرفني باني معتقل شيوعي .

3 – سامي .... الحديث عنه له معاني وأوجاع .. كردي من أهالي مناطق بشدر , يعمل ضمن تنظيمات الحزب الاشتراكي – حسك – جناح رسول مامند . في هذه المنطقة الملتهبة دائما بالاحداث , كان خاله – أنور وتواته – يحتل منصب رفيع في الدوله وذو نفوذ فهو آمر فوج للجحوش في – قلعة دزة – ويعد من أصدقاء الرئيس صدام حسين .

كان سامي مسؤولا ومنفذا لعملية أغتيال ضابط كبير في مدينة قلعة دزة الحدودية , وبسبب نجاح العملية ودقتها , دفع الاستخبارات في القصبة الحدودية الى متابعة خطوط وادوات الاغتيال , مما ادى الى وقوع احد المنفذين في قبضة الاستخبارات فكشف لهم تفاصيل العملية مما سهل الوقوع بسامي . قال لي في حينها انه لم يخطر بباله ولم يفكر جديا بالالتحاق الى الجبل أعتقادا منه بأنه يمكن ان يعتمد على قوة ونفوذ خاله أنور في المنطقة في صد أي مكروه عنه , لكن الايام خيبت له ما لم يكن في حسابه (ربما اصبح في عداد الموتى ). ومن خلال الاحاديث المتبادلة وضحت له أنه نظاما دمويا لايرحم ولايهاب ولايعطي اعتبارا لأي مخلوق مهما تكن خدماته ومكانته , ونتاجا طبيعيا لعقلية النظام في تصفية خصومه السياسين والمعارضين . نشأت ألفة بيننا في تلك الزنزانة النتنة الخالية من الافرشة والاغطية . ساعد هذا الجو الحميمي على التغلب ومقاومة الجروح والعذابات . بعد مثوله امام محكمة سليمانية وعودته ثانية الى الزنزانه , كان مؤملا بالافراج عنه لكني كنت متوجسا من هذا الامل وحاولت ان أضعه امام الامر الواقع بالقادم السيء , لكن مع هذا حملته رسالة شفهية الى الحزب بخصوص ملابسات وضعي والاحتمالات المتوقعة في المستقبل . قبل تسفيري الى بغداد (هذا ماعرفته فيما بعد من تطورات الاحداث ), أقتحم الزنزانة أثنان من القتلة واقتادوه بطريقة مرعبة الى المجهول والى الان اجهل مصيره تماما . في تلك الزنزانة المستطيلة والمعتمة , كنا عشرة معتقلين لتدقيق اوراقنا وانتزاع الاعترافات عنوة وتحت التعذيب الشديد والغير الانساني . كان يحرس الزنزانة في النهار رجل يبلغ الستين من العمر ذو ملامح حادة وجنوبية وكان يقدم لنا وجبة الغذاء عبر باب ثانية يصل منها الى زنزانتنا ويضع الطعام في الممر بجانب التواليت ليأمر احد المعتقلين بأخذه . لزنزانتنا غرفة مجاورة معدة بشكل محكم للتعذيب و الذي يبدأ في الساعة السابعة مساءا . عرفنا ذلك من خلال صوت السيارة التي تدخل ساحة البناية حيث يترجل منها أربعة من القتله ليبدأ مشوار التحقيق والتعذيب مباشرة. يبدأ الحاج بمناداة من يقع عليه اليوم الظلم والمعاناة . يسود الصمت داخل الزنزانة . العيون تتكلم مع بعضها بحسرة وخوف .في تلك الليلة يخترق الصمت صوت البكاء والتوسل وندب الامام علي واولاده في الكف عن التعذيب وبرفع أسلاك الكهرباء عن المناطق الحساسة والمؤلمة في جسم الانسان . مازالت ذاكرتي مسكونة بالليال الصعاب والوجوه اللئيمة في التسلل الى ذلك الموقع المهجور ,ومازلت لحد الان أجهل معالمه .هذا المعتقل الذي لاتعرف مداخله – وزواياه وخباياه وأروقته . يتحول الهدوء المخيم على مسامعنا في النهار الى رعد من أثر ذلك الصراخ والعويل في الليل. في النهار اقدام الحاج الثقيلة تقترب احيانا من باب زنزانتنا ليجلب وجبة الغذاء الوحيدة والفقيرة لنا . في الليل المخيف يعج الموقع بالصراخ والنحيب , خارقا جدار زنزانتنا المجاورة لغرفة التعذيب . يخيم علينا الصمت و الخوف والالم . كانوا في الليلة الواحدة يستجوبون حوالي أربعة معتقلين لحين بزوغ الفجر , ومن لم يستكملوا التحقيق معه أو ينتزعوا ما يريده يعودون في اليوم الثاني له عدا يوم الجمعة . لقد تكرر هذا المشهد المأساوي معي ثلاثة ليالي وفي الليلة الرابعة كنت في الجملون القذر في معتقل الحارثية المخيف في العاصمة بغداد . في تلك الليالي المرة , نحن المعتقلين لم يهدأ لنا بال أو يغمض لنا جفن حتى الصباح من مرارة الصراخ ولوعة البكاء من قبل من وقع عليه الاختيار لهذا اليوم التعيس في حياته . لم ننم في تلك الليالي المؤلمة في انتظار رفيقنا أو اخينا بالعودة الى الزنزانة لمداوات جروحه وعذابه من خلال روح التضامن معه والذي يبقى لايام يتعذب وينوح من عمق الجروح والانتهاك الانساني . كنا نميز أصواتهم أثناء تعذيبهم وهم يستنجدون بالسماوات والارض ونستطيع ان نعرف متى وكيف أستخدموا أسلاك الكهرباء أو القارورات الفارغة والتهديد بالاعتداء الجنسي أو ادخلوا عنوة الكابلات في مؤخرة المعتقل . وللصمت المهيمن علينا كنا نسمع احيانا أسألتهم وصراخهم مع المعتقلين ولغتهم السوقية التي فاقت أبجديات العالم . بعد مرور اربعة وعشرين ساعة تم انتشال سامي من الزنزانة والتوجه به الى مكان مجهول . سامي ذلك الشاب المعلم والمتعلم , كان لطيف المعشر , مثقف , ملما ومتابعا لاحداث العراق السياسية وتحديدا الساحة الكردستانية وأحزابها . واجه الجلادين وأساليب تعذيبهم بشجاعة , كنت ألومه حين وقع بايديهم بهذه السهوله , لكنه بكى متألما عندما رويت له قصة اعتقالي وملابساتها والظروف التي أحاطت بها .

جمعتنا زنزانة واحدة, كل زواياه تدلك الى الموت , مجردة من فراش, كنا نتوسد ذراعنا في النوم وغالبا ما يحدث في النهار . في الليل يكون حديثنا وتبادل همومنا همسا وبحذر خوفا من وصول صداه الى مسامع الجلادين . نستقرء الاوضاع والمصير المجهول الذي ينتظرنا . كان واثقا بأن خروجه قريب والجبل سيكون هدفه الاول والاخير لان بقائه يعني الموت وانا ايضا دفعته بهذا الاتجاه . النوم كان المشكلة الكبيرة في هذه الزنزانة , يؤرقنا ويتعبنا خاصة حينما تقترب من الزنزانة وقع أقدامهم الثقيلة . أما وجبة الأكل الوحيدة في اليوم ورغم حاجتنا وعوزنا الشديد لها فقد باتت تشكل هما وخوفا أخر لنا لما يرافقه من سب وشتم وأهانات وتوجسات قد تؤدي بحياة بعضنا . كانت عبارة عن صحن كبير من الرز والمرق لجميع المعتقلين في الزنزانة . أما الشاي ايضا فيقدم في الصحن مرة واحدة في الاسبوع مع علبة فارغة من جبن كرافت نتبادل الدور في الشرب بها . بعد أنتشال سامي من الزنزانة , أقتحم الزنزانة خمسة رجال , يرتدون ملابس عمل منوعة ورثة , لاشي يدل على هندامهم ومظهرهم أنهم رجال أمن أو مخابرات لولا وحشيتهم في التعامل معي كوني معتقل سياسي . قد يعتقد مواطن الشارع العراقي عند رؤيتهم في الشوارع والطرقات ,أنهم ينتمون الى عوائل الطبقات المسحوقة , تبحث عن لقمة العيش لعوائلهم المنكوبة . ويلفت منظرهم الشفقة والعطف من ابناء الشعب العراقي . حدثني أحد المنتسبين الى هذا الجهاز سابقا في مدينة مالمو المدعو علي حسين والذي ترك هذا الجهاز خلال حرب الخليج الثانية حينما كان مكلفا في مهمة استخباراتية في السعودية اذ توجه بدلا عنها الى اوربا طالبا اللجوء السياسي ومازال مقيما بها . قال لي كنت مكلفا بمهمة تستدعي مني ان اكون صباغا للاحذية في منطقة باب المعظم في عام 1989 وذلك لمتابعة بعض التحركات والتي كنا نمسك بخيوطها الاولى كالتحركات الاسلامية على سبيل المثال. في هذا الجوء الحرج تقدم لي شخص ووضع حذائه على خشبة الصبغ وطلب مني ان أصبغ حذائه وأثناء العمل كان يرتدي جواريب بيضاء وفي هذا الجو المشدود وقع صبغ أسود على جواريبه مما دعاه ان يغضب علي ويقذفني بسيل من السب والشتم ويحطم أدوات عملي والذي شفع له وسلمه من أيدينا هو ضرورة متابعة المهمة .

في منتصف تلك الليلة أقتحموا الزنزانة ونادوني بهستيرية ثم غطوا عيناي بعصابة ,كانت شديدة وذات رائحة نتنة لاتطاق , قيدوا يداي الى الخلف مع السب والضرب المؤذي . أحدهم فتح باب السيارة ورموني بعنف الى داخلها كأي حاجة كاسدة لانفع من حفظها . كنت أحس بالحقد والغضب من خلال شدة الركلات والسب . تحركت السيارة لمسافة قصيرة ثم توقفت ورموني بالركلات من داخل السيارة الى الارض . كنت أنزف دما من أنفي . سحبوني من الارض ووضعوني في زنزانة أخرى بدون منفذ ضوء ولافراش وأوصدوا الابواب بسلسلة حديدية ثم تواروا عن الانظار بعد ان فتحوا عصابة عيني وقيودي . طيلة اليومين التي قضيتها في هذه الزنزانة , لم يطرق سمعي همسا ولا صوتا بوجود حياة ولا أحياء ولم اتمكن حتى من رؤية جدران الزنزانة المعتمة . في هذا القبر المخيف والمرعب قضيت يومين بدون طعام ولاشراب ولا من استغاثة معتقل قد يحسسك احيانا على البقاء ويزيدك عنادا وصبرا . أجبرت على ان اقضي حاجتي داخل هذه الزنزانة المعتمة . وبين اليقظة والحلم واليأس والامل, كنت وحيدا أتحدث مع نفسي وأرسم صورة مأساوية لمستقبل بلدي العراق . طرق سمعي دقات أحذية الحرس بالقدوم نحوي ومشوار آخرمن التنكيل والاهانات , بشر أخر وبهيئات مختلفة هذه المرة كما رأيتهم لاحقا . يحملون بأياديهم مصابيح يدوية لتسهل وصولهم الى زنزانتي عبر الممرات الضيقة . فتحوا سلاسل الحديد الموصدة في زنزانتي وأمروني بالوقوف والخروج من داخل الزنزانة . لم يجرؤوا على الدخول اليها لرائحتها الكريهة . عصبوا عيني وقيدوا يدي وقادوني عبر الممرات الضيقة ولمسافة قصيرة لكنها ثقيلة ومدمية في تلك الظروف. أمروني بصعود السيارة وطرحوني أرضا في المقعد الخلفي ووضعوا أحذيتهم على رأسي وظهري وكانوا يرفسوني كلما حاولت التململ . لساعات عديدة كانت تسير بنا السيارة وانا في هذا الوضع المؤلم والصعب رغم كل هذا الألم أحسست بحرارة الشمس تلفعني ولم اميز بعدها ليلي من نهاري ساعات طويلة من المسير وانا ازداد ألما وخوفا لايقدر بزمن من شدة التعب والجوع والحسابات المتضاربة عن مصيري . وانا مطروح على ارض السيارة مابين المقعدين , كانوا يصفعوني على رأسي كلما أحسوا بملل الجلوس . وجدت نفسي في معتقل ( الرضوانية ) في بغداد وذلك قرابة الساعة الرابعة عصرا والشمس عمودية . حرها يلهب مباني بغداد ويذيب أسفلت الطرقات تحت أقدام المارة . ادخلوني في احدى غرف المكاتب وهجموا علي بالكابلات والركلات ليودعوا نهاية دوامهم الرسمي بأخر معتقل سياسي يصل لهم هذا اليوم .بعد وقت من الانين والاغماء ودم ينزف – وجدت نفسي محشورا بين ركام من لحم البشر وذلك في أحدى الجملونات الأسنة ورائحة الدم ومنظر التواليتات المكشوفة في كل زاوية من الجملون . لايطرق مسامعك الا انين المعتقلين ورجع بعيد يصفر في أذنيك . لا أحد يتجرأ التقرب اليك أو يسألك . كانت ليلة دامية أوجاعها مازالت تأن في اعماق روحي وتسألني بمرارة عن صلابة موقفي ورؤيتي للحياة مستقبلا . كم بنيت مواقفي لاحقا على ضوء هذه التجربة البسيطة في تقييمي للاحدات وجرأتي في مواجهة الاخرين والدفاع عن رأيي وهذا ما كلفني كثيرا مقابل بشر لا ينطق بالحقيقة . بعد ان فقت من الاغماء دخل الجملون خمسة رجال يرتدون الزيتوني والذي يشكل هذا الزي في ذاكرة العراقين رعبا وشؤما وتلقفوني من بين المعتقلين وعذبوني تعذيبا شديدا من الليل حتى الصباح داخل الجملون وامام عشرات المعتقلين . شكلوا دائرة حولي وحولوني الى كرة يدحرجونها مما افقدني سمعي من شدة الصفعات على أذني . كنت أتلوى ألما وأتقيأ من أثر الصفعات على المعدة . راودني شعور الخيانة وتداعياته وهمست بخوف وحزن مع نفسي . أين هو الان قادر رشيد ؟ ربما أعدم من قبل الحزب بعد ان وصلتهم تفاصيل خيانة تسليمي الى الاستخبارات العسكرية العراقية في مدينة كركوك . ولكن لم يكن يخطر ببالي في تفاصيل تلك الساعات المرعبة ان الحزب يجهل ولم يعرف تفاصيل اعتقالي وهو على بعد أمتار من مواقعه وجماهيره ومازلنا نعيش في عرس صيف ساخن من الانعطافات الثورية والمواكبة لتطورات الاحداث المتسارعة في الانهيار للقصبات والنواحي تحت قبضة جمرات انصار الحزب الشيوعي الابطال واصبحتا ناحيتي قرداغ ونوجول بيد ابطال بشمركة الاحزاب . هنا بودي ان أسوق حقيقة مرة وموجعة حيث يوجد وهم لدى البعض ويحاول ان يسوقه بقصد وغير قصد وذلك فيما يخص وجودنا وتنظيماتنا داخل العراق فهي مبالغ فيها الى درجة كبيرة وذلك ابتداءا من عام 1979 وحتى والسنوات التي تلتها , خطوط حزبية وهمية وأغلبها من صنيعة وتمويل المخابرات العراقية .أنها الحقيقة لكنها مرة ومأساوية وهذا ألاسلوب ساهم بشكل كبير في زعزعة ثقة جماهير الحزب بالالتحاق في صفوفه مرة أخرى . كانت هناك محاولات فردية من العديد من الشيوعيين المخلصين لكنها أحبطت بهذه الاساليب المخابراتية فالعزوف عن العمل والتماشي مع الواقع المفروض أخذ مساحاته الاكبر والاوسع في عمل الاحزاب في العراق تحت دكتاتورية الحزب الواحد . كانت أخر معاقل التنظيم المتبقية في المنطقة الوسطى هي تحديدا في منطقة (جديدة الشط ) في ديالى . كانت نقطة انطلاقتها (هذه القرية) في بداية الثمانينيات من القرن الحالي , لكنها جرت تصفيتها بساعة صفر واحدة وذلك في اليوم الاول من عام 1986 وتم القضاء وباشكال متعدده على جميع رفاق التنظيم وسجن أصدقاء ومؤازري وداعمي هذه المنظمة الثورية البطلة. كان الفضل الاكبر لهذا التنظيم والذي يعتبر واحدا من جنود الحزب المجهولين ابو ناصر , فقد تحملت عائلته الوزر الاكبر من التضحيات والأذى في الارواح والممتلكات. فعلى الصعيد الشخصي قدم خدمات كبيرة ولاتحصى الى الرفاق وحزبيا عزز مواقع العديد من التنظيمات , لكن للأسف الشديد حاولوا النيل منه في مناسبات عديدة.

تجربة سلام عادل في قيادة الحزب جماهيريا وتاريخيا لم تكرر في تاريخ الحزب في تصديه وقيادته للاحداث وختم سفره النضالي المجيد في انقلاب شباط الاسود 1963 , في أول بيان مدوي في شوارع بغداد يدعوا فيه ابناء شعبنا للتصدي للانقلابين بكل الوسائل المتاحة وفضح كل مخططاتهم ونواياهم وارتباطاتهم الخارجية ومنذ اللحظات الاولى من الانقلاب ممايدل على قدرته في القيادة ومواكبة الاحداث . هذا القرار التاريخي كلف الحزب دماءا غزيرة لكنها بنت الحزب من جديد وبقياس تاريخي فان الفضل الاكبر يعود للارث النضالي الذي تركه سلام عادل ورفاقه في مواجهة الاحداث ومن ثم أستشهادهم البطولي والاسطوري والذي أعطى زخما جديدا ودماءا جديدة للحزب .

يروى ان في عام 1991وفي معمعة الفوضى وانهيار مؤسسات السلطة وسقوط أكثر محافظات العراق بيد انتفاضة الشعب العراقي , توجه بعض قيادي الحزب الى داخل الوطن من كردستان الى القاعدة الحزبية في بغداد بقيادة ابو طالب , المصنوع مخابراتيا والمعد سلفا لهذه التطورات من الاحداث من خلال وجوده المسبق في بغداد وتحت رعايتهم منذ الايام الاولى من وجوده في بغداد . لقد كان سابقا احد قيادي تنظيم بغداد حتى الفصول الاخيرة من أعوام 1978 -1979 . ألتقيته شخصيا وعشت معه في موقع واحد في الفصيل المستقل عام 1986 . كان يرفض شخصيا مهام الانصار من حراسات وخفارة ( لانه قائد ) لكنه و تحت ضغط الرفاق في الفصيل أجبر على الالتزام بالخفارة في المطبخ .. كان يوما تخللته النكات والاحاديث المثيرة مما دعا الرفيق توماتوماس ان يزور فصلينا في ذلك اليوم وليرى بعينه غير مصدق كما قال : ان ابو طالب حبيس المطبخ . فالقادة الحزبيون الذين توجهوا الى قاعدة الرفيق ابو طالب في بغداد , كانوا تحت سيطرة الاجهزة الامنية العراقية وبغطاء مالي ولوجستي , لكن بعد ان انفضحت خيوط اللعبة وتداعياتها , أسرع الرفاق بالعودة الى كردستان مرة أخرى , و كان من الممكن اعتقال الجميع لكن بسبب القدرة على التمويه من رفاقنا على عملهم , طلبوا منهم العودة ثانية وبرفقة ابو طالب الذي لقي مصيره المحتوم في كردستان من قبل محاكم الحزب . من يقع تحت قبضة الاجهزة الامنية العراقية من الصعوبة بأمكان الافلات من قبضتهم , فلديهم تراكم من الخبرات في معالجة الاحداث و بنفس مخابراتي طويل ( انا ممن وقعت بيدهم ) يساومونه على مواصلة النضال مثل ماتم مع العشرات من المناضلين من أمثال الرفيق ابو طالب , لكن كان موقفي شريفا ومناضلا رغم كل الاغراءات والضغوط النفسية وهذا ما يميزني عن الاخرين في مواصلة النضال بتحدي وعناد , لحماية شرفي وانتمائي ولأني تبنيت خطا وطنيا في النضال اثار حفيظة ضعفاء النفوس والمهزومين من اداء الواجب الحزبي عندما كان الحزب يحتاج الى رجال.

 في منتصف الثمانينيات وفي تجربة الكفاح المسلح ومد خطوط حزبية الى الداخل , أقدم الرفيق عدنان عباس في خطوة لم تتكرر بهذا المستوى القيادي بأتخاذه قرارا في العودة الى الداخل وبالقرب من الجماهير وليطلع على اساليب النضال الجديدة في مواجهة نظام دموي . كانت خطوة جريئة وفريدة . وهناك من حاول التقليل من وقعها , خوفا من التسائل مستقبلا ومن التردد في اتخاذ هكذا خطوات شجاعة تصب في مصلحة العملية النضاليه .

أعود الى موضوع قادر رشيد الذي ساهم ودمر مسيرة حياة رفيق . أنذاك كان يعد عملة نادرة في مقاييس العمل الثوري , رفيق يعمل في الداخل ويمد خطوطا حزبيا ويجمع الناس حول سياسة الحزب الجديدة وفي ظروف قاسية وفي غاية الصعوبة أشبه بالمستحيل قد تقترب من الخيال وفي ظل نظام بقبضة من حديد يمسك بمقدرات البلد ,نظام فاشي وان أختلفت الرؤى والتحليلات حول مضمون هذا المصطلح وجذوره الفلسفية . كانت واحدة من قرارات المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي المنعقد في 15- 11 – 1985 , الاهتمام الخاص برفاق الداخل ودعمهم بكل امكانيات الحزب بل والحفاظ عليهم لمواصلة مسيرة نضالهم الصعبة والمعقدة . والتوجه الجديد ضمن قرارات المؤتمر, زج عدد أكبر من الرفاق تحت أسس تنظيمية صحيحة ومواكبة التطورات السياسية في البلد وذلك ليس بمعزل عن التحولات في الحرب العراقية – الايرانية التي أحرقت الالاف من البشر وأحدثت تذمرا واسعا في صفوف أوساط شعبنا , لكن كنا كحزب سياسي معارض لم نستثمر هذه الفرص في لف الجماهير حول مشاريعنا السياسية . كان هناك غياب واضح في اطلاع الجماهير الى برامجنا . أين تكمن ثورية العمل في اتخاذ القرارات الصحيحة تجاه الخونه والمتواطئين ؟ وتاريخ الشعوب في العالم وفي تجربة الكفاح المسلح معروفة ومعلنة في معالجة قضايا من هذا النوع من التسلكات والتقصير والتي قد تؤدي الى تسليم رفيق والايقاع به بيد السلطات المعادية وانت تعمل من اجل اسقاطها من خلال شعارك ... أسقاط الدكتاتورية وأقامة وطن حر وشعب سعيد . في تجربة كردستان ,تجد الحالتين , المرة والحلوة في ان واحد . كانت العقلية السائدة في اتخاذ القرارات تراعي وبشكل واضح ظروف وتقاليد العشائر والارتياحات والولاءات الطائفية , أما المبادي والقيم وشعارات النضال فقد ركنت جانبا بل حنطت لتوضع على الرفوف كتحف منمقة للتسويق والمتاجرة . تجربة الكفاح المسلح وماحملته من أحلام الاف الشيوعيين وأصدقاهم في تحقيق مسيرة نضالهم في أقامة وطن خالي من الحروب والدكتاتورية اصابها التعثر والانتكاسات ولم تحقق اسباب النجاح المرسومة لها ولا الاهداف التي انبثقت من أجلها . تخللت مسيرة الكفاح المسلح أخفاقات ذاتية أكثر من ان تكون موضوعية أنعكست سلبا على مسيرة التجربة لكن علينا ان لانتجاهل التأثير الواضح على مسيرة التجربة والمتمثلة بدموية النظام العراقي وممارساته القمعية في مطاردة الشيوعيين وأصدقاهم من قمع واعتقال واعدامات بالجملة . لكن يبقى الفضل الاكبر في تعثر هذه المسيرة اضافة الى الضروف الصعبة والممارسات الخاطئة واحيانا القاتلة لقادة هذه التجربة هي القرارات التعسفية التي ا لحقت الضرر الكبير في مسيرة هذه التجربة و أدت بالنتيجة الى افساد هذا المشروع الثوري الذي تبناه الشيوعيون والذي يعد تطورا نوعيا في مسيرتهم التاريخية وفي مقارعة أعتى نظام في التاريخ الحديث للعراق . الى اليوم أتسائل وغيري أيضا ممن يبحث في التاريخ والحقيقة وذلك بالعودة الى سنوات مضت متذكرا بعض المشاهد والمواقف التي صادفتني في تجربتي وخاصة الفترة الممتدة مابين عامى 1983 و 1988 . كيف تم أفراغ هذه التجربة المقدسة من مضامينها الثورية والنضالية ؟ وكيف ومتى ومن ساق أليات العمل في هذه التجربة ؟ كانت أليات العمل بمنظورها العام وسياقها الزمني والتاريخي تهدم ولاتبني فالخطأ ليس بمشروعية هذه التجربة ووطنيتها وأنما في من أدار قيادة دفة هذه التجربة وأليات بناءها فلقد تخلفت عن مواصلة التطورات والانعطافات التي عصفت في بلدنا .

أعود الى تلك الليلة ( الرضوانية ) في دائرة الانضباط العسكري في العاصمة بغداد و لليلة واحدة في ذلك الجملون الأسن قد يختصر لهم المسافات في تحقيق مأربهم من قتلك أو انتزاع الاعترافات .رأيت بشرا ممددا , هناك من يلفظ أنفاسه الاخيرة وهناك من يستغيث ويئن بتوسل لمن يمد له يد العون , لكن لا أحد يجروء على النظر اليه . ربما أنا الوحيد لانه كنت الجديد وأخر نزيل في ذلك الجملون المحشور بلحم البشر ولم أفطن في الوهلات الاولى الى العواقب الوخيمة التي ستلحق بمن ينظر الى الاخر فكيف سيكون مصير من يجروء على التحدث مع الاخر حتى لو كانت تلك النظرات في الساعات الاولى من غروب تلك الليلة . ولقساوة التعذيب وبشاعته شعرت ان كفي اليمنى قد توقفت عن الحركة ولازلت أعاني من أثارها وفقدت الاحساس بأذني من كثرة وشدة الصفعات التي وجهت لي من كل حدب وصوب . لليالي تهاجمني أصوات صفير ورنين . التعذيب استمر معي حتى بزوغ الفجر داخل الجملون , لكن الذي عرفته لاحقا في الصباح , كان هناك قرار قيادي بنقلي سريعا وسريا الى بناية الشعبة الخامسة في الاستخبارات العسكرية في مدينة الكاظمية لذلك لم يفوتوا الفرصة من الانتقام مني في تلك الليلة الوحيدة التي قضيتها حتى الصباح معهم .كنت مقاوما بارادتي , سهروا معي في تلك الليلة رغم معرفتهم الاكيدة بأني سأذهب في الصباح الباكر الى المصير المجهول فارادوا بذلك ان ينتقموا هم ايضا . بهذا الحد والمستوى من التعذيب والاعتداء لم يتم استجوابي بكلمة واحدة ولا حتى محاولة فتح ملف تحقيق معي وهذا ما ألمني وعانيت منه لاحقا بحق . كانت اساليب التحقيق والمناورة فيها تعرضك احيانا الى الموت . تصوروا في تلك الليلة الرضوانية لم يتم السؤال حتى عن أسمي . ومازلت أنتحل الاسم الموجود في الهوية والتي وقعت بيدهم . كنت أحملها منذ عامين مضت بأسم عبود خلف , طالب اكاديمية الفنون الجميلة قسم المسرح , طبعت على ضوء مواصفات هويتي الجامعية كلية الاداب – جامعة بغداد , في الفصيل المستقل منطقة زيوه قاطع بهدينان . بعد ليلة دموية من عام 1987 كنت مدمى والاورام تغطي وجهي ورأسي منتفخ . كبلوني مع معتقل أخر ورمونا في سيارة تاكسي بعد ان وضعوا نظارات سوداء على عيوننا . رافقنا أثنان مع السائق, يبدو لي ان السيارة والسائق كما اتضح لاحقا هم جزء من فريق العمل وتابعة الى أجهزتهم الامنية . حجبوا الضوء عنا كي تحجب رؤية محيطنا وطريق أتجاهنا ,لكن عرفت شخصيا من خلال وعيدهم لي بان هذا الذي اتعرض له سيكون مشواري الاخير وصولا الى القضاء على حياتي. في ذلك الرمز المرعب في روح العراقين .. الشعبة الخامسة في الكاظمية التابعة للاستخبارات العسكرية . فعلا أتجهت السيارة باتجاه مدينة الكاظمية – عرفت من خلال محاولاتي المستحيلة من خلف النظارات مررونا من منطقة النهضة بأتجاه الشعبة الخامسة . هنا تأكد لي حدسي وهاجمتني الافكار بمحاولات الخلاص منهم , لكن ربطك بمعتقل أخر يحبط كل محاولاتك للخلاص منهم أو في حالة الافلات منهم ستكو ن صريعا بنيران طلقاتهم وهذا ماأردت الاقدام عليه , لكن كان ذلك أشبه بالمستحيل . سيارة تاكسي تسير بنا في شوارع بغداد تابعة للاستخبارات العسكرية ,لاتثير أي شكوك من المارة, يجلس في مقاعدها معتقلين . هاجمتني الروايات المخيفة والمرعبة وتذكرت فاضل صادق أخو صديقي البعثي صاحب , كنا نمثل في حميمية علاقتنا مسيرة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية – بقيادة حزب البعث – لااحد يختلف من حيث المبدأ على ستراتيجية الجبهه الوطنية ودورها في تعزيز الوحدة الوطنية فالادب الماركسي اللينيني حافل بسياسة الجبهات ومسيرة التحالفات ودورها في بناء الشعوب ومن هنا تأتي أولويتها في صدارة الادب الماركسي , لكن كان فهمنا للتحالفات خطأ وبني على تكتيك ساذج مع البعيثين وزد على ذلك كنا ضحية تبعية فاشلة لاتمت بصلة حقيقية لواقع بلدنا السياسي والتاريخي والاجتماعي . خسرنا كل شيء والتاريخ محايد وغير منحاز لاحد , يدون في سجله كل الاحداث بصدق وموضوعية . بهذا التطلع كان ينظر لنا الكثير من الاصدقاء لعمق العلاقة . كانت ولمرات عديدة تضيق بنا أمكنة الاجتماعات واللقاءات الحزبية , يكون فيها صاحب صديقي البعثي وابن قريتي ينقذ موقفنا . صاحب .... ينحدر من أسرة بعثية قدمت خدمات لاتحصى لمسيرة البعثين. الاخ الكبير جعفر من أوائل البعثين في القرية والاخر مسؤول الاتحاد الوطني في المحافظة والاخرين يشغلون مواقع مختلفة في مؤسسات وأجهزة السلطة , لكن كل هذه الخدمات لم تحمهم أو يشفع تاريخهم لهم . عندما أقدم أحد أبنائهم- ستار – متسللا من ربيئته العسكرية في الشمال ليذهب الى ايران مع سلاحه , أعتبرت سابقة خطيرة وفي تقديري حينها أخذت السلطة في الاعتبار القرية وتكويناتها و للرد على من يحاول ان يسلك نفس الطريق سيلاقي الهلاك والتعذيب . حجزوا جميع أهل ستار نساءا ورجالا وشملت حتى والدتهم المرأة الكبيرة والمريضة وعانت لسنوات داخل السجون . كان فاضل الوحيد ربما لم يود البعث لانه لم ينتم له , قتل في الشعبة الخامسة ولم تسلم جثته لانه لايوجد أحد من يستلمها . أتذكر جيدا عندما جاءوا الى القرية وسألوا ان كان هناك أحد موجود لاستلامها وانتشر الخبر في القرية كالنار في الهشيم . كنت أزور صديقي صاحب أسبوعيا في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد . للمعتقلين قصص مختلفة فيها المضحك وفيها المبكي . زرت الاخ الكبير جعفر في معتقل القوة الجوية مع الدكتور عزيز ,كان يكرر على مسامعنا في خضم الحديث والنقاش قلب القائد والثورة كبيران.

في الشعبة الخامسة وأنا في الطريق اليها , حسمت مسيرة حياتي فهذه اذن محطتي الاخيرة وهنا ستكتب نهايتي .ففي هذا المكان الموسوم بالموت والمسمى من قبل العراقين بدرب الصد ما رد , فيه قصص ومأسي كثيرة للعراقيين , لاقوا فيه شتى أنواع التعذيب والموت لصق بهم حيث غيبت فيه أعداد من البشر ولاقى حتفهم الالاف من المعتقلين السياسين وتحولت أجسادهم طعما للاسماك في نهر دجلة . لسوء حظ هذا النهر انه يحتضن ذلك المبنى السيءالصيت والسمعة . هكذا كانوا يلوحون ويهددون وبوضع حد لحياتي وأنا أرى يوميا بشرا ممددا في الممرات وأجسادهم متورمة ويستغيثون من سكرات الموت . هي أصواتهم المسموعة فقط في ممرات تلك الزنازين المظلمة والمرعبة و كل ما حولك يوحي لك بالموت وحسرة الروح .

في باب هذا المعتقل الجهنمي والرئيسي وبعد نزولك من جسر الائمة قادما من الاعظمية وفي نهايته يلوح لك ثمة بشر مدججين بالاسلحة باتجاه السيارات المارة وما عليك الا مراعاة القوانين القمعية . كل من يمر من هناك ما عليه الا تخفيف السرعة وضرورة مراعاة ذلك والا اصبحوا في عداد الموتى ومن المتآمرين على الدولة والثورة . اما الابواب الاخرى فتراها وانت مارا , متداخلة بين البساتين ودرابينها الضيقة , أغلبها يؤدي الى الطريق العام الذي يربط مدينة الكاظمية بشارع التاجي , كنت أسلكه يوميا عام 1986 وانا عائد من نهاية عمل يومي مضني في حدادة الاصدقاء للسيارات مع الاخ الحاج غازي من مدينة الراشدية قرية الصمود الى مدينة الكاظمية في محلة الشيوخ وان مطلوبا سياسيا لم يخطر ببالي ان تكون هذه الابواب المغلقة تؤدي الى ذلك المبنى الجحيمي . ولم أجد تفسيرا في حينها وأنا أشاهد مجموعة من الشبان يتمشون في طريق زراعي مقطوع وفي عز حر الصيف , أدركت وفطنت عندما كنت في عام 1987 خلف قضبان زنزانة رقم 3 في ذلك المبنى . العراقيون يعرفون أن أغلب أولادهم معتقلون في داخله أو دفنوا تحت ترابه أو قطعوا طعاما لاسماك دجلة , فهم يتحينون الفرصة للانقضاض علي الضحيه. ليس من السهل أنتشال هؤلاء الابناء من ألاقبيته التي غيبوا فيها منذ سنوات فلا أحد يجروء على السؤال عنهم لمعرفة مصيرهم المجهول ومن يسأل عنهم سيتهم بالخيانة . لكن الذي يمر بهذا المعتقل وينجو منه تكاد ان تكون وهما أو ضربا من الفانتازيا . سيكتشف العالم ما يجري داخل هذا المعتقل المتمثل بالشعبة الخامسة . قد لايصدق عقل الانسان من خرافة القصص التي تحدث هناك , دم , أغتصاب وكذلك تجري عمليات تشريح حتى للاحياء . للتاريخ هناك وقفة تاريخية وانسانية سوف لايستطيع ان يضمها ويدونها بين دفاتره . عرفت بعد فترة من وجودي في المعتقل ومن خلال مجريات التحقيق اليومية والمملة والتي لاترتبط

 بوقت وزمن لكن أغلبها كان في الليل وأحيانا لم يكفيهم الليل يكملون معك المشوار في النهار , لكن في الحالتين تستخدم نفس أساليبهم وممارساتهم القذرة , تشتد قساوته بحسب طبيعة موقفك . خرجت بحقيقة مفادها أن أغلب المعتقلين تمت تصفينهم جسديا بطريقة او بأخرى وهناك من ساوموه تحت ضغط الاهانات والتعذيب والتهديد . أنها حقيقة وواقعة لكنها مرة ومؤلمة. وبهذه الجريمة سررت الى العديد من الرفاق بهذا السر الذي نجهله وأخص الرفاق بهاء الدين نوري , باقر ابراهيم , ابو الجاسم وأخرين . قد تكون الالاف من العوائل تعيش على بصيص أمل يلوح لهم في الافق البعيد بأن ابنائهم مازالوا أحياءا تحت الاقبية او خلف القضبان فليس سهلا ان تحبط أمالهم بعودة أبنائهم في يوم ما . لهذا كنت حذرا من البوح بهذه الاسرار الدفينة لكني على ثقة بان التأريخ سيكون كفيل بتعرية هذه الجرائم الانسانية .

وأنا في التاكسي وسط الجسر تذكرت هذا المكان الذي كنت أقطعه يوميا وذلك قبل عام حين عشت في مدينة الكاظمية ومطارد سياسيا وأعمل في قرية الصمود في الراشدية في ورشة الاعمال التي يملكها مجموعة من الاصدقاء . أحدهم كان بطلا من أبطال القيادة المركزية وهو المدعو عبد الخالق مطلك الدليمي وكذلك الحاج غازي , كنت تحت حمايتهم الامنيه والمهنيه باعتبارهم وجوه مقبولة اجتماعيا وتجاريا . تذكرت لقاءاتي الحذرة في ظروف العمل السري بالرفاق وأصدقائهم , وحيد , أيمان ,نزيهة , محمد , كريم وأخرين ........ كانت حدائق المحيط وباب الدروازة وموقف سيارات وكراج الحرية هي نقطة الالتقاء والاجتماع بهم . بعد ان وصل التاكسي نهاية الجسر لفت أنتباهي سرعة الحركة والحيطة في أستقبالنا . كان واضحا ان التاكسي يحمل رقما خاصا أو أشارة متفق عليها من خلال استعداد الحراس وحركتهم السريعة بفتح الحاجز الحديدي للبوابة الخارجية وظهورهم باتجاه السيارة أما بنادقهم فقد صوبت نحو الطرق الاخرى لمعالجة اي طاريء قد يكون خارج الحسبان . كل التحوطات والتحسبات هنا تخضع الى قبضة حديدية وجو من الارهاب والخوف . توقفت السيارة امام مبنى الاستعلامات الخارجي وأنزلونا من التاكسي بهمجية ووحشية وسب وشتم وتحت وابل من الصفعات والركلات والقوا بنا في مبنى الاستعلامات ثم اجلسونا على أريكة خشبية تتسع لشخصين . طلت أمامنا صورة ( القائد الضرورة) معلقة في منتصف الحائط بملابسه العسكرية ونياشينه , مكشرا في استقبالنا الى دهاليز الموت . وبعد ان رفعوا النظارة السوداء عن عيني بقيت مكبلا مع المعتقل الذي رافقني من سجن الحارثية . كان مصيرنا مشتركا هو الموت لكن لانعرف بعضنا الاخر ولا عن أسباب أعتقالنا . بعد مرور ثوان تحديدا وقفت سيارة جيب عسكريه , كان صوت وقوفها مرعبا وبطريقة هستيرية أمام مبنى الاستعلامات وترجل منها أربعة اشخاص بهناديم مختلفة, أحدهم يرتدي ملابس زيتونية دلالة على الخوف والفزع في ثقافة العراقين لارتباط هذا اللباس بجرائم أجهزة النظام تجاه الشعب العراقي وقواه الوطنية .وألاخر متعب , هكذا يوحي لابن الشارع العراقي من طبيعة ملابسه الرثه . وأخران يرتديان الدشاديش البيضاء . ملامحهم تجمع بين القسوة والحقد وسايكولجية التعذيب . ترجلوا من السيارة والحقد يقدح في عيونهم , ركلوا باب الاستعلامات بأرجلهم وبقوة وتوجهوا مباشرة نحوي بسيل من السب والشتم معززة بصفعات قوية على وجهي وبطني وفكوا قيدي عن المعتقل الذي رافقني من سجن الحارثية والذي لم ألتقيه قطا في حياتي , فقط جمعني به زمن ومسافة مخيفة ومجهولة من سجن الحارثية الى معتقل الرعب والموت في الكاظمية . قاموا مباشرة بتعصيب عيني وربطوا يدي الى الخلف بحبل أصفر سميك وسحبوني الى الخارج ورموني الى داخل السيارة مع السب والشتم ووضعوا بقوة وبركلات مؤلمة أحذيتهم على رأسي . كانوا أشبه بوحوش بشرية أذا لم أبالغ في المشهد . تحس وانت تحت رحمتهم بأنهم سيقضموك وانت حيا . بعد ثوان من مسير السيارة والذي كان دهرا توقفت وسحبوني منها بالضرب والاهانات وأدخلوني الى داخل البناية مع أوامر, أصعد وانزل وخفض رأسك , سالكين منظومة من السلالم المتشابكة والمعقدة مع الممرات والمداخل . أوقفوني داخل احد الممرات . احد المتوجهين نحوي صفعني على وجهي بقوة سقطت على الارض وشتم الرفيق فهد والشيوعية . حملوني من الارض ورموني الى داخل قاعة كبيرة مربعة وبعد ان فكوا قيدي ورفعوا العصابة عن عيني , رأيت القاعة منقسمة الى نصفين في يمينها أكوام من الدشاديش موضوعة ومبعثرة على الارض وفي الجانب الاخر تلال من الملابس والاحذية والجوراب والملابس الداخلية تعود الى المعتقلين الذين مروا بهذا المبنى حيث يجبرون على خلع ملابسهم التي كانوا يرتدونها قبل الدخول الى هذا المبنى وهذا ما جرى معي ايضا اذ أمروني بخلع كل ملابسي ورميها على التلال وقادوني الى الجانب الاخر من القاعة وان أسحب دشداشة من كومة الدشاديش لأرتديها , لكن وللنكتة فقد كانت نصف دشداشة , طولها يصل الى حد الركبتين ولازمتني هذه لمدة 87 يوما , ومع مرور الايام تصبح هذه الدشداشة الصفراء هي الزي الموحد للمعتقلين وبمرور الوقت تصبح بلون وجهك الذي يأخذ بالنحول نحو الذبول والاصفرار لسوء التغذية وحجب الضوء والشمس عن السجين . طيلة الايام التي قضيتها في الزنزانة المظلمة والكوة التي في اعلى الزنزانة ,فقد صممت لدخول بصيص من الضوء الى الزنزانة و كانت عبارة عن قضبان حديدية تمنع عنك أضواء الممرات , فمن أين يصلك ضوء الشمس ؟. ألقوا علي التعليمات الصارمة و كنت منهكا من الليلة التي سبقتها في جملون الحارثية , فعلي أن امشي منحني الراس وعيوني دائما الى الارض ولا أنظر في وجه أحدهم . ألقيت علي هذه التعليمات مع الضرب والشتم والوعيد في احواض التيزاب . كانت البناية على شكل مستطيل ولها مدخلان . مرروني من الجانب الايسر من البناية يرافقني ثلاثة جلادين , بدأوا بأول زنزانة فتح أحدهم الباب ونادى الاخر على المعتقلين ,من يعرف هذا الجاسوس ؟ جاء صوتا خائفا من داخل الزنزانة : أنا اعرفه .......... سحبوني بقوة خاطفة من باب الزنزانة حتى لايتعرف علي باقي المعتقلين أو اتعرف على بعضهم . أعيد هذا المشهد في الزنزانة الثانية . وللحظ العاثر , صرخ برعب أيضا أحد المعتقلين بمعرفتي فركلوني بضرب مبرح في باب الزنزانة وتوعدوني بالموت وقالوا لي بحقد : يبدوا عليك انك شخصية مهمة . والى الأن لم اعرف من هؤلاء واين رحلوا , ربما ماتوا من التعذيب أو ميعوا في احواض التيزاب .

أما نصيبي في الزنزانة الثالثة فلا أحد ادعى معرفتي وكان ذلك أنقاذا للموقف الذي أنا فيه . رموني بعنف الى داخل الزنزانة وسقطت على أجسادهم الممدة والمتشابكة مع بعضها البعض . قانون الزنزانة كان لايسمح لاحد ان يجلس أو يقف بل عليه فقط ان يكون مطروحا وغير نائم . حذروا نزلاء الزنزانة من الحديث مع هذا( الخائن) . كانت زنزانة لاتتسع لاربعة معتقلين الا انهم حشروا فيها 13 معتقلا سياسيا . لا أحد يجرء ان يتكلم معك أو يسألك , فقط نظرات حزينة ومكبوتة بالعطف والخوف . كان النوم يتم بالتناوب والمسموح به يبدأ من الساعة الثانية عشر ليلا وحتى السادسة صباحا وهذا واحد من قوانين المعتقل الصارمة . الصمت يخيم على الجميع والعيون هي التي تتكلم بين ألام المعتقلين . في البدء حاولت ان اتحدث مع البعض لكن لا أحد يحرك شفتيه , فهمت بعد ساعات أنهم يتلصصون علينا من كوة الباب ومن خلال ثقوب قضبان الكوة وأن ظفروا بأحد يتكلم مع الاخر سيكون الموت مصيره وهذا ماوقع حقا مع المعتقلين السياسين .عند كتابتي لهذه المأساة والتي لايعرف حجمها الا من مر بهذا المكان الكارثي . أتذكر تفاصيل تلك اللحظات الدموية والتي اصبحت جزء مهم من ذاكرتي وبناء مواقفي وخوضي لمعاني النضال الوطنية . ذاكرتي التي لم تستطع نسيانها أبدا رغم كل المحاولات فكثيرا ماكانت تصطدم بالحزن والألم والحسرة على الذين مازالوا يقبعون خلف تلك القضبان . أو ممن قاده قدره العاثر الى هناك, الشعبة الخامسة في الاستخبارات العسكرية . في هول الصدمة الاولى تمعنت في الوجوه حائرا , خائفا من نظراتهم لي , رؤوسا متدلية ووجوه صفراء شاحبة بلون دشاديشهم .بينهم من كان محشورا وقريبا مني , ميزت ملامحه وبدأت أهمس بأذنه في منتصف الليل : هل انت شهيد ؟ تفاجأ بمعرفتي له . كانوا قليلا مايطمئنون للمعتقلين الجدد ربما يكون هناك مدسوسين من أدارة المعتقل , لكن الذي شجعه للحديث معي هي بصمات وأثار التعذيب من الليلة السابقة في معتقل الرضوانية . كانت كفوف يدي متوقفة عن الحركة .كان شهيد في الاربعين من العمر وبائع لبلبي مشهور في باب كليتنا , آداب جامعة بغداد. ذكرته ببعض الزملاء والزميلات , تذكرني بدون تعب وبدأ يسرد لي مأساته. وبعد ما اقدم على بيع كل ممتلكاته من عربانه الى طباخ والهروب الى ايران مع عائلته واطفاله عن طريق شاب كردي لكن الخير قام بتسليمه الى السلطات في كردستان وقد مضى عليه أربعة شهور هنا ولايعرف مصير عائلته ومتهم بخيانة الوطن وكل ماكان يمتلكه من مال ودعه عند الشاب الكردي الذي سلمه الى السلطات . في الحديث معه , عادت بي الايام والسنين الى الوراء الى أيام الدراسة وأجواء اللقاءات ودفئها مع الاحبة والاصدقاء والمواعيد الحزبية في المعهد البريطاني في الوزيرية. وممن تسنت الفرصة لي بالحديث معه شاب من أهالي النجف يدعى جعفر ينتظر شهورا لامتثاله أمام محكمة الثورة بعد ان أنهوا مجريات التحقيق معه وملفقين ضده تهمة سب وشتم رأس النظام صدام حسين. ويقبع كذلك في الزنزانة مجموعة شباب من حزب الدعوة من أهالي محافظة ديالى اذ لاقوا تعذيبا وحشيا وأثاره ملطخة على أجسادهم على شكل عورات وجروح وكسور. معاناتهم تشتد في الليل حيث لايمكنهم النوم من قسوة الالأم والاوجاع. يسهرون في مداواة جراحهم وحك أجسادهم لتخرج من بين أيديهم كتل لحمية على شكل حبوب مدورة ويرمونها في الزنزانة بين أجسادنا لتكن شيأ مألوفا وعاديا بين المعتقلين . لقد تعرضوا الى تعذيب وحشي وبشع بعد محاولتهم الفاشلة في تفجير مخازن للاسلحة في معسكرات خانقين. أحد رفاقهم أوشى بهم قبل التنفيذ بساعات وما انفكوا يتوعدون للانتقام منه في حالة العفو عنهم بعد ما أدينوا لانتمائهم الى حزب الدعوة والتجسس لصالح ايران وخيانة الوطن .

بعد تلك الليلة المؤلمة والحزينة في تلك الزنزانة, تم نقلي في الصباح الباكر الى زنزانة فردية ومعتمة لا تتسع لحجم جسمك عندما تكون ممددا .في الزنزانة التي سبقتها الضوء لم يطفأ فيها لا ليلا ولانهارا. زنزانتي الجديدة تحمل رقم 3 وبها بدأت ساعة الصفر للتحقيق معي وفي يوم 19870617. أسماء وتواريخ محفورة على جدران الزنزانة تحكي قصص ممن سبقوني اليها . تاريخ دخولها ويوم الاعدام وأبيات شعر للحبيبة والام والزوجة. في نفس الصباح واليوم بدأوا معي بسلسلة طويلة من التعذيب والاهانات وبدون سؤال ولاجواب , أياما وليالي مجرد لتركيعك وتجريدك من أنسانيتك , صنوف من التعذيب يصعب على الانسان ان يتصورها في بادىء الأمر لكن وبمرور الايام تصبح امرا عاديا خاصة وانت ترى من هم مثلك يعانون نفس المعاناة. يمارسون في البداية شتى انواع الضغوطات النفسية على المعتقلين. بدأوا معي على سبيل المثال بأهانات أخلاقية مهددينني بالاغتصاب والقتل, أتبعوا أساليب قذرة نفسيا وجسديا.كانوا يشتدون قساوة ولؤما معي بالضرب والوعيد والاسلاك الكهربائية المربوطة وعلى الاماكن الحساسة من جسدي . كنت أهتز أرتجافا ورعبا كلما ضغطوا على نقطة الاسلاك , أحيانا ترميني لقوتها الى الحائط .

كنت أزداد عنادا وصمودا وقوة في مواجهة أساليبهم القذرة . لايام من المعاناة

والاهانات عجزوا حتى على أنتزاع المعلومات الشخصية عني , من أنا ؟ وماهي مهمتي الحزبية ؟ ومع من تتصل ؟ أيام بلياليها المرة ولم يتمكنوا من انتزاعها الا عنوة وقتلا . في كل ليلة هناك الجديد من فصول التعذيب, تجد نفسك أمام طاقم جديد وأسلوب وطرق جديدة من التعذيب وبمستوى وقدرات فائقة تفوق قدرات الانسان والبشر وبروح أكثر سفكا وفتكا. في أواخر الليل يرموني الى داخل الزنزانة جثة هامدة فأتحسس الاشياء في زنزانتي ببطء ولا أسمع الا أنيني ولا يعنيني أنين الاخرين أو بالاحرى لايطرق أنينهم سمعي من شدة الصفعات فلم تعد تسمع مايجري مع الاخرين . كنت أتسأل بألم وحيرة هل الانسان ممكن ان يصل الى هذا المستوى من السادية والكراهية والحقد مع أبناء جلدته وأي مدرسة خرجت هؤلاء ( البشر ) لينالوا على هذه الشهادة في فتك وقتل البشر . تأكد لي ان قدرة الانسان على التحمل والصبر لاتعرف الحدود ,هذا المخلوق هو الكائن الوحيد القادرعلى تحمل كل فنون التعذيب .

قبل سنين من النضال قضيتها في كردستان , كنت أويد بل ساهمت في تعذيب اناس كانوا حتى الامس القريب رفاقا لنا , بعد ان جرى التشكيك في سلوكهم وارتباطاتهم كانت أساليب التعذيب هذه هي التي أنتزعت الاعترافات من جعبتهم في علاقاتهم المشبوهة مع أجهزة القمع في الدولة العراقية وأنا الان ألوم نفسي على هذه المساهمة وأتسائل هل هذا هو الاسلوب الوحيد في التعامل مع هذه القضايا ؟ وهل يرتقي هذا الاسلوب الى أهدافنا الحقيقية ويهدف الى تحقيق طموحاتنا في وطن خال من الحرب والعنف؟ بالامس كنت ضحية أرهاب وتعذيب واعتداء واليوم أكون بهيئة جلاد. تعرضت الى تعذيب وحشي من خلال أستخدام الاسلاك الكهربائية بشكل يومي . كنت حقل تجريب من خلال استخدام الكهرباء على أعضاء جسدي لاكتشاف نقاط الضعف والقوه .كانوا يستخدمون لايذائنا الضرب بالكابلات وايضا الفلقة وكل ما هو بعيد عن منطق الانسانية . اضافة الى ظروف الزنزانة القاسية وظلامها الموحش والمخيف فلا تستنشق من خلال كوتها الا رائحة الشواء والموت.

أنقضى 11 عاما على هذه التجربة الأليمة ووحشة الزنزانة وسوط الجلاد يلاحقني لأن أبوح باسرارها ومشاهد عارها ودمائها . أجبرتني ان اكتب للتاريخ وللاجيال اللاحقة لمعرفة ما كان يجري في بلدي العراق ولان هناك ثمة بشر ما زال يراهن بحكم جهله من عقدة الصمود والضعف في زمن البعث لهذا بدأت أكتب وأنا أستذكر تلك الايام المجرمة في حياتي وحياة الاخرين . كنت أسخر من الاخرين عندما يتحدثون عن المناضلين القابعين في الزنزانات . يقولون كما يقولون .... هذا ضعف موقفه وهذاك صمد والاخر تعاون ........ فسأجرأ على الكتابة والولوج في تفاصليها اليومية المخيفة ورواية يومياتها والتي تشعرني بالعار والهزيمة وأصرخ يا لمرارة البشر وظلم القانون الذي يجعل الانسان منتهكا . البعث واساليبه أنتهك انسانيتك وأدميتك . اما الحزب وانت احد رموزه في مقاومة الجلاد يحاول أيضا خائبا لقتلك وقد يكون هذا نتاج طبيعي لسياسته , ومن يقرأها جيدا ويتمعن بين أحشاء سطورها يجدها بعيدة عن فوران الداخل ومتطلباته الجماهيرية في التطلع الى التطورات والتعامل مع دموية السلطة وأساليبها , سياسة لا تمت الى الجماهير بصلة قربى أو مواكبة وكذلك بعيدة عن نبضها الحي , الا أذا تجمعت في مسار طريقه حفنة من الركامات والمتملقين التي حرفت طريقه وأغتالت بريقه المضيء في النضال والمواقف , ومن يفقد هذه الخصال يفقد شرعيته في أتهام الاخرين خلسة وخلف الابواب الموصدة . ومرارة التجربة في سجني وصمودي وتفاصيلها في روحي والتي لمجرد ذكرها وتذكرها تدعوني أحيانا ان افقد انسانيتي ويقشعر لها بدني عندما أعيش تفاصيلها المذلة والتي مازالت وستبقى محفورة في الذات والذاكرة . وبمرور الابام والسنين حاولت جاهدا أن اتخلص من تبعاتها النفسية والسياسية لكن كان وقعها وفعلها أقوى من قدرة ومخيلة البشر في تجاوز فصولها المأساوية . تركت بصماتها القوية والمؤذية على مسيرة حياتي كانسان ومناضل , بقيت أعاني لسنوات من الشرود الذهني وانا بين ناسي وأهلي وذلك لمجرد المرور في الذاكرة على الموقع والمكان والبشر هناك . من خلال تناولي للاحداث والوقائع في المعتقل , أردت أن أؤكد حقيقة الموقف من بؤس الحياة وفن التعذيب في الشعبة الخامسة والجدل حول الشجاعة والصمود والضعف والانهيار في مواجهة الموقف وأسلوب التعذيب والتعامل معهما . لابد هنا من ان أعتز بقدرتي الفائقة وصمودي في الحفاظ على حياة الناس . هناك بشر مازالوا احياء في العراق برغم كل ظروف المعتقل والتعذيب ورائحة الدم أذ تمكنت من الحفاظ على حياتهم ولم أمسهم بأذى فلو بحت بما املك من معلومات عنهم للجلادين لكانت حياتهم وحياة عوائلهم في عداد الموتى أو في قائمة الخونة حسب أعراف النظام وسياسته مع معارضية في الفكر والسلوك . الى يومنا هذا ذاكرتي تحتفظ بذكراهم الطيبة والشجاعة والزمن هو الكفيل الوحيد بالبوح عن مواقفهم البطولية .رفاق ومعارف فتحوا أبوابهم لي وأنا السياسي المطلوب للدولة حسب قوانينها . كان زمنا صعبا وكل شخص كان مهددا بالاعدام هو و أفراد عائلته حين التستر عليك فكيف سيكون الموقف عندما يأويك ويسهلون لك مهمتك في التحرك والاختفاء والمساعدة ؟ عصارة موقفي تتجلى بالضمير للحفاظ على أسرار من كانوا ومازالوا هناك يقاومون بالصمت الدكتاتورية وأساليبها . وهذا هو فخري بعينه وكنزي في الحياة والموقف . بعد زواجي من حبيبة العمر والدرب جنان سامي بدأت تخف عندي تدريجيا ولو ببطء أثار ومخلفات المعتقل والتعذيب , ولزوجتي الطيبة التي تحملت معي رحلة العمر من محطات عذاب وألم وحنين وأحلام موجلة في وسط بحر متلاطم الامواج . خفت عندي الكوابيس والصراخ في الليل فكان لزوجتي الاثر البالغ في تخفيف هذه الجروح والمعاناة . في تجربة الايام الاولى التي مرت علي دهرا في المعتقل كانت قاسية ودامية من وطأة لياليها المرة وقساوة التعذيب فيها , مما أدت بي أن انقل الى المستشفى مغميا علي وعندما افيق من هول التعذيب اجد نفسي مطروحا في أحدى مستشفيات بغداد والاوجاع تنهش في جسدي وأورام ظاهرة للعيان .مظاهر لا تنسى في حياتي تكاد تهددني بالموت , جاءوا بي الى هنا لابقى على قيد الحياة ليس الا , لانه لا تهمهم حياة البشر. بهذا الاهتمام مازالوا يبحثون ويحاولون من اجل انتزاع أعترافات يبتغونها في مجرى التحقيقات وعندما بات وضعي الصحي صعبا , أستدعوا لي الطبيب لمعاينتي وأنقاذ حياتي ليواصلوا التحقيق والتعذيب مرة أخرى معي . دخل الطبيب وهو يرتدي اللباس العسكري ( الزيتوني ) غاضبا ومرددا كلمات سيئة نحوي ومتوعدا بقتلي وبدون سؤال وماذا اعاني, بدأ بفحصي بعنف وهو يتبادل الحديث مع الحارس عن حالتي : أنه خائن لايستحق ان يعيش يوما واحدا , فيرد الحارس عليه : سيدي القيادة مصرة ان يبقى حيا وبكل الوسائل لفترة مؤقتة . كنت أراقب نظراتهم والتي كانت توحي بمصيري . ففي عصر اليوم الذي تلاه .أعادوني مقيدا الى نفس الزنزانة في الشعبة الخامسة في الكاظمية. ومن خلال نقلي في سيارة التاكسي عرفت أني كنت في مستشفى الطواريء . تركوني في الزنزانة لمدة يومين تناولت وباشرافهم وجبتين من الحبوب المهدئة للاوجاع , هكذا قالوا لي .

في هذه الفترة الزمنية في الزنزانة تطل علي كل صباح وجوها جديدة من الجلادين تشير ملامحها الى القسوة والتجبر وأحيانا يتظاهرون بالتسامح والمساعدة. كنت ومازلت خائر القوى , مصدوما من تراجيدية الموقف وتداعياته . كان يصعب علي الوقوف على قدمي بسبب الاورام من شدة الضرب والتعذيب . في أثناء هذه الاوضاع الصحية السيئة وكان الوقت عصرا في بغداد , دخل زنزانتي ثلاثة , مما تسبب لي صعوبة في النهوض حينما طلبوا مني ذلك وان أضع جبهة وجهي على الحائط وظهري باتجاهم .عصبوا عيني وربطوا يدي بقوة شديدة حتى انني أحسست بتنملها ومنذ الوهلة الاولى فقدت الاحساس بهما . سحبوني وانا مقيد ومعصوب العينين مباشرة وبدون أنتظار كسابقاتها . أمروني بالجلوس على ركبتي في الممر مع طابور من المعتقلين انتظارا لدوري في التعذيب والتحقيق . الجميع معصوبي العين ووجوهنا على الحائط ومعرضين للركل والشتم من المارين في ممرات الزنازين وتطرق مسامعنا بين وقت وآخر اصوات ممزوجة بالهستيرية والنحيب والتوسل من السجناء والسجانين من شدة التعذيب وقساوته . ترتفع الاصوات عندما يشتد الضرب .

بعد ساعات لا استطيع حصرها في هذه الاجواء المؤلمة والحزينة , أحسست ان

دوري بات وشيكا فاقترب مني أثنان ورفعوني من يدي باتجاه غرفة التعذيب وأجلسوني على كرسي ثم ناداني أحدهم بعنف لكي استمع الى شخص أخر كان موجود داخل الزنزانة قائلا لي : أنت لطيف ولك ليش تنكر كل شيء ؟ ألم تكن في الفصيل المستقل وتنام في الغرفة مع الخونة .. وبدأ يعدد لي أسماء الرفاق , وقال أما الخونة الذين سبقوك في النزول الى بغداد ابو سالار , ابو بشرى , ابو سرمد , ابو احمد , ابو عبير و ابو أثير فبعضهم قتل والاخرين تحت سيطرتنا وستلتحق بهم انت أيضا .

 كانت ردة فعلي الاولى من سماعي لهذه الشهادة أشبه بصاعقة شطرت رأسي الى نصفين فحاولت لملمة قواي البدنية لمواجهة تداعيات هذا الموقف المؤلم والمضحك لكن لهذا الصوت المألوف وقعا أخرا على نفسي وكأني سمعته لمرات عديدة فتسألت بألم من أين أتى هذا , وان كان رفيقا في الامس القريب ؟ وفي محاولة بائسة وغير مجدية بل تحكمك بالموت أذا اقدمت عليها فعلا , فقمت بالتملل قليلا لأتأكد من رباط يدي ربما لأتمكن من رفع الغطاء عن وجهي ورؤية محدثي هذه المرة , هل هو قادر رشيد أو واحد من صنائعه ؟ . الليلة حفرت في روحي الألم والهزيمة وأنا أنصت الى محدثي وبجروحي المدماة , خرت قواي وأنكسرت وبكيت بكل مرارات السنين , سنين النضال والمقاومة . الذي صعقني هي التفاصيل الدقيقة عن حياتي في كردستان ومهامي وتحديدا في الفصيل المستقل في منطقة زيوة . الفصيل المستقل الذي كانت مهمته الاولى أرسال الرفاق الى الداخل وعلى هذا الاساس يتم أختيار الرفاق من القواطع وتنظيمات الخارج , لكن الحقيقة المرة أيضا فأن نسبة الذين توجهوا الى بغداد يعدون بالاصابع . بهذه الادلة المجانية شدوا قبضتهم حولي بضغوطات مختلفة الاتجاهات والنوايا . تظاهروا بالضحك والمقدرة دلالة على قوتهم وجبروتهم وسهولة الوصول الى ما ينوه من أهداف تنصب في خدمة عملهم من خلال خيوطهم الممدودة داخل تنظيماتنا . لكن حقا انها أجهزة تمتلك من الخبرة والتروي في المعالجة مع قضايا السياسين والمعارضين ولايدركها الا من يقع في قبضتهم . أنها خبرات بنيت بدولة متقدمة في هذا المجال وأستعانت أيضا بها دولة أخرى. بعد فاجعة هذه التفاصيل وتلاوتها علي وأنا صامت ومبهوت لتراجيدية الموقف, هجموا علي كالذئاب أنتقاما من موقفي وصمودي طيلة الفترة التي قد يعدها البعض بالقليله ممن لم يمر بهذه المواقف من الاعتقال في أجهزة البعث, لكنها طويلة بلياليها ومرارتها ومشاهدها اليومية القاسية. الموت الذي يهددنا في كل مشهد من مشاهد التحقيق والتعذيب ولو تمكنت من وصف تفاصيل هذه المشاهد لما أستطاع الزمن ليكفي في عكس دموية هذه التجربة. عشت بائسا ومكسورا وساخرا ممن يزاود على المناضلين الذين أجتازوا بصمودهم البطولي عتبات زنازين الشعبة الخامسة . لم تسعفني الذاكرة الى الأن لكي أتصور المشهد في تلك الليلة والساعة وكيف نقلوني مغمى علي الى الزنزانة رقم ثلاثة . كنت هذه المرة جثة هامدة . أفقت في اليوم التالي لا أعرف ان كان ليلا أو نهارا . الاورام في كل زاوية من جسمي والاوجاع تهاجمني الى حدود الصراخ والنحيب . تركوني في الزنزانة لمدة يومين لا أحد ينظر الي من كوة الباب وبدون طعام او ماء, فقط الخوف والرعب هو سيد الموقف. عشت خلالها جو نفسي متأزم ومتألم من حدوث المشهد وتداعياته على نفسي ومعنوياتي في مواجهة ألة القمع . ورغم وضعي الصحي البائس كنت أحاول جاهدا وبشق الانفس أستيعاب الموقف ومواجهته بواقعية والتعامل معه على ضوء معطيانه الأنية . بدأت أجمع قواي وحصر ذاكرتي لمسيرة نضالي من عام 1979 والى هذا اليوم الذي أتهم به بالخيانة لانني شيوعيا وانسانا, بترتيب اقوالي وأختصار أجوبتي والحسبان لأسوء المواقف والاحتمالات في مواجهة الاسئلة التي ربما لم تكن على البال لانه وضعت في بالي بأن ليس من مصلحتي ولا من مصلحة رفاقي أن أدع أو أمرر أية ثغرة في أجوبتي. تحصيل حاصل حياتي اصبحت بين قوسين او ادنى لكني لم أدع في أجوبتي سببا مأساويا للذين تعاونوا معي وفتحوا بيوتهم لي وسهلوا طرق تحركي وتنقلي بين الناس والمدن والذين ساعدوني في تأمين العمل والسكن وطرق العيش . هاجمتني كل هذه الاحتمالات السيئة والمفروضة . هل أنهم مازالوا بأمان ويعرفون بأمر أعتقالي أم أنهم تحت أعين الرقيب ؟ وهل للاستخبارات علما بهم وكانوا يراقبون اتصالاتي بهم ؟ أذن يعرفون التفاصيل حول طبيعة عملي وطريقة تحركي في الصعود والنزول الى بغداد وعدد المرات ومن مختلف القواطع , ربما يعرفون بنزولي مرتين خلال عام واحد هو عام 1986. سيطرحون أسألتهم ويريدون الاجابة عليها بكل الاحوال والظروف , واذا لم تكن مقنعة لهم فسيحاولون انتزاع ما يصبون اليه من أفادات بوسائلهم المعروفة. الى من ذهبت ؟ وبمن ألتقيت ؟ ما هي مهمتك الحزبية والسياسية ( التخريبية ) ؟ ربما أيضا سيعودون الى الماضي ويسألون ....... ما علاقتك بمنظمة الصدى ومن هم رفاق الدرب ومن أية محطة حزبية تسللت الى بغداد وأية مدينة ؟ ومن أي بيت أنطلقت ؟ أسئلة مشروعة وواقعية على الاغلب سيواجهونني بها , فلابد اذن من التصدي لها والتعامل بواقعية معها . بدأت وانا في زنزانتي أصرخ ألما وبترتيب أجوبتي مع نفسي , لكنها كانت مرعبة ومخيفة حين الخوض بها , لكنها واقع ربما سيواجهونك به أجلا أم عاجلا . أنهكتني هذه التداعيات مع نفسي قبل يومين من التحقيق الفعلي معي . ماذا سيكون مصير هؤلاء ....... ؟ ويعدون بعشرات الرفاق والاصدقاء والاحبة ممن مدوا لي يد العون والمساعدة.تركتهم وهم على استعداد كامل للعمل والمواصلة فمهمتي صعبة للغاية ولابد من الحفاظ عليهم أولا وأخيرا ولابد من التصميم عليها وأجتيازها وان مهمتي الاولى الحفاظ على أرواح الناس وعدم ألبوح بأسرارهم حتى على جنازتي فكان تعهدي على نفسي هو الاقوى والامثل في مواجهة الجلادين وانا أكرر دائما هذا هو كنزي في الحياة والأخرة . المهم أنني لم أؤذ أحدا والتاريخ سيكون فاصلا هنا . تحملت كل الاوجاع ومرارة التعذيب والويلات وفرضية الموت , لكن كان قراري الأخير الاول والاخير هو المواجهة والصمود وهذا ما تمسكت به طيلة أعتقالي ومن يستطيع التخلص من قبضتهم والافلات من مخالبهم وفي جعبته حفنة من الاسرار والاتصالات – لو أباح بها فلسوف يسبب في تحطيم بيوت أمنة , وكم سيكون الموقف سلبيا بأضراره على معنويات الناس والشارع وسمعة الحزب ؟ أين سأهرب لو فتحوا لي ملفات السنوات الثلاثة عندما كنت طالبا في جامعة بغداد – كلية الاداب حين كنت متابعا لأكثر من خط حزبي وتنظيمي , كان أحدهما أكاديمي وعلى مستوى عالي من الخبرة والوزن بالإضافة الى مجموعة من الاصدقاء والمتعاطفين مع حزبنا , قدموا خدمات لاتقدر بثمن في ذلك الزمن الغابر حين كنت لا تجد فيه من يأويك ويخفيك عن عيون المراقبة والتي كانت تحصي كل خطواتك في الشارع العراقي , فكيف للذين فتحوا عيونهم لنا وغمضوا بها على أسرارنا وعملنا فكل البسالة والشرف لهم والتضحية من أجلهم . كنت أقوم بتوزيع أدبيات للاصدقاء من جريدة الى تقارير أجتماعات وبيانات ونشاطات عسكرية في كردستان . خلال فترة وجودي في الجامعة والتي أمتدت لثلاثة سنوات من الدم والرعب وشبح المراقبة والاعتقال , كنت على صلة متميزة بعدد من أساتذة الجامعة وفي جو يسوده التبادل بالآراء والمواقف حول الوضع السياسي وتطوراته من خلال الادبيات وتحليلاتها وكل ذلك كان يحدت بتأثير علاقتي الطيبة معهم وكنت أهلا لها وفي الحفاظ عليها . بذلت كل ما تمكنت عليه وفوق اللامعقول في النشاط السياسي العراقي , من توزيع وأيصال أدبيات الحزب ونشاطاته في كردستان وتنظيمات الخارج , ربما لم يتسع الظرف لذكرهم الأن فهناك من وقع في يد السلطة وممن بات في عداد الموتى والشهداء.

الدكتور – جليل كمال الدين – أستاذ الادب المقارن في كلية الاداب – جامعة بغداد واحد ممن قدم حياته وقلمه لخدمة العراق وأبنائة , كانت علاقتي وثيقة به اذ بلغت حد التشاور معه حول ألية العمل السياسي وأفاق النهوض به في ظل الدكتاتورية وسياستها التدميرية أتجاه أبناء شعبنا . كنت أزوره دائما في بيته , الواقع في شارع 14 رمضان في المنصور ببغداد. أتذكر كيف كان بيته مراقبا من أجهزة المخابرات كان تحت بيته صباغ احذية يعمل ضمن هذه الاجهزة , أستمر لفترة قليلة من العمل تحت البناية. في أخر زيارة لي صيف 1982 , نبهني الاستاذ جليل منه وعدم أرتياحه لوجوده . بعد أن أنتهت زيارتي للاستاذ جليل سلمته مجموعة من الادبيات الحزبية بما فيها طريق الشعب , كنت سابقا أقوم بهذه النشاطات داخل الحرم الجامعي وتحديدا أيام الدوام الرسمي داخل قاعة مكتبة المطالعه في الجامعة .

في العطلة الصيفية كثيرا ما كنت أذهب الى بيته ومرات مع صديقنا المشترك محمد عبد الكريم الزبيدي , نحتسي البيرة العراقية اللذيذة ( فريدة ) في صيف بغداد الساخن. في المرة الاخيرة وأثناء خروجي من البيت , دفعني فضولي أن أصبغ حذائي عند ذلك الشاب العشريني من العمر , فسألني قائلا : هل كنت في بيت الاستاذ جليل ؟ نعم أنه عمي جئت لزيارته من النجف . بعد هذا اللقاء لم ألتق الاستاذ جليل ( أبو فرقد ) نتيجة ما تعرضت له من محاولة أعتقال , نجوت منها بأعجوبة . ألتحقت بعدها بكردستان مع أنصار حزبنا الشيوعي العراقي .

صلاح خالص ... الاستاذ اللامع والاديب المعروف ومسؤول تحرير مجلة الثقافة والتي تعد في حينها المتنفس الوحيد في العراق في تناولها للمواد الثقافية والفلسفية والسياسية وكذلك لضمها عدد من الادباء والماركسين والمثقفين على وزن حسين الجليلي , جليل كمال الدين , محمد يونس ,حياة شرارة, حسن العيدي وزوجته ناشئة بهجت , الاستاذ ضياء النافع, سعاد محمد خضر زوجة صلاح خالص , رسمية محيبس زاير , عبد الألة كمال الدين , فرات الجواهري , يوسف الصائغ والشاعر أديب كمال الدين وأخرين. فكانت لنا نحن الجيل الجديد موضع اهتمام وبحث وأحيانا حتى المساهمة في التوزيع نحن أبناء المحافظات. هذا الصرح الثقافي يصدح من بين أكوام من البنى المهترئة والمدعية والمنافقة في التزلف والتملق , فلم يرح من كان يتربع زورا على عرش الثقافة العراقية, فتعرضت المجلة مرات عديدة الى المضايقات وأستدعاء كاتبيها الى دوائر القمع , بل سحبت أعدادا ولأكثر من مرة من الاسواق والمكتبات باعتبارها تجاوزت المألوف ضمن قانون المطبوعات العراقية في تمجيد القائد وأبراز صوره.

في عام 1982 توقف أصدارها تماما بقرار من وزارة الثقافة العراقية باعتبارها منشورا محظورا ويعاقب من يتناولها أو حتى الحديث عنها . بعد وفاة الاستاذ صلاح خالص حاولت زوجته سعاد محمد خضر المصرية الاصل من أعادة أصدارها,لكنها لم توفق فأصطدمت بمجموعة من المعوقات والممنوعات والمحاذير أدت بالتالي الى دفن هذا المنبر الاعلامي والى الأبد . في الايام الاخيرة من عمر مجلة الثقافة , طرقت موضوعات فلسفية وفكرية , أشتد حولها السجال والخلاف بين المثقفين والمتابعين للشأن العراقي , كانت الاولى ( الاغتراب في الفكر الماركسي ) والاخرى .( الشيوعية الأوربية ) للدكتورة سعاد محمد خضر وهي عبارة عن سلسلة من الدراسات .

حياة شرارة --- أستاذة الادب الروسي في كلية الاداب – جامعة بغداد وصاحبة الرسالة الموسومة ( تولستوي فنانا ) وزوجة طبيب الكسور المشهور في العراق محمد سمسيم الذي مات في ظروف غامضة . كل الشبهات تشير الى مسؤولية السلطات العراقية عن قتله. في أحدى المرات أعتقل يوم أجرى بها خمسة عمليات جراحية لجرحى الحرب في معارك القادسية المشؤومة هذا ما حدث في النهار , أما في الليل فكان خلف قضبان الزنزانة بتهمة الترويج للشيوعية . الحديث عن حياة له أوجاع لمالاقته حياة هذه العائلة من فناء جماعي .عائلة ثرية بالعز والادب والعطاء قاومت الجلادين بالانتاج والمواصلة والتمسك بالعراق من خلال مواصلة العمل بين أوساط وجماهير الشعب بالموقف والقلم . كنت أحد طلاب الدكتورة حياة لمدة ثلاثة أعوام أمتدت من 1980 – 1983 , كانت سنوات ساخنة ومفعمة وحافلة بالانقلابات والانعطافات على كافة الاصعدة الثقافية والسياسية والاجتماعية . كنا حقا أبناء لهذه المرحلة ونتاجا لظروفها المعقدة والصعبة في مخاضها السياسي. كنت قريبا ومطلعا على جزء من تفاصيل الفنانة حياة – في العمل والموقف – من خلال علاقة تكونت بهموم الدراسة ومتاعبها ومحاولات زجنا في جبهات القتال من أجل عسكرة الحياة المدنية وتسخير كل الطاقات لدعم القادسية في العراق . في مكتبة كلية الاداب والمحاضرات في الادب الروسي – وموقد شاي ابو علي السنكين صاحب ( البديهة السريعة واللسان الطريف ) تعززت معرفتي بالفنانة حياة وكان للموقف أثره وللظرف فعلته في تقارب وجهات نظرنا حتى داخل المحاضرات في القاعات الدراسية.كم كانت مادتها شيقة وسلسة ومفيدة لنا نحن الطلبة بحجم هدوئها المعهود؟ مواد غنية وثرية تتحدث عن فطاحل الادب الروسي ومعاناتهم في مقاومة القيصر من خلال نتاجانهم الادبية والثقافية وردود الناس في التلقف لها لمواصلة النضال في أضعاف سلطة القيصر وحاشينه , بدءً من نتاجات الشاعر بوشكين ووصولا الى الناقد الديمقراطي بيلينسيكي . تعززت مديات العلاقة بيننا من تبادل هموم الدراسة الى فضاءات أوسع وأعمق .شملت وجهات النظر وتبادل الرأي في السياسة وأساليب الحكم وديمقراطية التعليم ومهنيته و أنتهاك الحرم الجامعي وقدسيته . كانت علاقة بدايتها صعبة وحذرة , شابتها الحيطة والحذر والتوجس خشية الاتهام والاعتقال بمناهضة النظام والتأمر عليه وهي أسهل تهمة توجه الى معارضيه ويحاسب عليها القانون العراقي بقسوة شديدة وقد تؤدي الى عقوبات وأذى الى حد التغييب . كانت حياة لبنانية الاصل من عائلة معروفة بأنتمائها الادبي والفكري , فوالدها هو محمد شرارة من المبدعين في مجالات الادب والفن والنشاط السياسي وقد تركت هذه الابداعات والنشاطات لوالدها أثرا على حياة شرارة منذ نعومة أظافرها وفي تكوين لبنتها الادبية من خلال حضورها وتواجدها في أماسي والدها مع مبدعي وسياسي العراق كما روت لنا في أكثر من مناسبة وتعتز وتحن الى تلك التجربة والظروف التي عايشتها مع شخصيات مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وكامل الجادرجي وأخرين .

أمتازت الاديبة والفنانة والاستاذة – حياة هو تألقها الدائم وعبقريتها و تفردها في الاسلوب الادبي ( التدريسي ) وروح التواضع في التعامل مع الاخرين وتنمية روح الابداع عند الاخرين من خلال الدعم والتشجيع بحثهم على أقتحام وخوض تجارب الابداع والمواصلة . هنا أستذكر بعض المواقف الشخصية معها والتي منحتني بعد سنوات مضت وأنقضت دروسا في النضال والمواجهة . في أحداث عام 1982 وتحديدا عشية هزيمة المحمرة في الحرب العراقية الايرانية , رافقت هذه المرحلة تطورات وأنعطافات من تراكم السنين العجاف على رقاب شعبنا , لكنها للأسف الشديد لم تكن في حسبان قوى المعارضة التي تتصدر المشروع السياسي الديمقراطي في العراق والتي تأكد من خلال نهجها وسياستها بعيدة عن فوران الداخل والتصدي لوتائر تطوراته السريعة . وباتت جملة من الوقائع والادلة تدل على عدم قدرتنا في مواكبة معطيات الشارع العراقي وعلى تخلفنا في فهم ظروف مجتمعنا . أننا مازلنا غارقين في حلم طويل بتلك السنوات التي أنقرضت وان مرحلة كاملة ترهلت بشخوصها ونسيجها الاجتماعي , نسيج مجتمع كامل تحطم وعلى أنقاضه ولد جيل البعث يردد صدام أبونا والبعث قائدنا . اما نحن من جهتنا فلم نقف حتى على هذه المنعطفات بل رجعنا سنوات الى الوراء نحلم بالماضي ونبني على أساسه سياستنا . في تلك التطورات والانعطافات من تاريخ شعبنا , ألتحقت الى كردستان مؤقتا وتغيبت عن المحاضرات لمدة عشرة أيام لمناقشة تطورات الوضع السياسي مع رفاق محلية كركوك وعندما عدت من كردستان الى بغداد واصلت دراستي . في اليوم الاول من المحاضرات وفي ممر قسم الادب الروسي من الطابق الثاني في الكلية , همست الدكتورة حياة في أذني عن سبب غيابي عن المحاضرات فكان جوابي لها بحيل تلك السنين من النضال والتحدي , أنني سأترك الدراسة وألتحق بفصائل الانصار , لكنها صفعتني بجواب مازال يئن في مسمعي ويزداد أنينا وتسائلا كلما تقادمت السنين وتعرت تجاربه : أنك يعني سوف تنهزم مثل رفاقك وتقصد هنا الهروب الجماعي عام 1979 . كنت في وعي ذلك الزمان والمكان لم يعد أمرا مستساغا لي ولا مقبولا في ظروف تلك المرحلة من عمر شعبنا . لكن التاريخ يعيد نفسه مرة على شكل مأساة ومرة أخرى على شكل مهزلة . فكانت للسنين والتجارب وقعها ومغزاها في مسيرة حياتي ولنوطة وصوت الدكتورة حياة عزفت على تلك السنين والتجارب من حياتي .

تزداد سنوات الضياع وتأكل في أجسادنا وأفكارنا والفجوة تتسع وتكبر بيننا وبين

هموم شعبنا وتطلعاته . ان الحديث عن الدكتورة حياة يدفعني الى الحديث عن أجواء الكلية فسنواتها كانت مليئة بالاماني والاحلام ... جبال من الهمم والنشاط والالتصاق الى حد الشهادة بحلم كان يسمى .............. ؟ نستمد منه الروح ونبض الحياة , لكن للزمن احكامه بتعرية هذه التجربة وأدوار سارقي حلمها ومفسدي هذا المشروع الذين حطموا مشروعية وجمالية هذا الحلم . لكن كان للدكتورة حياة رؤيتها وميزتها في التعاطي مع الواقع ورسم لوحة للمستقبل بعناوين عريضة وعقلانية . ففي رؤيتها للواقع ليس من صفات رجل السياسة أن يهزم ويترك جماهيره تحت سياط الجلادين , فالداخل والعمل بين الجماهير هو المحك في كل الظروف والتجارب .

في هذين اليومين العصيبين داخل الزنزانة تحسبت لامور كثيرة وتسائلت بمرارة ؟ فيما لو أستعرضوا نشاطاتي خلال الفترة مابين 1980 – 1983 , كيف سيكون موقفي وماهي حدود مناوراتي ؟ ماذا سأقول لهم عن مصير عبد الزهرة ؟ ومن الذي ساعده في الالتحاق الى كردستان ؟ والذي عاد بعد شهور من التحاقه بافكار لا تمت للواقع بصلة , طارحا فكرة البدء بحرب الانصار من داخل بساتين الهويدر تحديدا . كنت في اليوم الذي عاد به مع صديقي ورفيقي عصام في سفرة الى مدينة الموصل بضيافة الدكتور عزيز وأصدقائه في الاقسام الداخلية لكلية الطب . تفاجأت بعد عودتي الى قرية الهويدر بوجوده في بيتنا ومحاط باهتمام وسرية كاملة مع تسهيل كل محاولاته للاتصال برفاق القرية القدامى ومفاتحتهم بالعمل الحزبي , لكن الجميع رفض مع تقديم التبريرات في أغلبها كانت مقنعة أمام دموية وممارسات النظام . وفي محاولة فاشلة حاولت والدتي الاتصال بأهله لكنهم رفضوا لنفس الدواعي والاسباب . كان من الصعب جدا بعد حفنة سنين من القتل والترهيب ان يجتاز الناس حاجز الخوف والذي لازمهم كالظل في حياتهم . طلبوا أهله من والدتي ان تدعوه بالعودة الى كردستان سريعا أو تسليم نفسه الى السلطات في القرية . في عودتي الى البيت كانت محاولاته مازالت مستمرة في تحقيق موطيء قدم يتم من خلاله التحرك على الناس . دارت بيننا في تلك الليلة نقاشات طويلة وعريضة . كان مشحونا بالمعنويات على ضوء تطورات الوضع والنجاحات التي تتحقق والالتحاقات الكبيرة للرفاق من الداخل والخارج لرفد ودعم التجربة ولم تغب عن متابعتي للتطورات في حركة الانصار ولهذا كنت أحاججه وأقارن بين الوضع في كردستان والوضع الارهابي والامني داخل القرية الذي هو أنعكاس للعراق الكبير . كان أندفاعه الكبير بعيد المنال عن التحقيق وهو تأسيس قاعدة حزبية وعسكرية في بساتين قرية الهويدر لتنطلق الى القرى الاخرى المحاذية لقريتنا . كان يحمل خطة عمل وأفاق مستقبلية من خلال الاعتماد على بعض الاصدقاء والرفاق القدامى من الذين أسقطوا سياسيا بألة القمع والارهاب . وتحملت أنا شخصيا مهمة الاتصال بهؤلاء الرفاق بل بذلت جهودا كبيرة في تقريب المواعيد واللقاءات والتي تمت كلها في بيتنا . كان اللقاء الاول مع رفيقنا وصديقنا المشترك ماجد صبري , لكن كل اللقاءات لم تجد نفعا بل أدت الى نتائج معكوسة . لم تعد أفكار رفيقنا عبد الزهرة واقعية أنذاك بحكم العوامل الموضوعية والذاتية في البلد عموما , مما أضطر رفيقنا عبد الزهرة بالعودة سريعا الى المناطق المحررة في كردستان . كان أخي باسم سباقا في ترتيب خروجه من القرية ليلا الى أبعد مكان أمن خارج القرية وبعد شهور من وصوله الى كردستان ترك مواقع الانصار وسلم نفسه الى السلطات الايرانية ليصبح لاجئا قبل وصوله الى المانيا . في سنة 1986 وفي بغداد المدينة المترامية الاطراف والكبيرة لم يعد لي فيها زاوية ا ولاموطأ قدم أقف عليها ,فيما عدى بيت الحاج غازي في منطقة الشيوخ بالكاظمية حيث فتحوا أبواب البيت لي ليكن مكانا للاختفاء والتحرك من أجل أعادة الاتصالات بالناس . في هذا الفصل المرعب من تاريخ حياتي , ضاقت الدنيا بي والامكنة لم تتسع لاستقبالي والمنية تطاردني في كل هذه الامكنة وحتى الازقة الضيقة . ذهبت الى أخي باسم الموظف في احدى مؤسسات الدولة في بغداد وكان أستقباله لي كبيرا في داخل المؤسسة التي يعمل فيها بعد مرور كل السنين الصعبة خلال فترة غيابي عن حياتهم , تخللته أشاعات وأقاويل وصلت الى حد أشاعة أعدامي في المخابرات العامة وهذه واحدة من أساليبهم لتخويف وترهيب الناس ودفعهم الى عدم الاقدام على أي عمل معارض لنهج سياستهم . في البداية قدم لي أخي بعض التسهيلات في التحرك والسكن وكنت حقا محتاجها وحياتي في خطر وأقسم لي بهذا البلد العريق , لو قادك الحظ ان تقع بين أيديهم وأقدموا على أعدامك كما جرى مع قريبنا ماجد هاشم الياسين ويسلموك لنا جثة فلسوف أحولهم الى كومة جثث على عتبة دارنا . دأب النظام في سنواته الاخيرة وضمن ماكنته الترهيبية بتصفية معارضيه جسديا في أقبية التعذيب ووضعهم في صنداديق خشبيه مهترئه , كاتبين عليه وبخط أحمر عريض صارخ ( جبان ) ويسلم الى أهله بصمت وبدون مراسيم عزاء وأحيانا تصل الصفاقة والتنكيل بالبشر بمطالبة الاهل بدفع ثمن الطلقات .

طالب عبود (علي عرب) أستشهد في عملية الانفال عام 1988. ألتحق الى كردستان عام 1983 من خلال تنظيمنا في بغداد وتبنيت انا شخصيا تأمين وصوله الى الاراضي المحررة عبر قرية ( أحمد برنوا) في قضاء دربندخان . خبر أستشهاده قرأته ورأيته في أحد أعداد ( رسالة العراق ) عام 1989 . في عام 1981 في قرية الهويدر عندما تعرضت والدتي الى أزمة صحية كادت ان تودي بحياتها , كان رفيقي وابن قريتي علي عرب سباق في مد يد العون والمساعدة من خلال تبرعه بالدم لها في مستشفى بعقوبة . ترك كل ممتلكاته والتحق في صفوف أنصار الحزب الشيوعي , ترك حبيبة عمره ووالديه المسنين, قضى عليهم المرض في غيابه . ظل يحلم الى يوم أستشهاده بالعودة لهما والى حبيبته التي تركها على أمل ان يلتقي بها في عراق خال من الحروب والاضطهاد السياسي . ألتقيته ثانية عندما ألتحقت بعده الى كردستان وكان شغوفا بسماع الاخبار عن القرية وأهله وحبيبته . هذا التناجي دفعه ان يجسده شعرا في لهفة الشوق لهم . ماذا سيكون موقفي وتبريراتي عن مصير خضر جعفر , عبد الزهرة عباس , فهد عبود ,عزيز أسماعيل و فلاح حافظ . وماذا عن صديقي عدنان صافي مدير بنك الرافدين في بعقوبة . كان مساهما ومطلعا على بعض تحركاتي ونشاطاتي من خلال لقاءاتنا اليومية على شواطيء نهر ديالى الساحر والأخاذ بجماله . كنا نتناقش في تحديد ألية العمل الجديدة وأساليب مواكبة التطورات في تجنب الأذى وأبعاد الشبهات عن عملنا , وللاسف فقد أعتقل بعد محاولتهم اليائسة في أعتقالي . وشملت الاعتقالات ايضا أخي أحمد الذي أخذوه رهينة لحين عودتي أو القاء القبض علي . اما صديقي ورفيقي ذاري كاظم فقد تعرض ولمرات عديدة الى الاعتقال , لكن هذه المرة حجروه لمدة شهر في زنازين الاستخبارات وخيروه اما ان يكون بعثيا أو يعدم ؟ فاختار الأول . وصديقي الآخر عصام فقد كنت معه في الليلة التي سبقت محاولة اعتقالي في مقهى أبو ستار. في الليل تعج القرية بمقاهيها وناسها وضيوفها تحت ضوء القمر وخرير مياه الأنهر المعطرة برائحة فواكها ونسمات سعف نخيلها . أما صديقنا وابن قريتنا- محمد صادق , العامل في جهاز الاستخبارات فقد ألتقانا في تلك الليلة وفي المقهى مع صديقي عصام ومرر كلاما عن طريق المزح و الذي كان يطغوا على أحاديثنا , دعاني الى الانتباه والحذر فأخذت كلامه على محمل الجد وساعدني تحذيره على الخلاص من قبضتهم . كم كنت ممتنا له ولفعلته الجميلة . عندما فلت من قبضتهم أحتلوا بيتنا لايام وليالي ونصبوا الكمائن وأهانوا وذلوا أهلي , تحسبا منهم اني سأعود في ليلة ما . لا احد هناك يجروء على أيوائي فضاقت بي الامكنة لاني سياسي مطارد فمن أساليبهم المتبعة , اعتماد سياسة القتل لكل من يحاول ايواء هاربا، فكيف سيكون الحال مع السياسي ؟

لم أهمل من حساباتي لملمة النشاطات التي كانت مبعثرة بسبب ضبابية الموقف والقمع السلطوي تحت تنظيم واحد قادرعلى ان ينهض بمهامه وذلك في أروقة الجامعة المستنصرية , كلية الاداب جامعة بغداد , كلية الصيدلة وأزقة بغداد وكذلك محافظات الوسط ومدن كردستان . وضعت في بالي صعودي ونزولي من بغداد الى كردستان وأنا طالب مازالت مواظبا على الدراسة. تساءلت : ربما يعرفون بطبيعة علاقتي مع طلاب كلية طب الموصل الذين أستضافوني في أقسامهم الداخلية لمدة عشرة أيام بكل تحدي وصبر وأنا ارتدي بينهم الزي الجامعي الموحد في أوقات المحاضرات والحضور في الكلية وفي المساء كنا نقصد مقاهي الموصل التي تعج بروادها اليوميين للعب الدومنيو وحديث الادب والنساء والبحث عن حلول لوضعي الامني بعيدا عن أعين السلطة وبحثها عني . ولم تخف عن البال علاقتي المتميزة مع الطبيب , محمد نعمة منصور من أهالي الشعلة لكونه على دراية كاملة بظروفي وهو شيوعي و أخيه الكبير منصور فقد كان ضابطا في الجيش العراقي. أما الطبيب محمد شويخر ولقربه من محمد نعمه , تمكنا من المرور علي وقلت له لقد جئت الى الموصل لزيارة صديقي الدكتور محمد وأنا طالب في جامعة بغداد وأسمي علي , أما أهل الدكتور محمد نعمه فادعيت بأني طبيب مع أبنهم من أهالي الحلة . كانت والدته تحرجني عندما تشكي لي أمراضها وتطلب مني علاجا فيتدخل الدكتور محمد لفض هذا الاحراج وهذا حدث لمرات . ولشدة ظروفي الصعبة في التحرك والاختفاء فقد أختفيت في بيتهم عام 1986 لأسابيع . تسائلت مع نفسي أيضا داخل زنزانتي ... ربما كانوا يعرفون أيضا مكان أختفائي وتنقلاتي داخل بغداد بين مدن الحرية , الشعلة , الكاظمية وقرية الصمود في الراشدية , فكيف سيكون حجم الكارثة والمأساة لو كانوا يعرفون خيوط هذه التنقلات والاتصالات ؟ . يقول لينين : الثوري من يراوغ شرطيه , في زحمة هذه التداعيات والمخاوف ظهرت أمامي هذه الجملة على أحدى جدران زنزانتي المظلمة اوهكذا تراءت لي . أذن السياسة فن الممكنات في المواجهة من أجل حياة من ينظر لك بتلك العين الكبيرة التي ظمتك في الصعاب والمحن , فتحطيم النفس والانتحار ومذاق الموت غصة بعد غصة أهون لي من الانهيار والاعترافات التي تؤدي بحياة الرفاق والاصدقاء وشفعا لتاريخي ومواقفي ونضالاتي من أن أكون المسبب في تحطيم الأخرين من خلال البوح بالامانة التي عاهدتهم بها .

هذه خلاصة مواقفي في الزنزانة التي تموت بها يوميا. داهمتني كل هذه الاحتمالات والافكار المخيفة والتداعيات المرعبة في زنزانتي . في لجة هذا التلاطم وأنا قابع خلف القضبان, خائفا من لحظة ضعفي لوطأة شدة التعذيب في الزنزانة رقم 3 لمدة يومين , كنت مشدودا الى ماضي مخيف ومستقبل مجهول . لابد أنهم توصلوا الأن على الاقل لمعرفة هويتي الشخصية بعد أن عجزوا عن أنتزاع أي شي مني حول هويتي ومشاريعي رغم أتباعهم أساليب قذرة في التحقيق والتعذيب . واجهتهم بمقاومة المناضل. حقا كنت في المشوار الاول من صولات التعذيب والضرب مشدودا الى ماضي بعيد وعميق في الموقف والنضال , لكن عندما المناضل يضعف وقد يضعف من يسلط عليه هذا الكم من الاهانات والتعذيب قد تفوق قدرة البشر في التحمل . لكن يجب ان يضع في الاعتبار أولا ان يكون هو فقط الضحية ويبعد الجلاد حتى من الشك بالأخرين وطالما وضعوا رقابهم بيدك بعد ان سلموه لك من منطلقات نضالية وأعتبارية . .أن أغلب مناضلينا ضعفوا أثر التعذيب الوحشي وأنهاروا في التحقيق . أنا بحكم تجربتي المتواضعة في المعتقل قد أعزي أسباب الضعف الى أسباب عدة أضافة الى العامل الرئيسي والحاسم هو وحشية الاساليب في التعذيب والقتل لكن هناك أسباب موضوعية وذاتية لم يتم التطرق ولا التعرف عليها بل تم تجاهلها عمدا , القصد منها خدمة وتمرير أهداف ونوايا بعيدة عن أهداف المشروع السياسي . في عشية الهجمة الشرسة ضد حزبنا الشيوعي في نهاية السبعينيات من القرن الحالي , لم تتمكن قيادة الحزب من التصدي للتطورات التي عصفت . في ميثاق العمل الوطني مع البعثيين في يوم 16 تموز 1973 لم تطرح الحلول لانها أصلا لم تضع في الحسبان حالات الطواريء فاخفقنا في معالجة تطورات الازمة والتي تعدت الى مستويات خطيرة من حيث الهدف والاسلوب . أخفقنا في تحديد رؤية واقعية نعيد من خلالها مجد وهيبة الحزب , وان نحافظ على مكاسبه الوطنية والقومية وتعزيز وجوده الجماهيري حسب رؤيتي وذلك من خلال حركة وتطلعات الجماهير التي عشتها حقا بكوني السياسي والمناضل. كان ممكنا مواجهة الازمة(الحملة الشرسة) ضد الشيوعيين هو مواجهة الازمة بمستوى الاسلوب الذي جوبهنا به , مواجهة مشروع البعثيين في تصفيتنا بروح الشيوعي والاقدام والتحدي في النزول الى الشوارع وتعبئة جماهير الحزب وأبناء شعبنا بمستوى من المسؤولية في رفض أساليب السلطة القمعية تجاه أبناء شعبنا من خلال المظاهرات والاعتصامات لكسر حاجز الخوف في نفوس أبناء شعبنا ولأخذ روح المبادرة في التصدي والنضال , مما قد يجبر السلطة على التراجع عن اساليبها البولسية , ولا نغفل تأثيرات قوى التحرر في العالم في التطلع الى الحرية والديمقراطية ,حتى لو تطلب الأمر في بعض المواقف مواجهات مسلحة مع البعثيين للفت أنظار العالم حول مشروعية قضيتنا وعدالتها في الدفاع عن الانسان وحريته . وتكون قيادة الحزب في مقدمة الطلائع المواجهة لأساليب السلطة القمعية , كما حدث في الماضي القريب عام 1963 , تحدي في المعنى والمعاني النضالية , عندما واجه الشهيد البطل سكرتير الحزب سلام عادل الانقلابيون في تحركهم الاول ببيان مدوي وزع في شوارع بغداد يدعوا به الحزب وجماهيره الى مقاومة الانقلابين والحفاظ على الجمهورية ومكاسب ثورة 14 تموز وبرغم سياسة السبي ضد مناضلي حزبنا وجماهيره واجهت قيادة الحزب بمسوؤلية هذه الهجمة والتصدي للانقلابين بقوة المقاومة والسلاح ومازالت هذه اللحظة التاريخية من عمر الحزب وبطولة قيادته في تصديهم الاول للحدث , سفر حافل في تاريخ الشيوعين في المواجهة والمقاومة , يشار لها بالبنان في واحدة من أمجاده الحافلة بالبطولة والبناء . وباستشهاد سلام عادل ورفاقة في التعذيب , أعطت دما جديدا للحزب , تمكن من أعادة بنائه بقوة أكبر وبمعاني نضالية أكثر تمسكا بالحزب والوطن . ثانيا ... ومن خلال معايشتي للاحداث وهو التراجع التكتيكي لكنه مثمر على كافة الاصعدة و على أقل تقدير للتخفيف من شدة الهجمة ولاتخاذ الاجراءات اللازمة في أساليب نضالية جديدة , هو فن الممكن في روحية الاستعداد في التعامل مع الهجمة الشرسة بشفافية مع تطورات الاحداث والاقدام بمسوؤلية وطنية لدرء الصدع في التحالف مع البعثيين حتى أذا لزم الأمر وتطلبت المرحلة فترة هدنه تكتيكية للملمة الصفوف التي تبعثرت مع أزدياد وشدة أساليب الهجمة . النضال في الداخل من أجل وحدة الموقف وتكوين ضغط شعبي وأممي من خلال تحركات سياسية ودبلوماسية , وهذا كان يتطلب صمود قيادي في الداخل وبين الجماهير , أي وجود قيادة فعلية في الداخل بمستوى الاحداث ومسؤولية مهام حزب تاريخي وتطلعات أمال جماهيره وناسه . لكن الذي وقع والغير متوقع من الجماهير وناسنا ... هو الهروب من المسؤولية التاريخية في تلك المنعطفات من تاريخ الشعوب , هو الدفاع عن مكاسبه وتحقيق أحلامه حيث تركت جماهير الحزب ومنظماته تحت سوط ورحمة الدكتاتورية في حملتها الوحشية عام 1978 .

في حينها لم تفسر سوى من منطلقات ذاتية والفشل في تحمل المسؤولية وقيادة الجماهير . كل هذا مجتمعة تركت بصماتها المؤذية وردود أفعال سلبية في أوساط الشيوعيين وأصدقائهم وعموم أبناء شعبنا وهم يتطلعون لنا بتلك القوة والتحمل .

وبسبب من حملة القمع الوحشي ضد حزبنا وبتراكم السنين وقساوة الظروف المتمثلة بالترويع والتعذيب والحروب وكذلك البعد عن تطلعات الجماهير في التواصل مع معاناتهم وهمومهم والافتقار الى خطاب سياسي ينسجم وطبيعة الظرف والمرحلة الجديدة ادى كل ذلك الى خلق أزمة فعلية وسلبية مع جماهيرنا في الداخل . وفي تقديري ومن خلال معايشتي لسنوات النضال والغليان وانعطافات الحرب والتطورات التي لحقت بها , ستنعكس نتائجها السلبية على شكل العلاقة مع الجماهير في الداخل والتي مازلنا موهومين في رؤية الناس لنا , خاصة بعد كل هذه الانعطافات والانكسارات التي عصفت في بنية المجتمع العرافي , وتحديدا بعد ما بينت الكثير من الموافف في البعد عن الجماهير وانعكست النتائج كمحصله طبيعيه , قادت الحزب الى مزيد من التشتت والتخبط . وبرزت ايضا لغة التخوين في التعامل مع الرفاق المعارضين في الموقف والرأي من سياسة الحزب . أدت في بعض الحالات الى المقاطعة الاجتماعية – والمحاربة في كسب العيش والرزق ,من أجل الاذلال والخنوع لقرارات لا تخدم مصالح الحزب والجماهير , مما سيترك أثاره وأنعكاساته السيئة في العلاقة مع الجماهير . في الخمسينيات من هذا القرن كان لنا وقعا أخر عند الجماهير , ففي الازمات كان الشيوعي المطارد من أجهزة الدولة يدخل بيوت الناس ويجري ايوائه بكل أمانة , يمدون له يد العون والمساعدة ويسهلون تحركاته في الاتصال بالحزب والجماهير . أما في الثمانينيات فقد أنعكس الأمر لجملة عوامل ذكرنا بعضها وهي معروفة لمن بقى يقاوم في الداخل أجهزة النظام وأساليبه الهادفة الى النيل من سمعة الشيوعيين . الشيوعي لم يجد له حاضنة ( الجماهير ) بل كان يطرد ويهدد بالتسليم الى السلطات هذا أذا لم يجبر في بعض المواقف على تسليم نفسه أو أخبار السلطات عنه . في هذا السياق سأروي ما حدث معي عام 1986 عندما توجهت من قاطع بهدينان الى بغداد اذ ضاقت بي الامكنة ولم تتسع لاستقبالي في عراقنا الكبير سوى محطات الباصات وحركة القطارات بين جنود الحرب المتوجهين الى جبهات القتال . أصبحت حياتي في خطر (( قاب قوسين أو أدنى )) مما أضطرني الى اللجوء لعدة بيوت في بغداد . ود العلاقة السابقة وحميميتها دفعتني لهم – وظروفي الصعبة هي الاكثر مساحة في طرق أبوابهم وخوفا من كثرة تواجدي في المحطات وحركة القطارات سأكون صيدا سهلا لهم ورصدهم للناس وتحركاتهم لاتغيب عن سياسي مطارد . ألتجأت أولا الى بيت هدى بنت خالي الشهيد البطل خزعل السعدي في الكرادة . كانت مفاجئة لها ربما كنت في عداد الموتى , حسب اعتقادها. كانت مفاجئة لهم وانا أفتح باب الحديقة للدخول .

عندما رأتني في وسط حديقة البيت , أختلطت عندها مشاعر الخوف والدموع ولم تتمكن من استيعاب الموقف في الوهلة الاولى رغم تظاهرها بالتماسك . أستقبلتني بكل أعتزاز بداية مع جملة من الاسئلة والاستفسارات والمقترحات بالاتصال بالأهل , اذ قالت أنهم قلقون عليك ويحاولون بكل الطرق الحصول على معلومات للأطمئنان عليك , كنت أرفض أي أتصال بأحد .

كررت مرات على مسامعي استعدادها على ان تضمني بعيونها لكنها استدركت : تعرف ظروفي ووضعي الحساس يمنع ذلك . بعد عودة زوجها في المساء (سعد ) الموظف في ديوان رئاسة الجمهورية ( كانت علاقة ود واحترام بيننا ) . بعد الاستقبال والمجاملات وطرح جملة حلول ليس بصالحي ولا يخدم الهدف الذي أناضل من أجله . الرجل كان صريحا معي من البداية , مذكرا رغم أنتسابه لهذه الاجهزة في دمويتها في التعامل مع السياسين المعارضين في تلك الحالات والمواقف . عرض أن يقدم لي كل ما أحتاجه , لكن وجودي في البيت يعد أنتحارا , يضع حياته وحياة أسرته في خطر لايمكن التجنب منه سوى الفناء والموت .

طلبت منهم الاتصال بأبن خالي وبنت خالتي علي و عالية , أصدقائي الحميميين في سنوات الجامعة , عشت فترات طويلة معهم أيام كنت طالبا في الجامعة , كانوا يسكنون في الدورة . عندما رن التلفون عندهم وخبرتهم هدى بوجودي بعدها بلحظات كانوا بجانبي رغم المسافة بين الكرادة والدورة . أستقبلوني في البداية بترحاب لعدة أسابيع رغم التخوف والترقب الذي كان واضحا في سلوكهم . حاولوا تبرير موقفهم من عدم مواصلتهم في أحتضاني لكنها كانت مبررات غير مقنعة لي طالما بقيت حياتي في خطر وممكن ان يعصف بها أي تحرك غير محسوب بدقة.

دفعتني ظروفي الصعبة الى أن اذهب الى بيت أختي لمدة يومين فقط محاولا حل أزمتي في السكن والتنقل بعد ان يئست من اللقاء بالرفيق أبو جاسم حسب المواعيد المرسومة لنا , اضافة الى ذلك الاستنفار الامني من أجهزة المخابرات بعد كبسة أوكار التنظيم في الراشدية وتحديدا في قرية ( جديدة الشط ). طيلة اليومين التي بقيت بها في بيت أختي أم نغم , تعرض بيتها أيضا الى المداهمة في بغداد بحثا عني , مما دعا زوجها في تلك الليلتين الى عدم النوم وظل مرعوبا يتمشى في الحديقة طيلة الليل . خرجت يائسا , ابحث عمن يضمني ويحميني من الموت . الجميع هنا مرعوب وخائف لقساوة النظام في قتل الناس . قادتني الصدفة بعد ان يئست من محاولاتي السابقة في ترتيب أموري ووجودي في بغداد , لكن مازلت متألقا بمعنويات المناضل والنضال من أجل المباديء التي نعمل من أجل تحقيقها لابناء شعبنا وأنا أتجول في مدينة الكاظمية , لم تكن تخطر في بالي ولا في حساباتي أن توصلني الصدفة الى بيت ابن خالتي الحاج غازي في محلة الشيوخ في تلك المدينة العريقة . وأستقبلت بترحاب رغم خطورة وضعي . وبقيت شهور بكل أهتمام وعناية وهنا تنفست الصعداء .

وبدأت أمد خطوطي وترتيب طريقة تحركي من جديد والاتصال واللقاء بالناس . وعن طريق أبن خالتي تعرفت على المناضل وأحد نشطاء القيادة المركزية سابقا ( عبد الخالق مطلك الدليمي ) من مدينة الشعب . بعد فترة وعدد من اللقاءات وضعت أمامه جزء من ظروفي الصعبة وكان يكرر على ملاحظاته عندما كنت أتجنب المرور والتنقل عبر السيطرات في اللقاء به : كن واحد من أبناء الشعب ولاتضع في بالك أنك سياسي معارض ومطارد . هكذا كان فهد يوصي رفاقه أيام النضال السري في العهد الملكي . قدم لي مساعدات لاتنسى بعد أن عرف صعوبة ظروفي وكان يثني علي كثيرا الى حد الاطراء على عنادي في المواصلة والعمل . كان يوجه اللوم الى قيادة الحزب بعدم وجودهم في الداخل وبعدهم عن نبض الجماهير ويعلق ساخرا لو جاء أبو فاروق يقصد عمر الشيخ – الشيوعي العصامي حسب وجهة نظرى به وأعتزاز عالي من خلال وجودي معه في نفس الفصيل لفترة أمتدت الى عام فكل التقدير الى نكران ذاته من خلال عمله المتفاني ووقوفه في باب الشرقي مع عربة لبلبي يعمل فيها, من الذي سينتبه له ؟ ويقول يجب علينا ان نسبق تصوراتهم وخططهم في محاربتنا وقد وافقته على هذه القناعات . كان الوضع في الداخل والتنظيم يستدعي رد الاعتبار للجماهير , وكسر حاجز الخوف يتطلب وجود رمزا في الداخل – بالمعنى المفهوم أنذاك – ليعطي زخما جديدا للمقطوعين عن المواصلة والارتباط بحركة التنظيم . زد على ذلك لردم الفجوة بيننا وبين الجماهير والتي أمتدت لسنوات , كانت عاصفة في بنية مجتمعنا , فتخلفنا عن الالتحاق والارتقاء الى فن الممكن في السياسة وفي أستيعاب تطلعات الجماهير والاحساس بمشاكلهم والنهوض بها من أجل الخلاص من الدكتاتورية المقيته في بلدنا والأخذ بنظر الاعتبار معاناة وظروف رفاقنا في الداخل والاعباء التي يتحملونها في نضالهم وتثمينها وفهم وتقدير مواقفهم في مراوغة أساليب السلطة , حيث سنوات البعد أبعدتنا عن فهمنا في مواكبة تطورات الظروف في العراق من تفكير الناس الى أساليب القمع , أضافة الى وضعنا في التنظيم من غياب للديمقراطية وغياب حرية الرأي وعدم أحترام وجهة النظر المعاكسة . عوامل أجمعت في ضعف مواقعنا داخل المجتمع , حيث في السنوات الاخيرة طغت لغة التشهير والتخوين ضد حاملي الرأي الأخر . في واحدة من نقاشاتي في بغداد اثناء أعوام الاختفاء مع القيادي في القيادة المركزية عبد الخالق مطلك الدليمي حول ظاهرة القيادة المركزية اذ أعتبرتها من جانبي أنتفاضة حزبية في 17 أيلول 1967 حيث تفاجىء بهذا الرأي متسائلا هل هذا تقيم الحزب الاخير لها فأجبته : مازلنا نردد في محاضراتنا ولقاءتنا وأجتماعاتنا ( أنهم منشقين ويقودهم خائن , عزيز الحاج ), أذن لمن هذا الاستنتاج فقلت : هذا شأن عائد لي ونتاج بحثي ومتابعتي ولم نجروء الى الان على دراسة هذه الظاهرة في تاريخ الحركة الشيوعية في العراق سواء في أجتماعاتنا أو تقييمنا لاحداث بلدنا ومازالت ضمن المسلمات في عملنا السياسي .

لم يغب عن بالي رغم مرور السنين طريقة أفلاتي من قبضتهم عام 1983 اذ كانت أشبه بالحلم فحينما صدر قرار ألقاء القبض علي والتي تمت بوضح النهار وبطريقة بوليسية , فقد قاموا بأقتحام بيتنا في قرية الهويدر , تمكنت من الخلاص منهم بأعجوبة بقيت ردود أفعالها حديث أهالي القرية . بعد المداهمة الفاشلة من القاء القبض علي , أحتلوا بيتنا لأيام وطوقوا القرية من مخارجها ومداخلها وعبثوا في البيت تحت مرأى وصراخ الاطفال وفي كل شبر من زوايا البيت , بل قلبوه رأسا على عقب و فشلوا في العثور علي وخاب ظنهم في الحصول على مبررات وأدلة تدعم طريقتهم الهمجية في أقتحام البيت وسبي أهله . كنت في حينها أتمشى مع قريبي المهندس محمد أكرم وتأكد لي فيما بعد و حسب ماروى لي الشخص الذي يرافقهم من تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني أنور المزوري وذلك في نهاية 1987 في مدينة كفري وفي بيت شيخ عطا صادفني في الطريق في السيارة التابعة الى أجهزة الاستخبارات وغض النظر عني رغم علامات التعب والتعذيب وتهديده بالقتل أذا لم يقبضوا علي . وعندما أقتحموا البيت تمكن أخي باسم من الافلات الى بيت الجيران رغم محاولتهم في رميه لكنه تمكن من الافلات منهم وأستعان بدراجة نارية من الجيران – حسن هادي – ولحق بي في الطريق وأبلغني على وجهة السرعة بما حدث وعاد مسرعا الى البيت . كان مضطربا من هول الحدث وتفاصيله , علما أن أخي يعمل ضمن أجهزة النظام وهو الوحيد من عائلة تتكون من عدة أشخاص . ان تفاصيل هذا الحدث شغلت أهل القرية وهناك من هب لتقديم بعض المساعدات وأخص بالذكر جيراننا أموري عباس الذي أنقذ مكتبتي المتواضعة واخفاها داخل بساتين الهويدر ودفنها تحت الارض فتأكلت مع الايام بفعل الرطوبة .

بعد أن يئسوا رجعوا خائبين , مبررين خيبتهم بحملة أعتقالات داخل القرية . شملت بعض معارفي وممن لم يلتحقوا بركاب الصف الوطني الذي أقامه البعثين عشية الحملة الوحشية ضد الشيوعيين العراقيين عام 1978 وشملت ممن أسقطوا سياسيا ووقعوا رغما عنهم على قرار 200 السيء الصيت . كل محاولاتهم السابقة في أذعاني وضمي الى الصف الوطني باءت بالفشل .

عدنان صافي ... مدير بنك الرافدين في مدينة بعقوبة , من أصدقائي الحميمين , كانت لقاءتنا تقريبا يومية على شواطيء نهر ديالى وبساتينها وتحت ضوء القمر , أستفدت منه في عملي الحزبي وتحديدا من أستلام بعض الادبيات والاخبار عن طريق المراسل الحزبي من كردستان ومروره على عدنان في وظيفته وفيما بعد أستلمها شخصيا من العزيز عدنان . بعد الافلات من قبضتهم حاولوا معه في المعتقل توجيه تهمة العلاقة الحزبية , لكنه تمكن من الافلات منهم بتبرئة أي علاقة حزبية تربطني به , وبهذا الموقف الشجاع تمكن من سد منافذ أبواب التحقيق والتي قد تشمل ناس أخرين وانا في تقديري هذا هو جوهر الموقف للمناضل الحقيقي فهو من حمى رفاقه وناسه من اساليب الاعتقال والاهانة .

عصام زهدي ... رفيقنا وصديق الجميع , كان ضرير لكنه موهوب ومتابع لقضايا عديدة . في سهراتنا الليلية والقمرية وتحت أشجار النخيل والبرتقال , يتحف ويطرب سهراتنا بعزفه للكمان بالعذوبة والطرب . لم يتخلص من السلطة واساليبها فلمرات عديدة تعرض الى الاعتقال بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي . في عام 1981 كنا في سهرة هويدراوية وللحظ صادفت يوم 31 أذار تأسيس الحزب الشيوعي العراقي والجميع الذين حضروا كانوا سابقا ضمن تنظيمات الحزب الشيوعي في القرية . لم يخطر في بالنا اننا كنا مراقبين من أجهزة الامن في المحافظة , وأنهم مازالوا في حالة أنذار للتحرك ورصد هذا اليوم التاريخي في حياة الشيوعيين . كنا مطوقين داخل البستان , نسكر ونتناقش ونغني بدون أكتراث , معتقدين أننا نحي حفلة بمناسبة هذا اليوم وفنانها حبيبنا عصام عازف الكمان . بعد الانتهاء وفي ساعة متأخرة من الليل وأثناء عودتنا الى بيوتنا , فاجأونا بأن نلقي سلاحنا مع قوة التهديد بالنار والا قتلونا جميعا , جاوبهم عصام عمي على كيفكم نحن لانحمل مخيط فكيف نلقي السلاح ( والمخيط عبارة عن أبرة كبيرة تستخدم في خياطة الغطاء المكون من ليف النخيل والكوني ليضع على ظهور الحمير ليحمي ظهورها من ثقل وزن الرمان والتمور ). وفي اليوم التالي أصبح حديث أهالي القرية ونكاتهم وسخريتهم .هذا ورافقت هذه الامسية بعض الاعتقالات والتحقيقات . بعد أفلاتي من قبضتهم عام 1982 تعرض ايضا صديقي عصام الى الاعتقال ورغم أنه كان ضرير لكنهم مارسوا ضده كل أساليب التنكيل والأستهزاء مطالبينه بكشف خطوط التنظيم وقنوات التمويل وما هي اهدافهم . وقد روي لي أخي أحمد الذي تقاسم معه مساحة الزنزانة في المخابرات و طلب عصام من الحراس ماء للشرب فأتوا له بكأس ماء ساخن جدا فعلق عصام ساخرا من سخونته فأجبروه على شربه , قائلين له أشرب ولك لعد شتريد ماء بارد .

ذاري كاظم المالية ........ الحديث عنه طويل وذو شجون , ويطول الحديث عنه لعمق العلاقة التي تربطنا والتي أمتدت لسنوات أيام القمع والارهاب ومازالت تحتفظ بذلك البريق الناصع ولم تطفئها مرارة السنين ورغم ان المصاب كان جللا .

فما زلنا نتواصل عبر الاصدقاء والاهل. كان عاملا شيوعيا شجاعا وعندما أشتدت الهجمة على الشيوعين عام 1979 لم يفلت منها بل كان له نصيب كبير من الملاحقة والاعتقال محاولين أرغامه بالقوة للانتماء الى الصف الوطني الذي أستحدثه البعثين لضم الشيوعيين له ممن سقط سياسيا خلال توقيعه على قرار 200 و الذي يفرض على موقعه ان لايعمل بالسياسة الا ضمن صفوف حزب البعث , كان في حينها يوصف بأنه واحد من مهازل البعثين. ظل ذاري مقاوما لفكرة الانتماء لهذا الصف الغير وطني , بعد ذلك أعتقل ذاري بعد أن هجموا على بيتنا ووجدوا في مكتبتي رسالة منه عندما كان جنديا في قاطع البصرة ويصف لي بها معنويات الجنود المتذمرة من الحرب.عرضته هذه الرسالة الى الاعتقال في الاستخبارات العسكرية الشعبة الخامسة في الكاظمية ,بعد ان كان زائر دائم في أمن بعقوبة , كلما أحسوا بنشاط شيوعي في المحافظة أستدعوه الى التحقيق . في الشعبة الخامسة وتحت ضغط التهديد والقتل بكشف العلاقة التنظيمية معي وغيرها مما قد يعرضه الى التصفية . في الزنزانة سلموه قصاصة ورق تحتوي على حللين أما أن يكون بعثيا أو يعدم .... فأجبر أن يوقع على طلب الانتماء الى حزب البعث أنقاذا لحياته ولم يمض على زواجه شهرا واحدا فقط. أخي أحمد أعتقل كرهينة لحين عودتي وعندما عجزوا في العثور علي أطلقوا سراحه , ولكن لم يكن في بال وحساب الاستخبارات باني سأكون وفي نفس اليوم في مأمن القاعدة الحزبية , حيث تمكنت من الوصول الى مدينة كفري بنفس اليوم , رغم أن منافذ القرية مرصودة ومراقبة من رجال الاستخبارات والتنظيم البعثي في القرية . نجوت بأعجوبة وساعدني في ذلك موقف وشجاعة مهدي السعدي عندما كان مهيأ سيارته لنقل رمان الهويدر . بعثت زوجته أبنة خالي الى بيتنا لجلب وثيقة شخصية تساعدني على التنقل والحركة وبعثت زينه أبنته الى المقهى لتنادي والدها وعندما وصل طلبت منه في الحال بعد أن صعدت في الباص الخشبي المحمل برمان الهويدر , جلست بين أقفاصه , طلبت منه ان يساعدني في الوصول الى مدينة السعدية .

ومن المدينة أستأجرت تاكسي الى كفري وسألني السائق عن سبب ذهابي الى المدينة ( وربما الملابس التي كنت أرتديها هي التي دعته الى هذا الفضول دشداشه مع نعال لاستيك ) قلت له أن أختي متزوجة في مدينة كفري وان لي أخ في جبهة القتال مع أيران سقط شهيدا وجئت الى هنا لابلغها وأخذها مع , مما دعاه الى ان يتعاطف معي وفي ان يلح علي لينتظرني لكي يساعدنا في العودة ثانية الى مدينة السعدية فشكرته على هذا الموقف , ولم أتخلص منه الا بالحيل والشافعات.

من كراج مدينة كفري , ذهبت مشيا الى بيت رفيقي أشتي شيخ عطا فلم أجده في البيت, أستقبلتني والدته وأخته شيلان التي كانت من الاوائل على مدارس العراق . لم يحتاج الموقف الى وقت طويل لتأتي والدة أشتي ففتحت الباب فورا مع ضحكة كبيرة , أدخل , أدخل ويا للصدفة فقد كانت طابخة باميا , و من خلال أشتي دائما كنت أثني على براعتها في طبخ هذه الاكلة التي يتميز بها العراقيون وسألتني مباشرة :هل تأكل ام تنتظر الشيخ اذ مازال في دوامه كمدير عام في بلدية كفري , فكنت جوعان فسبقته . في صيف عام 1987 أستشهدت أم أشتي أثناء مشاهدتها من على السطح البيت معارك البشمركة مع قوات النظام . أستغل أحد العملاء الموقف وفتح النار عليها من بيت الجيران فأرداها قتيلة .كانت خسارة كبيرة للشيوعيين لما قدمته من خدمات ضيافة وأطمئنان . عندما وصل شيخ عطا الى البيت ورأني أبتسم حالا وقال لي هو أنت المقصود . كان ملما بخيوط القضية من خلال علاقاته . عرف ان هناك أعترافات تشمل رفاق عرب من خلال أندساسات . وتحسبا لأي طاريء طرح علي ان اتوجه فورا الى مدينة كركوك والى تكية الطالبانين , لتفويت الفرصة عليهم . جلست في السيارة في المقعد الخلفي مع شيلان وكان الشيخ يقود السيارة وزوجته بجانبه متجهين الى مدينة كركوك . وصلنا في الليل الى تكية الطالبانين في مدينة كفري والتقيت برفيقي أشتي الذي غمرني بترحيبه وحسن ضيافته ودار بيننا حديث طويل ومتشعب وأحلام وخطط تحت أضواء نجوم مدينة كركوك حتى الصباح اذ كنا ساهرين في سطح البيت . في الصباح توجهت الى مدينة سليمانية مع أحد رفاق التنظيم المدني في المدينة ومنها أنتقلنا وعلى وجه السرعة الى مدينة دربندخان لتدبير أموري في الوصول الى المناطق المحررة والتي تعرقلت في مدينة سليمانية بسبب الاستنفار في الوضع الامني . عدت مرة أخرى مع الرفيق في التنظيم المدني الى مدينة سليمانية , في كل الحالات كنا نمر عبر مفارز سيطرة والسؤال التقليدي هو أن يطلب هويتك الشخصية و أين ذاهب ؟ لكن في منتصف الطريق باتجاه مدينة سليمانية , ترجلنا أنا والرفيق من السيارة وقطعنا الطريق العام بسرعة الى طريق ترابي فرعي وذلك بأتجاه قرية ( أحمد برناوا ) . كان في أستقبالي الرفيقين الشهيدين محمد وردة ( الحاج كلاوهرش ) والخضيري ( أبو جلال ) , أستقبلوني بسرية وتكتم ومتجنبين الاتصال بالأخرين , محاولين على وجه السرعة الصعود الى المقر العام واللقاء برفاق التنظيم المدني . هنا بدأت مرحلة جديدة في حياتي النضالية وهي أكثر قربا من الواقع . العديد من عناصر القعده الحزبيه كانوا متحسسين للاشياء التي كانت معلبة ومبهورين بدزاينها المنمقة . تجربة رغم مرارتها , لكنها أعطتني أكثر مما أخذت مني على مستوى المشروع السياسي في العراق , غير أني ضيعت مستقبلي الدراسي بعدما كنت طالبا في السنة الاخيرة في جامعة بغداد وضاعت معها سنوات في البحث والمواصلة . كان للتجربة أثرها في أستخلاص الموقف بعد أن خضت غمارها بالواقع والفعل مما أنعكس على مبدأية مواقفي من الوطن والواقع . بعد وصولي بسلام الى الاراضي المحررة عن طريق قرية ( أحمد برناوه ) الطريق الذي سلكته مرات ولوحدي للاتصال برفاقنا في كردستان . بعثت برسالة الى الرفيق شيخ عطا لغرض الاتصال بأهلي وطمأنتهم, وكنت قد تركت ملابسي التي وصلت بها في بيتهم . أخذ الشيخ عطا دشداشتي وذهب بها الى مدينة بعقوبة ليلتقي بقريبتي المهندسة ساهرة السعدي في دائرتها الني كان الشيخ في مهمة في نفس الدائرة , وعندما ألتقاها في مكتبها وعرض عليها دشداشتي ليطمأنها تسمرت رعبا ولم تتمكن في الوهلة الاولى من أستيعاب تراجيدية الموقف فقد حسبت أنه من رجال الامن فقد كانت أساليبهم حديث الناس في الهمس لما تركوه من مرارات في حياة العراقيين . مما عقد الامور أنه كان في مهمة رسمية الى دائرتها التي تعمل بها فتسألت بخوف ... هل يوجد بشر بهذا الموقع الوظيفي في زمن الدكتاتورية ويعمل ضمن صفوف الحزب الشيوعي العراقي وهي الصورة التي حاول النظام ان يمسحها من مخيلة العراقيين , فكيف بمدير بلدية وبمهمة رسميه وفي ذات الوقت يؤدي واجبا حزبيا ولكن لتجربته الطويلة في العمل السري تمكن من طمأنتها وان يشرح لها جزء من تفاصيل وضعي ويسلمها الدشداشه بأمان وهذه كانت الطريقة الوحيدة لابلاغ أهلي بسلامتي , لكنها ظلت لسنوات تفاصيلها غامضة على أهلي .

في الايام الاولى من وصولي الى كردستان وتجوالي في القرى مع الرفيقين أبو جلال والحاج كلاوه رش , كنت أتعرض الى أسئلة عديدة حول تطورات الوضع في الداخل , وللأسف الشديد وأقولها بمرارة فأن أغلبية رفاقنا يجهلون ما يجري في داخل العراق , يبنون أمالهم وطموحاتهم على خلفيات الهجمات الايرانية وأعلامها في تحشيد ملايين البشر في الوصول الى قلب عاصمة الرشيد بغداد . فعندما كنت أنقل لهم صورة الواقع وقوة السلطه وليس النظام كما يعتقدون على حافة الهاوية . كانوا يتذمرون من كلامي وربما تعرضت همسا الى الاتهامات . أما الرفيق الحاج كلاوة رش .... كان يبصم على كلامي ويسمي النظام بنظام البعث ليعطي له حجمه الطبيعي من أجل أيجاد صيغ نضالية بمستوى تساعد على مواجهة أساليب النظام وعلى اضعافه . كان الرفيقان أبوجلال والحاج رش مثار أعجاب جماهير الحزب والقرى لما يتمتعون به من تواضع وطيبه , يمثلان لي نماذج شيوعية كنت ومازلت أحمل عنهم تلك الصورة التي طبعت في مخيلتي عن سمو الشيوعيين . ابو جلال , كادر من أهالي ريف الكوت وهو الذي أطلق علي أسم لطيف , الاسم الحركي في كردستان .

الرفيق الحاج رش , محمد وردة – أبو جيفارا – كادر في محلية ديالى من أهالي جلولاء ... كان شجاعا ومتواضعا يمتلك حسا وطنيا وواقعيا في تقدير تطورات الواقع وحجم الخصم . ما أحسسته من خلال قربي منه , انه كان مغضوبا عليه لجرأة مواقفه وأرائه السياسية . أما تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني فكانت تحمل ضغينة ضده . كان يعد أول نصير شيوعي ألتحق في مناطق كرميان ضمن صفوف بشمركة الاتحاد الكردستاني أبان الحملة على الحزب عام 1978 . وعندما توافد الشيوعيين على كردستان ألتحق برفاقه , ومن هنا تنبع الضغينة و الحقد عليه وبشكل خاص بعد أن تبين لهم أنه كان كادرا شيوعيا وقد موه عليهم . الرفيقان أستشهدا في أقبية القمع في بغداد عشية الضرية الحزبية المؤلمة في ديالى عام 1986 .

كان الرفيق الحاج رش .. وفي نهاية عام 1985 عائدا من الداخل الى قاطع بهدينان في منطقة زيوه بعد ما أنتقلت قيادة المنطقة الوسطى الى ذلك القاطع لتعذر العمل وصعوبة التحرك والتنقل على خلفية الاحداث مع قوات الاتحاد الوطني الكردستاني الذي بسط نفوذه وسيطرته على مناطق كرميان وقرداغ وذلك قبل أنعقاد المؤتمر الرابع للحزب 11-15 – 1985 .

رجع الى الداخل عن طريق تنظيم محلية دهوك , لكنه هذه المرة وقع بيد دليل (حزبي ) عميل مزدوج ( سيأتي الحديث عنه قي صفحات لاحقه ). بدل من أن يصل الرفيق الحاج الى كراج مدينة دهوك ليأخذ طريقه الى بغداد , ذهب به الى مديرية أمن دهوك لينقل الى مديرية الامن العامة في بغداد . صمد 45 يوما تعد دهرا في حياة المناضل وهو يقاوم جلاديه , هكذا حصيت الفترة الزمنية للرفيق الحاج ما بين ما وقوعه بيدهم وتاريخ ساعة الصفر في يوم 1 0 – 1 0 – 1986 . على مااعتقد فقد كان يناور جلاديه لاعطاء فرصة أكبر للتنظيم في الداخل لاتخاذ الاحتياطات في تغير الاوكار الحزبية والاختفاء وأتخاذ أساليب عمل جديدة على كافة الاصعدة , في قرارة نفسه هكذا يؤمن ويعتقد . لكن الذي حصل هو وقوع الكارثة التي أودت بكوكبة من خيرة رفاق الحزب فلو كان هناك اسلوب عمل تنظيمي يليق بمواجهة أساليب السلطة لضيعنا الفرصة على أجهزة النظام في هذا الصيد الثمين . التنظيم في الداخل يعتقد ان الرفيق الحاج مازال في مناطق كردستان وأنه تأخر هناك على خلفية عقد المؤتمر وقيادة الحزب تعرف عن طريق العميل المزدوج في تنظيم دهوك , ان الرفيق الحاج وصل بسلام الى قواعده وهذه تعد عورة تنظيمية تتمثل في عدم مواكبة حياة الرفاق الذين كانوا يتوجهون الى الداخل . العديد منهم وقع بيد السلطات وهم في بداية طريقهم الى بغداد والمحافظات . وهكذا ضاع مصيره ولا يملك الحزب أية معلومات عنه . وبسبب من هول الضربة الموجهة الى تنظيمات الحزب على خلفية تسليم الرفيق الحاج فقد حطم التنظيم وأعتقل الجميع وجرفت البستان في جديدة الشط , القاعدة الحزبية للتنظيم ولم توضح الصورة لقيادة التنظيم في كردستان حقيقة ما حدث الا في أذار عام 1986 . عندما وصلت الى بغداد وبدأت تقصي الخيوط , عندها عرفت من خلال أحاديث الشارع أن هناك هجمة على تنظيمات الحزب في محافظة ديالى . تحركت للملمة تفاصيل وتعقيدات ما حدث في ذلك اليوم. تذكرت الايام الماضية من التحاقي الاول الى كردستان وفضولي في التنصت والانزعاج على حد سواء لاستقراء الوضع السياسي في العراق وكيف كانوا يبنون تحليلاتهم وذلك بالاعتقاد أن النظام وأجهزته ومؤسساته القمعية على حافة الهاوية ينتظر من يهويها على قاعدة الهجمات الايرانية على المدن العراقية ومحاولتها في أحتلالها بعيدا عن أحتمالية أحتلال الارض والوطن . قرارات الحزب كانت واضحة بعدم المساهمة والتعاون مع نوايا أحتلال الوطن . وبقيت لسنوات حائرا من أين أتوا بهذا الاستقراء حول جدلية هاوية النظام . البعد عن نبض الشارع وتطلعات الجماهير هو الذي شوه تقديراتنا حول الوضع السياسي في العراق بالاضافة الى حجب الحقائق عن الرفاق والتنظيم بل سوقوا معلومات مضللة مجرد حقنا للمعنويات مالبثت أن أنهارت سريعا في مفترق المنعطفات والمخاضات الصعبة . حديث طويل مع الرفيق أبو جلال في مناطق شهرزور عام 1983 , كنت ألح عليه في العودة الى الداخل رغم الاحتمالات الكبيرة لكنه أصر علي في الصعود الى المقر واللقاء بالرفاق في القيادة وهذا ماتم فعلا بناءا على رغبته الملحة . كنت احاول أقناعه بالانقطاع عن التنظيم بدون سابق أنذار فمن أين سيعرفون مصيري وسلامة وصولي بأمان التي تعطيهم دعما أخر للعمل . وسيبعد عنهم شبح الخوف والشعور بألامان والعودة الى العمل من جديد .

كنت ألح كثيرا بالعودة الى بغداد منذ الايام الاولى من وصولي الى كردستان فالالتحاق الاخير مادفعني له هوصعوبة وجودي وتحركي في الداخل اذ أصبحت مطلوبا لهم والبحث عني مستمر لالقاء القبض علي . لكن رغم ذلك ولاحساسي المبكر بجدوى وفعالية النضال وأبعاد وتأثير أساليب عملنا في العملية السياسية على دولة تركن وقائمة على مؤسسات قمعية في محاربة أبناء شعبنا لا ترقى لها الا أساليب النضال في الداخل وبين الجماهير وبدوافع نضالية ووطنية ترتقى الى تطلعات الجماهير في تحقيق أمانيه في التحرر والتقدم . العملية النضالية في كردستان طيلة سنواتها رغم أنني مازلت أعتز بها وأعتبرها واحدة من مأثر الحزب لكنها كانت محصورة في الاحتراب الداخلي مع القوى الاخرى التي ترفع أيضا شعار أسقاط النظام من خلال جبهات وتحالفات ما تلبث أن تنهار بين ليلة وضحاها. أنحصر نضالنا في القتال مع الفرسان هكذا تسميهم السلطات . كنا ننعتهم بالجحوش وهم أفواج من الشعب الكردي يقاتلوننا بدلا عن الجيش العراقي , جندتهم الدولة لمحاربتنا باعتبارهم أبناء المنطقة وهم على علم بتضاريسها وجبالها , لكن هذا لايعني ان السلطات في بغداد لم تشترك في المعارك من خلال جيوشها ومؤسساتها القمعية , كانت أكثر العمليات بأدارتها وتخطيطها , العديد من المعارك هي التي خاضتها . أنا هنا أتكلم حصيلة تجربة ليست قليلة في ساحات النضال . أسلوبنا النضالي لم يرتق الى تطلعات الناس لنا في ذلك الزمن . كنا بعيدين جدا عن مواجهة مؤسسات السلطة الحقيقية على المستوين الدعائي والقتالي .

مما دفعني أكثر وزاد من قناعتي بأن وجودي ونضالي في الداخل بين الناس وبكل وسائله البسيطة والممكنة يشكل المرتبة الاولى في تعبئة وقيادة الجماهير ضد مؤسسات الدولة وهذه التطلعات ليست رأيا عابرا بل لتجربة فعلية خضت غمارها في سنوات القحط في النضال ومواجهة السلطة , أي عندما كان الحزب يحتاج الى رجال وقفنا ذلك الموقف وناضلنا في أحلك السنوات وأصعبها في مواجهة أساليب السلطة في عقر دارها في العاصمة بغداد . في تلك السنوات عندما أشتدت الهجمة علينا , فتح النظام حدوده وأجوائه لافواج من الشيوعيين لترك البلد والانتقال الى الخارج ومازال العديد يعتبرها بطولة حين استطاع الافلات من قبضتهم غير مدرك أنها كانت واحدة من خطط النظام في أفراغ الشارع من وجودنا , لكن في المقابل أعتقل المئات وتمت تصفيتهم في زنازين الامن والمخابرات . لو أرادت أجهزة الدولة في ذلك الزمن من سد الحدود والمنافذ أمامنا , لتعذر خروج هذه الالاف من الشيوعيين , لكن وعلى مدى السنوات اللاحقة كان أسلوب النظام هو الاجدر في محاربتنا وتهميشنا بهذه الطريقة والعديد من الرفاق أدركها متأخرا . وكنا نتسآل وبهمس لماذا هذا الهروب الجماعي ؟ وترك الساحة لهم في الاستحواذ على مقدرات شعبنا في العيش والتطلع . روي عن واقعة عندما هم عزيز محمد سكرتير الحزب في الخروج من مطار بغداد للهروب , قدم جوازه الى ضابط المطار فقال له أهلا بالرفيق أبو سعود , متى تعود لنا ثانية ؟ اجابه , لمدة أسابيع , فالسلطات على علم كامل بهروبنا من العراق بل كانت واحدة من أساليبها ضدنا وحققت نجاحات كبيرة بها و المستقبل هو الكفيل بكشف تداعيات هذا الهروب ونتائجه السلبية المستقبلية على أفاق عملنا في مواجهة أساليب النظام .

صرخة مدوية عسى أن تسهم في أعادة الوعي وتقييم الموقف والظروف وفق رؤية جديدة تنطلق من الواقع وأنعكاساته في الساحة السياسية وتحديدا للذين كانوا يمنون أنفسهم بالاحلام الطوباوية والانتصارات الوهمية . خلال سنوات وجودي في كردستان , أستخلصت تجربتها الواقعية على ضوء أمكانية مواجهة سلطة قمعية وشديدة في أساليبها لمواجهتك , أذ لابأس ان تكون كردستان قاعدة للعمل في الداخل فمن خلالها يزج المناضلين الى بغداد والمحافظات والعمل بين الجماهير وتعبئتها وتدريبها على طرق واساليب نضالية ترتقي الى مشروع سياسي ووطني في خدمة الوطن والشعب . كانت الجماهير وابناء شعبنا ايام الحرب العراقية – الايرانية وما رافقها من أنعطافات قد هددت وجود النظام فيها مثل ما حدث في هزيمة المحمرة عام 1982 , فالناس كانت تتطلع الى التواصل النضالي معها وتبني أساليب نضالية جديدة , لكن ليس على قاعدة المناضل هو من يستشهد, و للنضال طرق وأدوات عديدة بالضرورة, ينبغي ان ترتفع الى مستوى واساليب الخصم في الممارسة وعلى ضوء معطيات الواقع لانتزاع منه كل مايخدم ويصب في الهدف السياسي المرحلي وللانطلاق الى خطوات أعمق في النضال .

في خضم هذه المعطيات ولرغبتي الشديده في العودة الى بغداد , كان الرفاق يطلبون مني التروي ومراجعة قراري لكن بعد فترة أعطيتهم الحق من خلال تبصري في مجريات الاحداث . دعاني تأخري في العودة ومن خلال أحاديث طويلة مع الرفاق وبناءا على معرفة الاوضاع التنظمية في الداخل وأفاق تطوراتها وأمتداد خطوطها , شرحت لهم اللوحة التنظيمية التي أعتمدت للعمل في الداخل وشخوصها . في البدء لم يتمكنوا من قراءة خطوطها , ربما بدت لهم على شكل خرابيط من الخطوط الرومانسية لشاب بعمر العشرين ان يخرج بهذه اللوحة من تراكمات الماضي, عصية على الفهم في ظل نظام أشبك كل الخطوط وشوه تلك اللوحة في اعماق ارواحنا وفي ارتباطنا بالناس . حين كنت أشرح الى الرفاق ابو جلال وابو جيفارا عمق أتصالتي والخطوط , لم يستوعبوها في البدء , ربما أعتبرت قضايا مختلقة من نسج الخيال والتمني بهذا المستوى من العمل والنضال . شاب بعمر العشرين وفي ظروف صعبة جدا ووسط حمامات الدم , تمكن من لم وتجميع هذا العدد والمستوى من الرفاق في بغداد , لكن للبعد عن مواقع النضال الحقيقية له تداعياته وأثاره السلبية و موقفي أصبح أكثر تفهما لرؤية هؤلاء الرفاق حول تطورات الوضع في الداخل وذلك لبعدهم عن الواقع اليومي المعاش وتطلعات الناس في رؤاهم الجديدة وكذلك لمخلفات الحرب وأثارها الدامية , أدت الى حصول فجوة كبيرة بين ما نصبوا له وأحلام الماضي ومايجري من تطورات في بنية المجتمع وانعكاسات الواقع عليه . كان هناك ضعف واضح في فهم ومواكبة التطورات السريعة في حياة الناس وهذا أيضا لم يعد مخفيا من خلال خطابنا السياسي المتخلف عن مواكبة تطورات المجتمع . بعد أن تعرقلت أمكانية عودتي الى بغداد بالفترة الزمنية التي كنت أحتاجها , بدأت مع الرفيق أبو جلال بوضع طرق ومحاولات الاتصال برفاقي في الداخل , استعدادا للعودة الى بغداد بعد أن سبقه في ذلك الرفيق الحاج أبو جيفارا في عام 1984, أذ وجدنا صيغة كتابة رسائل , تكون عبارة عن عدة أسطر واضحة للمتلقي , هذه العملية أستغرقت أيام من النقاش والرد في مناطق شهرزور . وقد أجرينا سلسلة من الاحاديث بهذا الشأن مع الرفيق أبو ناصر ( طه صفوك ) الذي كان يتولى قيادة تنظيم المنطقة الوسطى والتي شملت ديالى , الرمادي , الكوت وتكريت . ومدينة بغداد تتسع لعمل الجميع . أبو ناصر يتمتع بنكران ذات عالية جدا لم تتوفر عند الاخرين ويتفرد بمؤهلات تنظيمية أنعكست لاحقا في بناء منظمة حزبية قد يعجز الاخرين من الوصول الى مستوى هذا العمل وفي تلك الظروف والمعاناة . أما مؤهلاته الفكرية وهذه قد تكون صفة لازمة لاغلب كوادرنا , فأسبابها تعود الى تاريخ تلك السنوات من العمل التنظيمي السري وسط الفلاحين . في لقاءاتي مع ابو جلال و بناءا على توجيه من ابو ناصر وبالتنسيق معه ,جرى التعاون في سبيل ايجاد صيغ عمل للاتصال برفاق الداخل وتنظيماته من خلالي لاني كنت حلقة الوصل الوحيدة بهم وهذا بسبب من دموية الاوضاع في الداخل . بعد ذلك كان الرفيق ابو جلال جاهزا للتوجه الى بغداد وحدثني عن أدارته للعمل هناك في قيادة تنظيم المنطقة الوسطى وسألتحق به بعد وصوله بسلام وتلقي الاشارة منه بعد أن سبقوه كوكبة من المناضلين وأتخذوا قاعدة لهم في قرية ( جديدة الشط ) التابعة لمحافظة ديالى وهي قرية الرفيق أبو ناصر وتحديدا في أحدى بساتينهم بالتعاون مع أخيه الشهيد أبو ستار أذ كان له الدور الاكبر هو وعائلته في تأمين حياة الرفاق من تحرك وأختفاء وتحملت زوجته حياة السجن والاعتقال . أبو ستار الذي أعدم في أقبية الامن العامة عام 1986 على أثر الضربة الحزبية من نفس العام , قامت أجهزة السلطة بالسيطرة على الممتلكات الموجودة من أسلحة ومطبعة داخل البساتين التابعة للتنظيم وجرفوا البستان التي كانت قاعدة للانطلاق من اجل التحرك والاتصال بالناس . لقد تكون ونشأ هذا التنظيم كاسلوب وبناء, بدقة عالية وقدر من السرية التي ربما كان مستواها ببعض الخيوط فاقت تصورات وحسابات الاجهزة الامنية , لكنها تحطمت بساعات أو بساعة صفر واحدة .كان من الممكن تجاوزها لو أتبعت أساليب عمل بمستوى مواجهة أساليب السلطة . واحدة بل هي الاكثر في تدني الاحترازات هو ضعف متابعة عمل الرفاق الذين يتوجهون الى الداخل وكذلك تقطع علاقاتهم والتي ربما امتدت لسنوات مع المركز والعديد منهم من وقع بيد السلطات وأخفى الأمر على الحزب وأصبح مناضلا شرسا في الوقت الذي كان قد تعاون مع أجهزة السلطة ومازال البعض منهم مستمرا كمناضل والقليل ممن وقع بيد السلطات وأجبر على التعاون مقابل تعهد للعمل معهم , لكن ضميره الشيوعي أملى عليه و في أول فرصة الافلات من قبضتهم والالتحاق بالحزب وتبليغه بما حدث وهذا ماحدث مع الرفاق أبو مازن , الحاج سامي وأخرين , لكن هذا الموقف الشجاع أستقبل باستهجان متعمد وغير منطقي مقارنة مع همجية السلطة ودمويتها وربما هذا الموقف وتداعياته هو الذي دفع بعض الرفاق الى أخفاء الحقائق ومازالوا مناضلين بل يزايدون على وطنية الاخرين .

أعود الى الرفيق أبو جلال لألتقيه في مناطق وقرى شهرزور , حاملا معي رسالة من الرفيق أبو ناصر بخصوص ترتيب الوضع وتأمين الاتصالات في الداخل , في الايام الاولى كنت مع مفرزة الرفيق أبو لينا والشهيد أبو عناد لمتابعة ومطاردة رفاق الامس الذين تمردوا على قرارات الحزب وأتخذوا من سهل شهرزور قاعدة لاعلان موقفهم الجديد بقيادة الرفيق ملا علي وتوفيق الحاج ومفرزته من أهالي حلبجة وذلك في عام 1984 . في سلسلة أحاديث مع الرفيق ابو جلال ترددت في البدء كثيرا للتعاطي مع التوجهات الجديدة , لكن الذي دفعني على التعاون وكسر حاجز التردد هو وجود أبو جلال لثقتي العالية به وشجاعته وهما اللذان سهلا مهمة عملنا المستقبلي , حينها قال لي عندما شعر في البدء بترددي المشروع , نحن بحاجة لك في الداخل والعديد من الرفاق يلحون على عودتك السريعة لهم بل حتى تعهدوا بتوفير سكن أمن لك . وذكر لي أسماء الدكتورين عزيز وفلاح , لكن توتر وعوامل الاحتراب الداخلي ومشاكلنا مع الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) هي التي أفسدت خططنا وأخرت مشاريعنا المستقبلية لمواكبة حجم الاوضاع في الداخل .

خلال حوارات دارت بيننا , طلب مني الرفيق ابو جلال بأن التحق به بعد وصوله بسلام الى بغداد , لكن التمرد الذي وقع كان هو السبب وتحديدا أو بالاحرى كان الموضوع متعلق بالرفيق بهاء الدين نوري وتحركاته ضد سياسة الحزب وتحالفاته وأسسه التنظمية من خلال الوثيقة الحزبية التقييمية لمرحلة كاملة من تاريخ الحزب والتي منع من نشرها باعتبارها محظورة وتضر بالحزب والظرف الذي يمر به وفقد العقلاء صوابهم في تهدئة الامور واخذت العلاقات طابع العداء والاحتراب والتشهير . كل هذه التطورات ساهمت في تقييدنا وتحجيم تحركاتنا وهذا ما أعاق قنوات أتصالاتنا بالقرى والجماهير التي كانت منفذنا الوحيد للتحرك نحو عمق الوطن . أود هنا أن اعرج على حقيقة مرة – على خلفية الخلافات مع الرفيق بهاء – بعدما كان بهاء لي شخصيا وربما لنا نحن جيل الجبهة الوطنية قد ساهم مساهمة كبيرة في تشكيل مساراتنا الفكرية من خلال كتابه في تلك الفترة ( أيام صعبة عن ذكريات شيوعي من العراق ), يروي فيه مواقفه البطولية في الخمسينيات عندما كان سكرتيرا أولا للحزب ,في حين وخلال عقد الثمانينيات وعندما أختلف مع الحزب في وجهة نظره, نعتوه بالعمالة والارتباط بالاجهزة الامنية العراقية . ومن ناحيتي فلم أخف هذا السر وبحت به في حينها مباشرة وحين طرق سمعي هذا الاتهام الخطير لمناضل فدى حياته للحزب والوطن . اثر ذلك ولاسباب عديده أصابتني رجة دماغية لم أشف منها لسنوات وشكلت مسارات جديدة في حياتي النضالية وأعطتني معاني أخرى للنضال والوطنية ودافعت عن مباديء الحزب أنطلاقا من هذه القيم . جلسنا وتحدثنا طويلا انا وابو جلال في قرى شهرزور وأطراف مدينة حلبجة . تخللت مسيرة رفقتنا هذه نقاشات طويلة وعريضة حول وجهة عملنا الجديدة والخطوط الحزبية وطبيعتها ومهامها وطرق الاتصال بها لتجنب أي أذى قد يلحق بها وعمل المستحيل من أجل الحفاظ عليها وديمومتها. تمخضت نقاشاتنا عن صيغة للاتصال بهؤلاء الناس وذلك من خلالي كتابة رسائل شخصية ورمزية مقتضبة وبأشارات بسيطة بحيث تطمئن مستلمها ومموه بما فيها من معلومات أو التشخيص أذا ما وقعت بيد السلطات . كانت من الصعوبة حل شفرتها من الطرف المعادي. كتبت وبخطي ثلاثة رسائل بسيطة الى ثلاثة خطوط على أوراق قصيرة جدا وخفيفة معدة للعمل الحزبي .كان ابو جلال بجانبي أثناء الكتابة لفبركتها بشكل يتناسب مع خطورة الوضع الذي نمر به. حينها بكيت لشعوري الممتزج بالخوف والندم لاني تركتهم وبدون أنذار مسبق. والأن وقد مرت فترة طويلة بدون أي اتصال أو علم حول مصيري , كم سيتحمل الموقف من مفاجأت وتداعيات للجانب المتلقي للرسائل ؟. خروجي المفاجيء هكذا, كان مفروضأ علي ولا أعلم ما جرى لهم في الوقت الذي كنت في كردستان تلقيت معلومات ان الاجهزة الامنية تروج معلومات مضللة عني , تشير الى ألقاء القبض علي بل وصل ألأمر أنهم شاهدوني في المعتقل واعتقد ان ذلك جاء لتبرير فشلهم في الافلات من قبضتهم بأعجوبة ولمتابعة ردود الافعال ولتشخيصهم لبعض الناس وهذا أسلوب متبع وليس غريب على أبناء شعبنا . أبان الحملة الشرسة على جماهير حزبنا عام 1979 , تصرفوا بطرق متنوعة مع المناضلين والذين لم يرضخوا لمطاليبهم , فمثلا يخرجونهم في سيارات الامن ويدورون بهم في مناطقهم قبل أطلاق سراحهم للايحاء الى تعاونهم مع الاجهزة الامنية وهذا عكس الواقع الذي جرى معهم وبهذا الاسلوب يحاولون وقد نجحوا به ايصال رسائل مشوهة الى الاخرين لزعزعة الثقة في أوساط العمل الحزبي .

في الايام الاولى من ألتحاقي بكردستان , تجولت في قراها مع الرفيق حجي كلاوة رش وسألته عن بعض الناس الذين ألتحقوا من خلالي , بل انا رشحتهم وفاتحتهم بالالتحاق , فذكر لي أن خضر عبد الرزاق وعبد الزهرة عباس تركوا سلاحهم وسلموا أنفسهم الى القوات الايرانية والبعض الاخر مازال متواصلا , وسألته عن وحيد دبش الذي ألتحق قبل أسبوع , قال لي : أرجعته الى الداخل بعد يومين من وصوله وبلغته الاتصال بك ثانية وترتيب وضعه لضرورة ومستلزمات المرحلة النضالية والتي تتطلب زج الرفاق الى الداخل , وتحديدا وحيد فلاتوجد مبررات كافية لالتحاقه الى كردستان . كان الرفيق الحجي يروي لي التفاصيل ويعبر عن قناعاته بمعاير النضال الحقيقية لاسقاط النظام بكل الوسائل المتاحة والتي لا تتم الا من خلال الداخل والتغلغل بين الجماهير والنهوض بها . كان الحجي هو الرفيق الوحيد الذي ألتقيته ويسمي الامور بمسمياتها ولم يخف في أحاديثه من تسمية ( البعث ) للتعبير عن حجم العدو الحقيقي . في أحدى المرات دار نقاش بيننا بحضور الرفيق عمر ( ابو جاسم ) تحديدا حول تسمية البعث باعتبار لم تعد هناك أسس ومنطلقات لهذه التسمية والوجود , حيث لم يعد هناك حزب بعث وتعمدت هنا ذكر هذه الواقعة لحجم وتأثير الواقعية السياسية في قيادة مشروعك السياسي , فكان الرفيق الحجي يحاجج ويبرهن على دلالة هذه التسمية وخدمتها التي تصب في تحقيق أهدافك , ومن أجل خطاب سياسي ناضج يجب أعطاء العدو حجمه الحقيقي والواقعي وقوته الفعلية المبنية على القمع والاستبداد , هذه هي الحقيقة لكنها مرة واحيانا محبطة للبعض فمرارة الحقيقة هي التي تدعونا الى اتخاذ أجراءات صحيحة ومناسبة لمواجهة هذه المرارة . وأنا أنصت الى أستقراء الرفيق الحجي للوضع السياسي , تسألت أذن من أين جاءت هذه الاحلام الطوباوية بأن النظام أيل للسقوط ؟ هل هي تخمينات وأمنيات انصار ؟ أم أنها قرارات حزبية على ضوء معطيات نضالية مازلنا نجهلها .

في عام 1986 تم أعدام الرفيق الحجي أبو جيفارا ( محمد وردة ) من قبل البعث وحكم على والدته البالغة من العمر 80 عاما 20 سنه والتي تولت حينذاك مهمة نقل السلاح والبريد من كردستان الى قيادة التنظيم في محافظة ديالى وبغداد في ظروف أستثنائية وصعبة قل نظيرها وحكم على أخيه سردار أيضا من قبل البعث. وكما بينت سلفا أن الشخص الذي قام بتسليم الحجي الى مديرية أمن دهوك هو شهاب العميل المزدوج , الذي نفذ طلب الجهات الامنية في أغتيال الرفاق أعضاء محلية دهوك أبو رؤوف وابو خالد ونصير أخر . وعلى خلفية تداعيات قضية أبو بهاء وألقاء القبض عليه من قبل قوات الحزب في كردستان وتحديدا في مناطق بهدينان ( زيوة ). في واحدة من المرات توجه ابو بهاء الى بغداد عبر تنظيمات الموصل (هذا ماحدثني به الرفيق عامل ) , وهم في دشت الموصل قرية دوغات , طلب الرفيق عامل من ابو بهاء التريث بالنزول وذلك بسبب ورود معلومات تفيد بأستنفار أمني وعسكري في المنطقة , لكن أبو بهاء أصر على النزول , فوقع في أول سيطرة أمنية و لحسن الحظ كان شهاب العميل المزدوج ضمن مفرزتها وشاهد السرعة والصفقة التي تمت بين ابو بهاء وضابط الامن في لملمة القضية . وخوفا من تداعياتها بوصول الاخبار الى تنظيمات الحزب فقد تم و في نفس الساعة أخلاء سبيل ابو بهاء بل رتبت بعناية طريقة وصوله بسلام الى مدينة الموصل , مما دعا العميل المزدوج الى أبلاغ التنظيم في الساعة واليوم عما جرى , لكن أبو بهاء وصل الى بغداد ولم تعد الفرصة سانحة للتحقيق معه وذلك حتى أنعقاد المؤتمر الرابع للحزب في كردستان. هذا وقد دعى أبو بهاء ضمن مدعوي المؤتمر من الداخل وكانت الفرصة مؤاتية لقدومه الى كردستان . وفي الايام الاولى من وصوله فتح ملف تحقيق معه , لكنه كان يستبعد في حديثه ويتجاهل ما يسمعه بل أحيانا يستهزء مما دعا قيادة التنظيم الى أستدعاء العميل شهاب الى مناطق العمادية وذهب بحجة مفرزة أستطلاعية مع أبو بهاء كل من الرفاق ابو طالب الذي أعدم أيضا لقضية مشابهة وابو برافدا والملازم أزاد وذلك بالتنسيق مع محلية دهوك . وعندما حدث اللقاء شخص العميل المزدوج شهاب أبو بهاء وفي حينها أصبح معتقلا وجرد من السلاح . وأخذ التحقيق معه مجرا أخرا بينته في صفحات أخرى. لكن في اليوم التالي علمت أجهزة الامن بما جرى فاعتقلت العميل شهاب وعائلته. وردا للاعتبار. طلبت منه تصفية قادة محلية دهوك وعلى وجه السرعه طلب العميل شهاب بأجتماع مع قادة المحلية لأمر مهم وتمكن من أغتيال ثلاثة من الرفاق المذكورين أعلاه وأختفى شهاب الى الابد. . أعود الى موضوع وحيد , لم أكن أعرفه شخصيا , لكن سبق والتقيت لمرات بأخيه الدكتور كريم وذلك عندما كان طالبا في كلية الطب – جامعة الموصل. لكن في صيف 1982 حدثني الدكتور عزيز على أنه مطارد ومختفي عن أجهزة الامن التي تبحث عنه وترك عمله كعامل فني في مطار صدام حسين . وحسب ماروي لي ان أحد أصدقائه في نفس الموقع الوظيفي أعتقل وأسمه ابو ماجد . أستدعينا وحيد الى قرية الهويدر وكنا في أستقباله أنا والدكتور عزيز وكانت المرة الاولى التي ألتقيه وتحدثنا حول تفاصيل وملابسات القضية فارتأيت انا شخصيا التحاقه بكردستان وبقي لمدة يومين في بيتنا لحين ترتيب طريقة ألتحاقه وبعدها رافقته شخصيا الى مدينة ( كفري ) وقمت بتسليمه الى التنظيم في المدينة وفي أحد البيوت الحزبية وكانت في أستقبالنا الشهيدة البطلة أم كوران وعدت عاجلا الى بغداد لارتباطي بموعد مسبق مع مسؤول التنظيم الرفيق أشتي . وكما عرفت لاحقا و بعد وصوله بيومين الى كردستان , قام الرفيق الحجي باعادته الى الداخل , وفق قناعاته , فعاد الى عمله في المطار بشكل طبيعي وبدون تساؤلات . أما التنظيم في كردستان فقد طلب منه أعادة أتصاله من خلالي وهذا لم يحدث في ذلك الوقت بسبب وضعي الذي أصبح صعبا جدا . عندما توجهت الى بغداد يوم 14- 2-1986 من قاطع بهدينان بعد ان تركت قاطع سليمانية في أواخر 1985 . لم اتجاهل موضوع وحيد من قائمة حساباتي وضرورة الاتصال به , وربما ظروفي الصعبة في بغداد عجلت من اللقاء به . طرحت هذه الفكرة على التنظيم قبل توجهي الى بغداد بيومين لكني وجدت أصرارا مسبقا بعدم التقرب من هذه التكتلات والاشخاص للاشتباه بهم بالارتبط مع الاجهزة الامنية ولقرب وحيد من خط حزبي تقوده المخابرات والذي وصلت خيوطه ومجريات التحقيق معه الى قواعد التنظيم في كردستان وذلك من خلال ثلاثة أشخاص ألتحقوا بكردستان وأعترفوا بارتباطاتهم المشبوه مع الاجهزة الامنية . بعد شهور من وصولي الى بغداد أتصلت بوحيد غير مراع لوصايا التنظيم وكانت هناك جملة أعتبارات لهذا التحرك من قبلي , لايقدرها الا من يعيش في تلك المرحلة الصعبة من حياة شعبنا . هنا بدأت المشاكل مع التنظيم في كردستان , بسبب .أتصالي بوحيد , كنت أؤكد دائما مسؤوليتي الاولى عن هذا التحرك , لكنهم كانوا يعتبرون وحيد والمحيطين به ,خطوط أمنية وهمية لايقاع الشيوعيين في مصيدتهم وذلك حسب أعترافات أدلى بها الملتحقون الثلاثة وهم , علاء سفر , عادل موات وشخص ثالث اسمه حسين وهو من أهالي بغداد الجديدة ,للمحققين في كردستان . تصرفت بشكل شخصي ولم أكن أعرف بنتائج التحقبق ومجرياته الا بعد صعودي للمرة الثانية من عام 1986 وذلك عن طريق الرفيق أبو ناصر , فقطعت علاقتي وصلتي به, ولكن عندما طلب مني القيام بمهمة أيصال وحيد الى كردستان لتصفية الحساب معه , رفضت لاعتبارات عديدة أذ أنهم اصبحوا كعائلة لي وأستقبلوني في بيوتهم وخوفا من قتله كما الاخرين . كنت أشك ومازلت من ان وسائل التعذيب ربما هي التي دفعت الاخرين على الاعتراف . وقد بينت موقفي هذا الى الرفيق ابو ناصر وحذرت من تداعيات هذه الممارسات على عملنا والأخذ بنظر الاعتبار ظروف العمل السياسي في العراق , في الوقت الذي كنا نصرخ في أدبياتنا السياسية ونختلف حول مضمون الفاشية ونتباكى في خطابنا السياسي على حياة شعبنا من شراسة ودموية النظام طالما لم نرحم الضحايا من رفاقنا. لكن للأسف الشديد لم نتعظ ونأخذ العبرة من دروس الماضي والتي تمر علينا بثقلها مرور الكرام . ظلمنا وبالغنا في تقديراتنا بحق الاخرين بل ننظر الى ضحايانا كجلادين و بدون رحمة وضمير . تمادينا بالتشهير بهم الى حد جلدهم وتجاوزنا في بعض الحالات والمواقف مستوى همجية الفاشية , بل مارسنا بوعي تلك الهمجية في قتل الناس وأن أختلفت الاساليب والطرق وساهمنا في تهميش وتخوين الاخرين وشمل ذلك أيضا كل من يحمل رأيا مخالفا للنهج العام .

ومما عزز الشبهات حول وضع وحيد الامني هو التحاق مجموعة تدعي أنها من تنظيمات بغداد وذلك عن طريق وحيد وذلك بالتنسيق مع مجموعة من معارفه في قاطع بهدينان وتحديد من الذين كانوا أكثر قربا لاخ وحيد وهو الدكتور كريم دبش. وقد كشفت مجريات التحقيق في كردستان مع الرفاق الملتحقين الجدد ان عملية الالتحاق تمت عبر وسطاء مشبوهين. هنا حاول التنظيم التضييق علي , لكني دافعت عن قناعاتي وأسلوبي في العمل وطريقة تحركي في العمل الحزبي وعدت ثانية الى العاصمة بغداد .

علاء سفر من أهالي الحرية وخطيب المهندسة نيران وهي من أهالي سليمانية , والده صلحب فرن صمون في المدينه . عادل موات من أهالي بغداد والثالث حسين من أهالي بغداد الجديدة . كانوا جميعا طلاب هندسة في جامعة بغداد وشيوعين سابقين , ينحدرون من عوائل قريبة الى الفكر الشيوعي , نشطون في عملهم الحزبي. اثر أحداث 1979 و بعد الاعتقال والتعذيب , جندوا في أجهزة الامن مقابل الحفاظ على حياتهم وواصلوا نشاطهم الحزبي ضمن خطوطهم لكن هذه المرة باشراف الاجهزة الامنية ورعايتها . كانت تقوم هذه الاجهزة بالاشراف عليهم وتنظيم ألية عملهم التي تنسجم مع خطط هذه الاجهزة في محاربة الشيوعين والنيل من سمعتهم التاريخية . وايضا تقوم هذه الاجهزة الامنية باستساخ جريدة الحزب ( طريق الشعب ) بعد أن تحصل على العدد الجديد عبر تنظيم هذه المنظومة الحزبية وبيانات الحزب وتقارير اللجنة المركزية بأعداد كبيرة ويتم توزيعها في بغداد من قبل هذا الخط الحزبي المصطنع . كان هذه الخط الحزبي يضم بين صفوفه شيوعيين يمارسون نشاطهم بصدق , ولم يفطنوا لشبهات هذا الخط الحزبي وأرتباطاته المشبوهة مع الاجهزة الامنية . وكان لهذه الاجهزة حساباتها الامنية الدقيقة تجاه هذه العناصر النشطة , وحين تشعر بخطورتهم تقوم الاجهزة المعنية بمعالجة الموقف عبر الاعتقال السري أو الاغتيال , لتعطي الديمومة لهذا الخط في المواصلة وللحفاظ عليه . كان راضي دبش الطالب في جامعة بغداد أخو وحيد أحد النشطاء والفعالين في هذا الخط الحزبي الموهوم , ألتقيته في بغداد عام 1987 وفاتحته بمصير رفاقه لكنه أصطدم ولم يصدق ودافع عنهم بكل أمانة . أنا هنا أسجل أمانتي وانصافا للتاريخ .يوجد رفاق داخل هذا الخط الحزبي وبحكم قربي وكثرة أسئلتي وتساؤلاتي, رفاق غرر بقسم منهم وقسم أخر واصل عمله بكل أمانة وصدق وبامانة حزبيه . كانوا ضحايا لاساليب سياسة النظام , وهذا ماكشفته بنفسي في بغداد في أعوام 1986 -1987 من خلال لقاءاتي بهم . وصل علاء ورفاقه عادل وحسين الى كردستان وقامت الاجهزة الامنية المسؤولة عن هذا التحرك في اليوم الاول من خروجهم الى أقتحام بيت حسين في بغداد الجديدة وأعتقال بعض من أفراد عائلته أعتبرها البعض للتمويه والاخرين أعتبروها واقعا وهذا جزء من أرهاب السلطة . وصلوا الى قاطع بهدينان وحسب أعترافاتهم في التحقيق في فصيل الدوشكا في منطقة زيوة وبعد أن مضت فترة على وجودهم وتم تسليحهم وتنسيبهم الى الفوج الاول في بهدينان , كشف أمرهم صدفة من خلال حديثهم حول أفاق عملهم ومستقبل وجودهم , لكنهم لم يفطنوا من أن احد الرفاق كان متدثرا في فراشه في نفس الغرفة التي تم الحديث بها فتمكن هذا النصير من تلقف جزء مهم من أطراف حديثهم وبلغ عنهم الى الجهات المسؤولة وتم أعتقالهم فورا وتعرضوا الى ما تعرضوا له من وسائل واساليب مرفوضة , أجبرتهم على النطق والاعتراف بكل شيء . وشملت أعترافاتهم أدانة وحيد وأخيه راضي ونفذوا بهم الحكم بعد أن أنهوا التحقيق معهم. هنا بدأت معارك جدية مع الاخرين وهو التريث في أتخاذ القرارات بحقهم أولا وثانيا أن الاعترافات التي أدلوا بها تحت التعذيب حول علاقة وحيد وأخيه راضي بالاجهزة الامنية تتطلب الصبر والمزيد من البحث . هذه خلاصة موقفي من هذه القضية والتي مازالت تداعياتها تلقي بظلالها على مسيرة العديد من الرفاق . لكن تبقى هناك أيضا أسئلة وأستنتاجات مدفونة وبعضها حذر مازال التطرق اليها متروك الى الزمن وهو الكفيل بادانتها أو تبرأتها .

أواصل موضوع الرسائل بعد أنجازها وتسليمها الى الرفيق أبو جلال الذي أطلع عليها في سهل شهرزور من شتاء 1984 .

كانت رسالتي الاولى .... الى أستاذ الادب المقارن في كلية الاداب – جامعة بغداد

د. جليل كمال الدين .

الرسالة الثانية ... الى الدكتور عزيز أسماعيل طاهر وهو من أبناء قريتي الهويدر . كان في حينها طبيبا في مدينة الطب في بغداد , تأهل لاختيار هذا الموقع لتفوقه الدراسي المهني في جامعة الموصل .

الرسالة الثالثة فهي الى زميلي محمود صالح , شاب من أهالي الاعظمية منطقة السفينة كان طالب معي في الاداب واحدأحد أبطال العراق في القفز العالي . ودعت أبو جلال على أمل كبير أن ألتقيه قريبا في بغداد حسب القرارات والتوجهات الجديدة ضمن خطة عمل تعزز الوجود في الداخل واتساع رقعة التنظيم . لكن الاحداث ( التنظيمية ) التي حدثت عشية هذا التوجه الجديد عرقلت خطة العمل هذه و تفجرت الاحداث بين بهاء الدين نوري ومله علي مع قيادة قاطع سليمانية . أدت الى حالات أستنفار وأنسحابات كادت ان تؤدي الى الاقتتال الداخلي , أضافة الى الظروف الجديدة في أراضي كردستان وهي الاحتراب مع قوات الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) بقيادة مام جلال والتي أدت بنا الى الانسحاب الى الشريط الحدودي مع ايران وبناء المقرات هناك الأمر الذي أدى الى تقوقعنا وضعف حركتنا وحصر نشاطنا حيث الابتعاد عن الجماهير وقراها وصعوبة الاتصال في الداخل والتحرك نحوه . لقد أصبحت مهامنا الرئيسية هي جمع التموين وقطع الاشجار والخفارات ودروس مامستا سالار في تعلم اللغة الكردية والتي أدت جديته المفرطة في هذا المجال الى نكات وتعليقات ابو فلاح في معاقبة ابو مناف في مشاكساته للمامستا . كانت أكثر تحركاتنا بين المقرات والافواج والقوات الحليفة في الجبهات الممتدة من جود الى جوقد . بعد فترة من نزول الرفيق ابو جلال ووصوله بأمان الى بغداد, سلمت رسائلي الثلاثه لاصحابها, هذا مابلغني به ابو ناصر وكان موقف الجميع أيجابي في التعاون مع رفاقنا في الداخل وبدورهم بلغوا بتحياتهم الحارة لي . بصدق حينها شعرت بالفرح وبثمرة عملي ونضالي بين الناس والذي كان من المترض ان ينصب نضالنا بين صفوفهم , ولكن بقى رفاق ورفيقات ومتعاطفون معنا , في بغداد والمحافظات . كنت أترقب بشغف لانفراج في الوضع وستكون أول خطوة من نزولي هو اللقاء بهؤلاء الناس , لكن عندما حانت الفرصة في النزول الى بغداد كانت عكس التوقعات والتأملات وساعة الصفر في 19860101 حطمت التنظيم عن بكرة أبيه . في الساعة الاولى من العام الجديد 1986 , هاجموا كل الاوكار والمحطات والبيوت الحزبية . والذي أنذر الناس بحدوث هذا الهجوم هي الواقعة البطولية في مدينة البرتقال البطلة , عندما تصدى الشيوعي البطل خالد جسام (معاوية) لمفرزة من الامن حاولت أقتحام بيت المناضل فقتل مسؤولها وجرح الأخرين وتمكن من الخلاص من قبضتهم بشجاعة .كانت هذه الواقعة حديث أهالي المدينة التي هم بحاجة كبيرة الى مثيلاتها لرد الاعتبار وكسر حواجز الخوف الني نصبتها الدكتاتورية في طريق الناس . غير ان الاخبارالتي تم تناقلها فيما بعد اشارت الى تمكن الاجهزة الامنية من القاء القبض عليه اثناء محاولته الوصول الى أراضي كردستان بعد ان تعذر بقاءه في الداخل من هول الضربة والملاحقات .

في هذا التاريخ من ساعة الصفر تمكنوا من القاء القبض على جميع رفاق التنظيم . بعد سلسلة من التحقيقات والتعذيب , أدت الى أعترافات كبيرة , شملت أيضا مستلمي رسائلي مثل الاستاذ جليل كمال الدين الذي حكم عليه بالسجن عشرون عاما . كذلك محمود صالح حكم عليه أيضا عشرون عاما وأمتدت الى كل أرتباطاتهم الاخرى , أما الدكتور عزيز وفالح كان صعودهم الى كردستان منقذا لهم لانهم أيضا شملوا بالاعترافات . لقد توجهت الى بغداد يوم 19860214 من قاطع بهدينان بعد ان تركت قاطع سليمانية في أواخر عام 1985 . وجدت كل الذين كانوا في بالي مشمولين بهذه الاعترافات وتعرضوا الى ماتعرضوا له من أساليب معروفة للجميع . فبدأت خطة عمل جديدة وضعتها لنفسي بعد صعوبات كبيرة لاقيتها في الايام الاولى من وجودي في بغداد و تحديدا موضوع السكن وصعوبة الاتصال بالناس فالكل يحذر من الكل لاسيما بعد هذه السلسلة من الاعتقالات والاعترافات التي شملت أعدادا كبيرة من الناس ومازالت الاجهزة الامنية تراقب وتبحث عن الاخرين . كانت الخطوة الاولى التي أربكت وضعي الامني ودعتني الى الحذر والتسائل وصعبت من تحركاتي بل أضططرت الى الاختفاء هي قضية الرفيق عمر ( ابو الجاسم ) من أهالي الخالص أذ انه تأخر عن الالتحاق بي . فبعد أن وصلنا سوية الى أخر محطة كردستانية يتم منها التحرك والانطلاق الى بغداد , توجهت أنا أولا وبعد أيام سيلتحق بي وحددنا أول موعد للقاء في بغداد وحددنا المكان وهو محطة الباص المقابل لمسرح السلام في الاعظمية وأذا فشل اللقاء الاول سيكرر في الاسبوع الثاني بنفس المكان وعلى ان تكون فترة الانتظار خمسة دقائق , هذا ما اتفقنا عليه , لكن لم ألتقيه أيضا , فأتخذت فورا الحيطة و الحذر وغيرت مساحات تنقلي وأختفائي . لكن فيما بعد عرفت بعد ان عانيت من ظروف صعبة جدا في الاختفاء والتحرك , ان الرفيق عمر وعلى ضوء برقية من قيادة الحزب قد أجل الالتحاق بي وذلك بعد وصول معلومات متأخرة الى قيادة التنظيم في كردستان تتحدث عن أطراف حديث عن الضربة الحزبية وأتساعها . كانت ردودها سلبية حول أفاق عملي فبقيت وحدي أناضل في سبيل خلق محطات ومأوى ومصادر للاتصال . بعد فترة لاتقدر بزمن من المعاناة والخوف , تمكنت بعد القليل من الانفراج من توفير سكن ونقاط أتصال ساعدتني على التحرك شيئأ ما وأعطتني فسحة من التحرك وأعادة الاتصال بالناس , ومما عزز من وجودي بين الناس هو ايجاد عمل مناسبا لظروف عملي الحزبي وحرية في أمكانية حركتي وقربي من بعض الناس الذين عرفوا بنشاطي وظروفي الصعبة , كالحاج غازي محمد الذي كان يملك معملا للحدادة في قرية الصمود على الطريق العام بين الراشدية وبغداد وكذلك عبد الخالق مطلك الدليمي , أحد كوادر القيادة المركزية أنذاك من أواخر الستينيات وكان مالكا لجملة من المشاريع في نفس القرية مثل محل غسل وتشحيم ومطاعم حمتني لشهور عندما ضاقت بي الظروف . كان دائما يذكرني ابو بسيم ( عبد الخالق ) بالرفيق فهد وأحاديثه عن العمل السري وعلى المناضل ان يعيش ظروف الناس ويتصرف مثلهم لابعاد الشبهات حوله من الاجهزة الامنية .

الرفيق عمر ... سلام من أهالي الخالص , كانت مهمته معي للتنسيق في بغداد . علمتني التجربة السابقة من العمل في بغداد داخل تنظيمات منظمة الصدى في الاعوام 1980 – 1983 , أن أشكل منظومة حزبية لوحدي وبقيادتي . هكذا كان الاتفاق الاولي مع الحزب قبل نزولي , أما وجود الرفيق عمر الذي أكن له كل معاني النضال والبطولة فكان يمتلك مفاتيح التحرك ومأوي السكن لوجوده القريب من بغداد . لقد قضى فترة سنوات قبل أن يلتحق مرة ثانية الى كردستان . كنت سعيدا جدا في العمل معه ,و رغم عصبية مزاجه فقد كان شجاعا ومقداما وشيوعيا منسجما مع الافكار التي يحملها ولصيقا بالمباديء . وفي خضم هذه المخاوف واحتمالات الادلة في حوزتهم وأسئلة المصير المجهول , داهمتني كل هذه الافكار والمهام بخوف وأنا قابع في زنزانتي لمدة ثلاثة أيام , لا ضوء ولابشر يريك نفسه , فقط العويل والصراخ للمعتقلين من قساوة التعذيب تشق طبلة أذنيك مخلفة ألاما نفسية قد لاتمحى لسنوات . كنت منقطع عن العالم وحيدا في زنزانة رطبة . ملابسي ممزقة ورثة والقمل ينهش بجسدي واصوات حزينة تملأ سمعي . تعقد وضعي بعد أن كشفت أوراقي وكنت غارقا في كيفية معالجة وضعي الجديد والرد على الاسئلة في التحقيق . لقد أصبحت مجرما في قانونهم والذي ينص على معاقبة كل من يقف ضد مسيرة الحزب والثورة . كيف سيكون وضعي بعد ان حملت السلاح وقاتلتهم ؟ وكيف ستكون قراءات الرد على الاسئلة ؟ دون ألحاق الأذى بالناس وجماهير الحزب والمتعاطفين معنا . كيف سيكون موقفي من الذين قدموا خدمات لي لاتحصى في ذلك الزمن الغابر في وعي الناس والذي لايقدر بثمن ولايمكن رد أعتباره الا بالموت والشهاده أو الافلات من قبضتهم بدون الحاق الاذى لحياتهم . مازلت أشعر بالفخر والاعتزاز لموقفي البطولي والذي سيكون للتاريخ موقع ثناء المناضلين , الموقف الذي جعلني أصون العهد والامانة التاريخية في ظروف لاتحتمله عقول البشر وذلك رغم الأذى الذي تحملته لوحدي ولم ألحقه بالاخرين وبقيت الى أخر نفس محافظا على أسرارهم وعدم البوح بها للجلادين ومازالوا في بغداد والمدن الاخرى يعيشون بأمان وبعيدون كل البعد عن أعين الرقباء . بعد تلك الايام المريرة والمخيفة التي قضيتها في الزنزانة فاجأني الطبيب في زيارته لي داخل الزنزانة لم يجرؤ على الدخول لها , لرائحتها النتنة مما دعا الحراس الى سحبي من داخلها الى الممر وحصروني في زاوية مثلثة .لاول مرة أجريت لي الفحوصات وكم تمنيت عدم مجيئه بسبب الصفعات التي وجهت لي أثناء الفحص . ودعني مع مرافقيه , مرددا ومتوعدا بكلمات نابية وسيلا من الوعود والشتائم .

عندما زارني الطبيب كان يرتدي الزي الزيتوني والوقت تصادف مع سدول الليل جاءوا وسحبوني الى التحقيق . كنت مستعدا لذلك على الصعيد النفسي لانه حدث ما توقعته وكنت مهيأ له . حدث مباشرة بعد وجبة العشاء والتي هي عبارة عن صمونه من النوع العسكري مع صحن شوربة .أصطحبوني مع قساوة الاجراءات الترهيبية وأدخلوني غرفة التحقيق والتعذيب مباشرة. كما يبدوا وهذا ما تبين فيما بعد فقد كانت ليلة مخصصة لوحدي أذ لم يطرق سمعي في تلك الليلة صراخ معتقلين أخرين , كما تعودنا في كل الليالي .

أجلسوني على كرسي متحرك وأنا معصوب العينين مقيد اليدين , لكني كنت أتحسس حجم الحركة داخل الغرفة . تسائل أحدهم هل هذا هو محمد ؟ وأجابه الأخر نعم سيدي ... كانت عبارات مسكونة بالرعب والخوف والتهديد . ثم وجه الضابط كلامه مباشرة لي ... ولك لعد من أين لك أسم عبود , بنبرة تهديد ووعيد ؟ وبدأ يستهزأ وايضا طالب في الاكاديمية. هذا ماكنت أحمله في هويتي الجامعية الجديدة والمعمولة في كردستان ( زيوة ) . في هذه اللحظات تذكرت أحداث عام 1986 و صيف بغداد , عمر الهزاع يشترك في محاولة أنقلابية . كنت في نفس اليوم راكبا سيارة أجرة بين الكاظمية وباب المعظم . حين أوقفتنا في منتصف الطريق مفرزة أستخبارات في الاعظمية وطلبوا هوياتنا نحن الراكبين , كانت حملة شاملة في كل أنحاء العاصمة بغداد – وأ برزت لهم هويتي وردها لي بلطف تفضل ابو نجم .

المحققون بدؤوا بسرد المعلومات عني , الاجتماعية والسياسية , الثانية كانت فقيرة بالمعلومات ومبنية على الاحتمالات , وهذه طريقة مخابراتية لم تغب عن بالي . تبين لي فيما بعد في نهاية جولات التعذيب والرعب والدم , ان اللذين كانا يشرفان على التحقيق معي هما ضابطان كبيران , احمد العزاوي وأسماعيل التكريتي . بدأوا بسرد سيل من المعلومات عني ,الاسم الكامل , اللقب , تاريخي السياسي , تحصيلي الدراسي ,أسماء زملائي في الجامعة وصولا لافراد عائلتي فردا فردا حيث وصفاها بأنها عائلة معادية منذ أن جئنا الى السلطة وأن خاله خزعل السعدي شيوعي مجرم مضيفين باننا خونة وطن ومعادين لمسيرة القائد والثورة . كنت أنصت بشكل جيد لتلاوة هذه المعلومات عني . وانا مقيد اليدين معصوب العينين , حاولا في هذا الاثناء أثارة الرعب في داخلي من خلال الركلات والصفعات وسيل من الوعيد والتهديد بأجتثاث عائلتي . كنت أنصت بانتباه وحذر الى كل كلمة تخرج منهم , مهيأ نفسي لاجابات مناسبة تخدم قضيتي وتحافظ على رفاقي. كنت أحصي صفحات التقرير الاستخباري من خلال سمعي لصوت تصفح أوراق التقرير وبتواصل تلاوة المعلومات مرورا بخبر أعدام أحد أقربائي عام 1982 بعد محاولة فاشلة للانتقال من سورية الى شمال العراق للالتحاق بصفوف ما يطلقون عليه العصاة ( ماجد هاشم الياسين ) وللمجرم والمقصود أنا, حفنة من الاقرباء المجرمين خارج الوطن أحدهم يحمل السلاح في الشمال ضدنا وذكروا أسمه والمقصود هو أبو أثير ورووا عنه بعض المعلومات في كردستان كانت أغلبها قريبة الى الصحة. عادوا بشتم خزعل السعدي على الرغم من مضي كل هذه السنين على أستشهاده عام 1963 – أثناء مجيئهم في القطار الامريكي. بعد هذا الضغط النفسي من المناورات الكلامية , بدأوا مشوار التعذيب معي في أستخدام الكابلات من دون أعطائي أي مجال أو فرصة للحديت أو التعليق على أتهاماتهم لي . كل ما كان مدون في تقريرهم الاسخباراتي , لايحتاج الى شك أو تعليق من مجرم . أستخدموا الكهرباء في أذلالي , ربطوا الكهرباء على جسدي في المناطق الاكثر حساسة ومؤلمة , كانت تهز كل جزء من جسدي مع أوجاع مبرحة . جسمي يدور حول الكرسي الذي كان كالناعور و بعد أن شدوني على كرسي متحرك يميل بميلان جسمي . في هذه الجولة من التعذيب مارسوا أقذرها وأبشعها كان صراخهم يعلو على صراخي . كنت لاأملك أية حيلة في السيطرة على أوجاع التعذيب من شدة الضرب سوى الصراخ والصياح , لكنهم كانوا يزدادون فتكا وقساوة في تعذيبي . كانت ليلة مرعبة ومخيفة لم تغب الى الان عن ذاكرتي و مازلت أحمل أوجاعها ولم يتركوني في حينها الا بعد أن أغمي علي . افقت في زنزانتي في الصباح وانا أهذي وكأني في العالم الاخر , أهذي والعن اللحظة التي وقعت بها بين ايديهم .

في اليوم الثاني سرعان ما بادروني بالسؤال , ماهي مهامك في بغداد ؟ اجبت مباشرة لاتوجد لي مهام وأنما جئت وعلى مسؤليتي الشخصية للقاء باهلي بعد هذه السنوات من الابتعاد عنهم وهذه هي مهمتي الاولى. النقطة المهمة بالنسبة لي وانا متهم وفي هذا الجو التحقيقي المرعب , ما لمسته من خلال أسئلتهم الموجهة لي , انهم لايملكون معلومات مهمة ودسمة عن تحركاتي ونشاطاتي السابقة وعلى أقل تقدير في أخر سنتين من عملي الحزبي في بغداد وكذلك عدد مرات نزولي من كردستان الى بغداد والمنافذ التي سلكت لهذا النشاط . أنهم يجهلون الجوانب المهمة من حياتي السياسية وتحديدا خلال فترة ( العمل السري ) وهذا مما عزز موقفي ومنحني فسحة من التنفس بترتيب أعترافاتي وأقوالي , فتمسكت باقوالي الاولى وذلك بالرغم من ان أساليب التعذيب بدأت تزداد فتكا واخذت بالتصاعد يوما بعد يوم . مع بزوغ الفجر أعادوني الى زنزانتي مدميا , عاريا , أذ مزقوا ثيابي في التحقيق والتعذيب . أستيقظت ظهرا على صوت أقفال باب الزنزانة ليتصدقوا علي بوجبة غذاء ( صحن شوربة معمول من معجمون الطماطة مع البصل ) والهدوء يخيم على المكان. عرفت انه يوم جمعة لكن رائحة الموت تحاصرك من ممرات المعتقل . في اليوم التالي أستمروا معي في التعذيب والتحقيق طوال الليل , وقانون المعتقل يرغمك ان تبقى صاحيا طول النهار حتى يأتي الليل وتبدأ معك جولة جديدة من التعذيب. هكذا أستمر الوضع معي . كان هدفي الاول رغم كل أوجاعي سد أكبر عدد ممكن من النوافذ والابواب وقنوات الاتصال بالناس. كانوا يضغطون علي بشكل مرعب وقاسي في سبيل معرفة محطات بسيطة عن فترة غيابي ومهامي في كردستان رغم أنهم يملكون تفاصيل كثيرة عن أساليب حياتنا في كردستان ومناطق تواجدنا ومسؤولي مواقعنا لايشير , لكن هذا لايعني كما لمسته من مجريات التحقيق الى معرفتهم تفاصيل مهمة عن حياتنا, بالسرعة والدقة التي يوحون لك بها.

سألوني لكن لماذا تركت مقاعد الدراسة في جامعة بغداد وانت في المرحلة الثالثة , اذا لم يكن لك تنظيم شيوعي أو نشاط سياسي معادي لحكومة الثورة ؟. حاولت أقناعهم بسبب هروبي . وفي سؤالهم عن تركي مقاعد الدراسة والعراق والالتحاق بكردستان فبررت ذلك الى حجم المفرزة وبالطريقة الارهابية حين داهموا بيتنا هي التي دفعتني أن أختفي وكنت معتقدا كذلك بانه سيجري تجنيدي في حملات الجيش الشعبي والتي فرضت علينا نحن طلاب الجامعات في العطل الصيفية أيام الحرب العراقية – الايرانية وكانت السنة الثالثة التي لم ألتحق بها و ربما العديد من الاصدقاء الذين كانوا يرفضون ايضا سياسة النظام من الذين ألتحقوا في جبهات القتال . كانت هذه مثار جدل بين صفوفنا وتحديدا بعد هزيمة المحمرة 1982 وخاصة عندما تغيرت مجريات الحرب اذ ان ايران بدأت تهاجم الاراضي العراقية واحتلالها . العراق من جانبه بدا يطالب عبر القنوات الدولية بايقاف الحرب واللجوء الى المفاوضات السلمية , بعدها صار الوطن في خطر , هذا الدافع الوطني دفع العراقيين بالذود عن وطنهم وكنت ممن يؤمن بهذه الواقعية في الوطن أولا والدفاع عنه واجب مقدس رغم وجود نظام شمولي دموي فعدم ألتحاقي بصفوف الجيش الشعبي جاء لتكثيف نشاطنا السياسي في ايام العطل الصيفية .

أنور المزوري .... شاب من أهالي مدينة ( كفري ) ومحسوب على التنظيمات المدنية للاتحاد الوطني الكردستاني , تعرفت عليه في الاراضي المحررة وبسبب نشاطه السياسي فقد وقع في قبضة الاستخبارات العسكرية فرع قضاء كلر. هذا ماعرفته فبما بعد من خلال أحاديثه عني داخل تجمعاتهم والمعلومات التي وصلت الى مديرية الاستخبارات العسكرية فرع الشمال مما دعا هذه الاجهزة الى اعتقاله وتعذيبه واعترف عني وقادهم مع مفرزة أستخبارتية الي مداهمة بيتنا , لانه سبق وزارني في بيتنا في أطار عملية تنسيق مشترك . عندما تخلصت بأعجوبة ووصلت سالما الى المحطات الحزبية في مدينة ( كفري ) , رويت الى التنظيم ما حدث معي . كان الشيخ عطا ولعلاقاته الواسعة ملم بتفاصيل القضية لكنه وحسب ما قال لي لم يعرف انا كنت المقصود وأقترح علي تسليم نفسي الى السلطات عبر قنواتهم ولملمة الموضوع لاعتبارات سياسية , على ان يتبنى تفاصيل الموضوع وملابساته وسيكون هو المسؤول عن خلاصي . كان يدرك مهمة وجودي في الداخل وأهمية وكبر الخدمات التي سأقدمها والتي ستكون أهم وأكبر عما سأقدمه في الجبال , و بمرور السنين أدركت عمق بصيرته السياسية وتحليله للوضع بشكل عميق جدا , ففهمه للواقع يتجاوز ربع قرن من التعامل مع الواقع السياسي العراقي وفي قدرته على أبتكار اساليب جديدة للنضال تتماشى مع أساليب النظام في المراوغة وفي كيفية الافلات واللالتفاف على اساليب السلطة بهدف الحفاظ على حياة الرفاق لحين ساعة الخلاص من الدكتاتورية . كان لشيخ عطا نفوذ ملحوظ باعتباره مديرا لبلدية كفري وأخ مكرم الطالباني الوزير الشيوعي الذي يتمتع بحضوة عند رئيس الجمهورية صدام حسين . أما لدائرة الشعبة الخامسة في الاستخبارات العسكرية فلقد رويت لهم طريقة هروبي والتي كانت بسبب حجم المفرزة التي أقتحمت بيتنا وطوقت مخارج قريتنا ( الهويدر ) وتوقعت في حينها بأني سأزج قسرا الى جبهات القتال , لانه لم ألب النداء والتحق بفصائل الجيش الشعبي الذي أصبح لزاما على طلبة الجامعات في بغداد طيلة الشهور الثلاثة من العطلة الصيفية . بهذه الرواية التي كانت تلامس الواقع عن ما جرى معي , فسرت لمديرية الاستخبارات العسكرية سبب هروبي حينما حاولوا القاء القبض علي وذهبت الى شمال العراق وهناك في مدينة سليمانية وعن طريق سائق تاكسي وصلت الى الاراضي التي يسيطر عليها من قبل( المخربين) بعد ان دفعت رشوة مادية وهذا أسلوب متعارف عليه في الساحة الكرستانية . بهذه الرواية المخالفة لموقعي ونشاطي السياسي , حاولت أن أضلل بها لجان التحقيق واعتقد باني نجحت الى حد ما في اسلوبي هذا ومراوغتي لهم .

وبين يوم وأخر كنت أخضع الى كافة أنواع التعذيب الجسدي والنفسي وحتى الاخلاقي وهو التهديد بالاعتداء . من المفارقات والتي مازالت عالقة في ذاكرتي والتي لم أستطع معرفتها الا في عام 1996 عندما التقيت باهلي في الاردن , وحين رويت لهم الواقعة والمفارقة , ذكروا لي عدة أسماء من قرية الهويدر منتسبة الى مديرية الشعبة الخامسة , حاولت متألما ان احصر في ذاكرتي أحد هؤلاء المنتسبين. فذات مره في منتصف الليل. وانا جالس على ركبتي , هكذا ترغمك أوامرهم , معصوب العينين ويدي مربوطة الى الخلف في الممر المؤدي الى غرف التعذيب مع مجموعة من المعتقلين على شكل طابور ننتظر أدوارنا للتحقيق والتعذيب حيث يسحبوننا واحد تلو الأخر الى غرف التعذيب ليمثلوا باجسادنا ولنتلقى المزيد من الاهانة والتنكيل اذ يجردونك من انسانيتك بالحقد والكراهية , في هذه الاجواء المرعبة من الانتظار ورائحة الموت , تئن على مسامعنا أصوات المعتقلين المكبوتة بالصراخ والتوسل بالكف عن التعذيب ممزوجة بهستيرية صراخ المحققين والجلادين وصدى الضرب والتهديد بالموت . في صخب هذا الجو المرعب والمخيف وانت تنتظر دورك الى هذا المصير المهان أ حسست أحدهم بقربي وبدأ يهمس لي مستفيدا من أجواءالضجيج محمد أصمد وابق متمسكا , لكن الحركة الأتية من ممرات المعتقل باتجاهنا , أبعدته عني وظل هذا لغزا لي لسنوات .حاولت من خلال فتحة الزنزانة في التعرف عليه لكن دون جدوى , ظل صوته محفوظا في مسمعي , وكلماته حفرت في أعماق روحي المسلوبة في المعتقل . كنت في الزنزانة التي تحمل رقم ( 3 ) في ذلك المبنى المرعب المستطيل الشكل . كانت تجاورني الزنزانة رقم ( 5 ) , دفعني فضولي ان اعرف نزيل هذه الزنزانة والذي أثار فضولي هوالاهتمام المتزايد والغير متعارف عليه في هذه الاقبية المخيفة أذ كان الحراس والسجانين يتفقدوه على طول الوقت وينادوه بكلمة سيدي ويسألوه عن حاجاته ورغباته اليومية في تحضير وجبة الطعام له . في واحدة من ضمن محاولاتي العديدة والمتكررة من خلال فتحة الزنزانة , حاولت التعرف على النزيل المجاور لي وكان عائدا من التواليت ويرتدي البجامة مع وضع منشفة بيضاء على كتفه الايسر. كانت كل ملامحه تشير الى أنه كان من الحماية ويعد المرافق الاقدم لصدام حسين وهو( صباح ميرزا ). ومن المفارقات أيضا وفي احدى حفلات التعذيب ( حفلات السمر ) كما يسمونها وعندما يستدعوننا بل ينتشلوننا من الزنزانة , يقولون لنا أنت مدعوا الى حفلة سمر ...اى أعتداء , تنكيل , تعذيب وحشي. سألوني سؤالا عرضيا , لكن لم أهمله و بقيت مشغولا به ليل نهار, هل أنك لو رأيت أخوك أحمد ستعرفه ؟ لكن وبعد سنوات طويلة عرفت ان اخي احمد كان ايضا في احدى الزنزانات من ذلك المبنى في الشعبة الخامسة من الاستخبارات العسكرية . كل محاولاتهم فشلت بل عجزوا عن الوصول أو انتزاع معلومات مني تدلهم في الحصول على أدلة لتكن مدخلا لادانتي أو بابا مشرعا لمزيد من المعلومات في فتح ملفات جديدة عني, يتم عبرها توسيع دائرة الاعترافات للحصول على معلومات أكثر . ومما زادني ثباتا وأصرارا والتمسك بجوهر موقفي هو تضييق دائرة التحقيق وحصرها بشخصي فقط . وبعد أن تأكدت من جهلهم وفقر جعبة معلوماتهم حول تاريخ نشاطي السابق وتفاصيل ارتباطاتي في ايام العمل السري والذي أمتدت من 1980 -1983 , أيام تحدي الموت ومقارعة النظام في سطوته وفي قعر داره , كنت لاامتلك الا روح النضال والمقاومة .

قضيت فترة زمنية من الاعتقال والتعذيب , وبعد ان عجزوا عن انتزاع أية معلومة تدينني وتؤذي الاخرين, بدأوا يلمحون لي بفكرة التعاون معهم مقابل ضمان حياتي وحياة أهلي . في البدء تعاملت مع الفكرة كمناضل واقعي وتذكرت الواقعية السياسية التي كان يناقشني بها المناضل الشيخ عطا الطالباني فيجب ان أضع مصيري بين مفترقين , الاول هو الموت والثاني أنقاذ حياتي وحياة رفاقي , فاخترت الثاني لتفويت اي فرصة عليهم مستقبلا من خلال وجودي في المعتقل قد تأتي لهم معلومات جديدة و باعترافات جديدة . رغم طرحهم لهذه الفكرة فان مجريات التحقيق لم تتغير والتعذيب استمر بل أصبح يزداد قسوة ورعبا مع تقادم الايام . فكرة التعاون معهم طرقوها على مسامعي وانا أتلوى تحت التعذيب . بعد ان أنهوا مشوارهم معي من التعذيب أعادوني الى زنزانتي مدميا مكسورا خائفا من المستور . بعد ساعات أستيقظت من النوم لم أدرك ان الزمن قضى عليه يوم أخر , أستيقظت جائعا فوجدت في الزنزانة صحن من المرق فلهمته سريعا ولكن لم اشعر بهم بالرغم من فتحهم باب الزنزانة وتركهم لي ذلك الصحن . بدأت أراجع حصيلة تجربتي السياسية ورؤيتي ورؤية المناضلين في مواجهة عدو شرس , لايمتلك وسيلة غير القتل في مواجهة خصومه السياسين . تذكرت المناضلين ورؤى المناضل ( شيخ عطا ) ووضعت في حساباتي كيفية الخلاص من قبضتهم والحفاظ على حياتي وحياة الاخرين , لاني أصبحت الان في ملفاتهم مجرد رقم ويعاملوني على هذا الاساس , ولكن كان الأهم بالنسبة لي كمناضل ان أتحمل من خلال هذه الصفة المقدسة وهو خلاصي من قبضتهم بأقل كلفة من الخسائر والتضحيات وبهذه المهمة الجسيمة التي تحملت كاهلها سأسد المنافذ عليهم والتي ممكن ان تنفجر باي لحظة وانا في قبضتهم وستلقي بضلالها المأساوية على حياة الرفاق والناس وستتعرض حياة الناس ورفاقنا وأصدقائنا الى أخطار كبيرة بعد ان تسبقها أجراءات تعسفية من الملاحقات والاعتقالات وستنعكس أثارها السلبية على سمعة الحزب بل تعزز وجوده السلبي من خلال أزمة الثقة بين جماهيره والتي تعاظمت في السنوات الاخيرة جراء سياسة النظام مع معارضيه من الاحزاب والقوى والتي شن النظام عليها حملات حاول من خلالها تشويه سمعة الشيوعيين والنيل من بطولاتهم باساليبه القذرة . كانت الفكرة الاولى حسب معطياتي من خلال مجريات التحقيق معي و كما سمعتها من مناضلين سابقين مروا بهذه التجربة وخاضوا هذا النوع من النضال الصعب في مواجهة عدو فاشي ( كما تسميه ادبياتنا الحزبية وخطاباتنا السياسية ) , أرادوني ان أكون محطة حزبية في بغداد من خلال بقائي

 فيها بعيدا عن أهلي ومعرفتهم بوجودي بل سأكون في حسابهم شهيدا وسأعيش ظروف شيوعي مطارد ومطلوب الى السلطات لأكون طعما سهلا للمناضلين وهذا يتم بالتنسيق مع أجهزتهم الامنية وهذا لا يتناسب مع تاريخي النضالي في المسيرة التي أقترنت بالمواقف الصعبة ومواجهة التحديات الكبيرة . هناك حقيقة لابد من سطوعها وقولها علنا , لان العديد من المناضلين يتجاهلونها, ربما عمدا أو عدم دراية بمجريات الحقائق في العراق والأخذ بنظر الاعتبار بطش السلطة ودمويتها . الشيوعيون الذين يرزحون تحت نير الاعتقال والتعذيب , العديد منهم يسعى للخلاص من قبضة السلطة بكل الوسائل المتاحة وهذه واحدة من متطلبات مرحلة الثمانينيات في الواقع السياسي العراقي . وبغض النظر عن الموقف وتداعياته في التعامل مع الموقف السياسي الجديد والتي أملته ظروف البلد في مواجهة مشاهد الموت والدم فان ذلك لم يعد ولايحسب أنتقاصا من بطولة الشيوعيين العراقيين , في مواجهة عدو فاشي . أما الموقف في المعتقل لايحسب أو يأخذ بعين الاهتمام سواء كان بطوليا أو جبانا لاته كان للاجهزة الامنية حساباتها الدقيقة والحاقدة في التعامل مع المعتقلين من أجل التعاون و كثيرا ماكان يخطئه ومناوراته للخلاص من قبضتهم أكثر ترجيحا من كسب ود ذلك المناضل لأجل تسقيطه لان فكرة التعاون يعني الخلاص منهم في حسابات المناضل الحقيقي ويعني أعادة روح المناضل ثانية الى الحياة , فشروطهم قاسية في أختيار المناضل للتعاون معهم وتوفير هذه الشروط في حساباتهم الامنية ينبغي ان تعطي للعملية النجاح بنسبة سبعين في المئة , أولا يأخذون في المقام الاول وانا هنا أتكلم عن تجربة شخصية مرة مررت بها من خلال أكثر من موقع أعتقال سري وألتقيت برفاق درب ومعتقلين .كانت ظروفهم صعبة للغاية , يأخذون تاريخ المناضل والمواقع المؤثرة في البيئة العراقية ,لكن الشرط الاهم والذي لايقبل القسمة في حساباتهم الامنية الدقيقة في أختيار المناضل للمساومة السياسية هو طريقة الاعتقال والظروف المحيطة به وأمتداداته بين الجماهير وأنعكاسات تناوله بين الناس , قد ينفي ذلك الشرط في أختيار المناضل للتعاون معهم . يجب ان تحيط عوامل الكتمان والسرية في لحظات أعتقال المناضل من قبل الاجهزة الامنية وأذا كان للحزب الذي أنتمي له شك حول مصيري أو حدسا أو ضربا من الاطناب في أعتقالي من تلك الاجهزة ومعلوماتهم تستقصى عبر وكلائهم والمتعاونين معهم في هذا المضمار فأن تسربت معلومات شك واحدة لهم بمعرفة الحزب في أمر أعتقالي ستكون فكرة أختياري للتعاون معهم باطلة بل معدومة وسألقى مصيري المحتوم في تصفيتي جسديا لانه أصبحت ورقة غير رابحة في رسم خريطة خططهم, هذا قانونا يطبقوه في عملهم المخابراتي كأسلوب في تهميش خصومهم بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسية . في خضم هذه الافكار والتداعيات وأنا مركونا في زنزانتي بين السجان والتعذيب , تذكرت بمرارة وخوف وتسألت .... كم من الرفاق غابوا عنا وأختفوا ولم نعرف مصيرهم الى الأن وقسم منهم تم أختطافهم من الشارع عندما شعروا بخطورتهم بعيدا عن عيون الناس . كانوا طوال فترة أعتقالي وهم يجمعون المعلومات عني وعن ظروف أعتقالي ومعلومات الحزب عن ظروف أعتقالي . كان ضغطهم يزداد من حولي وهذا يدلل على جهل الحزب بمعرفة اعتقالي فلو حصلوا على معلومات مغايرة ربما حتى لو كانت تنصب في خدمة الاشاعات وكاذبة لكانت مجريات التحقيق تتجه باتجاهات أخرى وسيكون مصيري حتما في قائمة الشهداء . عملائهم في كردستان والمنطقة من صفوفنا ومن المدن القريبة والمحيطة بتشكيلاتنا , أفادوهم بنتائج أيجابية تنصب في خدمة هدفهم الذي ينووه , مما دعاهم ودفعهم الى تضييق الخناق حول رقبتي لايجاد مبررات للتعاون معهم . وما تأكد لي فيما بعد هو انه لم يكن لدى الحزب والتنظيمات أية معلومات أو حتى خبر أو شك في أعتقالي , وهذا ما أكدوه لي داخل المعتقل وايضا تأكد لي بعدما تخلصت من قبضتهم ووصلت الى الاراضي التي يسيطر عليها رفاقنا وتنظيمات القوى الاخرى و تسألت متعجبا ... لقد القي القبض علي في منتصف الطريق الذي يربط بين مدينة طوزخورماتو وكركوك والتي لاتبعد الا امتار عن تواجد مفارزنا ومفارز القوى الاخرى وفي جو سياسي وعسكري لصالح قوى الانصار وكانت ومازالت الانتصارات تتلاحق في تحرير القصبات من الجيش وقوى النظام ( نوجول – قرداغ ) . تحقيق الانتصارات تلك انعكس على تصاعد حالات الالتحاقات الجديدة في صفوفنا وبرز تنسيق عالي المستوى بين الاطراف المتواجدة على الساحة الكردستانية , سياسيا وعسكريا ( ميدانيا ), بعد ان كانت لغة الاحتراب هي السائدة بيننا . في البدء ترددت بل قاومت فكرة التعاون ورفضتها من الاساس بكل مسؤولية وشجاعة وكنت أعيش صراع عنيف تمثل في خوفي من فتح منفذ جديد لي في التحقيق و الذي حاولت عبثأ وبكل امكانيتي والتي فاقت حتى قدراتي في الصمود والمناورة في حصر ملف التحقيق معي بأطر ضيقة جدا لاتتسع الا بالمعلومات الشخصية عني وجزء بسيط من تاريخي السياسي الذي لايؤذي أحدا . في هذه الاجواء المشحونة بالخطر والحذر , كان يزداد أرهابهم لي في التحقيق والتعذيب وخوفي يزداد و ربما سيكتشفون ثغرات يتم من خلالها الوصول الى بعض المعلومات التي ستؤدي بحياتي وحياة الاخرين , من خلال حصولهم على معلومات من أجهزتهم ووكلائهم المنتشرين في كل أنحاء العراق حول نشاطي السياسي السابق وأمتدادات علاقتي التي أمتدت لسنوات طويلة في العمل والتنظيم رغم مشاهد الدم والموت . بدأت أضع حساباتي الطويلة في مواجهة أساليب هذا النظام الدموي و لو تمت هذه المساومة في أطلاق سراحي ولو كنت شاكا في مصداقيتها , مما كانت ستتعبني كثيرا , هو كيفية وألية الاتصال بالحزب مرة أخرى وعبر من , فقد أكون مراقبا من أجهزتهم وان أي تحرك أو الاتصال بالاخرين قد يؤدي بالذين تحملت بسببهم معاناة التعذيب و موقفي الحالي في المساومة هو من اجل الحفاظ عليهم . أذن علي البحث عن قنوات جديدة تصل بي الى بر الأمان وباسرع وقت ممكن لتفويت الفرصة وتضييعها عليهم . لنا رفاق عديدون مروا بنفس الظروف , لكن عندما نجحوا في الخلاص من قبضتهم , وقعوا في شباكهم مرة أخرى حين حاولوا العبور الى بر الأمان أو عبر أتصالاتهم فتحملوا بسببه هذا الموقف وأعتلوا مجد الشهادة . في أحدى الليالي وفي ساعة متأخرة , افقت مرعوبا من أصوات الاقفال والمفاتيح والصراخ , صرخ بي أحدهم : أنهض فقد صدر قرار أعدامك . أرغموني على الخروج قسرا وعنوة , الى خارج الزنزانة والبناية الى مكان مجهول بعد ان ربطوا يدي وعصبوا عيوني وبعد دقائق تم ربطي بالحبال على جذع شجرة سميك وخشن , هذا ما لمسته في الوهلة الاولى من شدي بقوة على ذلك الجذع وبدأوا معي بأساليب قذرة ومنحطة ومرفوضة اجتماعيا , لارهابي وتحطيم معنوياتي , بتهديدي بالموت من خلال فتح النار عن قرب مني . واستمروا بهذه الاساليب المرعبة معي حتى الصباح . لاصوت سوى طلقات النار , وصراخهم بالتهديد ونعيق الضفادع ونسمات سعف نخيل بلادي والتي ربما تعيدك الى ماض سليب .

في تلك الليلة ماجرى معي لم يكن تحقيقا بل كان تنكيلا وأذلالا من أجل أرغامي على الاعتراف والتعاون حيث لم اتعرض الى سؤال واحد طيلة تلك الليلة من شهر تموز 1986, تسألت مع نفسي , هل الموت بهذه السهولة ؟ ممكن ان يؤدي بحياتك, لكن كم تمنيته بصدق وبهذه السهولة التي يوحون لك بها للخلاص من الاهانة والتعذيب اليومي الذي يزداد يوما بعد اخر وأخيرا تجد نفسك حيا وتشعر بالنفس والجلادون يضحكون , سوف لن نقتلك وسنبقيك حيا لأجل تعذيبك مدى الحياة . في الصباح الباكر أعادوني الى زنزانتي مرهقا منهكا . في الدقائق الاولى غطت بنوم عميق من شدة التعذيب والارهاق , لكن بعد لحظات دخلوا علي الى الزنزانة وطلبوا مني النهوض وقادوني بنفس الاجراءات الامنية الى مبنى مديرية الامن العامة في سيارة تاكسي تابعة الى دوائرهم وانا محطم ومدمى ومازالت الحبال في يدي , كنت أتمنى الموت في هذه المواقف من عمر الانسان المنتهك .

في البدء لم أكن أعرف اين وجهتي وماهو مصيري والذي ارتهن برعونة قوانينهم , لكن من خلال التحقيق أتضح لي بانني الان في مديرية الامن العامة وفي أحدى زنازينها الوسخة . منذ الساعة الاولى من وصولي , فتحوا ملف التحقيق معي وكنت حريصا من البداية ان أركز على المعلومات التي أنتزعت مني في دائرة الشعبة الخامسة والتي لاتسبب أذى لاي أنسان وتأكد لي من خلال مجريات التحقيق نقطتين مهمتين , الاولى لاتتوفر عندهم معلومات حول وضعي ومجريات التحقيق معي في الشعبة الخامسة ونتائجها والثانية والتي هي بتقديري مهمة لي انهم لايملكون حتى المعلومات البسيطة عن نشاطي السابق الذي أمتد لسنوات مضرجة بالدم والموت . كنت حريصا ومتمسكا في عدم فتح أي ثغرة في موقفي قد تسبب في الحاق الاذى والتنكيل باصدقاء وأعضاء بالحزب وأتحول الى خائن للأمانة والمبادي وهنا كان يكمن موقفي الصلب.

لم يختلف الامر هنا عما كان يجري معي في دائرة الاستخبارات العسكرية من أذلال موغل في القساوة والتعذيب الحقير . وضعوني في زنزانة انفرادية منذ وصولي وبدأوا معي التحقيق من جديد . كانوا فعلا لايعرفون أية تفاصيل عما جرى معي في ذلك المكان من بغداد ( الشعبة الخامسة ) . في البداية تلوا المعلومات الشخصية عني , نفس التقرير عن حياتي الذي سمعته في الشعبة الخامسة . في اللحظات الاولى من فتح التحقيق معي , أنهالوا علي ضربا بالكابلات مع أسئلة يبدوا لي تقليدية في قاموس عملهم المخابراتي , بمن أتصلت , ماهي حدود مهامك ؟ والى أخره , لكن أبقى انا في قانونهم متهم بالعمالة والخيانة الوطنية . و أحيانا حتى التشبث في الدفاع عن النفس يعد من التهم اللصيقة بك و يعرض حياتك سريعا الى الموت و لامخرج أمامك في نظرهم الا ان تكون عميلا وانت صاحب قضية وطنية ففي نظرهم من يقف ضد السلطة وأجراءاتها التعسفية والمعادية لحقوق الانسان وضد سياسة قمع الحريات , متهم بالخيانة الوطنية و يجبروك على ان تسلم نفسك الى هذه الفرضية الجائرة ضمن مقاييسهم في العمل المخابراتي . لم أعد أميز من أي زاوية توجه لك الاسئلة والكابلات وانا محصور في زاوية من زوايا غرف التعذيب , أحس حالي باني واقع بين شلة من المجرمين والجلادين . كان أكثر من واحد يصرخ والأخر يسأل وغيره يضرب. على الرغم من كل هذا الضجيج , انتبهت الى سؤال حول أبو بهاء , الرفيق البصراوي ( فالح حسن) , الذي عمل في بغداد وكردستان بعد ان التحق من بيروت بفصائل انصار الحزب الشيوعي العراقي , لكنه كان متعاونا مع الاجهزة الامنية بل يعد واحد من رجالات السلطة داخل تنظيمات الحزب الشيوعي في بغداد وكردستان . وعن فترة أختفائه فقد كانت بتغطية مخابراتية منذ اليوم الاول من نزوله الى بغداد . كان يسكن مع زوجته وهي من بيت القيسي مع أطفاله في منطقة الاعظمية ( راغبة خاتون ) وبحماية أمنية مباشرة لمجمل تفاصيل حياتهم , أما الحزب والرفاق المعنيين بمتابعة هذا العمل النضالي الصعب فلهم معلوماتهم المظللة ورؤاهم المحصورة ضمن هذه المعلومات الاحادية الجانب والتي تتعلق بتفاصيل حياة وعمل ابو بهاء في الداخل , من تفاصيل سكناه وتحركاته وشبكة أتصالاته , كلها بنيت على ضوء تقارير ابو بهاء من بغداد . كان أعتقاد رفاقنا بأنه ذلك المناضل العنيد والنموذجي في العمل السري لحين لعبت الصدفة دورها وحظها في كشف عمالة ابو بهاء للحكومة العراقية , بعد ان كان ذلك (المناضل) العنيد الذي لا يلين في مقارعة النظام , حسب تقييم الحزب والتنظيم له. كان يعيش حياة طبيعية وأمنة مع زوجته واطفاله بحماية تلك الاجهزة ورعايتها اذ ان كل مستلزمات الحياة متوفرة له ولعائلته طيلة الفترة التي قضاها في العمل السري . في حين كان يعكس في أحاديثه وتقاريره حياة مغايرة لذلك , ظروف أستثنائية ومطاردة واختفاء ونضال صعب مما جعله محط أعجاب المسؤولين , وقد تمكن من تمرير أدعاءته الكاذبة على التنظيم . أعتقل وبعد ان حوصر اعترف بكل شيء تحت التعذيب الشديد وذلك بعد ان ظل متشدقا لايام ويهتف بحياة الحزب الشيوعي وشهدائه وروح فهد وهو تحت التعذيب في ( كلي زيوة ) . انا شخصيا كنت قريبا من هذه الفصول . كانت صدفة القاء القبض على ابو بهاء كما رواها لي الرفيق عامل وهو احد نشطاء محلية الموصل والمسؤول عن ايصاله الى اقرب مركز مدني للانطلاق الى بغداد . عشية وجودهم في قرية دوغات في دشت الموصل وفي ضوء الاستعدادات لارساله الى مدينة الموصل ومن خلال الاستطلاعات الاولية , وردت معلومات عن تحركات أمنية في المنطقة وكثافة تنقل مفارز الاستخبارات على الطرق المؤدية الى مدينة الموصل فقام الرفاق بتأخير ابو بهاء وطلبوا منه التريث , لكن الحاحه الشديد على النزول ادى الى اعطائه حرية اتخاذ القرار في ذلك وفي اول نقطة تفتيش استخباراتية تم انزال ابو بهاء من بين الراكبين في السيارة , ربما شكله في تلك القرى والقصبات المسيحية هي التي دعتهم الى هذا التصرف . بعد دردشة وصفت بالسريعة تم اطلاق سراحه , لكن ابو بهاء لم يفطن حين اللقاء بهذا العميل أنه كان ضمن المفرزة التي أوقفته , شهاب ..... العميل المزدوج الذي كان على علاقة بمحلية دهوك .

من خلال هذا العميل المزدوج وصلت معلومات عن ابو بهاء الى الحزب بمواصفاته واليوم والمكان والساعة. وفي عشية انعقاد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي في كردستان تمت توجيه الدعوات الى مندوبي الداخل لحضور المؤتمر وكان ابو بهاء من ضمنهم وبقية الرفاق لم يعودوا ثانية بل تجرأ بعض الرفاق والذين لم يخطوا خطوة واحدة باتجاه الشوارع المبلطة , المساس بهم من خلال احاديث لا تبعد عن الضغائن والحقد الشخصي وكان هناك من يغذيها لاعتبارات مناطقية . حجر ابو بهاء ومنع من حضور المؤتمر لتلك الاسباب , لكنه كان يدافع عن سلامة موقفه , واثقا من عدم المساس به , لانه لم يخطر في باله وحساباته ماخفي له في المفرزة . لو كان له أدنى شك ما تحويه جعبة الحزب من معلومات حول اعتقاله من قبل تلك المفرزة لتمكن بسهولة من الافلات من قبضتنا ولعاد الى احضان الاستخبارات مرة ثانية . تحضرني هنا واقعتان , مررت بها انا شخصيا , في تهاية عام 1985 وبعد انتهاء اعمال المؤتمر الرابع كنت مع مفرزة تضم ابو بهاء ايضا , منطلقين من منطقة لولان الى بهدينان واستغرق الطريق عدة ايام ومرت المفرزة بقرى تتصل بالمدن من خلال وسائل نقل من ضمن هذه القرى ( جمجو ) . كان له متسعا من الوقت والامان بالافلات من صفوفنا , لكنه كما تبين كان يراهن على جهل الحزب حول تفاصيل ارتباطاته مع أجهزة السلطة . الحادثة الاخرى كانت في بداية عام 1986 , جمعتني احدى المفارز التي كانت متوجهة الى قرية كوماته بالرفاق ابو عبير وابو محمود الناصرية وابو بهاء و لعدة ايام ومكثنا انا وابو بهاء في ضيافة عائلة مسيحية ليومين متتالين وذلك بعد ان سدت منافذ طرق العودة أمامنا لكثافة وغزارة الثلوج . اما رفاقنا الاخرين فكانوا في بيت أخر من القرية وكانت ربايا السلطة قريبة من تلك القرية فلو اراد لكان سيصل اليها سالما . في كلتا الواقعتين لم يقدم على الهروب لا تفسر هاتين الحالتين سوى ان يبعد عن مخيلته قدرة الحزب ان يجمع تلك المعلومات حوله , كما كان يعلق في احاديثه ( تمخض الجبل فولد فأرا ) . خفي عن باله وحساباته أنه ستحين اللحظة والتي صعقته حين وقوعها لانها كانت بعيدة عن كل تصوراته ولم يعدو الامر اكثر من شك مؤقت وكان بالنسبة له ان يذهب مع مفرزة الى قرى العمادية ويلتقي بالعميل المزدوج لهو امر عادي وانه لتصرف طبيعي لايجلب الشبهة . ومنذ اللحظة الاولى من اللقاء كان يؤشر عليه , رغم ان أعضاء المفرزة كانوا متقاربين في الشكل . في حينها شعر ابو بهاء بحجم الكمين الذي كان مبيت له والتروي في هذا الانتظار بعدم فتح ملف التحقيق معه طيلة هذه الفترة ولم يبق أمامه في تلك اللحظة المميته الا أن يندب رؤيته وحدسه وقراءته في عدم سبق الحدث الذي قاده الى المجهول . السلطات من جانبها تلقفت الخبر حين وقوعه فسارعت في اليوم الاول الى اعتقال العميل المزدوج ( شهاب ) وعائلته وساومته على أغتيال كوكبة من رفاق محلية دهوك , فلم يتأخر لحظة واحدة في تنفيذها , تعويضا للخسارة الكبيرة التي منيت بها السطات في كشف وفقدانهم لابي بهاء. في وقتها وفي التحقيق فوجئت ولفت أنتباهي هو السؤال العرضي عن ابو بهاء , تبين لي فيما بعد بانه هو الذي كان قد وجه لي الاسئلة خلال مجرى التحقيق . لكن في حينها حسبتها ربما تكون قد فتحت ثغرة جديدة معي في التحقيق من خلال معرفتهم بدوري في الفصيل المستقل . وستكون بالنسبة لي جولة جديدة مضرجة بالدم والتعذيب والاهانة , فأي فتك جديد سيحل بي ؟ لكن عدم أعادة السؤال مرة ثانية شعرني بالطمأنينة بعد ان خشيت من فتح أبواب أخرى تحملت بسببها عذابات وأهانات لاتمحى من ذاكرتي طيلة العمر لقساوتها الشديدة والغير أنسانية .

من خلال لقاءاتي المتكررة في بغداد أيام الاختفاء في عام 1986 بالمناضل الطيب الذكر عبد الخالق مطلك الدليمي ( ابو بسيم ) تحدث عن معرفته بابي بهاء باعتباره شيوعيا مختفيا . كان يبدو لي انه لم يعرف عن ما جرى معه ولا انا منحته فرصة من خلال عدم أكتراثي بمجرى الحديث عن أبي بهاء . تتعرض احيانا من خلال مجريات التحقيق والتعذيب الى مواقف وأسئلة , يطرحها الجلاد أحيانا لمعرفة ردود أفعالك و ليبني عليها أدلة ضدك , فيتم السؤال عن العديد من الرفاق , بعضهم حتى لم أسمع به وممن أتذكرهم وما أستشفيت من خلال التحقيق أنهم وقعوا في قبضتهم وبلغت التنظيم عنهم وكان توقعي في مكانه . كان معي الرفاق أبو احمد و ابو سرمد وهما من ناحية الدغارة في الديوانية , عشت معهم سنوات في فصيل واحد في قاطع سليمانية وبقينا مع بعض في قاطع بهدينان . توجهوا الى الديوانية واريافها بأيام قبلي مع الرفاق ابو بشرى وابو سالار , لكن يبدوا انهم قد تعرضوا الى الاعتقال والاستشهاد بعد ذلك بفترة قليلة من وصولهم الى أماكن عملهم الحزبي فالجميع أعتلى مجد الشهادة . بعد مرور يومين كنت مدميا ومركونا في زنزانتي الفردية والمقيته مع التعذيب المستمر, حولوني بعدها الى زنزانة أخرى , كانت تضم بين اركانها الاربعة والضيقة تسعة معتقلين , تقاسمت الخوف والمرارات معهم لمدة ثلاثة أيام . لاحديث بيننا فقط النظرات هي التي تجمعنا . . في فترة أعتقالي ومن خلال نقلي من موقع مرعب الى موقع أقسى رعبا , أستشفيت ان كل أجهزة القمع في العراق أجهزة مركبة على بعضها . في كل موقع مررت به , شعرت بهم يتسابقون فيه ومن الذي سيقدم (خدمة اكبر) من خلال أنتزاعه الاعترافات من المعتقل والتي ينبغي ان تكون دسمة ومفيدة وأسرع من الجهاز الاخر ويقدمه الى رأس النظام لتأكيد ولائه المطلق له وستكون انت الضحية . ان رجل الامن لا يعرف ولا يحق له ان يسأل ما جرى معك في دائرة الاستخبارات أو المخابرات فالكل موقع بالدم على قوانين الموت , سواء كان في السؤال أو في اباحة معلومة عن وجودك . انت فقط رقم عندهم في تلك المعتقلات .

أعادوني مكبلا ومدميا الى بناية الشعبة الخامسة في الكاظمية .هنا في السويد التقيت مع أحد العاملين في هذا الموقع المرعب (علي حسين منصور ) كان مع مجموعة قبل ان يهرب في طريقه للتوجه الى مهمة استخباراتية خارج العراق كما روى لي باعتبارهم معلمون بعد تلقيهم لدورات استخباراتية كثيفة , لكنه قبل الالتحاق استطاع الافلات والوصول الى كردستان فألغيت الدورة كلها . وفي ايران , شخص من قبل احد المعتقلين العراقين ولاقى ما لاقى في السجون الايرانية . محور حديثي عن هذا الشخص وفضولي في طرح الاسئلة هو خدمة لمشروعي في توثيق مرحلة مهمة وخطرة في تاريخ شعبنا . حدثني الشخص المعني عن كيفية أختيار منتسبي هذا الجهاز ونسبة الذكاء الذي يتمتع به المنتسب , تعد من أهم الشروط واحيانا فوق الولاءات . ان مديرية الاستخبارات العامة وتحديدا في موقع الكاظمية لها خمسة عشر شعبة مع شعبيتين أخريين في مواقع أخرى من بغداد . عندما سألته عن بعض رجال الشعبة الخامسة , سخر من طبيعة سؤالي قائلا لا أعرف اسم احد منهم وممنوع التعرف عليهم والحديث معهم, فقط داخل البناية بحدود مهام العمل وفي الشارع لايسمح لنا ان نسلم على بعضنا حيث لايعرف احدنا الاخر .

في زنزاتتي يوميا كنت أرى وجوه عابسة جديدة وأسمع الانين والتوسل , وجوه يعلوا ملامحها الاجرام , تحس بهم فقط من خلال سلوكهم في التعامل مع المعتقلين و ربما هم خريجي دورات قتل الانسان فالى أي مستوى تمكن النظام من تجنيد هذا الكم من البشر في القساوة والدفاع وسهولة القتل لكل من يحاول ان يقف ضده. لارحمة في قلوبهم , يتلذذون في تعذيب ابناء جلدتهم , صراخك لايزيدهم الا فتكا بك , التوسل في الكف عن التعذيب وان تندب حظك قد يريحهم . بدأوا معي في اللحظات الاولى من وصولي الى الشعبة الخامسة بالتعذيب ولم يتطرقوا الى ماجرى معي في بناية الامن العامة , اعادوا علي مقترح التعاون معهم , (هذا باهتمام رئاسي حسب أدعاهم) , ماذا يقصدون لاأعرف ؟ لكن في هذه المرة كان اهتمامهم كبيرا , يبدوا لي أنهم اتخذوا قرارا بعد ان استكملوا المعلومات عني التي تساعدهم في اختيار هؤلاء المناضلين وفقر المعلومات عني في بناية الامن العامة . كانت كلها تصب لصالحهم وصالح مشروعهم . هم أحيانا ينوهون لك و في الفرصة الضعيفة للمراهنة على المناضلين , عندما تنفك من قبضتهم وتصبح لغة التهديد للنيل منك مجرد هراء على هراء . التعاون معهم والمواقفة مقابل الحفاظ على حياتي وحياه أهلي , ربما سيلقون نفس المصير عندما ألقى حتفي , لكن انا تعاملت بواقعية وساومت لا من أجل حياتي لانها كانت منذورة بمواقف عديدة منذ عام 1979 . كان خوفي شديداعلى الناس وحرصي على عدم الحاق الاذى بهم. كانوا من خلال التحقبق والتعذيب , يجاهدون في سبيل غرس المخاوف داخلي وكنت أدرك جيدا أنها بدوافع الضغط النفسي علي وحرب أعصاب ضدي لاذعاني. ناورت في مقاومة هذه الافكار بحدود المناورة السياسية وبعدم قدرتي في خدمتهم لانها اساليب مكشوفة اصبحت في عهر العمل السياسي العراقي . لكنها لم تشفع لي حججي هذه وبمرور هذه الحفنة من السنين تأملت مع نفسي وأحصيت ذاكرتي عن تلك الاجهزة القمعية وأيهما أصعب من الاخرى , توصلت على حد سواء الامعان في انتهاك حرمة الانسان . كانوا يزيدون الخناق حولي بالحاق أكثر الأذى والتعذيب والارهاب. في أستعراض سخيف وواضح امامي تلوا بجملة من بطولاتهم وامكانياتهم الخارقة في هذا المجال بهدف النيل من اصراري والضغط علي أكثر . أرادوا ان يقولوا لي انهم لديهم ناس مخلصون ومتواصلون داخل الحزب الشيوعي العراقي وفي قيادته أيضا وتصلهم المعلومات اليومية بتفاصيلها المملة عن مجمل مجريات حياتنا. أدعاء يسقط عليه الرهان يسرعة مقارنة مع معطيات تجربتي فتسألت همسا وفي قرارة نفسي أذن أين كنتم من نشاطي السياسي؟ و لماذا لم يواجهونني حول تلك النشاطات المحظورة في بغداد ؟ صعودي ونزولي من كردستان الى بغداد والعكس وخطوط اتصالاتي وأماكن استقراري وعملي . ربما كان لديهم عملاء ووكلاء قد مروا بنفس الحالة التي أمر بها الان وتعاونوا معهم وأخفوا تلك الجريمة على الحزب فالخيانة لا تتجزء وتعد جريمة بكل معانيها الواسعة, وتجربتنا أثبتت وجود هؤلاء الناس بين صفوفنا من المتطفلين والمتسترين في الادعاء الزائف ومستمرين في العمل معهم لكن ليس بالمستوى الذي يتحدثون به والا بماذا نفسر حالة الحزب الان وما أل اليه الوضع , تشتت , ضياع , سياسة تهميش وتخوين ضد رفاقهم من المناضلين المعارضين لهم في الرأي والموقف والتي أدت به هذه السياسة الى ضياع اهله وفقدان بريقه الوطني . وكشفت جملة من القضايا والاوراق التي تدعم هذه الحقائق مع الاحداث وشخوص ورفاق , البعض منهم لم يثار الشك حوله يوما للرعاية والاهتمام اللذان يحظان بها , وقسما أخرا هم الذين كانوا يتهمون الاخرين ويثرثرون بأثارة الشكوك حول رفاقهم . وللأسف الشديد كانت هناك أذان صاغية لهم ويتسترون على تاريخهم بتوجيه هذه التهم الرخيصة, ولكن الايام القادمة ستكشف مدى دونية هؤلاء وماذا سيكون موقف الحزب حينها منهم ؟ ربما سيكرمهم .... تكريما ضد مواقف المناضلين والتشهير بهم لان وجود هؤلاء المناضلين يعني كشف وفضح كل المتخاذلين والمتعاونين والمتخلفين عن أداء الواجبات الحزبية عندما كان الحزب يحتاج الى رجال .

في التحقيق والتعذيب , بدأوا يتلون بطولاتهم وأمتداداتهم وتطرقوا الى وعي وعقلانية رفاقنا مثل ماجد عبد الرضا , زكي خيري وغضبان السعد , الشيوعيون الذين يستوعبون المرحلة أما الاخرين فلقد باعوا الوطن طبعا من وجهة نظرهم . كان لهؤلاء الرفاق موقف أيام الحرب العراقية – الايرانية عندما حاولت أيران ان تحتل الاراضي العراقية , كان لهم موقف أخر يتمثل بضرورة الدفاع عن الوطن وهذا بتقديري ينصب في خانة الاجتهاد والرأي الاخر وهذا من حقهم الطبيعي في الاجتهاد ولكن للأسف واجهناهم بلغة العمالة والخيانة وحاربناهم بلا رحمة وبلاهوادة ونكلنا بتاريخهم وشرفهم الوطني وخلقنا منهم أعداء أضافيين مجانا . وأنا هنا اتسائل, هل هذا كله سيكون بدون ثمن مستقبلا ؟ اعتقد, سيكون ثمنه غاليا ومكلفا لاجيال قادمة ومراحل متعاقبة من تاريخ العراق .

وصلت الى( براغ ) يوم 25-05-1989 والتقيت بالرفيق المرحوم حسين سلطان وذلك قبل يوم من عودته الى بغداد الحبيبة , حدثني في معرض سؤالي عن عودته الى بغداد وعن معاناته والاساليب القذرة التي عومل بها في الشام , كانت بعيدة ولاتمت بأي صلة الى تاريخه الوطني والضمير الانساني وسمعة الحزب . عاد الى بغداد ومات بين أهله ومحبيه وسكنت روحه أرض العراق وتوارت بثرى ترابه وهذه أمنية الوطنيين الغيارى الذين دافعوا عن مبادئهم باخلاص , لكن ويا للعجب ما زال البعض يلاحقه وهو في قبره بسيل من التهم الرخيصة وأمتدت حتى الى محبيه ورفاق الشهيد حسين سلطان . هنا أتساءل بمرارة , هل هذا التخريب والذي ما زال مستمرا ينهش بسمعة وتاريخ الحزب , بعيدا عن الهدف والتخطيط للاطاحة بالحزب ؟. مرت الايام بثقل متناهٍ وانا داخل زنزانتي , رأسي تحشوه الافكار والاحتمالات و تضارب المواقف , تقاطع أقوالي والحسابات المتغيرة حول نهاية مصيري وذلك بعد ان اصبحت حياتي مرهونه بالتعاون معهم . ولوطأة الضغط النفسي وشدة التعذيب والألام الحادة والمبرحة التي تنهش بجسدي والرعب المستمر لم يؤهلاني من ترتيب وضعي واتخاذ موقف بالطريقة التي يجبروني عليها . وتحت تهديد الموت كنت في بحر متلاطم الامواج , أمواج من الصراع النفسي والخوف , كنت أحصي الاسئلة وأوجها الى نفسي , متوقعا كل الاحتمالات الواردة في الاجابات , منها ان ابديت استعدادي للتعاون معهم يعني ذلك سأفوت فرصة كبيرة وثمينة عليهم وهي الحفاظ على الذين هم أمانة في عنقي وعدم فتح أية ثغرة في ملفي و سيلاحقون الناس والرفاق على ضوءها وسأكون سببا في كوارث ومأسي لاحبة منحوني الثقة وأسكنوني في بيوتهم ووفروا لي العزة أيام القحط حينما ضاقت الظروف ذرعا بي . ليس لشخصي فقط وانما لاعتبارات سياسية ووطنية أملتها ظروف البلد وتطوراتها والموقع الذي يحتل الحزب وتاريخه الوطني وامجاد شهدائه في ساحات النضال الوطني ضد الدكتاتورية والاستعمار . ولم أهمل من حساباتي في تلك الزنزانة المظلمة الفكرة التي تقول ان بقائي الطويل فيها ربما سيمنحهم فرصة ثمينة لم تكن في الحسبان وستؤدي بي وبرفاقي من خلال كشف أوراقنا الى الكارثة . سأفقد حياتي أولا بعد ان ينالوا من رفاقي والمتعاطفين معي, أنه مفترق صعب جدا , لكن تمكنت من اجتيازه بتقديري للواقع المعاش في ذلك النفق المرعب.وهذا مادفعت ثمنه طيلة فترة الاعتقال من تعذيب وأهانة وأعتداءات غير مألوفة في عمر الانسانية . تحملت رعشات الكهرباء والموت البطيء المنتظر في كل لحظة , من خلال اجباري على تناول ( حبة كبسولة ) ستؤدي بحياتي بعد ساعات حسب أدعائهم لي بذلك . كل هذه المحاولات كانت تهدف الى ارغامي الى مايصبون له . أذن ماذا سيكون موقف الحزب ؟ بعد أن فلت من قبضتهم ,هؤلاء (البشر) القساة وأنا في موقف لا أندم عليه في المراوغة السياسية ولعبتها في بلد مثل العراق يحكمه هكذا نظام . أنقاذي يعني انقاذ الناس من الهلاك والتنكيل وانا في موقف لايدعوا الا الى الفخر والاعتزاز وانا الى الان لم اقدم اي خدمة لهم أو معلومة قد تفيدهم وتضاف الى أضابيرهم المركونة في أحدى زوايا غرف التعذيب متى ما شعر الضابط أحمد العزاوي بالضجر والملل من أقوالي الغير مقنعة له أدار كرسيه المتحرك الى الوراء وسحب احد الاضابير وأخذ بتصفحها بملل وهو يتثاوب كانت في مثل هذه الحالات من التحقيق لم يعصبوا عيوني وانت في مواجهة أكثر من ضابط تحقيق وخصوصا في الايام الاخيرة من الاعتقال . في الايام الاولى كنت مكبلا بالحبال ومعصوب العينين ومكان التحقيق يعج بالجلادين من خلال الصفعات التي تأتيك من كل زوايا ذلك المكان . الافلات من قبضتهم بدأ يسهل , كل المؤشرات تشير الى ذلك لكن كيف استطيع الالتحاق ثانية بقاعدة الحزب وبأمان ؟ هذا ما بدأ يشغلني ويتعبني من شدة التفكير به , متى الخلاص منهم ؟ ان مثل هذا الموقف الذي أعتبره فخرا ومجدا يضاف الى تاريخي الوطني, حافظت عليه وبكل ماكان لدي من الوفاء والالتزام للذين صادفتهم في عملي الحزبي , لم أؤذ أحدا من الذين أحبوني وأحببتهم . في مثل هذه المواقف الصعبة والمدمرة من حياة السجين وفي مرات عديدة انتابني شعور , أنها لعبة وخديعة أن يتم أطلاق سراحي بهذه السهولة, ربما الهدف من وراء هذه الدعوات لحساب ردود افعالي أو لغايات أخرى, فقد تكون حساباتهم بعيدة عن تقديراتي للخطوات القادمة. ولن تغب عن بالي حصيلة موقفي وأثارها السلبية على مزاج الناس في الشارع فسيزداد الناس والمتعاطفين خوفا وان تضعف ثقتهم بالحزب ومناضليه وان هذه الصورة ليست بالجديدة على الشارع العراقي أذ وقعت حالات مشابهة وقريبة في المشهد السياسي العراقي وكانت نتائجها سلبية للغاية على حركة الجماهير وتفاعلها مع القوى السياسية . أتذكر بمرارة عندما كان يعتقل لنا رفيق في ساحات النضال بسبب اعترافات أو عوامل اخرى أدت الى اعتقاله كنا نواجه ظروفا صعبة في تخطي هذا الوضع الصعب وفي تجاوز ردود افعاله المدمرة على معنويات الناس وعلاقتهم بنا في ظل نظام قاسي وقادر, فسياسة أنعدام الثقة بالمعارضين كانت واحدة من اساليب النظام في اعوام 1979 , فعندما يعتقلون رفيق لنا – ويصعب النيل من صموده , يحاولون عزله جماهيريا من خلال الممارسات المشبوهة والتي انفضحت للناس فيما بعد . يضعوه في احدى سياراتهم المشبوهة ويمرون به من اماكن يمكن رصده من المناضلين قبل اطلاق سراحه , فتثار الشكوك والتقولات حوله والوضع السياسي العام كان يساعد على هذه الاجواء . أذن وضعي الحالي يتطلب قراءه جيدة للتطورات وان اكون عقلانيا ومرنا في التعامل مع الواقع الجديد وهو أستغلال التطورات لصالحي والنفاذ من أيديهم والا سأكون انا الوحيد الذي سيدفع الثمن غاليا كل ذلك من أجل الحفاظ على سمعة الحزب وتنظيماته , وان لاأكون حديث الشارع بتداعياته السلبية المضرة . لقساوة التعذيب بدأت صحتي تتدهور . انها أيام صعبة محفوفة بالمخاطر والموت , منحوني خيارين لاثالث لهما أما التعاون معهم وحسب أجندتهم أو الموت. وهذه خيارات العمل السياسي في العراق في ظل نظام لايهادن معارضيه الا باساليب الموت وبهذه العقلية بنى مؤسسات دولته المخابراتية. كانوا يضغطون باساليب عديدة وقذرة ويجبروني على الخيار الاول ووضعوا الخيار الثاني جانبا. الى الان لا اعرف كل اسباب هذا الضغط هل من أجل التعاون معهم ؟ تسائلت مرات عديدة مع نفسي وانا محشور في زنزانتي المخيفة. النظام يمتلك المساحة الواسعة في جمع اعدادا كبيرة من البشر لهذا الغرض الدنيء (ومكارمه) لهذا النوع من البشر لاتحصى والناس في بداية الثمانينيات يتهافتون على مراكز التطوع , فلماذا المراهنة على سياسي محصور في قبضتهم ؟

في أحدى الليالي كنت مستلقيا في زنزانتي بين الاغفائه والصحو محاولا أستعادة بعض مشاهدي الكابوسية لليلة البارحة, كم كانت أليمة ومرعبة بأنقباض مخيف يهيمن على روحي وانا أتلوى من اوجاعي داخل زنزانتي , ممددا على ارضها العارية بعد ان لملمت بطانيتها السوداء والرثة ووضعتها كوسادة تحت رأسي . فتحوا باب زنزانتي وكانوا حاملين معهم انسان يتلوى بين أيديهم , رموه داخل زنزانتي وقفلوا الباب بعد ان خرجوا , مهدديني بنفس المصير . رضا ---- من أهالي الحلة هذا ماتمكنت فهمه من هذيانه قبل موته بعد فترة قليلة من وجوده داخل زنزانتي , مات وتركوه ملاصقا لي طيلة الليل لم أنم في تلك الليلة . حاولوا من خلال هذه الجريمة الانسانية بتركه كجثة هامدة بجانبي , تخويفي والضغط علي من اجل استدراجي لفكرة التعاون معهم . يذكرني أثناء حديثه معي الضابط احمد العزاوي ... ان لم يكن موقفي ايجابيا وأعلن تعاوني سيؤول مصيري مثل الانسان الذي تركوه يموت في غرفتي. بعد مرور الايام ببطء وصعوبة , حاولت من خلالها أن اعلن عن عدم قدرتي في التعاون معهم وأستحالة تقديم (خدمات) لمشروعهم الرامي الى التسقيط السياسي وأظهارهم بمنظر القوة الخارقة ومعرفة ما يجول حتى بالمنامات . بهذا الجبروت من الطغيان , أرادوا ان يعززوا في العقلية العراقية ظاهرة الخوف حتى من الحيطان ان تكون وكيلا لهم . وطيلة سنوات حكمهم نجحوا في بسط هذا الخوف وطغيانهم على الذاكرة العراقية. كان ظني أن أصراري في الرفض للتجاوب مع أجندتهم القذرة سوف يجعلهم يسرعوا في محاولة تصفيتي جسديا وليس لهدف أخر , أي السرعة في أعدامي . لكن تراكم السنوات الطويلة ترك مخزونا بالنفس الطويله في معالجة قضايا مثل هذا النوع . في هذه الاجواء المرة والصعبة ما بين الحياة والموت تم أحالتي الى محكمة الثورة وعينوا لي محاميا , ألتقيته لاول مرة في قاعة المحكمة. كان لايمت بصلة الى المحاماة والدفاع عني كوني سجين سياسي وتهمتي الخيانة الوطنية لوقوفي ضد سياسة النظام بل حملت السلاح لسنوات ضد نهجه المعادي للديمقراطية . المحامي لم يعرفني حتى على أسمه وكان أقرب الى الجلاد والمحقق , هذا مابدا من خلال تعامله معي وطبيعة أسئلته التي لاتدخل الا ضمن دائرة الاستجواب والتحقيق والادانة المسبقة . في ثنايا أسئلته لي , تلقيت منه تهديدا وشتما ولسوء حظي أقولها صراحة أجلت المحكمة أنذاك وكنت حينها أتمنى قرار الحكم بالاعدام ولا العودة ثانية الى زنزانتي في الشعبة الخامسة وجولات أخرى من التعذيب والاهانات والتنكيل بأدمية الانسان . بدأت أشعر بان مقاومتي اخذت تضعف وتهتز بعد ان شلت يدي وتوقفت عن الحركة , وصفير الأذنين الذي لايتوقفان , يمنعاني من سماع مايجري حولي , كانوا يريدون مني ان أشكل تنظيم شيوعي تابع لهم و خطوط حزبية وهمية في بغداد وكانت على شاكلتها موجودة بكثرة . خلال عملي الحزبي السابق صادفت مثل تلك الخطوط كما ذكرت سابقا, الخطوط التي عمل بها, راضي وعلاء وغيرهم وكانت باشرافهم ورعايتهم ميدانيا وأيدلوجيا. هنا تبرز التساؤلات وتتداعى الاحتمالات بحل الالغاز وتعود للذاكرة مجددا أيام النضال والمناضلين وهم يريدون من خلال أرغامي على تشكيل تنظيمات حزبية شيوعية تابعة لهم وانا عصارة همي وتفكيري تتجه الى الخلاص منهم بعد ان يأست من جميع المحاولات في تصفيتي جسديا. أذن أنا ملزم في أنقاذ حياتي وحياة الاخرين من مهرجانات التعذيب اليوميه والفتك الانساني وهذا أمرا مفضلا لي , فالهدف الذي يريدونه لابد ان يتحقق بكل الوسائل والاساليب الوسخة. فالنتائج لاتعنيهم فهي تحصيل حاصل. في زنزانتي بدأت ألملم جزء من شظايا ذاكرتي وأخطط للمستقبل بعد ان أنفذ من أيديهم , وهل الافلات من قبضتهم بهذه السهولة ؟ وكيف سألتحق بقواعد الحزب وانا الذي دفعت أجمل ايام عمري في النضال السري في بغداد والمحافظات . كانت سنوات صعبة تفردت بالدم والكوابيس والقتل . التداعيات برزت في مناجاة الروح والتفكير بسنين النضال السابقة والعمر الذي أفنيته في بناء التنظيم ومواجهة الاعداء وتحقيق الاماني والحلم بالمستقبل الزاهر. ناضلت بظروف فاقت بدمويتها وتداعياتها تصورات من كان يركب موجة الوضع السياسي وأدعاءاته بالوهم والخديعة ونحن من دفع ثمنه وكان غاليا . تدفعاني للتخطيط في الخلاص من قبضة النظام بعد ان وضعوني في عنق الزجاجة . بعد أيام نقلوني الى بناية أخرى وكنت حينها منهوك القوى ومحطم , ممزق الجسد بعد ان قتلوا أنسانيتي لممارساتهم الوحشية ضدي والتي لا ترقى حتى الى مستوى التعامل مع الحيوانات فقد أجبرونا على تقليد أصواتها والمشي مثلها. هذه المرة نقلوني وانا قريب من سكرات الموت الى بناية مربعة في داخل نفس البناء رغم تمويههم من خلال صعودهم ونزولهم السلالم , لكن أكتشفت بعد فترة وجيزة أنني مازلت داخل نفس الشعبة وان تغير المكان . الوجوه الجديدة التي كانت في أستقبالك الى دهاليز الموت لاتعني لك غير المزيد من التعذيب . كان يفصل زنزانتي الركنية التي تحمل الرقم ( 7 ) موقع تواليت , وفي الركن الثاني قاعات كبيرة تحيط هي وزنازيننا بساحة مفتوحة كبيرة للشمس والهواء . يجمعون في هذه القاعات الاسرى الايرانين الجدد من جبهات الحرب ويخرجوهم يوميا في الصباح الى الساحة التي تتوسط البناية تحت السياط والتهديد وان أعدادا كبيرة منهم غير قادرين حتى على المشي لانهم جرحى حرب وكانوا يستغيثون من شدة ألم الجروح المصابين بها . وفي الساحة يتوسطوهم ويبدأون معهم تعذيبا جماعيا فيبدأ الضرب بالكابلات على مرأى ومسمع المعتقلين . ويوميا يأتون بوجبات جديدة من الاسرى . كانوا يلقنونهم على سب وشتم الامام الخميني قائد الثورة الايرانية ومن لايردد يتعرض الى القتل .أستغاثة أصواتهم تخترق مسامعك وانت على موعد يوميا لسماع هذا الألم والصراخ والبكاء. كانت في الجانب الايمن من البناية مجموعة زنازين وفي أعلى وسطها فتحة صفيرة لاتتسع لكف يدك لكن تدخلها الشمس في النهار عكس سابقاتها والتي كانت مغلقة ومظلمة وضيقة . كنت أرى من خلال فتحة باب الزنزانة اطراف نخيل الكاظمية وهو يغازل شواطي نهر دجلة مع نسمات هوائه . في ذلك الموقع أيضا لم يتركوني يوما واحدا بدون تحقيق اوتعذيب مع وجوه جديدة لم ألتقيها سابقا خلال فترة أعتقالي لكنهم هذه المرة أتبعوا أسلوبا جديدا معي في الترهيب والترغيب . وبدأ الطبيب يزورني في زنزانتي ليطمأنهم على حالتي الصحية . وكانتا يداي ماتزالان عاجزتين على الحركة بشكل طبيعي . وكان أسلوب الطبيب هذه المرة فيه نوع من المرونة معي وسمع شكوى أوجاعي . رغم هذه الاجواء الجديدة والتي حيطت بي لكني مازلت أتعرض يوميا الى الرفسات والركلات والسب والتهديد وأساليب التحقيق نفس أجندتها الترهيبية , لكن في هذا الموقع مررت بمواقف غير متوقعة أمام ألة التعذيب والقتل. كان يوم جمعة , العطلة الرسمية في العراق ولأول مرة جاءني الحارس وهو مسن في العمر يحمل ملامح جنوبية وحدثني من خلال فتحة باب الزنزانة بهمس وهدوء وسألني أذا اريد ان اسبح ؟, وفي يوم الجمعة يخيم الهدوء على المعتقل لكني لم أستطيع تصديق ما سمعته ولم أبد أهتمامي بما سمعته منه ولا يحق لي عندما يتحدث معي ألنظر الى وجهه . دائما نظرات عيونك منزلة الى الارض وهذه واحدة من القوانين السائدة بصرامة شديدة في هذا المعتقل ,لكن تكرار سؤاله علي وبصوت مطمئن دعاني أن أهز رأسي علامة الموافقة , فتح لي الباب وأخذني بيدي وأدخلني الحمام. كان نظيفا جدا ومصمم على الطريقة الاوربية ونبهني بالسرعة وعدم التأخير وعدم أبلاغ أحدا عما حدث لانها خدمة مجانية ومجازفة كبيرة. كانت هذه المرة الوحيدة التي أتلقى بها هذا العطف وهمست مع نفسي بخوف وانا داخل الحمام أتمتع لأول مرة بقطرات الماء المنعش وسط جفاف المكان والارواح,أي امنية هذه ؟ فانا في وضع يحسد عليه فمن الاهانة الى ان تتلقى هذا العطف والمساعدة وفي هذا المكان الجحيم وانت الذي بامس الحاجة لها.كلمات هادئة ولمسات رحيمة دفعتني ربما في هذا الوضع الاستثنائي الذي أمر به ان أعيد النظر بالاخرين وأتمسك نوعما بالمرونة والتجاوب في خدمة مشروعي . أعادتني الى ذلك الانسان في هذا الموقع الذي حاول في لحظة صعبة ان يطمئني بحديثه ومالبث ان تلاشى سريعا خلف الممنوعات. أذن كل الاحتمالات واردة و هي خارج الحسابات . اما الموقف العام نحوي فكان يزداد ترهيبا وضغطا نفسيا شديدا . في نفس اليوم من واقعة الحمام أقتحموا زنزانتي في منتصف الليل اربعة مجرمين ونزعوا عني عنوة دشداشتي الصفراء و بمرور الايام تنافست مع شحوب وجهي الذي مال الى الاصفرار واعطوني دشداشة بيضاء ما زلت أتذكر ملامحهم جميعا, أحدهم كان أسمه حامد, لن انساه ما دمت حيا لكثرة الصفعات التي وجهها لي من كل حدب وصوب وقساوتها , كان دائما يستهدف الاماكن المؤلمة والحساسة من جسمي. بعد هذه الاجراءات الدنيئة والمؤذية حاولوا معي على سلوك مشين ومعيب ليس من الجرأة والادب الانساني الخوض في تفاصيله المهينه . هذه مقومات العهر السياسي في العراق. نوهت به هنا رغم جروحه العميقه والمعيبة لترك الانطباع والتقدير لرجال المرحلة وللاجيال القادمة وستكون وصمة عار في تاريخ العراق السياسي للتسلكات المذلة بحق الانسان وأدميته وأنتهاك كرامته . اين ذهبت شعارات المشروع القومي الوحدوي في بناء الانسان ونهضته ؟. لا أملك الجرأة رغم مرور ما يقارب عشرة سنوات على تلك الفاجعة من حياة انسان معارض للنظام يتلقى مالا يحمد عقباه, يعني وصف الحالة بتفاصيلها المريضة التي لاتعبر بتفاصيلها المذلة الا عن مأساة جيل كامل تحمل تبعات العمل السياسي ودونيته في العراق .. أستذكار الحالة ووصفها .. مؤذية ومحطمة للانسانية بما تضمر من تقليب مواجع وشعور بأنهزام جيل ومرحلة كاملة بأحزابها وشعاراتها الوطنية. مرات عديدة حاولت فيها نسيان تفاصيلها المذلة فلم أتمكن على رغم مرور هذه السنين . أؤكد على الاشارة هنا في هذه السيرة من حياة مناضل من العراق هو أن لا أفضح الا عن الجزء البسيط من مأساة وقذارة الممارسات الغير أدمية بحق المعتقليين السياسين في العراق , للذين حاولوا ان يجعلوا من العراق بلدا يليق بتاريخه ونضالاته وتراثه قي عيون أبنائه والعالم , لكنهم لاقوا من ممارسات قد يندى لها جبين العالم . ممارسات رخيصة وقذرة لتحقيق مآربهم والحفاظ عليها. بدأت أتحسس بأثار التعذيب النفسي وأنعكاساتها على حياتي داخل زنزانتي المظلمة وأثار التعذيب مرسومة على جسدي كلوحة سريالية تعكس همجية راسميها عبر أقلام الكابلات. يدي توقفت عن الحركة لشدة أورامها رغم محاولات الطبيب وأدويته المسكنه في التخفيف من أوجاعها وأورامها . صفير الأذنين الموجع الذي لا يهدأ لحظة واحدة سبب لي مشاكل في عدم النوم . كل هذه الممارسات تهدف الى تركيعي لمطاليبهم الذي لايقبل الدحض والجدل فيه الا مزيدا من التعذيب والقتل هو التعاون معهم بتسقيطك سياسيا مقابل أطلاق سراحك والحفاظ على أهلك وانت الأسير بين ايديهم . وفي معتقلاتهم لي حساباتي ورؤيتي للمستقبل , أصون أسراري وأسرار الرفاق الذين ألتقيتهم والعوائل التي زرتها وأستقبلوني وفتحت لي بيوتهم وحافظوا على وجودي بينهم رغم معرفتهم المسبقة بهمجية أساليب النظام في معالجة هذا النوع من القضايا بتدميرهم بشكل كامل لو أكتشف أمري بين صفوفهم فكل العز لهم ولمواقفهم.

بيت ابو منصور في مدينة الشعلة , منصور الضابط في الجيش العراقي ومحمد الطبيب

بيت ابو فيصل في الكاظمية .

بيت ابو وحيد في مدينة الحرية الثالثة .

غسان الضابط في الجيش العراقي والشيوعي السابق في مدينة الكاظمية .

بيت ابو تمارا في منطقة الدورة في بغداد .

بيت ابو بسيم في مدينة الشعب ( عبد الخالق مطلك الدليمي ) أحد كوادر القيادة المركزية سابقا .

بيت ابو نغم في منطقة مشروع 7 نيسان بغداد .

بيت الحاج غازي في حي الشيوخ الكاظمية – بغداد .

بيت سعد الدوري ابو زيد شارع 51 بغداد .

رفاق وأصدقاء كانوا بمستوى عالٍ من الشجاعة والمسؤولية وكنت مستعدا للموت من أجلهم وبنفس المستوى من الشجاعة والمسؤولية وأن اصون الامانة والعهد الذي قطعته لهم فهذا ما أعتز به وبكل جرأة ومسؤولية ولهم كل الفخر والعز والتقدير على تلك الايام والساعات الصعبة في مواجهة الموت في كل لحظاته المرتقبة. بعد سبعة وثمانين يوما كنت مركونا في زنزانتي الضيقة أتلوى من الالام والاوجاع , جاءني ضابطان برتب عالية على مايبدو وأتضح لي انهما كانا من المشرفين على مجريات التحقيق والتعذيب معي والان تحتم دورهم العلني في التحقيق وفي المساومات . عرفني الاول باسمه , أحمد العزاوي , هكذا أدعى لي وهو شاب وسيم وأنيق الهندام, ملامحه وهدوئه لاتعكس شرقيته, لون شعره ,عيونه طبعه الهادي الذي ينم عن ثقته بنفسه. أما الأخر فيدعى أسماعيل التكريتي ورغم صغره في العمر لكنه يبدوا للمشاهد أكبر من عمره لخشونة ملامحه وبتقاسيم وجهه الحادة. كان يرتدي زيا عسكريا برتبة مقدم .

طلبوا مني النهوض السريع وأحاطوا بي وقادوني بعد ان وضعوا نظارات سوداء اللون تحجب الرؤية تماما وتمنع عن الاخر دلالاتها واتجاهاتها وأصبحت تحت رحمتهم , ولم يقيدوا يدي كالسابقات لانها ليست بحاجة لان تربطا و ما زالتا لاتقوى على الحركة وسرت بها رعشة خفيفة . بعد دقاتق من المسير المتعثر من خلال قبضات أيديهم الضاغطة على يدي وجدت نفسي في غرفة تختلف عن الغرف السابقة والتي ذقت فيها ويلات التعذيب والتحقيق , ميزتها من خلال جلوسي الاول على كرسي الغرفة المنصوب في أحدى زواياها وذلك بعد لحظات من الصمت والرهبة اللذان خيما على أجواء الغرفة . بدأوا يتلون علي من خلال تقليب الصفحات تاريخي السياسي , أنه ماضي مشبوه في معاداة مسيرة الثورة وقائدها , بهذه الافتتاحية ألقوا عليه سلسلة من الاتهامات الجنائية والتي بدورها حسب ادعائهم تستهدف الاطاحة بالنظام الديمقراطي في العراق , لكن قلب القائد(هذا ما اضافوه) كبير ومسامح في أستثمار الفرص لخدمة الوطن والامة . وأكدوا لي مرارا أن مايجري معك من صفقات الأن بعلم القيادة وموافقتها وهذا لم يجر مع كل المعتقلين الا بحالات نادرة ويخضع لقياسات دقيقة ومنتخبة , وأنت تم أختيارك وفق تلك القياسات الأمنية , وكرروا علي كلاما لايخلوا من التهديد بخدمة الوطن ( خدمة النظام ) ووقعوني على أوراق محاضر التحقيق المنتزعة مني عنوة وتحت تهديد الموت وتحمل جرعاته السامة . طبعا بعد قراءتها وهذا لايشكل شيء في محتوياته لانه بالتالي سيرغموني على توقيعها شئت أم أبيت . أنها صك لانقاذ حياتي وحياة بشر أخرين لانها تهدف في النهاية الى أطلاق سراحي وبهذه المعجزة سأفوت فرصة ثمينه عليهم , ستتيح لهم في المستقبل لو بقيت تحت رحمتهم خيوط تقودهم الى معلومات تخدم مشروعهم الاستخباراتي وعلى بوادر التنظيمات وتعاطف الناس معها . كان المحضر يتضمن نقاطا واضحة وصريحة تشير الى تصفية المعارضين وذلك في حالة أخفاء معلومة أو تعكس حقيقة غير واقعة اذ سيكون مصيرك الموت , ونقاطا أخرى لاتقل تهديدا ورعبا . بهذا الاسلوب الدموي بنوا دولتهم المخابرتية .

كان هذا الموقف لايخلو من المرونة بين الجانبين وهو بمثابة صفقة أتفاق . لكن الذي جرى معي ولم أجد له تفسيرا في تلك الظروف والمعاناة هو أستمرارهم في ترهيبي وتعذيبي ويوميا يزداد الضرب والاهانات رغم توقعاتي ان بعد الصفقة سيتم أطلاق سراحي سريعا , لكن الرياح سارت عكس السفن والوقت ليس بصالحي وكنت خائفا من حدوث المفاجأت التي ستؤدي بحياتي وحياة الاخرين . مرت الايام ببطء قاتل . نقلوني الى زنزانة كبيرة تتوسط أحدى ممرات البناية الثانية وهي تعد من الزنازين المعدة لمجموعة من المعتقلين وقد مررت بمثلها في اليوم الاول من وصولي الى هذا المعتقل وكانت تضم ثلاثة عشر معتقلا أغلبهم من تنظيمات حزب الدعوة . وفي اليوم الاول في هذه الزنزانة أتضح الغرض من نقلهم لي وذلك لممارسة مجريات التحقيق والتعذيب داخل هذه الزنزانة . كرروا علي أسئلة عديدة وأسماء صريحة لم أسمع بها يوما في حياتي السياسية . سألوني عن شهداء الحزب باسمائهم الحركية والتي كانت متداولة بيننا في كردستان ومن خلالهم عرفت أنهم أستشهدوا . من بين هؤلاء الشهداء , أبو أحمد و أبو سرمد وهم من أهالي مدينة الدغارة البطلة في محافظة الديوانية .

جمعتني بهؤلاء الشهداء رفقة طيبة منذ ان ألتحقوا بقاطع سليمانية في التنظيم المدني في مناطق هزارستون , كنت من مستقبليهم في الفصيل المدني في نهايات عام 1984 . وبعدها سبقوني الى الفصيل المستقل في قاطع بهدينان وألتقينا مرة أخرى هناك وعدنا الى روح الألفة والمحبة وتبادل الهموم . وأيضا سبقوني الى داخل العراق في عام 1986 بشهور من الفصيل المستقل الى ناحية الدغارة , لكن الوقت لم يمهلهم طويلا فبعد أيام أستشهدوا في احدى عمليات المقاومة وذلك قبل وصولي الى بغداد . عادت الايام الاولى من جديد معي داخل هذه الزنزانة . أتلوى ألما وحسرة من ضغط التحقيق والتعذيب متسائلا مع نفسي عن غموض الموقف وغرابة التصرف ؟ أين ذهبت الصفقات والوعود باطلاق سراحي , هذا ماشعرت به من حديثهم معي رغم القساوة الضمنية . في أحدى صباحات أيلول ومازالت الشمس تختفي خلف ظلال الاشجار وبدون أنذار مسبق سبقتها ليلة مملة من التحقيق والاهانات , ليلة شديدة وطويلة من الاستجوابات المملة . كان الجوع يقض مضاجعي والظمأ يؤدي بي مرات الى حالات أغماء . مرت عشرة أيام بدون ماء . كانوا يراقبونني حتى عندما أذهب الى بركة التواليت ربما أحتال قليلا في وضع قطرات الماء الوسخة على شفاهي المتيبسة . فرضوا علي حصارا بعدم شرب الماء ونجحوا في هلاكي جسديا . في الصباح الباكر وبعد ساعة تقريبا من تركي داخل الزنزانة أتحسر جوعا وألما وهلاكا من عذابات تلك الليلة, محاولا أستجداء أغفاءة للحظات , دخل الى زنزانتي شخصان وطلباا مني الوقوف فعصبوا عيني وقادوني الى غرفة أخرى وبدون كلام ولاسؤال وأجلسوني على كرسي دوار وأمروني بعد ذلك أن أخلع الشال النتن عن عيوني فوجدت نفسي في قاعة كبيرة تحتل مساحتها المربعة أكداس من الملابس القديمة والمدماة وذات رائحة عفنة وملابس ممزقة وأيضا جديدة , قد تكون تابعة للقادمين الجدد الى هذا المستنقع . قالوا لي بلهجة حادة , اختر ملابس مناسبة لك من قميص وبنطلون وحذاء . تسائلت مع نفسي , أين ذهب أصحاب تلك التلال من الملابس ؟ وأين راحوا بملابسي التي أنتزعوها عنوة من جسدي ؟ أنهم قتلوا وهناك من ينتظر دوره الحتمي في هذا المقتطع من الجحيم الابدي , وطوابير من البشر تنتظر الموت محشورة داخل الزنازين . أستذكرت شهدائنا في معمعة البحث عن ملابس مناسبة , لكن أين ملابسي ؟ , لم بعد لها أثر هنا , ربما ناسبت معتقل أخر فارتداها , ومن جهتي فلم أجد بالسهولة وبالسرعة التي أمهلوها لي علي أن أجد مايناسبني , بعض الملابس وقعت بيدي وكانت ملطخة بالدماء . ها هم يفتحون الباب ويجدوني في دوامة البحث بين تلال الملابس , فأتلقى جزاء ذلك سيلا جديدا من الشتائم والسب . لم يقطع الشك حول مصيري المتعاظم نحو التصفية والهلاك الا بعد ساعات قد أكون فيها خارج قبضتهم . وجدوني مبهوتا بين أكوام من تلال الملابس فساهموا في مساعدتي في أيجاد ملابس لي ونقلوني الى غرفة أخرى معصوب العينين وأجلسوني على كرسي مريح هذه المرة وأمرني أحدهم أن ارفع نتفة الشال النتن عن عيوني فظهر أمامي أحمد العزاوي ... وهو يتثاءب وقال لي بحدة .... بقرار قيادي سيتم أطلاق سراحك اليوم وهذه مكرمة من قادة العراق العظيم رغم انك فعلا تستحق القتل وانه يمثل المصير الحتمي لكل من يخون وطنه وشعبه وأنت تاريخك حافل بالمخازي والعمالة والعداء للثورة , ومن أجل ان تمسح هذا التاريخ المخزي ما عليك الا ان تكون مواطنا صالحا في خدمة مسيرة الثورة . ومن أجل الحفاظ على حياتك مستقبلا فعليك أن تخدم وضمن مسيرتنا الطويلة في ملاحقة الخونة والعملاء من الاحزاب المعارضة وانت واحد ممن تنتمي اليها ( الحزب الشيوعي العميل ) . وانك لست الحالة الاولى أو الاخيرة فهناك تجارب لنا عديدة سبقتك وهناك من هم الأكثر والاهم منك وقدموا عطاءا كبيرا لنا وهناك وهم أقلية ممن تنصل عن ألتزاماته فتلقى مصيره المحتوم , مصير الخونة . ويستمر أحمد العزاوي وفي حديثه الصباحي المزيد من المواعظ والنصائح حول الوطنية والعمالة مؤكدا لي ان كل المعلومات عنك خزنت في ( كاسيت ) وأقوالك وتاريخك محفوظة عندنا . أستغرق هذا الحديث الصباحي لفترة ساعتين من الملل , كنت اتظاهر فيها بالاصغاء لهم وانا مشغول البال في خططي اللاحقة وهي الخلاص من أيديهم . بعدها نادى الحراس من خلال ألتفاته سريعة للخلف وضغط على جهاز مركون خلفه لم يمهلوه برفع يده عن الجهاز حتى أقتحموا الغرفة وبدون كلام مسبق معه رفعوني من الكرسي ووضعوا نظارات سوداء على عيوني وقادني المقدم أحمد العزاوي من يدي اليسرى ووجهني بالمسير خارج الغرفة . وبعد خطوات محسوبة أمرني أن أصعد الى داخل السيارة والتي فتحت لي من قبل الحراس وبدون كلام تم الاجراءات بصمت رهيب يوحي برهبة المكان والمشهد . تحركت السيارة الى مكان مجهول وشعرت لأول مرة بنسمات هواء منعشة وأصوات محركات السيارات في الشوارع , طلب مني أن أنزع النظارات عن عيني وأكاد لا أصدق وانا جالس في المقعد الخلفي في سيارة برازيلي خصوصي تسير بي في شوارع بغداد وكان المقدم جالس في المقعد الامامي مع السائق . في حينها لاأستطيع أن أصف شعوري فهو مزيج من الخوف والفرح والتداعيات المرعبة في مثل هذا الموقف المبكي والحزين . وتسائلت حائرا, هل هناك مصير مظلم أخر ينتظرني ؟ هل هذه ضمن ممارساتهم الدونية في تصفيتي ؟ هل وهل هي التي غلبت على تفكيري وأحنمالاته الغير محسوبة .أحتمالات لاتحصى تحشر ذاكرتي وتزيد مخاوفي . الخوف يكاد ان يقربني من الموت أكثر من أن يكون موتا بطيئا ومدمرا توقفت السيارة في أحد الشوارع العامة في بغداد . وفي مكان لم أتمكن من تشخيصه طلبوا مني سريعا أن انزل وانتقل الى سيارة أخرى – تبين أنها تكسي – صفت على جانب الطريق مباشرة , بعد نزولنا من السيارة الخصوصي تحركنا من المكان في سيارة تكسي كان فيها شخصان , بدأ الضابط احمد العزاوي يكلمهم بحدة ويلوم سائق التاكسي لاستعجاله في الالتحاق والوصول مباشرة من نزولنا من السيارة المدنية الاخرى , حذرا وخوفا لتشخيص بعضهما . كان السائق صامتا ولايجرأ على الكلام مع زميله وينصتون بانتباه الى الضابط . كانت محطتنا هي منطقة النهضة في بغداد . أمرني بالنزول تحت ذهول المشهد وتداعياته . نزل أحدهم وفتح الباب لي , فترجلت صامتا مرعوبا وفي لمحة بصر توارت السيارة عن الانظار , تاركة وراءها مصيرا مجهولا تحت غبار أنطلاق سرعتها . مشيت في شوارع بغداد لا على التعيين , أبحث عمن يأويني ويوصلني الى بر الأمان , بعيدا عن أعينهم التي تتلصص في كل زاوية من زوايا العراق . أعرف ان هناك حتما أخرين يحصون كل خطواتي وبوصلة أتجاهاتي , فليس من السهولة تركي طليقا . في اللحظات الاولى كنت أتلفت حولي ذعرا , كنت حذرا حتى من عبور الشوارع , ربما سيلقونني تحت عجلات سيارتهم . كان الرصيف هو هدفي الغير محدد . كنت أشعر ان الناس في الشوارع كلها تهمس حولي وتراقبني وتحسب خطواتي البطيئة المترددة .

أشعر بالغثيان وسط زحمة الناس وضجيج السيارات ولدهشة الموقف وتداعياته . في الطريق بين الشعبة الخامسة في الكاظمية ومرآب النهضة أعطوني قصاصة ورق مثبت عليها رقم تلفون بالقلم الرصاص وطلبا مني الاتصال به . وعندما قبضوا علي أو بالاحرى عندما سلمت لهم غدرا بين طوزخورماتو و كركوك , كنت أحمل مبلغا من المال يقدر ب 300 دينار , منحت لي من قيادة التنظيم لتمشية الاوضاع في بغداد , لكن عندما أطلق سراحي لم يعيدوا لي الا ثلاثين دينار . بعد أن هلكت رجلي من المشي تحت أشعة شمس بغداد اللاهبه , أستأجرت سيارة تكسي رقم بغداد وتعاملت مع الموقف على اساس أنه أحد أدواتهم للوقوع بي وطلبت منه ان يوصلني الى ساحة الميدان ثم ترجلت في شارع الرشيد قاصدا مقهى كوكب الشرق ام كلثوم . لم تعد ذاكرتي تسعفني في أعادة جزء من ذكريات الماضي فقد كنت أحد رواد ذلك المكان العطر بناسه ورمزه . كان الخوف من ألقى حتفي هو المهيمن على روحي ودفن تلك الاسرار والمواقف على رفاقي وعلى المحبين. أشتريت من كشك مجاور للمقهى جريدة الثورة وبدأت بتصفحها من أجل أحتواء الموقف والتغلب عليه . أنفجار في بغداد وعملاء أيران يقومون بتنفيذه .في ذلك المخاض العسير توصلت الى المكان الذي سألجا اليه كاختيار أولي . كانت قرية الصمود في الراشدية هي هدفي . قضيت ليلتان مرعبتان كانتا من أشد الليالي الصعاب بسبب ظروفي وقلقي. نمت وقضيت نهاري بين أكوام الحديد داخل معمل حدادة الحاج غازي وشريكه عبد الخالق مطلك الدليمي . قدما لي العون والمساعدة الكبيرة , لكنها لم تخفف من قلقي المتزايد وكانت هذه مناورة مني للحساب الدقيق وقد نجحت بها قبل التوجه الى المدن الكردستانية والتأكد من سلامة وضعي .في أحدى الصباحات أقدمت على سابقة خطيرة ربما كانت ستؤدي بحياتي لكن لابد من أتخاذها لأجل الخلاص. استقليت سيارة اجرة مع مجموعة من الاشخاص , قاصدا مدينة جلولاء ومرورا بمدينة بعقوبة , وكانت محطتي الاخيرة هي مدينة كفري و الوصول لها يعني أني أمنت على حياتي فهي معقل عملي ونشاطي السابق وان رفاقي مازالوا هناك . ومما سهل مروري بهذه السيطرات الحكومية هي هويتي الجامعية . عندما وصلت الى المدينة بأمان , أستأجرت تاكسي الى مديرية بلدية كفري وكان مديرها رفيقنا الشيخ عطا . في كل هذه الخطوات , لم تغب عن بالي لحظة واحدة هي أنهم يتابعونني وفي كل خطوة كنت أتوقع بأنهم سيلقون القبض علي متلبسا بالعمالة ضمن قانونهم ,لكنها كانت أهون الأمرين . دخلت مديرية البلدية وسألت المستخدم عن غرفة المدير فأشارها لي بانه يحضر أجتماعا . دخلت مكتبه فورا وكان فعلا يرأس أجتماعا مع مجموعة من العاملين والموظفين لدراسة جدول أعمال البلدية . توجهت اليه وصافحته بود وحاولت ان أجعل الأمر طبيعيا لابعاد الشبهات من قبل الجالسين في المكتب. وهو أيضا بدوره وبحكم تجربته الطويله في العمل السياسي ( السري ), كان تلقيه للموقف طبيعي وتصرف بهدوء, رغم مرور حفنة من السنين على لقاءنا الاخير ورغم طبيعة الجو الذي كان فيه, وهذا يعود لخبرته وتجربته الطويلة والقاسية في هذا المجال اذ كرس حياته السياسية في العقد الاخير من عمره في المناورة والالتفاف على أساليب النظام القمعية والتي تصل في بعض الاحيان الى مستوى من المواجهة قد تأخذ شكلا قاسيا فيما يتعلق بموقفه الوطني وفي حفاظه على حياة وعمل الشيوعيين من أجهزة القمع الحكومية. كان بيته مفتوحا لنا وعائلته في خدمتنا دوما ومعبرا لالتحاق الشيوعيين الى مناطق كردستان الأمنة, خاصة بعد ان ذاقوا مرارة التشرد والتخفي وكذلك بسبب الخوف من سوقهم الى جبهات القتال ( دفاعا )عن البوابة الشرقية . ختم حياته مناضلا وانسانا في تقديم أصعب الخدمات في أشد الظروف حلكة وقساوة مرت بها الحركة الوطنية العراقية. تفارقنا عام 1983 في ظروف أستثنائية صعبة كان يمر بها بلدنا العراق . وألتقيته ثانية عام 1987 ولم تكن ظروف بلدنا في أحسن حال . وانا جالس في مكتبه أجمع شظايا ذكرياتي عن أيام النضال كان هو يوجه حديثه وتوجيهاته الادارية الى عدد من الموظفين والعاملين ولم يثر فضولهم وجودي الطاريء . بعد أنهاء حديثه معهم توجهنا بسيارته الى بيته الذي كنت قد زرته للمرة الاخيره عام 1983 . أستقبلتني زوجته, الانسانه والمناضلة أم كوران مع أبتسامه خفيفة وتعليقا ساخرا بعودتي مرة أخرى لهم , مهزوما كما تصفنا . .كانت معاني النضال عندهم تعني مواجهة النظام في عقر داره بكل الوسائل والاساليب . بترحاب فتحت لي البيت , كوني مناضلا أولا وصديقا حميميا وزميلا لابنها أشتي ثانيا. حقا كانت خيمة لكل العراقين وأعجاب كل من مر بهذا الطريق , طريق المناضلين , تلمس فيها منذ اللحظة الاولى ذلك الكرم والحنين , تشعرك بالامان والهدوء . وفي الوقت الذي كنت فيه مفزوعا برعب الموقف وتداعياته المأساوية, كانت هي بمستوى عال من المسؤولية وكانت مواقفها مشهود لها من الجميع . وفي أصعب الظروف واللحظات منحوني سبعة عشر يوما من الدفء والأمان في بيتهم تخللتها أحاديث وسجالات حول أفاق العمل السياسي في العراق وسبل المواجهة والتصدي لاساليب النظام مع الشيخ عطا ومع أبنه رفيقي وصديقي أشتي , قد نعجز من الخوض بها والجرأة في تناولها بما في ذلك التطرق الى طبيعة النظام ودمويته. كنا رفاق مرحلة تاريخية بمستوى جسامة الاحداث . وكنا في ساعات متأخرة من الليل وتحت نسمات الهواء المنعشة من أشجار الحديقة نتأمل الموقف والمستقبل ويتحفنا الشيخ عطا بجزء من خواطره التي يرثي بها الفنانة ( كوكب الشرق ) أم كلثوم و بأسطر جميلة , متأثرا بموتها ومدافعا عن عمق أصالة فنها , لكن من الذي سيكتب عنك بعد رحيلك ياشيخ عطا ؟ هل هو قادر رشيد ؟ أو من هو على شاكلته من تجار المبادي والسياسة . انت الذي أفديت روحك للقضية والوطن في زمن عز به الرجال ومازالت ذاكرتك طرية في نفوس المناضلين الحقيقين . كانت واحدة من الحلول أثناء مناقشة وضعي الامني وضمن رؤيته النضالية في مواجهة أساليب النظام التي تزداد فتكا وأستبدادا أن أختفي مجددا داخل المدن العراقية وتحديدا بين بغداد وكركوك , ولكن كنت مذعورا وخائفا من مشاهد تلك الايام . 87 يوما في زنزانة مظلمة ومخيفة وماحصل لي فيها قد يفوق التصور . كنت أستند في الدفاع عن رؤيتي هو الالتحاق مجددا بكردستان لانهم ( رجال الامن ) سيتابعونني يوما بيوم . وهناك أمثلة عديدة لرفاق درب تمت تصفيتهم وبدون عناوين وتواريخ . كنت أدرك جيدا رغبة الشيخ عطا في البقاء . وبين هواجسي وما نلته في داخل زنانتي , يدفعني لاعادة النظر في الموقف بعيدا عن أعينهم ومخابراتهم . في صباح خريفي من يوم كان نديا و بعد ان حسم الموقف والجدال باتجاه العودة الى كردستان , توجهنا الى مزرعة الشيخ عطا الواقعة بين مدينة كفري وقرة تبة والتي يقطنها أكراد وعرب وتركمان وكانت المرة الاولى التي أخرج بها من بيت الشيخ بعد 17 يوما ورافقنا في السيارة رفيق التنظيم المدني كريم كومنست الذي تجاوز عمره الخمسين . قضينا نهارا مشمسا وممتعا في المزرعة من سباحة الى اللهو مع ( القردة ) التي كانت تصرخ احتجاجا على عزوبيتها ووحدتها في القفص الحديدي . أيضا قضيت وقتا ممتعا في نبش وتقليب مكتبة الوزير الشيوعي السابق مكرم الطالباني وحملت معي رزمة من كتب الادب الماركسي رغم عناء ومخاطر الطريق الذي يربط مدينة جلولاء بمدينة كفري . والمزرعة كانت مسرحا لعمليات قتالية بين الانصار الشيوعيين وقوات الحكومة المسمات بالفرسان ( الجحوش ) والتي كانت تعد قوة النظام الضاربة في كردستان . في نهاية عام 1987 تمكنت هذه الميليشيا من أغتيال الكادر الشيوعي عمر أحمد أسماعيل ( شيروان ) داخل المزرعة . في ذلك النهار الخريفي الجميل شعرت لأول مرة وانا أغفوا مطمئنا , متسائلا بمرارة هل فعلا نجوت منهم ؟ مستذكرا مرارة تلك الايام والليالي في زنازين الشعبة الخامسة . لقد حلمت بتلك الايام والساعات العصيبة وانا منهك في التفكير بشريط الاحداث و التي تعاد مرارا وتكرارا. ماذا سأعمل واين ساتجه في الايام المقبلة . في تلك اللحظات وانا مستلقيا تحت ظلال الاشجار في المزرعة تشمخ أمامي تلال وجبال كرميان وهي تحتضن رفاقي .أحسست بالامان والحرية والكرامة التي أنتهكت في زنازين النظام ويحدوني الأمل ايضا بقدوم الليل وسنستظل بظلامه باتجاه الجبال . وتحت جناحه توجهت انا ورفيقي كادر التنظيم المدني في محلية كركوك للحزب كريم كومنست باتجاه الجبال . كانت رحلة بقدر ماهي متعبة فهي مخيفة أيضا . سنقطع مسافات طويلة بأرض مكشوفة وتحت متناول يد السلطات بسبب وقوعها ضمن منطقة عبور الطريق العام الذي يربط مدينة جلولاء بقضاء كفري , وقليلا ما تخلو هذه المناطق من كمائن السلطة وعملالئها . هذا وقد حملني الشيخ عطا امانات علي تسليمها الى قيادة الحزب . في الشهرين الاخيرين من صيف 1986, حصلت بعض التطورات التي عصفت في البلد من خلال الهجمات الايرانية المتكررة والتي تستهدف احتلال اراضي العراق وكذلك تصاعدالنشاط العسكري للبشمركة وتحريرهم لبعض القصبات مثل مناطق نوجول وقرداغ . زج من الداخل وعن طريق قنوات التنظيم بمجموعة من الشباب تركوا مواقعهم العسكرية في جبهات القتال وأنضموا الى قوات الانصار وقمنا بكل مايملي علينا عملنا الحزبي بايصالهم بأمان الى الاراضي المحررة . لكن بعد فترة, وردت الينا بعض الاخبار التي تشير الى ان مواقع الانصار كانت محطات عبور لهم الى ايران وهذا يتنافى مع توجهاتنا الحزبية والسياسية وطالبني الشيخ عطا من ضمن اماناته التي حملني اياها , بتقديم ايضاح من قيادة التنظيم حول هذا الموضوع وبدوري بلغت التنظيم بذلك . لكن عرفت فيما بعد ومن خلال رفاق ذات صلة بهذا الموضوع ان الشيخ لم يتلق تفسيرا مما أضطر ان يوقف هذا الطريق . كان يكرر علي دائما معاني النضال . وانا بهذه التجربة المتواضعة مازلت أعتبره مدرسة نضالية في مقارعة النظام وأجهزته وان واحدة من هذه المهام النضالية بل في صلبها خدمة مصالح شعبنا وتطلعه الى الحرية والكرامة . وهو كذلك ضد كل من يحاول ان يفرغ الساحة العراقية من المناضلين الا من يتعذر وجوده وبقاءه في العراق . كان يؤمن بمراوغة أساليب النظام حتى اذا تطلب الامر التعاون معها بانتظار الفرصة المناسبة للاطاحة به . قضينا انا ورفيقي كريم كومنست ليلة كاملة من المشي المتعب تحت ضوء القمر حتى نتمكن من الوصول لاول قرية بعيدة عن أعين الرقيب . كانت الساعة الحادية عشر ظهرا بعد ان قطعنا 18 ساعة من الارهاق والحذر والتعب . كنت ولمرات عديدة لا اقوى على المشي مسافات طويلة فنضطر للاستراحة الطويلة و أحيانأ تبلغ أكثر من المسافة التي نقطعها مشيا وتحديدا بعد ان تجاوزنا المناطق الخطرة التي ممكن للعدو ان ينال منك . دخلنا أول قرية أمنة ضمن تحركات الانصار في حوالي الساعة الواحدة ظهرا محملين بمتاعب الوطن من حروب واعتقالات وأختفاء رفاق وأصدقاء حتى لم يسمح لك الوضع بالسؤال عنهم . بعد يومين من التجوال في القرى مع مفارز من الانصار , لم تكن هناك في جعبة الحزب أية اخبار عن ظروف أعتقالي والملابسات التي احاطته , مما أثار جملة من التساؤلات في داخلي ؟ أين ذهب سامي أذن ؟ الكادر في تنظيمات الحزب الاشتراكي ( حسك ) جناح رسول مامند والذي رافقني أيام طويلة في عدة زنازين في موقع أستخبارات كركوك وحملته الأمانه الى الحزب عندما بلغني بالافراج عنه بجهود خاله , أنور وتوات ,قائد فوج جحوش في منطقة بجدر . وأين كاكا حمه الخط المايل في تنظيمات محلية سليمانية وكركوك . لكن الذي دعاني للتسائل أكثر هي الظروف التي رافقت اعتقالي وانا على مسافة قريبة جدا من قواعد الانصار وتنظيمات الحزب وتحديدا على الطريق الذي يربط طوزخوماتو بكركوك و بالشارع الرئيسي المؤدي الى بغداد. يبدوا لي وبما لا يقبل الشك هو ضعف الامكانية في المتابعة وجمع المعلومات . بعد أيام ألتقيت بمسؤول التنظيم المدني للمنطقة الوسطى الرفيق أبو ناصر ولم أكن مترددا في قول الحقيقة , لانه كنت مدركا تماما طبيعة النظام وطريقته في التعامل مع خصومه السياسين . والى الأن يعاني منها أغلب جمهور الحزب بدواعي عديدة , أضافة الى ان القسم الاكبر يجهل أو يتجاهل طبيعة النظام وقساوته . كان أيضا ابو ناصر يجهل ماوقع لي . وضعته بالصورة الكاملة وكتبت رسالة بالتفصيل الممل الى قيادة الحزب , حاول البعض من أمثال علي ( الشرطي ) ان يتطفل وعلى من , على المناضلين , فلم يكن يصدق أن يجد له موطيء قدم في التنظيم المدني خاصة بعد ان أنتكسنا في ضربة 1986 وأصابنا العجز في الملاكات مما أضطررنا وبجهودي انا ان نجمع ماتبقى لدينا من أنصار في حدود مناطق عملنا . لكن هذا الاختيار لم يدع الى زج الرفاق في تنظيمات الداخل وانما كان جهدنا يتمثل في أستقبال الرفاق الذين يأتون من تنظيمات الداخل لان النزول الى الداخل ووضع الارجل على الشارع المكشوف والمراقب يحتاج الى رجال بمستوى المهام والمسؤليه . وحديثي مع أبو ناصر بتشخيص هؤلاء كان في موقعه الزماني والمكاني . هذا وقد طلبت من مسؤول التنظيم ولمدة عام وانا اتابع الموضوع معه, بسحب النصير عبد العظيم الكرادي(كريم عرب) الى التنظيم المدني والزج به الى الداخل لعدة أيام , للقيام بجولة أستطلاعية . لكنه واجه صعوبات في عمله وتحركه وسكنه ورجع سريعا مع علي كرادي أحد أقربائه وألتحق بفصائل الانصار . بعد هذه الجولات من اللقاءات , توجهت مع ابو ناصر الى مقر القاطع في قرداغ . كان مقرنا لايزال غير مكتمل فساهمت في بنائه . كنا نجلب مواد البناء من ناحية قرداغ التي حررت حديثا . لم نر شاخصا أو معلما فيها الا و تعرض للهدم والخراب . كان مقرنا مكشوفا ويقع تحت سفح من سفوح جبل قرداغ , هجهره الرفاق بأول غارة طيران بعد عملية بناء طالت شهور . كان المستشار السياسي للقاطع الرفيق محمد النهر ( ابو لينا ) والمسؤول العسكري الذي عين حديثا فهو الرفيق جوهر . خلال فترة وجودي في مقر القاطع في خريف 1987 شاركت بأهم المعارك التي فرضت علينا عندما أقدم الجيش على أسترجاع ناحية قرداغ . كنا بعدد قليل من الرفاق داخل الناحية . فبعد ان تقدم الجيش من عدة محاور , حوصرنا من خلال القصف المدفعي والدبابات داخل البنايات , لكن تحت ستار الليل تمكن البعض من الانسحاب الى القرى الخلفية . و مجموعة اخرى وانا احدهم فقد أتخذنا مواقع لنا في سفوح الجبال و بأسلحة خفيفة , حاولنا وقف زحف الدبابات والتي باتت تحت بصرنا , قاتلنا بما يمليه علينا نضالنا وأيماننا وكنا ان نكون في عداد المفقودين . أنسحبنا بعد ان دخل الجيش مع الدبابات الى الناحية . سلكنا طرق الوديان تحت ظلال الاشجار التي حمتنا من ضياء التنوير الموجه من فوهات مدافعهم . في الوقت الذي تصدينا الى تقدم المدرعات والجيش الى الناحية , كان كاكا جوهر المسؤول العسكري المعين من المكتب العسكري خلفا لابراهيم صوفي ( ابو تارا ) الذي ألتحق في المكتب العسكري , كان يراقب الموقف والمقاومة من أحدى القرى الخلفية والتي لم تنلها حتى رائحة البارود المنبعثة من ركام القصف المدفعي على الناحية . كانت معركة غير متكافئة . عدد قليل من الانصار الشيوعيين كانوا في مواجهة الزحف العسكري المعزز بالدبابات والذي كان يقتحم أبواب المدينة من ثلاثة محاور سبقها تمشيط مدفعي أستمر لمدة ثمانية ساعات وذلك على الرغم من أن الناحية كانت خالية تماما من المقاتلين والناس . القوة العسكرية العراقية كانت معززة بقوات من الجحوش . أستبيحت المدينة بعد أن أفرغناها من كل معالمها العسكرية والمدنية وأستثمرنا موادها في بناء مقراتنا التي هجرناها في أول هجوم علينا . في تلك الفترة الزمنية من خريف 1987 , حاولت السلطة الحد من نشاطنا السياسي والعسكري الذي حقق مكاسب على أرض الواقع كانعكاس منطقي للتوافق السياسي بين الاطراف على الساحة الكردستانية , بعد أحتراب وغدر بين تلك الاطراف . في ظل هذه الاوضاع لم يغب عن بالنا أشتداد الهجمات الايرانية في مناطق الجنوب والمحاولات في أحتلال مدن عراقية , مما أستدعى القيادة العراقية أن تخفف من حجم القوات في المناطق الشمالية وسحبها الى جبهات القتال في الجنوب . تعرضت مفارزنا الى هجوم كبير في قاطع دربندخان وكنت أحد المشاركين في صد أو هزيمة هذا الهجوم والذي كبدنا فيه العدو مجموعة من الجرحى واربعة جنود أسرى كانوا من مدينة الناصرية وأحدهم كان من مدينة العظيم ومسؤول بحزب البعث بمستوى عالي كما تبين فيما بعد . واللأسف الشديد أطلق سراحه بعد صفقة لم يعلن عن بنودها والاخبار التي توالت الينا فيما بعد تقول انه كان مسؤولا عن أحدى المفارز في الطريق التي تؤدي الى بغداد الحبيبة , فسد علينا هذا المنفذ الحيوي . ومن التجربة التي عشتها في كردستان وتحديدا في عمل التنظيم المدني فان العدد الكبير من الرفاق الذين توجهوا الى الداخل بقى مصيرهم مجهولا حتى وقتنا هذا وتحت رحمة التقديرات والشبهات . كنا بعيدين عن تشخيص هذه الاخطار والاخطاء التي أرتكبناها بحق تجربة الانصار وشهدائها . أما الجنود المساكين من أهالي الناصرية فقد حولناهم الى حمالين للصخر والحطب في ذلك الموقع الذي كان يوجد فيه السجن . كنت لمرات عديدة وحين أكون حارسا للسجن اخوض نقاشات بيني وبين ذلك البعثي المسؤول والمسجون . للأمانة وقول الحقيقة كان لايهاب أحدا ويتكلم بثقة وعزيمة وبدون خوف أو تردد . في أثناء تواجدي في مقر قاطع سليمانية وكركوك وفي الوقت الذي كنت فيه محسوبا على التنظيم المدني وحينما كان مسؤول التنظيم ابو ناصر موجودا في المقر أيضا , يوما بعد يوم المواقف أخذت تتباعد بيني وبين التنظيم وحلقة التفاهم والحوار حول رؤى عملنا بدأت تضيق . في ذلك الجو وفي ظل تلك المعمعه , وصل الى مقر القاطع محمد عرب ( ابو جاسم ) من قاطع بهدينان بعد أن تركناه هناك بسبب وضعه الصحي وكذلك صباح ( ابو النور ) من الداخل . حاولوا تهدئة الموقف من خلال الضغط علي بشتى الطرق لثنيي عن موقفي بقرار ترك مواقع الانصار . كنت أنذاك تحت وطأة مفترق طرق من بين خيارين احدهما العودة الى بغداد وكنت مطمئنا بتأمين وضعي لسنوات طويلة بسبب ما حصدته من سنوات عملي بين الناس وللثقة المتبادلة وأفاق عمل و سكن وتحرك وأختفاء , ومابين أن أختار الخروج الى ايران . حسمت الموقف باتجاه التوجه الى ايران وتركت الخيار الاول الذي كان هو رغبتي الاولى . و لتداعيات الموقف سأتعرض الى حملة تشهير كبيرة , لان تجارب الاخرين ترن في وجداني وضميري وهذا كان ديدن عملنا الحزبي الذي كان يضم مجموعة من الضعفاء والمتخاذلين , المكلفين بأداء المهام الصعبة فخير وسيلة للدفاع عن ضعفهم هو شن الهجوم على المناضلين , لكنها كانت مفضوحة وقصيرة وربما تمكنوا من التستر تحت رذيلة المسلكية الحزبية التي كانت طاغية على عملنا الحزبي .اما العمل الحزبي ( السري ) في الداخل فقد كان يحتاج الى الشفافية والمواكبة الميدانية لتطورات الوضع لكي تعكس صورته بشكل واقعي حتى لو كان صعبا . فالواقع كان غير الذي يتمنوه رفاقنا ويحلمون به في قمم الجبال وسفوحه . ما لمسته طيلة تواجدي في الجبال ومن خلال الرؤى والتقديرات وأفاق العمل المستقبلية , كان هناك فاصل تاريخي وسياسي بين أحلام رفاقنا الطوباوية في الجبال وبين مجريات العمل في الداخل , القابعون تحت كوابيس الخوف والموت . لم يعد أمامي الا ان أحسم موقفي برزم حقيبتي الصغيرة وبعض الوريقات ورواية عبد الرحمن منيف – مدن الملح بثلاثة أجزاء وفرشة أسنان .

أيران بحكم موقعنا في قاطع سليمانية , تعد المنفذ الوحيد لنا في توفير الادوية ومعالجة الجرحى والسفر من خلال أراضيها وترك مواقع النضال كذلك باتجاه أوردكاته ( المعسكرات التي تستقبل اللاجئين والهاربين من بطش السلطة والمناضلين الذين تركوا مواقعهم النضالية تمردا على العقلية المسؤولة المتخلفة على حد سواء ) . بعد ان سدت منافذ الحوار بيننا , صادفت أنطلاق مفرزة من رفاقنا من موقع القاطع الى وادي ( دولاكوكه ) , طلبت من مسؤول التنظيم ابو ناصر ان اخرج مع المفرزة ومن هناك تكون الاراضي الايرانية قريبة لي . أبو ناصر يعد كادرا متمرسا في العمل السري لكن لم يخضه في عهد صدام وكان من العشرة المبشرين بالجنة والاخرة , وهذا واحد من مخاضات المؤتمر الرابع للحزب . كنت أكن له كل الود والاحترام وما ازال لما يتمتع به من نكران ذات وعون للاخرين . حدة السجال بيننا حول طلب خروجي أكدت له نظرية من يزكي من , وقسمت له بروح الشهيد ابو ستار ( أخيه الذي أعدم قبل عام ) لو كان عندك شك حول وضعي وملابسات الاعتقال فسأبقى هنا حتى تنجلى الصورة ولاغيرها يثنيني عن الخروج وانا مدرك مسبقا بعد تركي المواقع سيتطاول الضعفاء والجبناء على المناضلين وهذا ديدنهم السلوكي والاخلاقي . حاول ابو ناصر بعد سلسلة لقاءات ان يثنيني عن قراري لكن موقفي كان محسوما ولم يبق مجال للحديث مع ابو ناصر الا ان يتمنى لي الجوع والألم والضياع في ايران . حيث قال لي ..... سوف تموت جوعا هناك , هذه أمنيته الاخيرة لي , ضحكت بألم وأسترجعت أيام الزنازين المخيفة والدامية التي لم ينالوا مني فيها . بهذه النهاية دونت حياة مناضل أعطى بدون مقابل طيلة عمله الحزبي , وقدم حياته قربانا للقضية وتعرض أهله بسببه الى أنتهاكات صارخة وضحى بأجمل أيام عمره ومستقبله . وبينما كانت المفرزة تستعد للتحرك , وصل من منطقة كرميان النصير الجديد , علي كرادي , الموجود حاليا في الدانمارك , تحدثنا عن خروجي وطلب مني مرافقتي وترك مواقع الانصار فاقترحت عليه ان يتحدث مع المسؤولين لكنه تردد وطلب مني ان أتبنى الموضوع , فتحدثت معهم وتحديدا مع الرفيق ابو لينا ( المسؤول السياسي للموقع ) فاجتمعوا به سريعا, فقط لتأخيره عن مواكبتي فلم تجد نفعا رغم طابعها السوقي والغير مبدئي . تحركت المفرزة في الشهر الاخير من عام 1987 والثلوج قد غطت قمم الجبال وغزارة الامطار تملأ الوديان وتفيض النهران . تحت هذا المشهد التراجيدي , ودعت أجمل الرفاق وسلمت سلاحي باللحظات الاخيرة وكنت متوجسا من سلوك البعض في المفرزة . بعد ليلة مضنية قضيناه مضطرين في مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني لغزارة الامطار ( كنا عشرين نصيرا ), تحركنا في اليوم التالي وبعد ثلاثة أيام من المشي المستمر بسبب تحركات أجهزة السلطة في المنطقة والذي فرض علينا المشي في الليل والاختفاء في النهار . كنت أنا وعلي لانحمل السلاح حتى للدفاع عن أنفسنا . الطريق تخلله جملة مجازفات ومخاطر كادت ان تعصف برجال المفرزة وتحديدا عبر الطريق الذي يربط كركوك بالسليمانية . وصلنا في يوم ممطر جدا الى قرية قزلر , كانت ملابسنا مبللة وثقيلة , تحملنا ساعات من المشي المتواصل تحت زخات المطر الكثيف . أستقبلونا أهالي القرية بترحاب في المسجد , وابدوا تعاطفا ملحوظا معنا لمنظرنا المأساوي . أوقدوا لنا النار داخل المسجد , التف جميعنا حول موقد المسجد وخلعنا ملابسنا لتجفيفها . في حلول الليل توزعنا على بيوت القرية لتناول العشاء . وهنا يجب أن أسجل طيبة أهالي القرى ومعنوياتهم العالية فقد تحملوا بسببنا قصف وتهجير وموت . بعد تناول العشاء عدنا جميعا الى المسجد وتناوبنا الحراسات . في الصباح الباكر وبعد وجبة الفطور في بيوت القرية , أبلغني مسؤول المفرزة أبو حسن بان هذه نهايتكم معنا , حسب تبليغ قيادة القاطع , وهذا قرار أستلمه قبل لحظات من تحرك المفرزة من منطقة قرداغ . هنا وقع حدسي من احتمال غدرهم بنا . حاولت بأسم الرفقة النضالية ان نرافقهم الى الحدود الايرانية , لكن بدون جدوى , حاولت أيضا مع النصير سردار أخو الشهيد ياسين وهو أحد أبطال معركة سويلميش , رغم تضامنه معي وتعاطفه , لكن يبدو ان القرار الصادر من قيادة القاطع كان شديدا وموجه ضدنا . ذكرت سردار ...... كيف يتم أستقبال الجحوش والمشبوهين في مقراتنا وتهريب العملاء ومنح زمالات للبعثين الاكراد, لكن الموقف كان واضح بالنسبة لي . والذي ألمني فقد كان قبل أيام حديث المسؤولين مع أفراد المفرزة بالاهتمام بي وتعهدوا في ذلك ايضا . تحركت المفرزة وتركونا في قرية قزلر . كنت ورفيقي علي كرادي لانمتلك أية بوصلة للتحرك فتوجهنا لا على التعيين وسط الثلوج والامطار وكنا محاطين بالربايا العسكرية العراقية ومقرات حرس خميني وبازار الثورة الايرانية .

شقينا طريقنا بتصميم لايلين وسط عواصف ثلجية وصفوها أهالي القرى بالأولى من نوعها ولولا الارادة في التحدي ورحمة الرب لاصبحنا في عداد الموتى . ويخفى هذا المشهد والذي كنت حريصا على تعريته خدمة لاجيال المستقبل , مدى الانحطاط الذي اوصلونا اليه . كنت أقطع مسافات من المشي على الثلوج وتحتها وحينما كنت ألتفت من حولي أجد رفيقي علي غائصا في الثلوج . أبدا في الصراخ والومه بشدة واحذره باننا سوف نموت أذا توقفت خاصة والليل بدأ يداهمتا . غطت الثلوج نصف أجسامنا والليل اخذ بالتسارع ليرخي سدوله . لاحت أمامنا أضواء قرى من بعيد , قصدناها بدون تردد , توجهنا صوبها غير مبالين بمعرفتها فنجونا من الموت بأعجوبة . في وصولنا الى القرى , بانت مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) , المكتب السياسي والعسكري والاعلامي , أنها قرى ( سركلوا – بركلوا ) . أستقبلونا بود على الرغم من انهم كانوا أعداء لنا بالامس لكنهم تعاطفوا معنا وتفهموا ماجرى لنا , ولم نكن اخر من يتعرض الى هكذا ضغوط . بهذا الشعور عبروا لنا عن مؤاساتهم لنا . نحن بدورنا روينا لهم تفاصيل الغدر وماجرى لنا ونحن رفاقهم . ذكرتني هذه الاساليب الرخيصة بأساليب النظام وأن اختلفت في أدوات وطرق التنفيذ . النظام يطلق سراحك ربما حتى بعفو رئاسي لكنه يغتالك بطرق عديدة , أما قادتنا ..... دعاة البديل الديمقراطي والتي ينوحون عليها ليلا ونهارا فهم يتركونك تموت في الثلوج أو تسلم الى أعداء العراق باعتبارك جاسوسا للنظام , وأن رحموك فستقع ضحية أشتباه من الطرف الأخر . بعد الترحيب بنا , أعتبرونا جزءا منهم وتقاسمنا معهم تفاصيل حياتهم اليومية بحلوها ومرها . خلال تواجدنا في مقراتهم , ألتحقت مفرزة من ايران تضم شيوعيين وماركسين كانوا قد تركوا العمل بين صفوفنا وذلك مرورا بمقرات الاتحاد الوطني أو بالتنسيق معهم باتجاه مناطق كرميان , كانوا من تنظيمات اتحاد الديمقراطين بقيادة ابو مجيد . أثناء لقائي بهم تعرفت على قسم منهم أذ كانوا أنصارا ومقاتلين معنا سابقا . كان أبو مجيد يتوعد النظام وانه ومفرزته سيصلون العاصمة بسلاحهم الخفيف وكان مرتديا العقال العربي وراكبا البغل . حاولت ان أعطيه لوحة واقعية عن الوضع السياسي في العراق وان أحلامه لاتصل الى مداخل مدينة ( كفري ) لكن بدون جدوى وهذه واحدة من معضلات العمل السياسي في العراق . المسؤول يبقى مسؤول فهو الفاهم والخارق والمنجم . لكن ماجرى سبق حتى توقعاتي فبعد شهور قليلة عادوا الى طهران متناثرين وقسما منهم ماتوا ودفنوا هناك . المجموعة الثانية التي التقيت بها في مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني جاءت من بغداد , محملين بمشاريع أنقلابية . كانوا ثلاثة شباب أحدهم ابن مدينتي بعقوبة , الشاعر احمد المانعي ,البعثي والعبثي , بهذه الصفات تعرفت عليه في المكتبة المركزية في مدينة بعقوبة من خلال الاماسي والندوات لسنوات مضت مع صديقي الشاعر أديب أبو نوار . روى لي عن وجود تنظيم سري في العراق ويعد العدة للاطاحة بالنظام وجاء الى هنا لتلقي المساعدات والتنسيق مع قيادة الاتحاد الوطني . بعد أيام عاد الى الداخل مع واحد من رفاقه محملا بما جاء من أجله . أما رفيقهم الثالث كان الشاعر هاشم معتوق من مدينة كربلاء , ذهب الى أيران لشق طريقه الى بلدان اللجوء . في ضوء هذه الاحداث توثقت علاقتنا بشكل جيد بشخصيتين مهمتين في تنظيمات ( ئالاي شورش ) تنظيم يساري تبنى الفكر الماركسي وولد من رحم تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني . كان من قادته ملا بختيار الذي قاد التنظيم لكنه لم يواصل الى النهاية وعاد مجددا الى تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني. هنا برزت أمامي تداعيات أخرى في الحنكة والبراعة الا وهو ظهور حزب قومي برجوازي تمكن بمرونته وبراعته من لملمة مشاكله مع رفاقه وترفع على سياسة نشر الغسيل لصالح مستقبل شعبه وبلده والعديد من كوادره جمدوا من العمل الحزبي , كان من ضمنهم هاتان الشخصيتان وهما أبو بكر ومامستا شورش . ربطتنا فيما بعد معهم علاقات ود ورفقة , نصحونا بالالتحاق مع رفاقنا – الشيوعيين العراقين – بقيادة الرفيق سامي حركات , وفعلا تم ذلك. كان مقرهم لايبعد كثيرا عن مقرات ( سركلوا – بركلوا ) . عانقناهم بعمق جروح الماضي وحسرة الوطن وأستذكار التجربة ومرارة التأمر ونذالة التشهير والأم التعذيب وقتل الشهيد منتصر . قاسمناهم معاناة حياتهم المرة وجروحهم التي لم تندمل و مازالت تنزف بحبهم للعراق من خلال صدق أنتمائهم ومشاريعهم السياسية . أود هنا ... وللأمانة التاريخية و من خلال معايشتي لهؤلاء المناضلين لمدة شهور أذ تعرضنا فيها للموت سوية وعانينا من جو الشتاء القارص في غرف رطبة وموحشة , اود القول: أنهم ..... شيوعيون عراقيون , كانوا أهلا لهذا الاسم والانتماء المقدسين , حملوا بريقه عاليا من خلال مواقفهم ونضالاتهم . هم عبارة عن مجموعة من الشباب , تمردوا على الواقع السائد أنذاك وشكلوا تنظيما يهدف الى تصحيح الاساليب والممارسات في مسيرة حركة الانصار الشيوعيين . تكون هذا التنظيم من قواعد أنصار الحزب الشيوعي في كردستان . وقد تبلور نشاطهم – في قاطع أربيل – أبان النكسة والهزيمة التي عصفت في حركة الانصار والحزب في أحداث بشتاشان 1 أيار 1983 . أتجاههم كان يساريا, مستفيدين من تجارب حركة الانصار العالمية . كانت مطالبهم جدية وثورية في مسارات ( الكفاح المسلح ) وتنظيمات الداخل . بشتاشان ... صفحة من صفحات الغدر والخيانه ضد رفاقنا وتنظيماتنا من قبل مقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) بقيادة نوشيروان أحد قيادي أوك . هجوم أستهدف مقراتنا ووجودنا , اعتبر عربونا لتقديمه الى السلطات العراقية في المفاوضات التي كانت جارية أنذاك والتي سرعان ما أنفرطت , وراح ضحية تلك الحملة كوكبة لامعة من الشيوعين العراقين وأخرت مسيرة الثورة وأفاق عملها سنوات لاتحصى . هذه هي عقلية التفرد والاستحواذ على العمل السياسي والعسكري والدكتانورية في الساحة الكردستانية . الهجوم الغادر الذي فتك بمقراتنا ووجودنا , ترك تداعياته القوية على صفوفنا وحالة التذمر التي سادت صفوف الانصار نتيجة الاذى الذي اصاب رفاقهم والعديد ترك مواقع الانصار احتجاجا على حجم الكارثة والهزيمة واخرون شكلوا تكتلات جديدة بالضد من العقليات السائدة في قيادات الحزب وعلى المستوين السياسي والعسكري والتي كان من ابرزها جماعة سامي حركات في قاطع أربيل , عرفوا فيما بعد ( شيوعيون عراقيون ). في خضم تلك الاوضاع الصعبة , لم تمهلهم قيادة قاطع أربيل للحزب بل أمتدت الى قيادة الحزب في أجبارهم بحل تشكيلهم الجديد ووضعهم تحت أمرة الحزب وذلك باعادة ترتيب وضعهم وتوزيعهم على مواقع الانصار والصاقهم بتهم تتعلق بتاريخهم السياسي والنضالي . كل المفاوضات فشلت معهم من خلال الرفيق ابو عامل , بل زادت من توتر الوضع باعتقالهم وسوقهم الى السجون في منطقة بارزان , والسجن المذكور عبارة عن ( مراحيض ) قديمة مهجورة في المنطقة التابعة لقرى بارزان . وفي حينها اعتبر الرفيق سامي حركات كما عرفت منه حينها , ان هذه الاعتقالات بمثابة أنذار بساعة الصفر . كان مسؤول القاطع ابو حكمت ( يوسف حنا ) في ايران والمسؤولية الحزبية موكلة الى الرفيق ابو سيروان( الحاج سليمان ) والمسؤول العسكري ملازم خضر والاداري ابو ربيع . كان قرار قيادة القاطع مجحفا بحق الرفاق , أضافة الى ان الواقعية والشفافية لم تؤخذ بنظر الاعتبار في معالجة قضايا من هذا النوع وخاصة لطبيعة الظروف التي نعيشها بل ان تسلكات أصحاب القرار دفعت الامور الى طريق مسدود . أدى هذا الأمر الى أعتقال الرفيق سامي حركات ( ستار غانم ) والشهيد منتصر ( مشتاق جابر عبدالله ) ورفاقهم الابطال مهند وأمين وأخرين , وقد تعرضوا الى التنكيل والتعذيب ربما فاق ماتعرض له رفاقنا في أقبية المخابرات والامن العراقية . هؤلاء الرفاق دفعوا حياتهم ثمنا للخلاف في وجهات النظر حول القضايا الانية في أساليب حركة الانصار والتحالفات . قرار أعتقال هؤلاء الرفاق من قبل قيادة أربيل , كان مباركا من بعض اعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية , فعلى الفور تم تشكيل لجنة تحقيقية بكامل الصلاحيات مع منظمة ( الشيوعين العراقين ) وأصدقائهم . كان مسؤول اللجنة التحقيقية مهند البراك ( دكتور صادق ) والاعضاء مام كاويس , أزهر الكربلائي ( حميد ) ووليد حميد شلتاغ . أما الذين أنيطت بهم مسؤولية التعذيب وأنتزاع الاعترافات بقوة فهم ( سياميد أراربيلي ) و أبو أحلام , الملقب بذي الفك المفترس . أشاعوا الرعب والفزع من خلال التصرفات البوليسية التي لاتليق بنا ونحن أصحاب مشروع ديمقراطي وحضاري . لم يكن ذلك داخل صفوف حركة الانصار في قاطع أربيل فحسب بل أمتدت الى قواطع أخرى لرفاق لهم علاقات رفقة وود مع سامي ورفاقه . حملة هستيرية شنت ضد تنظيمات حركة الانصار وطالت كل من له علاقة بسامي ورفاقه.وقد قدموا معطيات كاذبة وملفقه تدعي ان هذه المجموعة ومن خلال مجريات التحقيق كانوا على صلة بأجهزة النظام, وهذه كانت أرخص وأسخف تهمة نوجهها الى رفاق الامس والذين أختلفوا أو أختلفنا معهم , تحت يافطة بحثا عن متعاونين مع اجهزة السلطة . كان هدفهم الحقيقي لفت الانظار عما تلقيناه من هزيمه سياسية وعسكرية واخلاقية في مجزرة بشتاشان . فرضوا حصارا على العديد من الرفاق , حتى الكلام والاتصال كان ممنوعا بينهم . فتحوا ملفات التحقيق مع كل من يمت بصلة الى سامي ورفاقه . وسبقت هذه الاجراءات القمعية البوليسية أعتقال أحد أصدقاء الرفيق سامي حركات مذ كان معه أيام الدراسة الجامعيه والمعروف بأبي ( أحلام ) , وقد خبرني سامي أنه تم أعدامه رميا بالرصاص . كانت تتم عمليات التعذيب مع سامي ورفاقه الشيوعيين في الكهوف الجبلية البعيدة عن مواقع الانصار في مناطق ( بارزان ) . وأمتدت اياما وليالي في تعذيبهم . وأكد لي رفيقي سامي بمساهمة اللجنة التحقيقية في التعذيب وأذلالنا . أمعنوا باستخدام أدوات تعذيب مختلفة وقاسية منها ( الكبيلات ) التي تتكون من أسلاك نحاسية , كم هي موجعة ؟ فقد عانيت من أوجاعها خلال فترة أعتقالي في بناية الشعبة الخامسة التابعة لمديرية الاستخبارات العسكرية في مدينة الكاظمية. يوم 3 أذار 1984 استشهد الرفيق منتصر ( مشتاق جابر عبدالله ) تحت التعذيب.

يقول سامي كان تعذيبا وحشيا , كنا مشاريع موت , حاولوا بكل الطرق الغير شريفه والغير أنسانية أنتزاع أعترافات منا تحت التهديد بالموت وذلك من أجل الصاق تهمة بأننا على صلة مع أجهزة النظام وموقفنا الرافض لسياساتهم نابع عن توجيه من تلك الاجهزة . لكن صمودنا وتحدينا الشيوعي كان الأقوى في مواجهة ممارساتهم الوحشية وافشال تمرير نواياهم الهادفة الى تشويه مواقفنا وتاريخنا الوطني . بعد استشهاد الرفيق منتصر أختفى المجرم ( سياميند ) . كان الرفيق سامي يتتبع اخباره ويعتقد انه ربما منح زمالة دراسية تكريما لبراعته في تعذيب الشيوعيين , أو قد يكون قد سلم نفسه الى سلطات البعث حيث لم يعد له أثر يذكر . في اليوم الثاني من جريمة قتل الرفيق منتصر أشيع الرعب بين فصائل الانصار والتساؤلات الحذرة والمشكوكة رغم كل الاجراءات والمحاولات البوليسية في التستر على الجريمة . مما دفع بعض الشيوعيين المخلصين الى الاقدام على شن حملة من الاعتراضات ضد هذه الاجراءات الغير مبدأيه وغير الاخلاقيه تمثلت في كتابة رسائل أستنكار وتوضيح الى سكرتير الحزب عزيز محمد ومحاسبة مسببي الجريمة , وفورا تم أطلاق سراح الرفيق سامي ورفاقه وتم أخراجهم من السجن وأبعادهم الى الاراضي الايرانية مع توصية كما أكدها لي الشهيد سامي ..... أنهم عملاء المخابرات العراقية .... وأختفت جثة الشهيد منتصر – مضرجة بالدماء الزكية ولاعنة بتاريخ الدم والاغتيلات وقتل رفاق الامس . أنهم شباب من الشيوعين العراقيين أدركوا مبكرا أساليب الكفاح المسلح على الطريقة ( الغيفارية ) وفي معرض تقييم عمل الانصار , العسكري والسياسي فلابد من الاشارة الى أن أغلب عناصرها كانوا من الرفاق العرب أذ جاءوا من الجنوب والوسط حاملين معهم حلم القضاء على الدكتاتورية بعد أن قضوا ردحا من الزمن في أقبيتها وزنازينها الدامية. في خضم تلك الاحداث وتداعياتها أستعانوا بتنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني والسيد جلال طلباني شخصيا لتبصيره بتداعيات الحيف الذي لحق بهم حيث قدم لهم مساعدات معنوية وماليه كبيرة جدا . جرى تعاون بين الشهيد سامي ورفاقه مع الرفيق بهاء الدين نوري ( ابو سلام ) بعد ان هرب من الاعتقال كما يرويه لي بعد وصوله الى مناطق قرداغ التي كانت تحت سيطرة تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني . لكن هذا التعاون لم يدم طويلا بسبب الخلاف في الرؤى . كان الشهيد سامي ضد التدخلات أو التعاون مع الجيش الايراني في أجتياح الاراضي العراقية لاسقاط النظام العراقي. كانت المراهنة والتعويل على قوى شعبنا الوطنية. ثم أصدر( الشيوعيون العراقيون ) بيانا أوضحوا فيه موقفهم وأنهاء تعاونهم مع حزب القاعدة . أصدر الشيوعيون العراقيون ... بيانا شديد اللهجة أنهوا فيه تعاونهم وتنسيقهم مع حزب القاعدة بقيادة بهاء الدين نوري واعتبروه خطوة غير مدروسة ومستعجلة . وكانت في مقدمة بيانهم الشديد اللهجه هو أعتراضهم على ما ذكروه به من تعاون حزب القاعدة مع أطراف أيرانية وتعليق الامال على أيران بالاطاحة بالنظام العراقي وذلك عن طريق أجتياح الاراضي العراقية وأحتلالها وهذا ما يتعارض وأهداف الشيوعيون العراقيون في النضال الوطني . وقد أصدر الشيوعيون العراقيون بيانهم بقيادة الرفيق سامي حركات في مناطق سركلوا وبركلوا في غرفة رطبة ومظلمة على سفوح تلك الجبال من تلك المناطق الملتهبة وبأدوات مطبعية قديمة ومتخلفة. ثلاثة كراريس, أولها ... عن أزمة الحزب والموقف الوطني وعن تجربة الكفاح المسلح , جيفارا نموذجا . أضافة الى تلك البيانات التي تدين سياسة الحزب الرسمية وتحالفاته وحول تنظيماته الداخلية وأتساع رقعة الاندساس بين صفوفه . عشنا سوية في تلك الفتره من عام 1988 -1989 وفي تلك المواقع من مناطق ( سركلوا بركلوا ) أنا وسامي وجابر و ابو عليوي و لطيف و نبيل ومحمد شيروان و يوسف وفي ظروف أنذرتنا بتهديد حياتنا مرات عديدة , لكن قانون الطبيعة كان معنا . في أنفال عام 1988 تعرضنا سوية مع قوات الاتحاد الوطني الكردستاني الى الهجمات الكيمياوية من قبل طائرات ومدافع النظام . وقد حالفنا الحظ في الانسحاب في الوقت المناسب بعد أحتلال كل القمم الجبلية المطلة على المقرات وتحركاتنا , كنا هدفا سهلا لنيران مدافعهم . حتى في أنسحابنا من تلك الوديان المؤدية الى الاراضي الايرانية , كان هدفنا ونحن في متناول ضرباتهم الانسحاب مع كل القوى الحليفة ولم يبق أمامنا من فرصة سوى اللحاق بركابهم المهزومة في وسط ركامات من الدخان المنبعث من قذائف الكيمياوي . وتمكنت في اللحظات الاخيرة مع الرفيق سامي بدفن عدد من الاسلحة الخفيفة والوثائق وادوات طبع وأستنساخ في تلال وسفوح جبال سركلوا وبركلوا . وفي أعتقادي فأن عنايتنا الشديدة في دفنها ولفها بأكياس نايلون وحفظها , كان بامل العودة اليها ثانية في يوم ما وليس في بالنا بانها ربما تكون قد تلفت بفعل عامل الزمن.. في معمعة تلك الانسحابات تم اكتشاف جريمة بشعة بحق رفاق فكر وجدوا في غرفة صغيرة تحت أشجار البلوط في سفح سركلوا وبركلوا , كانوا يتخذونها مقرا لهم وبحماية تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني أنهم بقايا تنظيمات ( شيوعيون ثوريون ) جماعة سليم الفخري ونشرتهم ( الاساس ) . في تلك الصباحات عثر بيشمركة الاتحاد الوطني الكردستاني على سالم وزهير مقتولين في غرفتهم الصغيرة والتي كانت مقرا لهم , وهما ينحدران من جنوب العراق . قتلا في ظروف غامضة وخلال ملابسات الانسحاب حتى لم يعيننا لا الظرف ولا الوقت في التحري عن أسباب ودوافع الجريمة , واسبابها لازالت غامضة رغم مرور هذه الحفنة من السنين . أنسحبنا وسط الاف البشر المنهزمين والفارين من رائحة الكيمياوي , والتاركين أراضيهم وقراهم لتصبح مقرات للجيش العراقي بعد أجتياحها بقواته . كانت رائحة وسموم الاسلحة الكيمياوية تطوقنا من كل المنافذ وكنا في سباق مع رياحها, ورائحة الموت والجثث تملأ الوديان وتزكم انوفنا. استغرقت عملية الانسحاب ثلاثة أيام بلياليها, قضيناها في الوديان والسهول والكهوف , لرداءة الطقس وكثافة الثلوج على قمم الجبال . في طريقنا شاهدنا الاف الاغنام والابقار والبغال وحتى البشر جثثا ملقاة على الطرق وبين الوديان , وهناك من يستغيث بالمساعدة من مفعول الاسلحة الكيمياوية . ثلاثة أيام بلياليها قضيناها في الوديان والجبال ووسط الثلوج وتحت الامطار ورائحة سموم الاسلحة . لا نتدفأ الا بأرادتنا ولايحمينا غير تشبثنا بالنضال والتواصل على الحياة , بعد معاناة قاسية كادت ان تؤدي بحياتنا . وصلنا الى مدينة سردشت الايرانية وسكنا أحد فنادقها الفخمة وسط المدينة مع المئات من بشمركة ومقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني وكنا برعايتهم ماديا وأمنيا . بعد أيام معدودة عدنا انا ويوسف الى مناطق كردستان وتحديدا الى مناطق ( نوزنك )ومرة أخرى في ضيافة الاتحاد الوطني الكردستاني . كنا نشاركهم في الحراسات والخفارات ونقاسمهم الهموم والمعاناة وقدموا لنا خدمات تليق بتاريخنا النضالي . وعندما أقدمنا على التوجه الى أيران قدموا لنا خدمات جليله , من المال الى مستمسكات السفر التي تكفل وصولنا الى طهران بأمان . في طهران لم تساعدنا هذه المستمسكات بالسفر الى خارج أيران مما أضطررنا الى العودة ثانية الى مناطق كردستان والى مدينة ( سقز ) ومن ثم توجهنا الى مدينة الرضائية بدون أوراق رسمية مما قد يعرضنا الى الاعتقال من قبل المخابرات الايرانية. سكنا في فندق الرسول وسط مدينة الرضائية بدون أثباتات وقدمت نفسي للاستعلامات على أني أحد مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني ( حدك ) . في اليوم التالي وفي مغامرة جديدة أخرى قد تضعنا سنوات في السجون الايرانية حيث توجهنا في الصباح الباكر الى مدينة زيوة الحدودية والتي تقع فيها مقرات ( حدك ) الحزب الديمقراطي الكردستاني وفي الطريق كانت هناك نقطتا سيطرة تابعه للسلطات الايرانية , وهنا الصدفة تدخلت في أنقاذنا , حيث لم نتعرض لأي سؤال حول هوياتنا وأوراقنا . بعد ساعات أصبحنا في أمان وفي المقرات القيادية للحزب الديمقراطي الكردستاني . كان هناك أيضا تعاطف كبير وملحوظ من قيادتهم بعدما شرحت لهم وضعنا وقلنا لهم : نحن شيوعيون وقد تخلا عنا رفاقنا عندما أختلفنا معهم . وعندما تقدمنا بطلب لهم لتسليمنا الى القوات الايرانية, رافقنا أحد قيادي ( حدك ) بسيارة الى معسكر الجيش الايراني وقدمنا نفسنا لهم باعتبارنا جنود هاربين من جبهات القتال وكنا بضيافتهم لمدة أشهر طويلة . بهذا السيناريو قدموا لنا خدمات كبيرة حيث سهلوا كل أمورنا , من سهولة التحقيق الى السرعة في الخروج من ( الاوردكا ) مكان حجز للهاربين من بطش النظام العراقي والفارين من ويلات الحرب ومأسيها . في ذلك المكان الواقع على اطراف مدينة خوي , نسبة الى تلك المدينة سمي معتقل ( خوي ) وفيه المئات من العراقين اللاجئين الذين يزدادون يوميا وبشتى أطيافهم ومشاربهم, أيضا هناك رفاق لنا قاسمونا النضال في جبال كردستان وجدناهم في الاوردكا بحجة جنود هاربين ومستاءين أيضا من الوضع في كردستان , لكنهم غيروا مواقفهم وسال لعابهم بسبب مصلحة أو زمالة وأصبحوا عدائيين وانذال مع رفاقهم . هناك من يبحث عن منفذ خارج أيران وهناك من يجد ضالته بين صفوف الاحزاب الاسلامية التي تنشط على الساحة الايرانية . تتعرض في هذا المكان بعد وصولك الى التحقيق من قبل الاطلاعات الايرانية( المخابرات ) ويحضر معهم أحد العاملين في تلك الاحزاب , ينصت الى ردودك للاسئلة التي توجه لك ومن خلالها يتم التحرك عليك للانضمام الى تلك الاحزاب . أتذكر أحد الاسئلة, قالوا لي .... هل انت تصلي ؟ كان ردي بالنفي فردوا علي , كيف أنت شيعي ولا تصلي . هذه المفردة طرقت سمعي للمرة الاولى في حياتي . في ذلك التجمع المصغر للعراقين تحدث أشياء كثيرة أنعكاسا للواقع الذي يعيشه الناس في عراقنا . يمر في بالي ذلك الشاب البصراوي (ابو أيات ) الذي يحمل مؤهلات فكرية قد تفوق عمره بسنوات كثيرة , منذ سنوات وهو محجوز هنا لاتهامه بالعمل لصالح المخابرات العراقية , لكن ألتقيته فيما بعد في طهران فاتضح لي بانه صار مسؤولا في واحده من الاحزاب الاسلامية. في أوردكا مدينة خوي كانت الاجراءات سريعة ومنحتني فرصة الخروج من ذلك المجمع والسفر الى طهران , قاطعا مسافة 12 ساعة . في طهران وبعد شهور وصل سامي وجمعتنا لقاءات طويلة في بيت ابو محمد الصيدلاني بحضور الرفاق جمال عيدي ورزاق ابو وهيب . لم تنقطع أتصالاتي مع سامي حركات ( ستار غانم ) الا حين عودته الاخيرة الى بغداد عشية أحداث 1991 ليواصل النضال هناك ضد سياسة النظام . سبقتها عودات سريعة , كان يكتب لي حولها وأنا في السويد, تلمس فيها بعض أستنتاجاتي عن الحياة السياسية في داخل العراق واستعداد الناس للعمل ومزاج الشارع العام . أعتقل سامي في بغداد ويقال في مدينته (الثورة ) التي يسكنها بعد ان شخص من رجال الامن ومات واقفا في الدفاع عن الشيوعية وعن مبادئه والتي دافع عنها ايضا في معتقل بارزان وان أختلف الزمان والمكان فهو متهما بالشيوعية والدفاع عن بريقها . مات تحت التعذيب وسيخلده التاريخ ان كان منصفا . في الايام الاخيرة من وجودي في منطقة قرداغ وصل من مناطق كرميان الشهيد عمر احمد اسماعيل ( شيروان ) المحسوب على التنظيم المدني التابع لمحلية كركوك ,كان رفيقا سابقا لي في بغداد وعملنا في منظمة واحدة أيام الدراسة في جامعة بغداد , حاول بشتى الطرق والمقترحات ان يثنيني عن قراري بترك مواقع النضال والتوجه الى ايران باعتباره المنفذ الوحيد للاتصال بالعالم الخارجي . في ضوء هذه التطورات تم أستدعاء قادر رشيد ( ابو شوان ) الى مقر القيادة في مناطق لولان وذلك على ضوء رسالتي المرسلة لهم . وعرفت فيما بعد من رفاق ألتقيتهم في العاصمة الايرانية ( طهران ) أنه حددت مسؤولياته الحزبية في قيادة محلية سليمانية وكركوك . كنت أدرك جيدا وبمعرفة تامة , اننا حركة سياسية مناضلة ومعارضة وهي معرضة للاختراق والاندساس لاسيما في مواجهة نظام شرس , لكن ينبغي ان تبقى نقية ولاتخترق بهذا الحجم لو لم تكن هناك عوامل دعت الى هذا الخطر . أساليب تنظيمنا الركيكة وحتى الضعف في معالجتها على ضوء معطيات الواقع السياسي. ومسارات عملنا حددتها الولاءات الاقليمية والمناطقية وأخذت الارتياحات الحزبية مجالها الواسع في خرق تعاليم التنظيم وكذلك الصراعات المناصبية التي حددت بدورها في السنوات الاخيرة مبادئنا التنظمية في معيار تقييم الرفاق ونضالاتهم . وكانت المنعطفات التي مررنا بها في عملنا السياسي هي التي تكفلت بكشف هؤلاء , مرورا باحداث الانفال 1988 وأحداث 1991. وللأسف الشديد مازالت هناك طوابير من هذه التحف داخل صفوف الحزب, يهتفون به ويشتمون الاخرين ويكتبون التقارير الامنية عن معارضي سياسة الحزب , وهناك من يوفر لهم الحضن الدافيء لتسويق بضاعتهم الفاسدة لجني الارباح الكبيرة لكنها رخيصة . ومازلنا في أنتظار أنعطافات جديدة تعصف ببلدنا وشعبنا وحزبنا لتظهر فضائح جديدة .

ذات صيف حار جدا من عام 1986 أي قبل عشرة سنوات من أنجاز مشروعي هذا

كنت عائدا للتو من بغداد الحبيبة, أحلى مدن الله , كان الرفيق ابو زكي ( حميد بخش ) يحرر نشرة مناضل الحزب داخل فصلينا , وفي كل عدد مواعظ ووصايا جديدة حول الانضباط الحزبي والالتزام , كان الاجدر به ان يكون هو المثال الذي يقتدى به وليس في الادعاء والتنظير الساذج . وسأسوق هنا واقعة من تلك الامثلة السيئة . كان لدينا مقر صيفي في وادي زيوه بين الاشجار وحول مجرى ماء ينبع من الاراضي التركية ومن جبالها يصب في وديان وسهول العراق , في تموز عام 1986 تحركت مفرزة من فصيلنا باتجاه مناطق لولان لحضور أجتماع اللجنه المركزية وكان ضمن المفرزة أراخاجدور( ابو طارق ) عمر الشيخ ( ابو فاروق) ( حميد مجيد موسى ( ابو داود ) . وفي ظهيرة أحد الايام في ذلك المقر الصيفي جاءني حميد بخش ( ابو زكي ) في شكوتي الصغير الذي يقاسمني به رفيقي عمر (ابو جاسم) وبدون مقدمات وبعد مجادلة سفسطائية أعتبر واحدة من المهام النضالية الانية , هو مراقبة عدد من رفاق الفرات الاوسط , أي الكوادر الفراتية كما يحلو له تسميتهم , التي كانت منذ سنوات تعمل في الداخل وفي أصعب الظروف, وكانوا مندوبين للمؤتمر الرابع الذي عقد في لولان من 11-15 – نوفمبر 1985 , ففي الوقت الذي كانوا يحملون عبء ومخاطر النضال على كفوف أيديهم , بالتأكيد كان الرفيق ابو زكي يدرس ويكتب في بلغاريا . تقدم بحجج ثأرية مثلأ ان هؤلاء الرفاق مشبوهين ويخشى من ان يهربوا الى بغداد , لانهم من جماعة ابو خولة وابو تانيا , اللذين كانا تربطهم علاقات بالسلطة حسب أدعائه . قلت له ... أذن لماذا لم يتخذ قرار بشأنهم , أذا كانوا مشبوهين الى هذه الدرجة من القناعة التي تتحدث بها عنهم وهم داخل مقراتنا ويشاركوننا في الحراسات وهموم العمل . كان رده لي أن الحزب في طور أستكمال المعلومات ,عن نادية , ملازم أزاد , ابو فرات, ابو داود سماوه , ابو سعيد ( ديوانية ) و في أنتظار بريد الحزب من الداخل , حتى يتم أعتقالهم . هذه صورة صغيرة عن كيف كان يتم التشهير بالمناضلين , هل سمعت أن هناك مناضلا يشهر بمناضل ؟ بهذه العقلية من الحقد والتخلف كنا لاندري كيف نبني سياساتنا فهل نعمل على أنهاء أم أسقاط الدكتاتورية ؟ وهل ان النظام فاشي ؟ بعد أن أقمنا الدنيا ولم نقعدها في ان العراق قد دخل مرحلة التطور اللارأسمالي والان يحبو صوب الاشتراكية.بهذه الدوافع السلبية والثأرية تم الحاق الحيف والاذى بالمناضلين وبهذا المستوى وعلى هذا المستوى تم التشهير بالناس لاختلاف في الرأي أو المزاج .

في ديمومة هذه الاحداث التي مررت بها ومئات من المناضلين مثلي , عصرت قلبي فعلا مسرحية (( الصمت والبحر )) للكاتب والاديب السياسي – أميل حبيبي – ... عن النقاش الحاد مابين ( باقية ) وولدها ( ولاء ) حين حوصر وحيدا في خرائب قرية الطنطورة على شاطيء البحر . وقد أحاط به عسكر ( أسرائيل ) ولم يبق أمامه سوى خيارين أما الاستسلام أو ان يقتل بالرصاص , حاولت أمه ( باقية ) أقناعه بالاستسلام أنقاذا لحياته وحياة والديه . ويقول حبيبي ...... كنت طوال أيام عمري المنقضية قلقا على مصير الاجيال الشابة التي ربيناها في بلادنا والعالم العربي . وخصوصا محاولة يوسف ستالين أنتزاع أنسانيتنا , ضعفنا الانساني وذلك في قوله المذهل أن الشيوعيين ( جبلوا من طينة خاصة ) أي من غير طينة البشر , فمن كانت أنسانيته , ضعفه الانساني , تنقلب عليه فكنا نتهمه بتهمة الانتهازية والانهزامية كما نعتبره أحيانا مارقا وعدوا .  

السويد – مالمو

1996

  

ملاحق

 

 

(1)

أيـــّـامُ الـــرصـيف ... في مذكــرات ِ الشيــوعي لـطـيف ْ

 

إنني أرى أن عالـــــم القمـــع، المنظم منه

والعشوائــــــي،الذي يعيشه إنسان هذا العصـر

هو عالم لا يصلـح للإنسان ولا لنمو إنسانيته

بـل هو عالم يعمل على " حيونة " الإنسان،

أي تحويله إلـــى حــــــــــــــــــــــــــيوان ).

 

 ممدوح عدوان

 

تابعتُ خلال هذا الإسبوع، كتابات ٍ جديدة ٍعن الحزب الشيوعي العراقي، إبتدأتُ بمذكرات النصير الشيوعي لطيف ( محمد السعدي )، بحلقاتها العشرة التي نشرها بعنوان، نزيل في الشعبة الخامسة .وعددا ً من المقالات التي كتبها قياديون سابقون من بينهم السيد باقر إبراهيم الموسوي الذي شغل عضوية المكتب السياسي، لفترات طويلة واعتبر في بعض الأوقات الشخصية الثانية في الحزب، وكذلك ما كتبه السيد آرا خاجادوريان الذي يَمتدُ عمره الحزبي إلى ما يقارب ثلثي قرن، وهو من الرعيل الذي عاصر فهد، وشغل هو الآخر لفترات طويلة مواقع في اللجنة المركزية والمكتب السياسي، ومن بين المهام التي شغلها المسؤول الأمني للحزب وقد إنتهى به المطاف حسب الوثائق التي نشرت إلى تقاضيه إجور عَنْ نضاله بلغت ( 1000) دولار في الشهر من إحدى السفارات، والوثائق بتفاصيلها موضوعة على شبكة الأنترنيت ومن حق السيد آرا أنْ يُدحِضُها و يُفندها .

لكني علمتُ من بعض الأصدقاء، إنه لم يُنكرها، ويؤكد أنّها راتبه التقاعدي الذي إستحصله بنضال دؤوب، وبقي مستمرا ً في الحصول عليه من سفارة النظام في براغ . ذلك النظام الذي كان الحزبُ الشيوعي العراقي قدْ رفع َشعار إسقاطه بالكفاح المسلح وبدأ بتنظيم تشكيلات الأنصار التي لا يرى فيها السيد آرا تعارضا ً مع توجه لإستلامه المبلغ المذكور، ولا يعيق نشاطه القيادي في المكتب السياسي طيلة تلك السنين !!

قرأتُ أيضا ً الردود التي كتبها أعضاء قياديون من تلك المرحلة في مقال مشترك ذُيّل بتوقيع جاسم الحلوائي - أبو شروق وعادل حبه - ابو سلام، وهما من أنشط قياديي الحزب السابقين في مجال النشر والكتابة، ما زالا يرفدان القراء بالمزيد من العطاء السياسي والمعلومات عن تاريخ الحزب عبرَ حلقات مذكراتهم المهمة .بالإضافة إلى مداخلة البروفيسور كاظم حبيب الشخصية النشطة التي ما زالت تمارسُ عطاؤها المتواصل في مجالات عديدة بما فيها النقد السياسي والدفاع عن حقوق الإنسان، وباقي المجالات التي يُعرف من خلالها، كمفكر وباحث إقتصادي مرموق .

أيضا ً قرأتُ بما يخص الحزب الشيوعي، دراسة للسيد صالح ياسر، أعتقد هو من الكوادر العاملة في مواقع قيادية اليوم، فيها مراجعة تقييمية لسياسة الحزب الشيوعي للفترة من عام 1968-1979 وقد إستند لوثائق التقييم الصادرة عن مؤتمرات الحزب السابقة وأبدى ملاحظاته عليها ..

كل هذه المواضيع مرشحة للمزيد من النقاش والجدال وتحرِّض المرء للمساهمة فيها . لكني إخترت ُ مذكرات النصير لطيف، لكونها كتبتْ بعفوية نادرة، لا تخلو من الجرأة والصراحة وهي تمتد عبر الزمن لكي تلامس تلك الحقبة المشتركة، التي تناقشَ فيها المعنيون من قادة الحزب السابقون نقاشا نظريا ً مختلفا ًومتناقضا ً لم يكن خاليا ً من تهمة التخوين أو الإيحاء بذيلية الطرف الآخر الذي وجه له النقد .

بحكم إختلاف الرؤيه والمفاهيم التي جعلت البعض منهم ( باقر و آرا ) يختاران مواصلة ذات النهج وتلك السياسة التي أدخلت الحزب الشيوعي والناس والوطن في دهاليز الدُجَى التي أوصلت الشيوعي لطيف إلى نزيل ٍ في الشعبة الخامسة . بينمّا يصّران ( باقر- آرا ) على البقاء في خندق البعث ومقاومته التي تتلطفُ السيدة رغد (نعتها الباحث السوري، نبيل فياض، بالمومس غير الفاضلة )، بالصرف عليها وتمويلها،من تلك الأموال التي جمعها المقبور إصديم من تعبه وكدحه في العمل بتربية الأغنام التي كان يبيعها حسبما قال ذات يوم إبنه البكر ولا أريد أن ْ اذكركم بإسمه الكريهه التي وضعتها تحت تصرف المفكر القومجي والبعثي الأجوف، (خيري الدين حسيب ) الذي يحلو له التشبه بميشيل عفلق وتقليد أدواره، وقد اختار السيد باقر بقناعاته العروبية أن يكون مساعدا ً له، وتخندق معه لحد التماهي .... كأن شيئا لم يكن !!! .

مما حدا بالآخرين لكسر جدار الصمت بردودهم التي إحتوت على محاولة لكشف الغطاء عن المستور من حقائق التاريخ المغيبة بما فيها ممارسات باقر- آرا وغيرهم في تلك المرحلة التي نحن بصدد التعليق عليها التي تتطلب ُ جرأة من تلك التي أفصح عنها الدكتور كاظم حبيب حينما قال :( لقد مر الحزب الشيوعي العراقي بمراحل نضالية عديدة مليئة بالمصاعب والتعقيدات وتعرض للضربات القاسية، سواء أكان ذلك في العهد الملكي أم في عهود الجمهوريات الأربع التي عرفها تاريخ العراق الحديث، ولكنه خرج منها وهو يؤكد إصراره على مواصلة النضال. وفي هذا الفترات يصعب على الإنسان أن يتصور بل يستحيل تصور أن لا يرتكب الحزب أخطاء معينة، سواء أكانت فكرية أم سياسية، وسواء أكانت في تحديد تكتيكاته أم في فهم العلاقة بين التكتيك و الإستراتيج، أم في النشاط اليومي لرفاقه. وليس غريباً أن يرتكب الحزب أخطاء معينة في هذا المجال أو ذاك أو في هذا التحالف أو ذاك، وقد ارتكب الحزب فعلاً تلك الأخطاء. ومن كان في قيادة الحزب في فترة ما، وأنا منهم أتحمل مسئولية تلك الأخطاء كاملة غير منقوصة. إذ من غير المعقول أن يتبرأ الإنسان منها وهو الذي كان يساهم في رسمها، خاصة باقر إبراهيم الذي كان يحتل لسنوات طويلة عضوية المكتب السياسي والشخصية
المسئولة عن التنظيم في الحزب ومسئول سكرتارية اللجنة المركزية) .

لكن مذكرات لطيف نزيل في الشعبة الخامسة هي الأجرأ في الولوج إلى أعماق التجربة، ليس من خلال عفويتها وصدقها، بل بتسلسل معطياتها، ومراحل عمل لطيف، تنقلاته بين الداخل وكردستان وسط مخاطر لا تعد ولا تحصى في كفاحه المتواصل ضد الكتاتورية، يتخفى من ملاحقة أجهزة قمعها المتربصة به، ينجحُ في التخلص من كمائن مفارزها التي طوقت داره في قرية الهويدر . لكنه يفشل في الصراع مع إخطبوط البيروقراطية الحزبية ورموزه الذين يمارسون القمع والدجل السياسي والنفاق، بينهم المستعد لمد أياديه خارج التنظيم والتنسيق مع أجهزة القمع للتخلص من الحالات التي كانت تشاكس من أجل الديمقراطية في المجتمع والحزب لم يكن الشيوعي لطيف إلا واحدة ً منها .

لقد إجتهد وأشغل نفسه بهموم الناس، وشحذ ذهنه بومضات ٍ ومثل ثورية، وفضّل العمل في الداخل بقناعة، جعلته يفترشُ الرصيف بين الجنود المتوجهين لخطوط الموت ِ، في ساحات الحرب ِ، ومحطات ِ القطارات،( قضيت ُ الأيامَ الأولى بصعوبةٍ بالغة ٍ تحديدا ً في الليل ِ . كنت ُ افترشُ الأرض في ساحة ِ النهضة ِ في بغداد مع الجنود ِ القادمين والذاهبين إلى جبهاتِ القتال ِ. أو أقضي ليلتي التعيسة في القطار بين بغدادوالموصل).

كل هذا من أجل أن تنقضي ليلة من تلك الليالي التي كان يسهر فيها حتى بزوغ الشمس بين هؤلاء الجنود في تلك الأماكن كيلا يقع في قبضة أجهزة الدولة المنتحلة لصفة الأمن ...لكنّ لطيف يُستدرج إلى ما أسماه في مذكراته ( بمقترح الموت ) !!

(في يوم 7- 6 - 1987 وقعتُ في قبضة الإستخبارات العراقية، في ظهيرة صيف حار، في الطريق بين كركوك – وطوز خورماتو ) .

هذا الذي حدث معهُ،حينما وجَهَهُ المدعو قادر رشيد، أحد كوادر الحزب الشيوعي القياديين للتسلل إلى الداخل من موقع قريب ٍ لربية ِجحوش ٍ ادعى رشيد لديه تنسيق معها، أعطاه رسالة وكلمة سر للتفاهم مع مرتزقة الموقع العسكري الذي سينطلق لطيف منه ومن الشارع القريب الى الداخل، ويتوجه للعاصمة بغداد .

إنطلتْ الحيلة على لطيف، واقتيد من قبل جحوش ِالربية، ليسلم لشعبة إستخبارات كركوك ومنها للشعبة الخامسة التي يتحدث عنها من خلال مذكراته ومشاهداته، لفترة 87 يوما، كانت ذاكرته قد سجلت تفاصيلها الدامية والمريرة في ثنايا وجدانه وضميرة اللذين حاولوا في تلك الفترة إنتزاعهما منه، لكنهم فشلوا ولم يفلحوا . (ذاكرتي التي أرادوا تدميرها عبثا ً لكن دون جدوى ).

( زنزانتي كانت لا تتسع إلا لشخص ٍ واحد ٍ، حالكة الظلام لا ترى الضوء إلا عندما تقف ُمن خلال فتحة ٍ صغيرة ٍ في أعلى الباب بحجم ِ قبضة ِ اليد، ومع هذا كانت مشبكة بالحديد، منفذ ُ الضوء ِ بحجم القلم ِ، تتمكن من خلالها رؤية بصيص من الضوء ِ)، (تقع ُ زنزانتي في ركن المبنى المستطيل وتحمل رقم ثلاثة .... وبمرور الوقت تصبح عندهم مجرد رقم . كانت تقابل بركة المراحيض ( التواليت ) والتي هي عبارة عن غرفة مغلقة بأربعة جدران .... وبعمق متر ... ولها منفذ إلى نهر دجلة تفرغ عندما تمتليء، لها فتحة بوسع الباب للدخول والخروج وتحتوي على دكة ....

عندما اذهب إلى تلك البركة يكون جسمي قد غاص إلى نصفه في الغائط .... عندما اخرج أقف صامتا ً أمام البركة ونظري نحو الأرض يقوم أحدهم بتنظيف جسمي من مسافة بعيدة من خرطوم الماء ( الصوندة ) يرش أحدهم الماء عليك من مسافة بعيدة وبقوة دفع كبيرة وإن أرادوا التقرب منك ستكون في عداد الموتى )، ( حتى عندما تنتهي من حاجتك في الطريق إلى الزنزانة تجدهم في طريقك واقفين، يتحينون الفرصة في توجيه الضربة تلو الأخرى مع سيل من السب والشتائم السوقية) ( بعد الخروج من باب التواليت مباشرة يكون في إنتظارك أحدهم يحمل في يده طاسة من الماء والصابون ليقوم بمهمة صوبنة وجهك .... وما عليك راغما ً إلا أن تنظر إلى الأسفل ..... وممنوع أن ترفع عينك أو تنظر إلى أحدهم ... أمّا مهمة الثاني تكون بيده ماكنة حلاقة ليقوم بحلاقة وجهك بطريقة همجية وفي طريق العودة إلى الزنزانة تختلط في وجهك فقاعات الصابون مع سيل من الدماء ) .

بقي مجروح الفؤاد، وترك التعذيب والمعاملة القاسية تأثيراتهم اللامحدوة عليه، كان يمر بحالة صراع مع النفس، ساعده في تجاوزها وقوف حبيبته إلى جواره، التي ساعدته وعاضدته في تجاوز جزءً من مآسي تلك المرحلة، وشجعته على كتابة مذكراته، ومنحته الجرأة لقول ما يمكن قوله في هذه الحلقات العشر ة .

قد تكون جزءً، مجرد جزءً من حقائق تلك الأيام التي كان لطيف صانعا ً ومساهما ً لبعض أحداثها وتجلياتها ... لكنه الجزء الصادق منها، يقدمها لقارئه ببراهين وتفاصيل لا يمكن نسجها وإختراعها، مقرونة بآهات روحه وصراخ جسده الممزق بسياط التعذيب البشع ِ .

تلك الآثار التي تنساق مع النصِّ لتترك ندبا ً في جسد قارءها وتدفعه ليتحسس مكوناته مع الكلمات التي لم تكن عابرة، كما أرادها الشاعر محمود درويش في قصيدته ... أيّها المارون . بل وثيقة إدانة لتلك المرحلة، بكل مُلابساتها، بادية ً بالنظام الدموي وأجهزة قمعه، وإنتهاءً بالمتعاونين معه، من عملائه المتسترين في صفوف الأحزاب التي كانت تكافح من اجل الديمقراطية والخلاص من الدكتاتورية ....

ما ذكره لطيف في يومياته من معلومات أولية عن أبو بهاء وأبو طالب وهي صحيحة سيأتي الوقت للتفصيل في ذكرها من خلال مشروع كتابة عن تجربة العمل في الأنصار الذي أنوي الإنتهاء منه في غضون عام وبدأت ُ في تسجيل بعض فصوله .

أمّا ما يطرحه بخصوص السيد قادر رشيد الذي شغل موقع عضو لجنة إقليم كردستان لسنوات طويلة، وأشرف على عمل كركوك و ديالى في فترات سابقة فمعلوماتي عنه لا تتعدى إلا بعض اللقاءات السريعة والعابرة في كردستان ودمشق، وما كتب عنه في بعض مذكرات كوادر وقادة الحزب، لكن الذي سمعته ويتفق مع معطيات لطيف من النصير بختيار إبن الشهيد توفيق الحريري القياديّ الذي زامل قادر رشيد لسنوات عديدة في كردستان والأنصار، إنّ نجم الدين مامو، أبو فرصد،وهو من القادة المهمين في حركة الأنصار، كان يشك في قادر رشيد ويعتبره من عملاء النظام !!!

أمّا تجربتي الشخصية فلا تمسه مباشرة، لكنها تنحو إلى نفس النتيجة من خلال حلقة وصل تمتُ بصلة قربى لرشيد، بدأتْ تفاصيلها عام 1992 حينما كنت سكرتيرا ً لمحلية نينوى ومقرها الرئيسي في دهوك، حينما وردني من حمة شريف - ابو علي الذي كان يشغل مسؤول الرقابة المركزية للحزب، رسالة يطلب فيها مساعدة شخص وتسهيل أمر سفره للخارج، من خلال معبر إبراهيم الخليل إلى تركيا، مع تأكيد للإهتمام به، كونه من العاملين في الداخل، كسائق مراسل .

بعد إتصالات مع أجهزة محافظة دهوك والسيد المحافظ عبد العزيز طيب من الحزب الديمقراطي الكردستاني، تم تسهيل مغادرة هذا الشخص إلى تركيا، من بعدها لم أسمع أو ألتقي به، إلا في دمشق عام 1996، كنتُ أعمل في لجنة العلاقات مع السيد حامد أيوب العاني- ابو سعد كمتطوع، حينما جاني من يعلمني بوجود رفيق قادم من إستوكهولم متواجد في دار في مساكن برزة، هو من الذين ساعدتهم في دهوك وما أكثرهم، يطلب اللقاء بي لأمر هام ...ذهبت ُ للقاء (بالرفيق ) المذكور، تبين لي إنه ذات الشخص الذي جاءني برسالة من أبي علي قبل سنوات في دهوك ...كان معه إبنه وبنته وزوجته.

قال لي :لا أستطيع الخروج العلني للشارع لأسباب صيانية، ولا أريد أن يشاهدني هنا أحدا ً لذلك لا أستطيع المجيء إلى مكتب الحزب، واطلب مساعدتك في تسهيل أمر سفر عائلتي من دمشق إلى السويد .

سألته كيف؟

قال بالبحث عمّن يجلب لنا فيزة سويدية، وأكدّ إنه لا يستطيع التحرك ويطلب المساعدة . ظننت إن لمشكلته أبعاد ذات صلة بموضوع تنظيمات بغداد المخترقة قلت له : ليست لديّ معرفة بموضوع الفيز ومن يستطيع تأمينها لك، سنسأل ونستفسر من المعنيين في المكتب عن ذلك، لكن أحذرك أن تمنح الثقة لهؤلاء الناس فهم نصابين ويجب أن تكون حذرا منهم .

قال : لدي إمكانية أن أجلب فيز مزورة من السويد لقاء ألف دولار لمن يرغب ولدي علاقات مع من يعمل في تأمينها وطلب أن نساعده في هذا المجال ..

قلت له : لا أفضل أن تطرح هذا الموضوع على أحد، ولست مستعدا لسماع هكذا موضوع، كان معي حينها حسبما أتذكر نصيران من العاملين في فصيل الحماية في كردستان ...

بعد يومين أبدى السيد عبد الباقي من الحزب الشيوعي السوري، إستعداده لمساعدة السيد احمد في موضوع تسفير عائلته، وأعطاه احمد من دون علمنا وبدون معرفتنا مبلغ الف دولار كعربون لهذه الصفقة ..

لكنّ الموضوع أخذ منحى آخر في أقل من إسبوع، إذ ْ قام السيد احمد ببث دعاية تؤكد إن صباح كنجي أخذ منه مبلغ الف دولار، وهو، أي أنا، خربت بيته ولا يملك سوى هذا المبلغ، بعد أيّام وجدتُ السيد احمد في الشارع العام في مساكن برزة، إرتبك، كادَ أن يرتمي على كتفي و يبكي، أخذ يعتذر مني .

سألته عن ماذا تعتذر ؟ ما المشكلة ؟

قال: أنا واحد ساقط، أنا تافه، أنا جبان، أنا سافل، لقد قلت لعميد في المخابرات إنك،أي صباح كنجي، أخذت مني مبلغ ألف دولار ودمرتني ...

وأخذ يبكي (الرجل ما زال على قيد الحياة وهو في بلد أوربي و إنتهى نظام المجرم صدام ويستطيع أن يكذبني إن خالفت في هذه الأسطر ولو لجزء بسيط من الحقيقة) قلت له : في لحظة تأمل لمجريات تلك الأيام التي عودتني على تلقي الصدمات المتتالية بصبر وهدوء،هون عليك. لا يهم ما قلته للعميد عني. وسألته بسخرية لكن قل لي متى وأين أعطيتني المبلغ وكيف؟! كي لا تتعارض أجوبتي مع شهادتك وإتهامك لي في حالة إستدعائي من قبل المخابرات....بكى الرجل واخذ يواصل شتم نفسه ومشى. .. في المخابرات سُألتُ من بين العديد من الأسئلة عن إسم إمرأة تدعى ( بروين ) ادعت إني وعدتها بإخراجها من مطار دمشق وأخذت منها مبلغا، كان الإسم بالنسبة لي هو الأغرب حيث لم أكن أعرف بالمطلق إمرأة في دمشق بهذا الإسم لا من بعيد ولا من قريب بعد سنتين علمت إن شقيقة قادر رشيد وزوجة السيد احمد تدعى بروين .

تملكتني الحيرة حين إلتقيت بحمة شريف - أبو علي في إستوكهولم في دار كاكة نوري - أبو صباح وطلبت منه أن يجيب على سؤالي إن كان السائق احمد من المتعاونين مع أجهزة النظام في بغداد، وعن اسم زوجة للتأكد من معلوماتي، بعد أن شرحت له تفاصيل هذا التصرف الغريب والمدان، للتأكد من صحة إستنتاجي، ومعرفة الذين ساهموا في دفعه للتعامل مع عميد من المخابرات السورية، لكن أبوعلي راوغ و تملص من الإجابة .

حدث هذا في دمشق من قبل ذلك ( الشيوعي ) أحمد الذي لم يكن إلا نسيبا للسيد قادر رشيد الذي يتهمه لطيف بالعمل في صفوف المخابرات في مذكراته .

قد يكون قادر رشيد بريء من تهمة الخيانة وما حدث هو مجرد خطأ أدى إلى وقوع لطيف بيد جلاوزة النظام بهذه الطريقة الساذجة ....لكن هذا لا يمنع من لجوء العديد من قادة الحزب الشيوعي للتخلص من بعض رفاقهم المشاكسين ممن يخوضون الصراع، وينتقدون الأخطاء، ودفعهم إلى المواقع الخطرة في العمل، للتخلص منهم لا بل هناك مؤشرات وأدلة على تسريب أسماء بعض المتوجهين للداخل، وكشف خطوط تحركهم كي تسهل مهمة إلقاء القبض عليهم .

وقد شهدت حالتين في هذا المجال، تجسدت في محاولة التخلص من مجموعة من الأنصار كنت أحدهم من قبل عصابة ملازم خضر( نعمان علوان سهيل التميمي) وأبو وليد ( أحمد الجبوري ) في تموز عام 1980، حينما ابلغاني على الفور، وبلا مقدمات للسفر والنزول إلى الداخل من دون أية مستلزمات في فترة إحتدام الصراع في المقر على خلفية تأكدنا من إعترافات احمد الجبوري وتعاونه مع أجهزة الأمن، في بغداد الذي نسب كمسؤول عسكري لمقر كوماته في بهدينان، رفضنا تواجده بيننا كمسؤول وإعترضنا على هذا التنسيب من المكتب السياسي، وقد قدمنا هذه الآراء بحضوره من دون أن يكون للموضوع أية صلة أو أبعاد شخصية، حيث لم أكن اعرفه قبل هذه الفترة لذلك سعى من خلال موقعه في المكتب مع ملازم خضر للتخلص منا عبر مقترح مشترك بإسم مكتب القوة في رسالة موجهة إلى المكتب السياسي وعزيز محمد بطردنا من الحزب، أنا وأبو شوارب، وعند إستشارة توما توماس بالموضوع فشلت المحاولة، وتم إهمال الطلب، لذلك قرروا إبعادنا من المقر بهذه الطريقة البشعة والسريعة تحت ستار التوجه للداخل كي لا نلتقي بقادة الحزب الذين وردت برقية عن قرب وصولهم إلينا في اليومين القادمين، كان من بينهم بهاد الدين نوري وكريم احمد . . بهذا الإجراء السريع، تم إبعادنا من المقر، كي لا نلتقي بمن يتوقع وصوله من قادة الحزب ونسمعهم إنتقاداتنا وملاحظاتنا على العمل، بما فيها مسألة رفضنا لقيادة الجبوري العسكرية للموقع ومطالبتنا بتبدليه، وهو إسلوب مدان لا يمت بصلة إلى أخلاق وقيم الثوار جرت ممارسته من قبل الكثير من القياديين وقد كشفت مذكرات قادة الحزب للأسف عن لجوء زملاء لهم في كشف أسمائهم وتسريبها لدوائر الأمن منذ العهد الملكي في مجرى الصراعات الحزبية التي كانت تتعدى حدود التنظيم لإشرك أجهزة القمع بها، بهذه الوسائل الرخيصة والدنيئة ...

أمّا الحالة الثانية التي شهدتها، وما زلت اذكر تفاصيلها، فكانت بعد أحداث بشتاشان ومؤتمر الحزب الرابع عام 1984، الذي اسفرا عن إحتدام الخلاف بين بهاء الدين نوري وقادة الحزب، وبغض النظر عن حجم الخطأ الذي ارتكبه بهاء، أو غيره في هذا المجال، مما أدى إلى إبتعاده، أو إبعاده، وخروجه من صفوف الحزب، وتوجهه لتكوين تنظيمة المستقل، أو المنشق، الذي يبقى في إطار النشاط السياسي و الإجتماعي، المعارض للدكتاتورية، ولا ينبغي إشراك أجهزتها القمعية فيه أو تنبيهها لمحتوى وتفاصيل نشاط الطرف الآخر،من أجل الإيقاع به .

أصبت ُ بالذهول حينما إستلمت برقية مكشوفة، مرسلة من المكتب السياسي للحزب الشيوعي، معممة للكوادر في اللجان المحلية والانصار تقول في إحدى فقراتها بالنص : ( وقد توجه بهاء إلى بغداد، لتشكيل تنظيمات خاصة به، وهو الآن متواجد في بغداد ) .

إعتبرت هذه البرقية وشاية علنية من قبل قادة الحزب ببهاء، وعبرت عن إمتعاضي من هذا الإسلوب الرخيص والمبتذل من العمل السياسي الذي لا يقدم عليه سوى المنحطين من البشر مهما كانت دوافعهم ومبرراتهم ..ويشكل ممارسة بدائية متخلفة للسياسة، تشمل جميع الأحزاب بشتى إتجاهاتها الفكرية والإجتماعية في المجتمع العراقي، أحزاب مارست العمل بعفوية وسذاجة، لا ترتقي إلى مستوى خلق آليات لبرمجة العمل السياسي، أو التفكير بوضع خطط وأسُسْ السياسة التنظيمية، الصائبة و الملائمة للمرحلة والمتوافقة مع مزاج وأهداف الجماهير، فكانت النتيجة تحول تنظيمات الحزب الشيوعي من وسيلة لتغيير المجتمع، إلى محطات للإيقاع بأعضائه وكوادرة، إلى الحد الذي دفع كاتب مرموق هو الباحث حنا بطاطو ليقول في إحدى فقرات كتابه المشهور، لقد كان الوكلاء السريون داخل الحزب في بعض الفترات يفوق عدد أعضائه من الشيوعيين !!!....

هذاهو وجه المآساة في تراجيديا الحزب الشيوعي العراقي الذي إستمر ينزف لأكثر من سبعين عاما ًكما نزف محمد السعدي أجزاء ً من روحة على الرصيف وفي أقبية الشعبة الخامسة، تلك الأماكن التي ما زالت تلاحقه تفاصيلها المرعبة وتداعياتها، ( تحاصرني بعد هذه السنين الاف الأسئلة وانا اتعذب في البحث عن اجابات شافية لها ) وقد لا يجد (لسنوات عديدة وانا لازالت أعيش تلك الأيام واتذكر تلك الساعات المظلمة والمخيفة من حياتي التي مازلت حتى الان أعاني وأتوجع من قساوتها وأثارها)، (فثمة رفاق وقعوا بيد السلطة وتعاونوا معها واخفوا الأمر على الحزب وكانوا يقدمون تقارير كاذبة عن حياتهم في داخل العراق . والتجربة كشفت بمختلف الطرق عدد من الحالات تورطوا بهذا العمل ) ....... بسبب تحول هذا العمل إلى منافسة بين عدد من قادة الحزب واللجوء للتظاهر والإستعراض وزج اكبر عدد ممكن في الداخل من دون تمحيص وتدقيق، وقبل التأكد من توفير وتأمين مستلزمات بقاؤهم وسلامتهم، بينما ( ألحّ البعض في العودة إلى الداخل هروبا ً من حياة الأنصار ولهذا كان الوقوع في يد السلطات سهلا ً وتسارعت وحدثت الانهيارات أيضاً )، وهناك كذلك من عاد (هربا ً من تسلكات المسؤولين والذين لايتوانون في مواقف كثيرة من محاولة إفراغ التجربة من مضامينها الثورية والوطنية)،التي رافقها صراعات داخلية لم تحسم الآراء فيها بطرق ديمقراطية بسبب ( الإرهاب الفكري والسياسي ) الذي تطور إلى ممارسات شاذة بعيدة عن الروح الرفاقية، مما أسفر عن تفجير الخلافات والتناقضات بين تشكيلات الأنصار، التي لعب دورا ً في تعميقها،الأوضاع القاسية التي كانت تحيط بالأنصار وتداخل مواقعهم مع ساحات الحرب العراقية الإيرانية، مما دفع البعض لأعلان (التمرد الذي وقع في قاطع سليمانية عام 1984، والذي كان من الممكن إحتوائه، لكن للأسف الشديد هناك من كان يدفع الأمور إلى لحظة التصادم والاحتراب . قاد ملا علي بالتنسيق مع بهاء الدين نوري مجموعة من بشمركة وكوادر حلبجة وشهرزور بإتجاه دشت شهرزور معلنين تمردهم ) .

وتحولنا إلى فريقين متخاصمين ( كنا بالأمس رفاقا ً موحدين واليوم فريقيين متحاربيين، الجميع متوتر ومستعد للقتال، الحوارات جارية على قدم وساق، لكن إطلاقة واحدة، ولو بالخطأ كانت ستؤدي إلى مأساة وكارثة مرعبة . بعد وصول التعزيزات لنا بقيادة أبو تارا المسؤول العسكري للقاطع مع قوات من الفوجين السابع والناسع . أخذت الأمور منحى أكثر خطورة حيث القوى المتمردة إنسحبت إلى القرى المجاورة، وهنا بدأت لعبة ( القط والفأر ) نطارد بعضنا ونتربص ببعضنا الآخر . ترد لنا معلومات بوجودهم في قرية ما، نتحرك بإتجاهم يتركوها قبل وصولنا لهم، وهذا تم معنا أيضاً ) .

ولم تتوقف ملاحقتنا للبعض، إلا بورود معلومات عن وجود نية للهجوم علينا، بمشاركة من قوات للإتحاد الوطني الكردستاني، ومع حدث جديد وخطير تمثل في ( أكتشفتْ شبكة تجسس داخل مقراتنا لصالح النظام العراقي في بغداد، كان العدد الأكبر منهم من الرفاق الأكراد، تم إعتقالهم إلا البعض منهم تمكن من الهرب، وبدأ التحقيق معهم وظهرت اعترافات جديدة امتدت إلى أهالي القرية، وكان الملا دانه ممولنا التمويني وصاحب الدكان في قرية ( أحمداوة ) هو خط الاتصال الساخن بهذه الأحداث، وتم زج النصير منير ( أبو أنور ) في السجن جورا ً وقسرا ولإعتبارات لا تخلوا من نوازع قومية شوفينية، إنتهت بالاعتذار منه) .

وبدأ التحقيق مع أفراد هذه الشبكة وعناصرها ( أشرف على التحقيق قيادة القاطع لكن بعد أيام أخذت العشائرية والمحسوبية دورها الفعال في التأثير على التحقيق وركنَت المبادىء على جنب،وتمّ تميع وتسويف القضية، وتوقفت متابعة الإعترافات و بدأت تتوافد إلى مقرنا وفودا ً عشائرية وسلطوية، وتعقد صفقات مساومة مع أعضاء قيادة القاطع احمد باني خيلاني وإبراهيم صوفي . وأدت هذه الصفقات إلى تهريبهم بحجة هربوا من الاعتقال ).وبالصدفة، يشهد لطيف، زيف هذا الإدعاء وهو يعود من احمد آوه محملا بنبأ لا يستطيع البوح به لأحد، يحمل في طياته ملابسات معقدة لم يستطع إيجاد تفسير لها، تؤكد إن الحقيقة كانت عكس ما يدعون .

(كنت في قرية أحمداوه، في مهمة إدارية، وأثناء عودتي إلى مقر القاطع عبر ممر وشلالات مصيف أحمداوة الغني باشجار الفاكهة والشلالات الساحرة والمناظر الخلابة و لشدة الحرارة والتعب، إحتميت تحت ظلال أشجار الرمان، التي كانت تعيدني وتذكرني بحنين إلى قريتي الهويدر وناسها الطيبين حيث تماثلها بأشجار الرمان، يقول العراقيون في امثالهم ( عندما تدخل الفاكهة إلى المعدة تسلّم على القلب، أما فاكهة الرمان القلب يسلم عليها ) .

مع تدفق هذه الأحلام، ورومانسية الأجواء، و خرير ماء الشلالات، رأيت ُ بأمّ عيني تهريب السجناء من قبل قيادة القاطع بمعية النصير سالار، خريج الاقتصاد الاشتراكي من المدرسة الحزبية في بلغاريا، ومعلمنا للغة الكردية، عبروني ولم يفطنوا إلى وجودي، حزنت على الأيام التي مضت وتوجست ُعلى مستقبل التجربة، بكيتُ، عادت بي السنين إلى الوراء ألما ً وحزنا على رفاقنا الذين غيبوا في أقبية التعذيب، هؤلاء هم الذين سرقوا مشروعنا، وسمسروا بأحلامنا، ودفعونا إلى خيانة مبادئنا، وحرفوا مباديء الحزب وجعلوها في خدمة مصالحهم ونزواتهم، مما زادني حزنا ً في اليوم التالي، إنهم شيعوا وبصفاقة نبأ ًعن هروب السجناء !! هربوا ؟!!!، وتماهت معهم جوقة الطبالين والمتملقين من الإنتهازيين في العزف على نوطة الخيانة بهذا الإيقاع لتضليل الآخرين ) .

وفي سياق نفس الممارسة، تم عقد إجتماع موسع للقاطع، لتدارس تداعيات هروب المعتقلين،كان الغرض منه امتصاص نقمة الأنصار، من هذا التدهور المريع في الوضع، ولنشر الزيف بينهم من خلال تكريس وهم الهروب، لم يستطع لطيف السكوت، فقرر إبلاغ احد الكوادر بما شاهده الذي سارع ( وتحدثنا حول الوضع، ومن خلاله، وإنسجاما مع أفكاري وحبي للتجربة سررتُ له بما رأيته من تهريب للسجناء، وخطورة هذا المنحى التأمري وإنعكاساته التدميرية على أفاق تطور حركة الأنصار، تسمر مستغربا ً لحديثي، في الوقت الذي كانوا يناقشون في الاجتماع الموسع، أثار وتداعيات هروبهم من السجن، عاد إلى الاجتماع وفي جعبته هذه المعلومات، وحسب ما روى لي فيما بعد، عندما طرح الموضوع في الاجتماع على الجميع، صعقوا لهذه المعلومات، لكنهم تركوا الموضوع جانبا، وفتحوا تحقيق معه حول مصدر المعلومة، فاعترف سريعا إنّ المصدر لطيف، ولطيف هو الاسم الحركي لي، حملته من أول يوم وصولي إلى كردستان ) .

(بعد الافصاح عن هذه المعلومة الخطيرة، والجريمة الكبيرة التي طويت مع كان واخواتها، أصبحت من المغضوب عليهم، وأسرعت في ترحيلي إلى التنظيم المدني الذي كنت منذ البداية محسوباً عليه، إلتحقت برفاقي في التنظيم المدني، وذهبت إلى كهف هزار إستون في جبل سورين ) .

تتواتر الأحداث وتتسارع وتيرتها في الضغط على الأنصار من خلال مؤثرات داخلية تتشابك خيوط الصراع فيها، ومؤثرات خارجية نابعة من إفرازات الحرب العراقية الإيرانية،التي مازالت ساحاتها تستعر ُ وتتسعُ ُ، لتصل إلى حدود مقرات الأنصار، وتقتحمها يقول لطيف : (شهد هذا الموقع، تحديدا في فترة وجودي، واقعتين ... كان الرفيق أبو احمد ( بختيار عرب ) المسؤول الحزبي للموقع، رفيق دمث وشجاع وعملي، العديد من الشيوعيين يتحلى بهذه الصفات، لكن عندما تناط بهم المسؤولية، يبدون سلوكا ً مغايرا ً أبو احمد واحد من هؤلاء الشيوعيين، في اجتماع حزبي لتقييم الوضع السياسي ومجريات التطورات في البلد، لم نمهله حتى فرصة التحدث حول الوضع، تم رفضه بالإجماع، وتم عزله من قبل المجتمعين . وهنا أسجل نقدا شديدا لنفسي لتبني هذه الخطوة غير الحضارية، ربما اشفع لنفسي هذا السلوك بسبب صغر سني وقلة تجربتي، في صباح اليوم التالي، حملت المحضر مع البريد الحزبي إلى المسؤولين في قيادة القاطع، كان ردهم سريعا ً باعتبارها سابقة خطيرة في العمل التنظيمي، وأجبروا على أن يتعاملوا مع الأمر الواقع وقوبلت نتائجه على مضض ) .بعدها ( تم استدعاء ابو احمد الى المقر وأرسل إلى إيران للعلاج والراحة، بينما جرى التعامل مع الآخرين كأنهم من جهة معادية )، وفي ذات الليلة التي كان يعتبرها البعض من الأنصار هادئة ( باغتتنا القوات العراقية في إحتلال أهم الرواقم في المنطقة، الدبابات تدك المواقع الإيرانية خلف موقعنا الذي أصبح ساقطا ًبيد القوات العراقية رغم عدم دخولهم إليه، كانت تشكيلات الجيش من القوات الخاصة بقيادة آمر لواء المغاوير علي عربيد ..........) ( إنسحبنا من المقر باتجاه الجبال والوديان مخلفين في المقر حاجاتنا الشخصية، توزعنا في عدة مواقع، كان معي في الموقع ملازم كرم أبو الفوز، كنت أحمل ناظورا، شاهدنا القوات العراقية تتسلق رواقم الإيرانيين لتسيطر عليها وتسليم الجنود الإيرانيين إلى القوات العراقية، ليحملوهم ويرموهم من تلك القمم إلى الوديان ليتدحرجوا ويموتوا شرّ ميتة في قيعانها .

صادفنا ضابطين إيرانيين تمكنا من الفرار من المعركة بعد أن حوصرا وتمكنا من الخلاص بإعجوبة مع أسلحتهم الخفيفة، طلبا الناظور ليروا مصير جنودهم، كانوا مشدودي الأعصاب ومتوترين، إنسحبنا إلى مناطق باني شهر، قاصدين مقرات رفاقنا في الفوج التاسع لأنصارنا، تمكنا من الوصول بعد منتصف الليل .

في الصباح الباكر استلمنا برقية سريعة من قيادة القاطع تقول:

( إن انسحابكم كانا هزيمة سياسية وعسكرية للحزب وهزّهيبته، ولإرجاع هيبة الحزب ما عليكم إلا العودة ثانية إلى الموقع، وسحب ممتلكات الحزب ) .

ماذا كانت هيبة الحزب وممتلكاته في تلك الأوضاع القاهرة ؟!! ألا يدخل البشر في عداد ممتلكات الحزب وهيبته ؟!! ألم تقل الماركسية وتنص مقولاتها على إن الإنسان أثمن رأسمال ؟!! دعونا نكمل المشوار مع ذكريات لطيف لكي نكشف عن ( ممتلكات وهيبته الحزب كانت عبارة عن تسعة صواريخ بازوكا فاسدة !!!، حتى إن الجيش عندما دخل المقر في الليل ترك الصواريخ في مكانها ) . ذكرني حديث لطيف عن ممتلكات الحزب وهيبته بحدث في مراني في عام 1983 حينما بدأ أبو حازم الإداري، سالم عيسى، بجرد ممتلكات الحزب وأخذ ينتقل من غرفة لأخرى لحين وصوله كهف كان يسكنه أبو نصير وزوجته أم عصام، حيث سأل أم عصام عن الممتلكات العائدة للحزب في الكهف كي يثبتها في السجل الإداري، إلتفتت أم عصام حولها وألقت نظرة على محتويات الكهف البائسة لكي تشخص شيئا ذات فائدة يعود للحزب فخاب ظنها، وكعادتها المرحة ألقت في وجه أبو حازم ما لم يكن في الحسبان، إذ قالت له بسخرية تناسب أسئلته في ذلك الوضع :

سجل زب أبو نصير لأنه الشيء الوحيد الذي يعود للحزب في هذا الكهف !!.. على ضوء برقية القاطع عقدنا اجتماعا عاجلا في مقر الفوج التاسع، كانت الاغلبية ضد العودة إلى المقر لسحب الممتلكات، لكن للظروف المحيطة بنا ولإعتبارات سياسية وأخلاقية، إتخذنا نحن الاربعة قرار العودة بغض النظر عن النتائج . تطوعنا ( لطيف، ابو حاتم، د ابراهيم، أشتي )، رغم حدة النقاش والسجال بقى أكثر الرفاق متمسك بعدم العودة بذرائع مختلفة قد يكون بعضها واقعيا ً)، ( نجونا بأعجوبة، ولم اعرف إلى الآن .... لماذا لم يطلقوا النار علينا ؟ كان مصيرنا معلقا ً بضغطة زناد)، ( إسْتقبلنا كجيش مهزوم من رفاقنا، في قيادة سليمانية وكركوك، حاولوا توجيه عقوبات عسكرية إلى الرفاق في مفرزة الكمين، كنت أحدهم، لكن الوقت ومستجداته لم يمهلهم، فالتطورات العسكرية كانت تسير بوتائر سريعة سبقت تخميناتنا وتحضيراتنا)

(تم توزيعنا على الأفواج والمقرات، كان نصيبي الفوج الخامس عشر، وموقعه لا يبعد إلا أمتار عن مقر الفوج التاسع، كان الفوج الخامس عشر يترنح تحت وطأة الصراعات والتناحرات الطائفية بين كردي وعربي) بينما ( النظام العراقي وجيشه مستمر في خططه لإجتياح المنطقة ) .

بعد هذه الأحداث تنحو مذكرات لطيف في إتجاهات متعددة تسير وتمد خيوطها نحو إيران حيث يتوجه إليها من يترك الأنصار أو يُبعد منها، وبين الداخل لمن يرغب في مواصلة العمل أو يُدفع اليها بحجة دعم تنظيمات الداخل، ويكون لطيف من بين من إختاروا التوجه إلى الداخل، لكنه يُحشر في ما أطلق عليه مقترح الموت، وآخرون يواصلون البقاء في صفوف الأنصار ...

لكنه يلاحق هذه الخيوط من خلال تتبعه لمصير البشر والناس بحكم علاقاته التي تواصلت معهم، حيث يسجل وبذات العفوية تفاصيلا ً لحالة الصراع داخل الحزب وإمتداداتها، إذ يقول : (هذه احدى نتائج انعدام الديمقراطية في الحياة الحزبية) حيث جرى التشكيك بالبعض وتخوينهم، واتبعت ممارسات غير مقبولة و دنيئة سجلت تفاصيلها إستخدام منفلت للعنف، واللجوء للتعذيب .... ( في بهدينان عندما تعرضت غرفة الرفيق ثابت حبيب، أبو حسان، إلى قصف مدفعي من السلطة فتهدمت، قمنا أنا وأبو ناصر بمساعدته ببناء غرفته مجددا في الوقت الذي لم يجرؤ العديد من الرفاق التقرب من غرفته ) .

( إلتقينا أنا وعلي الجبوري، أبو احمد، بالرفيق سامي حركات بناءً على موعد مسبق، وجدته عكس ما قيل عنه من سخافات بحق رفيق الأمس، شاب دمث، طيب المعشر ودافيء، يمتلك مؤهلات سياسية وفكرية ويحلم بمشاريع ثورية طموحة، تتلمس عنده روحية التحدي وإصراره على المواصلة، تم اللقاء خلسة، بعيدا عن أعين الرقيب في ضيافة مقر زيوة للحزب الديمقراطي الكردستاني، شكى لنا من سوء معاملة الرفاق له ولغة التخوين والتهميش بحقه، وما تعرض له ورفاقه من تعذيب وقسوة في سجن ( بارزان ) وإستشهاد الرفيق منتصر تحت التعذيب، مما دفع أبو جاسم، قاسم داود، لمخاطبة عزيز محمد حاملا ً أدوات التعذيب وقميص الشهيد منتصر مضرجا بالدماء . وما كان منه إلا أن يأمر بإطلاق سراحهم وتركهم على الحدود الإيرانية بإعتبارهم عملاء للعراق فوقعوا تحت رحمة المخابرات الإيرانية .

كان سامي حركات يتحدث لنا بألم عمّا تعرضوا له من ممارسات دنيئة، فالرفيق أبو أحمد إستنكر هذه الأساليب في التعامل مع الرفاق الذين يختلفون مع سياسة الحزب محاولا تهدئة الموقف وإستطاع أن يمتص غضب سامي وإنفعاله . إن ظاهرة إتهام الآخرين ترسَخّت في العقد الأخير بسبب الظروف الاستثنائية التي مر بها الحزب .

عادوا إلى مواقع الأنصار في منطقة كرجال، لم يستقبلوهم ولم يسمحوا لهم في المبيت ولو لليلة واحدة، في الوقت الذي كان مقرنا مفتوحا للمشبوهين والمدسوسين من قبل السلطة، كنتُ في هزار إستون، موقع التنظيم المدني، فتوجهوا إليّ، لكن للأسف الشديد، برقية قيادة القاطع سبقتهم، بالتحذير بعدم استقبالهم، بل وطردهم من المقر .

وقفت ضد هذه التوجيهات غير الإنسانية تجاه رفاق الأمس، وتمسكت ببقاهم في المقر إنسجاما ً مع رؤيتي للحياة والمباديء التي أحملها بعيدا ً عن الثأر والإنتقام، رغم الرفض الجماعي داخل المقر .

في الصباح الباكر توجهوا إلى الأراضي الإيرانية بأسماء أخرى ) .وفي إيران بدأ فصل جديد من الملاحقة تابع خيوطه لطيف من خلال عمر، أبو علي السماك من الصويرة روى لي: عندما سلم نفسه إلى الإيرانيين في منطقة شارباجير، إدعى انه ملتحق جاء من بغداد هاربا ًمن بطش النظام و قادسيته، لكنّهم واجهوه بأدلة دامغة عن وجوده في مقرات الحزب الشيوعي وطبيعة عمله وتفاصيل يومية أخرى مملة.

وفي العراق حيث بقي لطيف لم يكن وضعه في منأى من المخاطر ها هو مقترح الموت من قادر رشيد يجرفه إلى أين ؟!! واصلوا قراءتكم لتفاصيل الحدث بذات الرؤية التي سرد فيها لطيف لحظاتها الدراماتيكية الخطيرة ( لكن مقترحي تم رفضه من قبل أبو ناصر، كانت وجهة العمل التعاون مع محلية كركوك والسليمانية، وهذا أساس وبداية الكارثة التي وقعت . المحلية كانت بقيادة قادر رشيد، لكن للأسف إلى الآن لم استطع حل لغز ودوافع رفضهم لمقترحي وسد المنافذ أمامي، وللمهزلة وصل بهم الحد إلى إثارة الشكوك حول خط الداخل، في البدء لم أتمكن من هضم واستيعاب فكرة قادر رشيد الجهنمية .. حول طريقة توجهي إلى بغداد، لكن بعد تطميناته لي ولظروف العمل الصعبة، وطبيعة المنطقة وخوفي الذي بدأ يتعاظم من تسرب الخبر إلى أجهزة السلطة، كما حدث مع الآخرين، كانت أم ذكرى، ضحية هذه التسلكات، بعد تلقيهم الخبر يستقبلوك في أول سيطرة، ويسلموك إلى خيوطهم الممدودة في داخل العراق، وتبقى تحت رحمتهم وسيطرتهم، متى ما شعروا بخطورتك وتأثيرك يعالجوك حسب أجندتهم المخابراتية، ربما تبقى سنوات، تحت كونترولهم الأمني، وأنت تعتقد إنك تعمل بعيدا ً عن أعينهم، وتجربتنا تحتوي على الكثير من هذه المشاهد والمواقف . كما حدث مع رفاق عديدين، لا يعرف شيئا ً عنهم إلى الآن، لكن لا أحد يهمه أمرهم ومتابعة مصيرهم، هناك من وقع بيدهم، وأخفى ذلك على الحزب، بل نجح في تمربر سقوطه، وأنشأ للحزب خطوطا وهمية كانت من صنع المخابرات العراقية.

في نهاية المطاف، توفر شيء من القناعة، عززها سد منافذ العبور، فتوجهت لأسير على الخط الذي رُسِمَ لي بإتجاه العمق نحو بغداد، قد يلومني القراء عندما يطلعون على هذه السطور بدون تزويق أو رتوش، هذا الذي حدث معي!!! .

بعد أن ضاقت بي السبل، الخطر يداهمني في أية لحظة، يلتفُ حول رقبتي، البقاء يعني الموت، توجهت إلى كردستان، لهذا قد أعطي الحق للآخرين في لومي وإنتقادي لهذه البساطة، في الوقوع في الكمين، وباعتبار قادر رشيد كادر و مسؤول محافظتين يهمه مصلحة الحزب وكيانه والحفاظ على كوادره وأعضائه، وبعيد عن الشبهات فقد التزمت بمقترحه .

كان مقترح الموت لقادر رشيد..... التوجه إلى الشارع الرئيسي في ( قادر كرم ) بمحاذاة إحدى ربايا السلطة التي تشرف وتحمي الشارع العام بين بغداد وكركوك وحصلت على كلمة السر خشية تعرضي إلى سؤال من أزلام الربية، كلمة السر كانت كاكا قادر رشيد يوجه تحياته لكم، ناقشته بإلحاح عن طبيعة العلاقة بهذه الربية،كان يردني مبررا هذا جزء من العمل السري المقدس، كان يبرر و ويتباهى بهذا الاختراق لربايا الجحوش الطالبانين، وبعبقرية التنظيم السري داخل مؤسسات الدولة وتشكيلاتها، لكن الواقع أكد إنهم الذين إخترقونا حاول طمأنتي ذاكرا كاكا حمه كأحد افراد الربية، طلبت منه أن يخبرهم بقدومي، كان هذا اتفاقنا،لكنه أخل به.

اخيرا تم إختيار الساعة واليوم للتحرك باتجاه القرى المحيطة والقريبة من مراكز المدن والقصبات . توجهت عصرا من إحدى القرى مع الرفيق ماموستا علي و نصير آخر، التي كانت تشكل إحدى معاقل الحزب الرئيسية الجديدة، وصلنا إلى قرية أقرب إلى شارع قادر كرم، دخلنا القرية بخلسة، كانت سيدة البيت أمية لكنها تصدرت الحديث عن نوايا السلطة وإمكانياتها في قتلنا إذا أرادت، كنت متوجسا من وقوع شيء ما، حاولت أن اخفي هذا التوجس، بمشاركتي في النقاش، لكن خوفي إتضح من خلال إسلوبي في الكلام، وإلحاحي في الأسئلة والإستفسارات، مما دعا الرفيق علي روسي إلى سؤالي: هل أنت خائف ؟

نعم أنا غير مطمئن من هذا الطريق الغامض ...... فليس من السهل الوقوع بأيديهم وأصبح رقما في ملفاتهم . هذا تبين لي عندما وقعت بأيديهم، كم كان إهتمامهم بمصيري أثناء جلسات الإستجواب، كانوا يكررون أن القيادة تشرف على التحقيق معك من خلال كاميرات التصوير ) .

( في المرات السابقة لم ينتابني أية شعور بالخوف والتوجسس، بل كنت جريئا، بهذه الكلمات خاطبني الرفيق عامل ..... مئات من الرفاق توجهوا إلى بغداد عن طريقنا ...... لم نصادف مثلك في الشجاعة والإقدام .

إستلقينا بعد طول نقاش ممل ومكرر مع أهل البيت طلبا للنوم، رغم التعب لم يغمض لي جفن حتى الصباح، كنت على موعد بإنتظار المجهول ) .

توجهنا بعد ذلك إلى قرية متقدمة يتواجد فيها عدد قليل من الأنصار، شبه مهجورة كونها خط تماس بين الأنصار وقوات الحكومة، في اللحظات الأولى من وصولنا إلى تلك القرية، أغارت المروحيات السمتية علينا، توجهت إلى إحدى بيوت القرية ودخلت غرفه فيها بملجأ على شكل حرف ( ل ) إحتميت به، ولقرب الطائرة من الأرض تمكن الطيار من رصدي وأنا ادخل البيت، كنت مجرد من السلاح، قلب الطيار طائرته في الجو ليقصف البيت الذي إحتميت فيه بصاروخين، تحول البيت إلى أكوام من الأنقاض لكن الملجأ حماني، شققت طريقي وسط هذا الركام والغبار الذي غطى وجهي، بعد عشر دقائق تبادلت مع علي روسي حديث قصير وسريع، انتهى بقرار شخصي مني، أن أتوجه حالا ً إلى بغداد، كان دور علي روسي ينحصر في إيصالي بأمان إلى الشارع العام بين بغداد وكركوك .

بينما في قاطع بهدينان ودشت الموصل، يختلف الأمر تماما ً، أكثر أمانا ً وسهولة وتمتد الإتصالات إلى داخل مدينة الموصل، بجهادية الرفيقين صباح كنجي وعامل .... صادف أن تأخر نزولي لأيام لمعلومات عن تحركات السلطة في المنطقة، في نزولي الأخير من ذلك القاطع، أخبرني الرفيق خديدا ختاري، أبو داود، إن الوضع غير مستقر في المنطقة ويشهد تحركات لقوات السلطة وطلب التريث لحين توفير وسيلة نقل سهلة وأمينة من قرية دوغات إلى الموصل .

عندما اقتربت من الشارع، أنتابني شعور غريب هو ..... مزيج من الخوف والإحباط واليأس، إنتبهت في الوهلة الأولى من اقترابي للشارع، بتحرك غير طبيعي داخل الربية ومحيطها، هناك من حمل بندقيته، واحتمى خلف الساتر ووجه فوهتها نحوي، حلقت المروحيات السمتية من جديد في السماء، فكرت بالرجوع ثانية من حيث أتيت، لحظات عصيبة بين التردد والإقدام، كان التراجع مستحيلا وضربا من الانتحار، في حالة الرجوع خطوة للوراء سأكون هدفا لمرمى نيران السمتيات بعد أن هبطت إلى مستوى قريب من رأسي، كانت يحوم حولي، ويطرق مسامعي حديث الطيار مع عناصر الربية . عندها شعرت بالهزيمة لايوجد أمامي حل سوى مواصلة المسير بإتجاه الشارع وعند وصولي إلى أخر نقطة في الشارع هجمَ عليّ ثلاثة مسلحين، بأصوات هستيرية يصرخون : من انت؟ إرفع يدك إلى الأعلى ......

مترددا ومخنوقا، أني أبلغكم تحيات قادر رشيد، لم يلفت أنتباههم هذا الاسم، أو ربما ضاع تحت صراخهم، سحبوني من ملابسي إلى داخل الربية تحت وابل من الركلات والصفعات بأخماس البنادق، أدركت سريعا أن المراهنة على ورقة رفيقنا خاسرة، بل مختلقة، وتمّ تسليمي إلى الإستخبارات بمنتهى البساطة والغدر.

( أعود الى تلك الليلة، الرضوانية، في دائرة الانضباط العسكري في العاصمة بغداد، ليلة واحدة في ذلك الجملون الآسن قد يختصر لهم المسافات في تحقيق مأربهم من قتلك أو انتزاع الإعترافات منك، شاهدتُ بشرا ً ممددين بينهم من يلفظ أنفاسه الأخيرة، هناك من يستغيث ويئن، يتوسل بمد يد العون، لا أحدا يجرؤ، ربما أنا الوحيد لأني جديد في ذلك الجملون المحشو بلحم البشر لم أفطن إلى العواقب الوخيمة لمساعدة المستغيث، فكيف سيكون من يجرؤ على التحدث مع غيره أو يلبي نداؤه في طلب المساعدة، لقساوة التعذيب وبشاعته شعرت إن كتفي اليمنى قد شلتْ حركته، ما زلت أعاني من أثار تلك الليلة، فقدت الاحساس بأذني من شدة الصفعات التي وجهت لي، التعذيب استمر معي حتى بزوغ الفجر) .

( لم تسعفني الذاكرة إلى الأن، لكي أتصور وأسترجع المشهد في تلك الليلة والساعة، كيف نقلوني مغمى عليّ إلى الزنزانة رقم ثلاثة . كنت هذه المرة جثة هامدة، أفقت في اليوم التالي لا أعرف إنْ كان ليلا ً أمْ نهارا ً، الأورام في كل زاوية من جسمي والأوجاع تهاجمني، أصرخ وانتحب من شدة الآلام، تركوني لمدة يومين بدون طعام ولا ماء، كان الخوف والرعب يطغيان من حولي، تأزم الموقف وتداعت المفاهيم في كيفية مواجهة آلة القمع، رغم وضعي الصحي البائس حاولت جاهدا ً وبشق الأنفس إستيعاب الموقف ومواجهته، بدأت أستجمع قواي، و مسيرة نضالي من عام 1979 إلى هذا اليوم كي لا أتهم به بالخيانة، سأرتب أقوالي، وأختصر أجوبتي، وأتهيأ لأسوء الاحتمالات، وضعت في بالي ليس من مصلحتي ولا من مصلحة رفاقي أن أدع أية ثغرة في أجوبتي. أنهكتني هذه التداعيات قبل يومين من التحقيق الفعلي معي )

مضى أكثر من عقد من الزمن على هذه التجربة الأليمة، أيام الموت في الزنزانة وسوط الجلاد تلاحقاني،تلحّ أن أبوح بشيء من أسرارها ومشاهدها، قساوة الجلادين، الدماء التي نزفت، تدفعني أن اكتب للتاريخ وللأجيال اللاحقة، للكشف عمّا كان يجري في تلك الزنازين السوداء من عراق الدكتاتورية، ولأن هناك ثمة بشر مازالوا يتحدثون عن الصمود والضعف في زمن البعث كنت أسخر من الذين يتحدثون عن المناضلين القابعين في الزنزانات بصيغة هذا ضعف وذاك صمد والآخر تعاون !! . سأجرأ على الكتابة وألج لتفاصيل مخيفة برواية يوميات تشعرني بالعار والهزيمة لأصرخ بمرارة البشر وأتساءل كيف يصبح الإنسان منتهكا ً، البعث بأساليبه الدموية القذرة إنتهك إنسانيتنا وآدميتنا، والحزب ..... أنت أحد رموزه في مقاومة الجلاد، يحاول أيضا ً قتلك!!

هذه المفارقة تدعوني أحيانا أن افقد توازني، يقشعر لها بدني عندما أذكر تفاصيلها المذلة، التي مازالت محفورة في ذاكرتي، أحاول جاهدا ً أن أتخلص من تبعاتها النفسية والسياسية لكن كان وقعها وتأثيرها أقوى من قدرة وذاكرة البشر في تجاوز الفصول المأساوية، بقيت أعاني لسنوات من الشرود الذهني، من خلال تناولي للأحداث والوقائع في المعتقل، أردت أن أؤكد حقيقة الموقف والجدل حول الشجاعة والصمود والضعف والانهيار في مواجهة الموقف وأسلوب التعذيب والتعامل مع نتائجه، هنا أعتز بقدرتي وصمودي في الحفاظ على حياة الناس، هناك بشر مازالوا أحياء في العراق رغم ظروف المعتقل والتعذيب ورائحة الدم، تمكنت من الحفاظ على حياتهم، ولم أمسهم بأذى، لو بحت بهم للجلادين لكانت حياتهم وحياة عائلاتهم في عداد الموتى، إلى يومنا هذا ذاكرتي تحتفظ بذكراهم الطيبة والشجاعة، رفاق ومعارف فتحوا لي أبوابهم، أنا السياسي المطلوب للدولة، خلاصة موقفي تتجلى بالحفاظ على أسرار من كانوا ومازالوا يقاومون بصمت الدكتاتورية وأساليبه .... هذا هو فخري بعينه وكنزي في الحياة .

يمر لطيف من خلال مذكراته على الكثير من الأحداث ويذكر أسماء الأنصار والشخصيات التي لها علاقة بالحدث والبعض مما ورد يحتاج إلى التدقيق و للتوضيح والتصويب قد يكون معذورا ً وهو يوردها بالشكل الذي جاءت به من خلال مذكراته، وبحكم إطلاعي على البعض من تلك الأحداث سأحاول توضيح تفاصيل منها .

عن أبو بهاء يذكر : ( أحد مندوبي المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي دعي للحضور من الداخل . لكن أثناء وقع المؤتمر حجر في مكان معزول لكثرة الشبهات حوله . لكن الإصطفافات بعد المؤتمر والتي لم تخلو من الكلوسة والاقليميات والارتياحات عادته مرة ثانية إلى الداخل رغم الاعتراضات الشديدة . أمّاالأضرار الذي ألحقها فيما بعد بالتنظيم واستشهاد عدد من الرفاق فبليغة )، ( كان فالح حسن، أبو بهاء، إحدى هذه الخروقات )، (في عام 1986 تم إعدام أبو جيفارا ( محمد وردة ) من قبل البعث، وحكم على والدته العجوز ذات الثمانية عقود بعشرين 20 سنه من قبل البعث، بتهمة نقل السلاح والبريد من كردستان إلى قيادة التنظيم في محافظة ديالى وبغداد، وحكم على أخيه سردار أيضا، والشخص الذي قام بتسليم أبو جيفارا إلى مديرية أمن دهوك هو العميل المزدوج شهاب الذي نفذ طلب الجهات الأمنية في إغتيال أعضاء محلية دهوك أبو رؤوف وأبو خالد ونصير أخر على خلفية تداعيات أبو بهاء، وإلقاء القبض عليه من قبل قوات الحزب في كردستان، وتحديدا في مناطق بهدينان ( زيوة ) .

في واحدة من المرات توجه أبو بهاء إلى بغداد عبر تنظيمات الموصل، كما حدثني الرفيق عامل، وهم في دشت الموصل قرية دوغات، طلب الرفيق عامل من أبو بهاء التريث بالنزول على ضوء معلومات بوجود إستنفار أمني وعسكري في المنطقة، لكن أبو بهاء أصّر على النزول، فوقع في أول سيطرة أمنية، لحسن الحظ كان العميل المزدوج شهاب ضمن مفرزتها، وشاهد السرعة والصفقة التي تمت بين أبو بهاء وضابط الأمن في لملمة القضية وخوفا من تداعياتها بوصول الأخبار إلى تنظيمات الحزب، في نفس الساعة أخلى سبيل أبو بهاء بل رتبت بعناية طريقة وصوله بسلام إلى مدينة الموصل، مما دعا العميل المزدوج إلى إبلاغ التنظيم في الساعة واليوم بما جرى، لكن أبو بهاء وصل إلى بغداد، ولم تعد فرصة للتحقيق معه، إلا قُبيل إنعقاد المؤتمر الرابع للحزب في كردستان، إستدعي أبو بهاء ضمن مندوبين المؤتمر من الداخل، كانت فرصة مآتية عند قدومه إلى كردستان، في الأيام الأولى من وصوله، فتح تحقيق معه، لكنه كان ينكر إعتقاله ويتجاهل مايسمعه ويستهزء بالخبر، مما دعا قيادة التنظيم الى إستدعاء شهاب إلى مناطق العمادية، وذهب بحجة مفرزة إستطلاعية مع أبو بهاء كل من الرفاق أبو طالب الذي أعدم أيضا لقضية مشابهة و ابو برافدا والملازم أزاد، بالتنسيق مع محلية دهوك . في اللقاء شخص شهاب أبو بهاء، في حينها أصبح معتقلا ً وجرد من السلاح . أخذ التحقيق معه مجرا ً آخر، لكن في اليوم التالي علمت أجهزة الأمن بما جرى، فاعتقلت شهاب وعائلته وردا ً للاعتبار طلِبَ منه تصفية قادة محلية دهوك، وعلى وجه العجالة طلب العميل شهاب بإجتماع مع قادة المحلية لأمر مهم وتمكن من إغتيال ثلاثة، الرفاق المذكورين أعلاه، وإختفى ) .

حينما استجمع معلوماتي عن أبو بهاء، أذكر ما كان يقوله النصير أبو رشدي، منذ إلتحاقه في صفوف الأنصار، حيث كان من الرعيل الأول، مع بداية تشكيل قاعدة كوماته، وهو بالإضافة إلى هذا من البصرة، ويعرف أبو بهاء معرفة شخصية ودقيقة، إذ كان يقول في حينها إن أبو بهاء من المتعاونين مع النظام وهو كذاب، إدعى في بيروت إنه عضو لجنة قضاء في حين كان عضو لجنة قاعدية، إعتقل ووقع على تعهد، أثناء عمله في الداخل زلّ لسانه ذات يوم في جلسة سمر مع عدد من الأنصار في القاطع وقال خلال حديثه :

إنه إشترى دارا ً له في بغداد، إنتبه لهذه الزلّة أحد الجالسين، نبه الحزب عن إحتمالات تعاون ابو بهاء مع النظام، امّا نزوله من بهدينان فكان من خلال قرية سريجكة، في ذلك اليوم رافقه مجموعة من كوادر محلية نينوى كان من بينهم أبو فلاح، حسن نمر، وابو ماجد، علي خليل، وكسر . . ما حدث في تلك الليلة كان فضيعا ً، مفارز الإستخبارات قد كمنت للمجموعة التي رافقته، حال إنفصاله عن المجموعة المرافقة له، ومغادرتهم للقرية في ذلك الفجر وجدوا أنفسهم أمام كمائن الإستخبارت، التي وضعت طوقا على معابر القرية، لكن المقاومة البطولية لأبو ماجد ومن معه أنقذتهم، نجوا بأعجوبة، أمّا أبو بهاء فقد إدعى إنه تسلل من القرية من دون أن يدركوا بوجودة، والصحيح إن أحد عناصر مفرزة الإستخبارات أوقفه، لم يكن يعرف هويته. كان من ضمن طاقم المجموعة، شهاب، أحد المتعاونين مع الحزب الشيوعي .

أبلغت محلية نينوى قيادة الحزب عن الحادثة، وإحتمالات وقوع أبو بهاء في قبضة السلطات، لكن حينما عاد أنكر توقيفه فبدأت الشكوك تحوم حوله، عند إستفسار رفاق نينوى عبر مصادرهم تأكدوا من تعاونه مع جهاز الأمن .

من جهته ابلغ شهاب مسؤله أبو رؤوف، مجيد فيصل، بالموضوع وأبدى استعداده لمواجهة الشخص المذكور( أبو بهاء ) وتشخيصه حيث نقل له تفاصيل تطويقهم لقرية سريجكة وإعتقال شخص عربي أسمر اللون تبين إنه من عناصر الأمن، أثناء التحقيق حاول أبو بهاء إنكار تعاونه وخبر توقيفه من قبل مفرزة الإستخبارات مما دفع بأبي رؤوف لإستدعاء شهاب إلى القاطع وإدخاله على مجموعة من الأنصار كانوا يحتسون الشاي، وحال دخوله أشر على أبو بهاء وقال هذا الذي أوقفناه في سريجكة، سقط إستكان الشاي من يد أبو بهاء حالما وقعت عينه على شهاب .

أمّا المصيبة الكبرى التي نجمت عن هذا اللقاء فتمثلت بإعطاء أبو طالب المسؤول العسكري للقاطع المعلومات عن تعاون شهاب مع الحزب الشيوعي إلى السلطة، مما حدا بالنظام تهديده والطلب منه إستدراج أبو رؤوف إلى كمين في أطراف العمادية في منطقة إبراهيم زلة، كان معه حينها سيد عزيز و أبو خالد وتم إغتيالهم وسط بستان التفاح من قبل مفرزة خاصة اشرف على وضع الخطة لها مدير أمن دهوك في حينها .

( في معمعة الفوضى و إنهيار مؤسسات السلطةعام1991، وسقوط أكثر محافظات العراق في انتفاضة الشعب العراقي، توجه بعض قيادي الحزب إلى داخل الوطن عبر كردستان إلى القاعدة الحزبية في بغداد بقيادة أبو طالب،المصنوع مخابراتيا والمعد سلفا لهذه التطورات من الأحداث من خلال وجوده المسبق في بغداد، وتحت رعايتهم منذ الأيام الأولى، عمل سابقا ً في تنظيم بغداد لغاية 1979. إلتقيته شخصيا، في الفصيل المستقل عام 1986، كان يرفضُ مهام الأنصار من حراسات و خفارة، لكن تحت ضغط الأنصار أجبر على الإلتزام بالخفارة في المطبخ .. كان يوما ً تخللته النكات والتعليقات المضحكة، مما دعا الرفيق توما توماس أن يزور فصلينا في ذلك اليوم، ليرى بعينه غير مصدقا، كما علق، أبو طالب حبيس المطبخ.

القادة الحزبين الذين توجهوا إلى قاعدة أبو طالب في بغداد، كانوا تحت كونترول الأجهزة الأمنية، لكن بعد أن إنفضحت خيوط اللعبة وتداعياتها، أسرع الرفاق بالعودة إلى كردستان مرة أخرى، وتحت كونترول أمني، كان من الممكن اعتقال الجميع، لكن نفس الأجهزة الطويل، والتمويه من رفاقنا على عملهم ) .

أشّرَ لطيف على ملاحظة في غاية الأهمية تمس خُصال وسجايا النصير الشيوعي في صفوف الأنصار وما تتطلبه من جهد وتعاون، يبدأ بالحراسات المتواصلة ليلا ونهارا، وينتهي عند ابسط مقومات الحياة من جلب حطب للتدفئة، وتقسيم العمل لأعداد وجبات الطعام، وهي من مستلزمات حياة الأنصار الشاقة، التي تحيطها المخاطر، وتتطلب نكران ذات وإستعداد ومبادرة وتعاون متواصل، من قبل الجميع بغض النظر عن مواقعهم الحزبية، هذا ما افتقده أبو طالب، من سلوك في الممارسة، منذ اليوم الأول من تواجده في الأنصار، كان يمقتُ أداء المهام اليومية، ويتعامل مع الآخرين بحالة من الإستعلاء غيرالمبررة، التي لا تمت بصلة إلى الأخلاق الشيوعية ولا إلى طبيعة حياة الأنصار .

المعلومات التي إستجمعتها عن أبوطالب تؤكد تعاونه مع اجهزة الأمن، من فترة إنزلاق قيادة الحزب الشيوعي لنهج الجبهة في السبعينات، وهو نائب ضابط من مناطق تكريت من حيث المنشأ والولادة حسب معلومات الكاتب إبراهيم احمد الذي يعرفه معرفة دقيقة، أما معرفتي به فتمتد إلى بدايات تشكيل الأنصار، سمعت به لأول مرة في مقر كوماته في بهدينان، وإلتقيته في قرى بري كارة مع مفرزة هركي عام 1982 بمعية توفيق والدكتور سليم وأبو سمير، أمّا تعاملي المباشر معه فيبدأ من فترة إنشاؤنا لمقر مراني، حيث جاءنا أبو طالب مع الدكتور كاظم حبيب في مهمة إشراف على السرية المستقلة التي تحولت إلى الفوج الأول، كنا في مرحلة البدء ببناء مقر مراني، عقدنا إجتماع للجنة الحزبية، سمعتُ شيئا ً قليلا ًعن تصرفات أبو طالب في لبنان وسوريا وشاهدته مرة يؤشر على نصيرة معنا، ويهمس في إذن أبو جمال أليست هي التي كانت تسبح معنا في لبنان؟ ونجرّ رجلها؟ المهم في ذلك الإجتماع، تحدث أبو طالب فيما تحدث عن النزاهة الشخصية، كان إسلوبه في الحديث ممل ويعكس سطحية معلوماته أما تعابير وجهه فتعكس حالة نفاقهِ، مما دفعني للرد عليه بالقول : من الأفضل أن يكون المتحدث عن النزاهة نزيها ً قبل أن يدعو الآخرين للتحلي بها .

في فترة عمله في القاطع، كمسؤول عسكري، أشرف على المفرزة المستقلة التي كنت أقودها مع أبو جمال، وبحضور أبو نصير آمر الفوج الأول، كنا وقتها أنشط مجموعة انصارية بلا إدعاء، نفذنا عدة عمليات في فترة قصيرة، تم اللقاء تحت اشجار الجوز المواجهة لبينارينكي، اعتقد كان وقتها معي في المفرزة عدد من الأنصار من بينهم ناظم وأبو طويلب، عبد القادر البصري، وأبو رؤوف وأبو ظاهر ووسام وجوزيف وعدد من أنصار القوش وقرى الدشت، كان أندفاعنا وحماسنا لا حدود له والعلاقات بيننا نموذجية وخالية من أية منغصات، والجميع يتطلع إلى تطوير العمل بثقة.

لكن مداخلة أبو طالب التحريضية ضدي، العجيبة الغريبة، التي جاءت من دون أية مقدمات أو مبررات دفعتني لوضع أبو طالب في دائرة الشك بحالة أقرب إلى اليقين، حيث قال، أمام جميع الأنصار بعد أن فرغنا من الإجتماع الخاص مع اللجنة الحزبية ودعينا الجميع إلى لقاء موسع، قال مخاطبا ًالأنصار : نحن طرَقنا على رأس مسؤولكم العسكري صباح، وعليكم أن تطرقوا أنتم على رجليه، وإذا لم ينفع معه سوف ننقله ونبعده من المنطقة، مع إنتهاء أبو طالب من حديثه، قفز إلى ذهني مباشرة حديث والدتي في آخر لقاء لي بها، قبل أربعة اشهر، في إحدى قرى الدشت، عندما نقلت لي معاناة والدي من جراء ِ إستدعاء ِ مدير أمن نينوى له في اللقاء الأخير طلب مدير الأمن من أبيك أن يفاتحك بالأبتعاد عن منطقة الموصل والذهاب إلى أي مكان آخر في دهوك أو السليمانية أو أربيل، وبالنص ذكرت قال مدير الأمن له، إبنك سوف يخرب الموصل عليّ قل له ليبتعد إلى أي مكان وأنا مستعد أن أقدم له أيّ شيء يريده مني فقط ليبتعد عن منطقة الموصل، ليذهب إلى السليمانية ويقلبها رأسها على أسفلها فقط ليبتعد عن الموصل، قلت محدثا ً نفسي، حديث أبو طالب بهذه الصيغة الوقحة، وبلا أية مبررات، له علاقة بطلب مدير أمن نينوى وليس صدفة، ومن وقتها، قررت أن أتقصى و أتابع وضع أبو طالب، كانت شكوكي مع الزمن تتحول إلى يقين لا يقبل الخطأ، بعدها حدثت ملابسات تتعلق بالتحقيق مع مجموعة من عملاء النظام من المتهمين بإغتيال النصير، ابو ميفان، جاسم احمد سواري، حدث تحقيق مفصل مع عدد من المتهمين، سُجلتْ إعترافاتهم على (12) كاسيت من قبل اللجنة التحقيقية، وتم إفراغ محتواها على الورق من باب الإحتياط تجاوزت المائتين صفحة، سلمت إلى مكتب القاطع، لكنها إختفت فجأة، كان لأبو طالب علاقة مباشرة في إخفائها . بعد ذلك تم بتشكيل لجنة تحقيقية، مكونة من أبو سربست وأبو هندرين وأبو زكي، خيري القاضي وأبو حازم، ترأسها أبو طالب، حاول من خلالها إلصاق التهمة بعدد من كوادر الحزب، كنت في مقدمتهم رغم عدم علاقتي بالتحقيق وعدم تواجدي في المقر وقت تلك الأحداث . في التحقيق وقفت في وجهه، قلت له : إسلوبك في التعامل معنا يشبه ضابط أمن ولا يمت بصلة لتعامل الشيوعيين فيما بينهم . قال لي : هذه لجنة تحقيقية عينها المكتب السياسي. . أوضحت : ُاللجان التحقيقية لا علاقة لها بالصفاة والمراكز الحزبية وعليك أن تبحث عن الحقيقة، وإلا ستكون مواقفك مسبقا ً معادية ً لي وهكذا الحال بالنسبة لزميلك أبو هندرين حيث لا أثق به، تمكنت من خلال هذا الموقف الحد من تماديه في طرح اسئلته العجيبة الغريبة، التي كانت تحاول بشتى السبل إلصاق التهمة بي رغم عدم وجودي في المقر أثناء وفاة اثنين من المعتقلين، لكنه أصرّ على بث دعاية عني وحاول نشرها بين الأنصار والناس،هذا ما حدث في حينها، في ذات الوقت أوصل المعلومات إلى السلطة بطرقه "التنظيمية" .

أما وقوعه في كمين أثناء عبوره للطريق في وضح النهار في منطقة العمادية فكانت نتيجته مفضوحة إذ استشهد النصير أوميد شقيق نادية زوجة ملازم أزاد، لكن أبو طالب ترك على الفور، بعد أن اخرج لهم هوية خاصة فأفسحوا له الطريق والحادثة وقعت في النهار، أمام انظار أكثر من شخص شاهد ترك الجحوش أبو طالب ليفلت منهم !!.

قادة الحزب لم يحققوا في الموضوع، من المفترض أن يسحب أبو طالب ويجمد لحين التأكد من سلامة وضعه، لكن قيادة الحزب عبرتها !! هل كانت هفوة ؟ !! لا اعتقد..

بقي في موقعه ككادر قيادي، لحين الطلب منه التوجه إلى بغداد من قبل مديرية الأمن، في بغداد حدثت المصيبة الكبرى، قبل أن أسرد تفاصيل هذه الجريمة البشعة، أود أن اذكر إنني بقيت أثناء الأنفال محاصرا ً في داخل العراق، حيث كنت قد نزلت في مهمة للداخل بتاريخ28/تموز1988، أي قبل الأنفال بعشرة أيام فقط، وبقيت متخفيا ً في كهوف كردستان في ظل ضروف قاسية جدا، وعلى إتصال بعدد محدود من تنظيمات الداخل، حينها وفي تلك الأيام الصعبة وصلتني معلومة بوجود أبو طالب في بغداد، وإنه عميل للنظام البعثي، صلته مباشرة مع مدير الامن العام، وقد أهداه سيارة ودار سكن .

أثناء خروجي إلى سوريا في منتصف تشرين الأول من عام 1989، نقلت لقيادة الحزب من خلال توما توماس، الذي كان يقود محلية نينوى، ويشرف على مكتب القامشلي، وكذلك في دمشق عبر أبو داود حميد مجيد موسى الذي كان يشرف على التنظيم المركزي للحزب برسائل تحريرية مجموعة أخبار عن الداخل، كان من بينها وأهمها، مسألة تعاون أبو طالب مع الأمن وتواجده في بغداد، بتلك التفاصيل التي لم تكن من نسج الخيال .. كان الدافع العاجل لذهابي إلى دمشق إيقاف محاولة شقيقي كفاح في النزول إلى الداخل اخبرني عنها في رسالة بعثها لي من راجان عبر بريد أبو حكمت في إيران الذي كان بدوره مراقبا وكانت رسالة كفاح مكتوبة بالطابعة فحاولت أن امنعه من النزول إلى الداخل بحكم معرفتي بتفاصيل الإندساس وكان هذا هو الهدف الرئيسي من لقائي بأبو داود، بعد أن رفض أبو سليم الإستماع إلي قبل يوم في مكتب دمشق، رغم إلحاح أبو سيروان ولبيد عباوي عليه لكنه أصّر على رأيه وهدد بمغادرة المكتب، ولهذا التصرف علاقة بإجتماع القامشلي والحوار الذي دار بيني وبينه، حينما سألته هل صدام حسين وطني وأخطأنا بحقه عندما لجأنا للكفاح المسلح وطالبنا بإسقاطه ؟ أمْ إنه دكتاتور يتزعم نظام فاشي لا يجوز اللقاء والمصالحة معه ؟

فأجاب صدام وطني... ليش مو وطني ؟، كان عزيز محمد حاضرا في اللقاء، جاء النقاش عن طبيعة نظام صدام حسين وإحتمالات التفاوض معه من جديد في إطار إفرازات البيرسترويكا في وثيقة نيسان التي كانت تشير إلى إمكانية العودة للحوار والمصالحة مع النظام، كادت احزاب أخرى تتورط في هذا الإتجاه من بينها الحزب الديمقراطي الكردستاني، لولا مغامرة صدام في غزوه ِ للكويت .

بقي أبو طالب في موقعه يدير التنظيم في الداخل، كانت المسخرة الكبرى لي ما طرح في الثقافة الجديدة وطريق الشعب من أخبار وتقارير كان مضمونها أن منظمة بغداد تمكنت من طبع وثائق ومطبوعات وزعتها في بغداد بأعداد كبيرة وفحوى الخبر يعكس إمتلاك الحزب لإمكانيات فنية ووسائل طباعية جيدة، أعقبها نشر تقرير شامل فيه تحليل عن الأوضاع في العراق نشر مع تذييل وتنويه، تم طبع هذا التقرير الشامل بإمكانيات فنية مطبعية خاصة من قبل منظمة بغداد، كنت قد عشت تجربة العمل في الداخل، صعوباتها البالغة وحجم مخاطرها، وقفت مشدوها ً اقلبُ هذه المعطيات، قلت بلا تردد للجميع هذه النشاطات هي بعلم الأمن وبقية أجهزة النظام، العمل في الداخل لا تبشر بخير .

كان الكثيرون يعتبروني متشائما ً، أبالغُ في إستنتاجي وتقديري، لكن الزمن يدور وتدور معه الأحداث، تهيأنا للدخول كأول مجموعة انصارية إلى العراق، إستعدادالإحتمالات تطور الأوضاع بإتجاه حدوث إنتفاضة أو حالة تمرد، تمكنا من العودة والدخول في ذات اللحظة من الوقت التي أعلنت زاخو تمردها وإختلطنا مع جموع الناس من المدنيين والعسكريين والجحوش المتمردين توجهنا إلى زاخو ودهوك والقوش والشيخان والعمادية، حاولنا التخطيط لتحرير الموصل وفشلنا، عاد الجيش من جديد إلى كردستان، إنسحبنا نحو الحدود التركية لبضعة أيام، عدنا من جديد إلى بامرني، سرسنك، زاويته، دهوك، تغيرت خارطة العراق السياسية والجغرافية، أصبحنا نعيش في جزء محرر من العراق، المحمي بقرارات وقوانين دولية، فتحنا مقراتنا في المدن المحررة، كان لمحلية نينوى مقرا رئيسا في دهوك وآخر في باعذرة...

في دهوك جاءنا جهينة بالنبأ اليقين، كنتُ حينها سكرتيرا ً لمحلية نينوى، وعضوا في لجنة إقليم كردستان، التي كانت مندمجة مع اللجنة المركزية، في صيغة عمل تخطط لإعداد وثائق المؤتمر التأسيسي للحزب الشيوعي الكردستاني، جاءني احد الأصدقاء مِمَنْ إلتقى بشخصية هامة تعمل في مديرية الأمن العامة مباشرة ً، قال لي : أستطيع أن أؤمن لك لقاء مع شخص لديه معلومات هامة عن وجود إندساس خطير في صفوف حزبكم، وسرد لي ما عرفه بعجالة : لديكم تنظيم في بغداد، يعمل فيه أكثر من 100كادر مكشوف من قبل الأمن، وأحد العاملين فيه يدعى أبو طالب عميل امن، يقود العمل أبو فاروق وعدد من أعضاء اللجنة المركزية، و جميع مراسلات الحزب مكشوفة، بما فيها شفرة المكتب السياسي، الخاصة للمراسلة مع كوادر الحزب، والدور والبيوت التي ينزل فيها كوادركم جميعها بعلم الأمن، كذلك المراسلين هم من معتمدي الأمن، أمّا الدار التي ينزل فيها أبو فاروق فهي مراقبة بالفيديو في داخل غرفه زرعت كاميرات تصوير دقيقة وأمام الدار شقة للمتابعة والمراقبة يديرها ضابط بدرجة عقيد، و لكل كادر رقم سري لضبط حركته، المسدسات سحبت ابرها وأستبدلت بطريقة لا تطرق كبسولة الإطلاقات، للأمن نسخ من مفاتيح البيوت التي يتواجد فيها الكوادر، إلخ ... كانت تفاصيل مخيفة ومقززة للغاية... وقفت مذهولا ً أمام هذه المعطيات، وفكرت بالطريقة التي يجب أن اتبعها لمواصلة متابعة الموقف وإحتمالات أن التقي بالشخص أو تصلني منه معلومات خطية خلال يومين، قلت لا يمكن أن أغادر ولا يجوز أن استخدم اللاسلكي لإيصال الخبر، لم أجد من حولي إلا أبو سربست من هو مؤهل لهذه المهمة الخطرة، رغم وجود عبد الرزاق الصافي يومها في مقر دهوك لكني لم أثق به، كي أأتمنه على هذا السر الخطير، المعروف عنه ثرثرته المزعجة وعدم شعوره بالمسؤولية، وميله لتأليب الرفاق أحدهم على الآخر وحبه لخلق التناقضات والخلافات في الهيأت، كانت طبيعة أخلاقة وتصرفاته لا تدفعني للثقة به في موضوع بهذا الحجم خاصة إنه يمس حياة عشرات الناس في الداخل وحياتهم مهددة، عند قراءة أبو سعود للرسالة جاءني في اليوم التالي أبو داؤد وأبو جوزيف، وضعنا خطة للتحرك من أجل الحصول على المزيد من المعلومات، تم استغلال الليل لساعات طويلة في لقاء مباشر مع الشخص المعني، بمساعدة من الأصدقاء في الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذين كانوا قد إستضافوا تلك الشخصية في مهمة خاصة تتعلق بنشاط قيادة حزبهم في تلك المرحلة ... حينما عاد أبو داؤد مع أبو جوزيف قال لي : لم يبقَ لنا شيء سالم ... لم يبقَ لنا خط واحد سليم ... كان في غاية التأثر .

في اليوم التالي إتفقنا على أفكار أولية لتكون أساس خطة للتحرك، من أجل إنقاذ

الرفاق في الداخل، أولا حصر الموضوع وعدم تسريب أية تفاصيل عنه لأية جهة لكن المشكلة كانت في وقوع الأوراق التي وعدني بها الصديق في يد أبو إيفان من محلية دهوك و إستنساخه لها وكذلك مرور أبو علي، حمة شريف، من دهوك وإطلاعه على الموضوع قبل ساعات من وصول أبو داؤد، والفكرة الثانية كانت الدعاية لقرب إنعقاد المؤتمر الخامس، من أجل أن تنطلي مهمة سحب الجميع على السلطة وأجهزتها .

قرر أبو داؤد إرسال رسالة إلى بغداد من خلال خط يجري فيه فتح البريد وتصويره من قبل جهاز الأمن قبل إيصاله وتسليمه لأبو فاروق، هكذا تم إستدعاء الجميع على مراحل لحضور المؤتمر الموعود، وصل عدد منهم إلى شقلاوة، جاء أعضاء اللجنة المركزية التسعة من بغداد 1- أبو فاروق2- أبو يسار3-ماموستا كمال4-ابو ربيع5-ابوكاظم6-ابوعلي7-هوكر 8-جلال الدباغ 9- ابو عادل، الوحيد أبو سلام،عادل حبه، قد سبق هذه الأحداث وقرر أن ينسحب ويغادر بغداد كان يشك في سلامة التنظيم ويعتبره مخترقا، إلتقيته في دهوك وحدثني عن شكوكه وإحساسه، ومراقبتهً على مدار اليوم أينما يحل ويمضي، كان حدسه في محله . أمّا بقية الكوادر في اللجان القيادية المحيطة باللجنة المركزية فهم كل من 1- ابو طالب 2- ابو حياة 3- سعدون 4-ملازم آزاد 5- نادية 6- حيدر حنفي7- أبو قاسم 8- سالم 9-ناظم 10-ماجد شقيق زوجة ابو علي 11- زاهدة زوجة ابو علي 12- ابو دريد 13- ام دريد،خناف، زوجته أبو دريد14- أم بهار، بخشان زنكنة زوجة أبو فاروق، وعدد آخر لا أذكر اسماءهم الآن ...

في شقلاوة حيث وصلناها من أجل إجتماع موسع للجنة الإقليم في قوام وفد ضمّ عدد من كوادر نينوى ودهوك اذكر منهم توفيق وأبو نصير ودلمان، وجدنا عددا ً من الأنصار والكوادر في حديقة المكتب السياسي، كان يتوسطهم أبو طالب .

في اللقاء ذلك حاول أبو طالب إستدراج توفيق للعمل في بغداد قائلا له : نحن نحتاجك في الداخل، لا توجد صعوبات كلها كم يوم وتأخذ تراي، وتتعود على الوضع، وقبل أن نفترق دعاني مع أبو نصير لجلسة عشاء، سألنا ماذا تفضلون من شرب؟

قال له أبو نصير: فودكا، اتفقنا على اللقاء بعد أن ننتهي من جلسات الإجتماع الموسع، إستغربت من إلحاح أبو طالب ودعوته لي، لم يكن بينا ود أو صداقة تستوجب هذه الدعوة، لكن الذي دفعني لقبول دعوته ما يمكن أن يحدث لأبو نصير ويدعوه للداخل كما فعل بتوفيق لذلك فضلت قبول دعوته، في الحديث الذي دار في جلسة الشرب والعشاء نوه أبو نصير إلى ما يمكن أن ينبه أبو طالب لموضوع الإندساس قائلا له : انتم تبنون وتناضلون وغيركم يخرب ويهدم ..... وبعد قليل أضاف يقال يوجد واوي بينكم .

إنتبهت الى مخاطر حديث أبو نصير وإحتمالات ان يجفص بالمزيد الإيحاءات عن الموضوع من دون درايته بحقيقة مضيّفه، طلبت من أبو طالب أن يجلب لنا ثلج من المطبخ اثناء غيابه قلت لأبو نصير علينا أن ننهي الجلسة لأمر هام وعلينا أن نغادر بعد دقائق، قال : تمهل دعنا نشرب الفودكا .

قلت له : لدي قنينة فودكا سأقدمها لك فقط دعنا نمشي . تركنا ابو طالب وجلسته، بحجة عدم إمكانية التأخير لتواصل جلسات إجتماعنا في الصباح الباكر، علينا أن نقرأ ونهيء مداخلاتنا، بعد خروجنا وإبتعادنا قلت له:

ماذا كنت ستفعل عن أيّ ثعلب تتحدث ؟

قال : ألا تدري ؟

قلت : ماذا ؟

قال : يوجد بين الجماعة ثعلب، وهم دايخين لا يعرفونه .

قلت : بغضب، من نقل لك الخبر كان عليه أن يقول لك التفاصيل كي لا تتورط، هل تدري إن الثعلب الكبير هو أبو طالب ؟ وشرحت له بعض التفاصيل، إندهش أبو نصير وعلق أخاف أن تكون الفودكا مسمومة!!، قلت له : إطمأن لقد راقبته وشرب منها قبل أن أمد يدي إليها .

سأل ماذا سنفعل ؟ قلت له مباشرة إلى أبو داود كي ننبهه بإنتشار الخبر وإحتمالات أن يتسرب الموضوع لأبو طالب ويهرب . في ساعة متأخرة من الليل قلت لأبو داود عليكم الإسراع في التحقيق مع أبو طالب، كاد اليوم أبو نصير أن ينبهه، بسبب جهله لتفاصيل المسألة، إعتذر أبو نصير وغادرنا مقر المكتب السياسي مع مشاعر أبو نصير وتوجسه من إحتمالات أن يكون قد وضع لنا شيئا من السم في الفودكا من قبل مضيفنا أبو طالب .

عن عدنان عباس يقول لطيف : ( في منتصف الثمانينات، وفي تجربة الكفاح المسلح، ومد خطوط حزبية إلى الداخل، أقدم الرفيق عدنان عباس في خطوة لم تكرر بمستوى قيادي يتخذ قرارا في العودة إلى الداخل وبالقرب من الجماهير، وليطلع على أساليب النضال الجديدة في مواجهة نظام دموي، كانت خطوة جريئة وفريدة، وهناك من حاول التقليل من وقعها ) .

موضوع عدنان عباس، أبوتانية، الذي كان عضوا في اللجنة المركزية، معقد للغاية، وفيه تشابكات وإمتدادات سأروي ما أنا مطلع عليه ولا ادعي امتلاك كل الحقيقة، رافق نزول أبو تانية إلى الداخل عبر قرية شاريا بمعية أبو هيمن دعاية كبيرة، تنص على وجود تنافس بين أبو تانية ولجنة التنظيم المركزية، وهو أي أبو تانية يمتلك من القدرات والمؤهلات التي تفوق قدرة لجنة التنظيم المركزية، حيث يحقق تنظيمه نجاحات متواصلة من خلال العديد من الكوادر من بينهم أبو هيمن .

رافقت أبو تانية إلى قرية شارية في حينها، رغم تحفظي على أبو هيمن الذي كنت اشك به، وأعتبره عميلا ً للسلطة، بعد مغادرة أبو تانيا لقصبة شاريا، تقدمت قوة كبيرة من الجيش لتطويق القصبة والمنطقة بأجمعها، في عملية مشابهة لما جرى في قرية سريجكا حينما ذهب أبو ماجد ومن معه لأيصال أبوبهاء، لكن خروجي السريع والفوري ولجوئي للجبل و الإحتماء بأحد الكهوف حال دون وقوعي في كمين للجيش، بقيت ُ مشغول البال إزاءَ مصير أبو تانية وكيف سيفلت من قبضة أبو هيمن ؟ وهو بين يديه في الداخل .

حينما عاد بعد فترة من إشرافه، كتب تقريرا ً إلى المكتب السياسي، أثنى فيه على عمل أبو هيمن، وقيمه بالمنجز الكبير والمهم وذكر وأطرى على الأوكار والبيوتات الحزبية التي أنشأها أبو هيمن، كان تقرير أبو تانية ومشاهداته يصّبُ في دعم أبو هيمن، ودحض التهم الموجهة إليه في محاولة لرفع حالة الشك عنه، بينما حصلنا من طرف آخر كان يرفدنا بالمعلومات الدقيقة من الداخل، النصير ياسين، إن أبو هيمن قد إستدرج أبو تانية بعلم الأجهزة الأمنية إلى الداخل، في إطار خطة إستبعدت التحرش به أو إعتقاله، من أجل أن توفر الجو، لكتابة تقرير إشراف ايجابي لصالح أبو هيمن، وهذا ما حدث، لذلك فقد مر أبو تانية خلال تواجده في الداخل بالعديد من المحطات الأمنية المهيئة للعمل كبيوت حزبية سرية، إنطلت الحيلة عليه، كان ضحية مخطط أمني عال ِ المستوى، لم تسعفه ملاكاته المحدودة ونظرته الإيجابية لأبو هيمن للإنتقال إلى موقع الشك، أو حتى الإحساس بترتيب الأمر بحكم إفتقاده للحس الأمني، وهذه صفة يشترك بها كافة قادة الحزب الشيوعي العراقي ممن عرفتهم للأسف .

علما إن أبو هيمن كان من العملاء المكشوفين حيث دارت حوله الشبهات منذ أن كان في السماوة في فترة الجبهة، وفي كردستان تعرض إلى موقف مفضوح في سوران حينما أبيدت مفرزة كاملة كانت معه، إدعى حينها إنه اختتبأ في مرحاض الجامع ولم يكشفه الجيش .

في بهدينان إكتشفه الشهيد أمين،عادل حجي قوال، في إحدى الجولات في دشت سينا، شاهده يلتقي بعنصر أمني وينطلق من بيته في محطة أولى تستقبله في مهمة نقله إلى الداخل، أبلغلنا حينها أبو سيروان، حاجي سليمان، الذي كان سكرتيرا ً لمحلية نينوى، بالموضوع وبدوره أبلغ المكتب السياسي، بعد مجيىء أبو يوسف، سليم إسماعيل لقيادة الإقليم أبلغته بالموضوع وسلمته نص رسالة الشهيد أمين، قال لي: إنّ المكتب السياسي قد أخذ هذه المعلومات بنظر الإعتبار.

لكن الذي حيرني كيف يعود أبو هيمن للداخل من جديد ؟ لهذا بدأت اشك بوجود اناس آخرين في قيادة الحزب يسهلون تملص أبوهيمن من إجراءات الإعتقال أو التحقيق الجاد معه، مما دفعه للتمادي في التصرف إلى الحد الذي أصبح يأتي إلى مقر مراني بسيارة دبل قمارة، مارا بدهوك وزاويته وسوارتوكة وإسبندار وسواري في الوقت الذي كانت فيه السلطات قد منعت مرور الآليات بما فيها الجرارات الزراعية لهذه المناطق في نطاق حصارها الأمني و الإقتصادي، في نفس السياق كانت الإجراءات هذه تطبق على قرى دشت سينا وشاريا، طلبت من بيت مام عبدال أن يطلبوا منه عند عودته جلب طحين ورز وحاجيات أخرى، حينما عاد أبوهيمن جلب معه كميات جيدة من المواد الغذائية في حوض السيارة الخلفي، مررها بسهولة، كان يجلب أيّ شيء يطلب منه.

امّا أبو علي، حمة شريف الذي هو عم زوجة أبو هيمن فقال لي : عندما كان في الداخل،تولدت لديه قناعات راسخة عن تعامل أبوهيمن مع أجهزة الأمن، وقد صارح أبو فاروق بالموضوع وأكد له، إنّ بيتهُ مراقبٌ وعليهِ أنْ ينتبه لأنه وجدَ أبو هيمن قي الشارع بالقرب من بيت أبو فاروق أثناء خروجه من لقاء حزبي، تكررت مشاهدة أبو هيمن مرتين، لكنّ أبو فاروق لم يتعض .الأسوأ من هذا قال أبو علي إنه قد كتب رسالة لأبو سعود، عزيز محمد، يقترح فيها التخلص من العميل أبو هيمن، لكن أبوسعود قد سرب الرسالة لأبو هيمن، وحينما إلتقاه " بالصدفة" في احد شوارع بغداد فاتحه معاتبا :ها... أبو علي تريد أن تقتلني موعيب مو اني نسيبك؟ ويبدي أبوعلي إستغرابه من هذا التصرف من قبل قيادة الحزب وأرجو من أبو سعود أن يقول كلمته في هذه المسالة ولا يدعها غامضة، فهذه مسؤولية أخلاقية تتطلب منا أن نكشف الحقائق للتاريخ والأجيال القادمة، و إستكمالا ً للمعلومات عن أبو هيمن، التقيت بشقيق زوجته في دمشق،أكد لي إنّ شقيقته قد كشفت صلة زوجها بالأمن وأبلغت الحزب، وأكد لي، حينما كان يذهب أبو هيمن إلى كردستان كانت أجهزة الأمن تحتجز إبنه كرهينة بين يدهيا لحين عودته،وقد إنفصلت عنه زوجته، وهو الآن مقيم في السويد ويعتبر من حالات الإندساس الخطيرة التي نفذت من العقاب والمحاسبة بسبب الوضع الأمني البائس والمائع لقيادة الحزب.

يسطرد لطيف :( في الوقت الذي كنت في كردستان تلقيت معلومات إن الاجهزة الامنية تروج معلومات مضللة عني، توحي بإلقاء القبض عليّ وصلت حد مشاهدتي في المعتقل، لتبرير فشلهم في إعتقالي، ولمتابعة ردود الفعل لدى بعض أصدقائي لتشخيصهم، وهو إسلوب متبع ومعروف، في الحملة الشرسة على جماهير حزبنا عام 1979، إتبعوا مع عدد من المناضلين الذين لم يرضخوا لإرادتهم إسلوبا ً مشابها ً بنقلهم في سيارات الأمن أمام الناس، في مناطقهم قبل أطلاق سراحهم، ونشر دعايات عن تعاونهم مع الأجهزة الأمنية، بهذا الإسلوب يحاولون تشويه سمعة البعض وخلق أزمة ثقة في صفوف المناضلين وقد نجحوا في الكثير من الحالات من إيصال، رسائل مشوهة إلى الآخرين لنفس الغايات( .

إتبعتْ هذه الممارسات في محافظة نينوى أيضا ً، إذ نقلتْ إلى الحزب عبر الجهات السورية في القامشلي، معلومات عن مشاهدة الرفيق أبو شوارب، أحد كوادرنا النشطين والمعروفين في الأنصار و سنجار، وخبرا ً عن مشاهدته في دائرة الأمن في حين كان في وقتها في القامشلي، ولولا خبرة أبو جوزيف ومعرفته الشخصية الدقيقة بالرفيق لأنطلت المعلومةعلى الحزب، كذلك تم إرسال رسائل إلى عدد من كوادر محلية نينوى بواسطة أقرباء لهم، طلب فيها التعاون مع أجهزة الأمن، مقرونة بالتهديد والوعيد وممارسة ضغوطات على أشقائهم كي يستجيبوا لهذه المحاولات البائسة .

تمكن لطيف من خلال مذكراته أن يختصر ما لم يتمكن أو يجرأ قوله، صالح ياسر القيادي في الحزب الشيوعي العراقي اليوم، في مداخلته التقييمية في حلقتين عن تجربة التحالف مع حزب البعث ( لكن كان فهمنا للتحالفات خطأ وبني على تكتيك ساذج مع البعثيين، زد على ذلك كنا ضحية تبعية فاشلة لا تمتُ بصلة ٍ حقيقية ٍ لواقع ِ بلدنا السياسي والتاريخي والأجتماعي، فخسرنا كل شيء، والتاريخ محايد وغير منحاز لأحد، يدون في سجله كل الأحداث بصدق وموضوعية( .

(علاء سفر من أهالي الحرية، عادل موات من أهالي بغداد، والثالث حسين من أهالي بغداد الجديدة، كانوا جميعا طلاب هندسة في جامعة بغداد و شيوعين سابقين في عام 1979 وقعوا في قبضة الأمن وجندوا ليواصلوا نشاطهم الحزبي بإشراف الأجهزة الأمنية، وإستنساخ طريق الشعب وبيانات الحزب وتقارير اللجنة المركزية بكميات كبيرة ويتم توزيعها في بغداد من قبل هذا الخط الحزبي المصطنع،كان هذه الخط يضم بين صفوفه شيوعيين يمارسون نشاطهم بصدق ولم يفطنوا لأرتباطاته المشبوهة، كان لهم حساباتهم الأمنية الدقيقة لمعرفة وتشخيص العناصر النشطة والخطورة عليهم وتتم معالجتهم بالإغتيال او الاعتقال، لإعطاء ديمومة لهذا الخط، كان راضي دبش الطالب في جامعة بغداد أخو وحيد أحد نشطاء هذا الخط، ألتقيته في بغداد عام 1987، وفاتحته بمصير رفاقه لكنه صدم ولم يصدقني دافع عنهم. أنا هنا أسجل بأمانة وإنصافا ً للتاريخ يوجد داخل هذا الخط من يواصل عمله بأمانة وشرف، ومن دون أية شكوك أو شائبة حول وضعهم . كانوا ضحايا لاساليب سياسة النظام، هذا ماإ كتشفته بنفسي في بغداد في أعوام 1986 1987 من خلال لقاء بهم . وصل علاء ورفاقه عادل وحسين الى كردستان، وقامت الأجهزة الأمنية في اليوم الأول من خروجهم بأقتحام بيت حسين في بغداد الجديدة وإعتقال بعض من أفراد عائلته أعتبرها البعض للتمويه وآخرون إعتبروها جزء من إرهاب السلطة، وصلوا قاطع بهدينان وأعترفوا في التحقيق، بعد فترة على وجودهم،تم تسليحهم وتنسيبهم إلى الفوج الأول في بهدينان، كشف أمرهم صدفة من خلال حديثهم حول آفاق عملهم ومستقبل وجودهم، لكنهم لم يفطنوا من أن احد الأنصار كان متدثرا ً الغرفة، فتمكن من سماعهم، وبلغ عنهم، تم أعتقالهم فورا ً شملت أعترافاتهم إدانة وحيد وأخيه راضي، ونفذوا بهم الحكم بعد أن أنهوا التحقيق معهم، هنا بدأت معارك جدية مع الآخرين هو التريث في إتخاذ القرارات بحقهم أولا، ثانيا إن الاعترافات التي أدلوا بها تحت التعذيب حول علاقة وحيد وأخيه راضي بالأجهزة الأمنية تتطلب الصبر والمزيد من البحث والتقصي هذه خلاصة موقفي من هذه القضية والتي مازالت تداعياتها تلقي بظلالها على مسيرة العديد من الرفاق ) .

الشيء المثير الذي جلب إنتباهي في هذه الفقرات من مذكرات محمد السعدي والذي يدفع المرء للحيرة والوجل هو تكرار ذات الأساليب من قبل أجهزة الأمن وعدم إتعاض قيادة الحزب الشيوعي والمشرفين على التنظيم من هذه الممارسات وتسهيلهم لمهمة تكرار الأخطاء والجرائم بحق أعضاء ومؤازري الحزب . مما دفع الأجهزة الأمنية للتمادي إذ يورد أيضا ً ( في عام 1987 التحق إلى قاطع بهدينان رجل مخابرات من عائلة شيوعية، كانت مهمته تصفيتي جسديا ً حسب إعترافاتة إلى اللجنة التحقيقية . كنت من حيث المبدأ اقف ضد تصفيته . وإنني نشرت خبر عنه في نهاية 1986 في ( طريق الشعب ) . إن السلطة داهمت بيتهم للبحث عنه للتمويه على عمله وتزكيته، شخص بالصدفة، وأدلى بمعلومات مهمة خطيرة . رغم نشر إسمه في طريق الشعب تحت عنوان إحذر هؤلاء!! ) .

كشف لي السيد أبو دريد الذي كان من العاملين في تنظيم بغداد في فترة أبو طالب إنه قد جلب الطابعة والمواد بتوجيه يسهل له هذه المهمة من قبل جهات ذات علم بتفاصيل الموضوع وإنها أتت في إطار الإختراق الأمني الذي وفر لنا هذه المستلزمات الفنية لإعطاء إنطباع موهوم عن قوة المنظمة الحزبية ونشاطها في عملية إستغفال لقيادة الحزب والكادر المتواجد في الداخل، وفي هذا الإطار أستذكر ماكان يفعله إعلامنا بحكم إشراف قيادة الحزب على المواد المنشورة فيه من محاولات للتغطية على العيوب وتلفيق الحقائق وإختراع القصص البطولية للبعض منها ما ذكر في حينها في طريق الشعب عن قيادي في الحزب لم يكشف عن إسمه في المقال، تحت عنوان (بطل من هذا الزمان)، كان يتحدث عن صمود هذه الشخصية ومواقفها البطولية في مواجهة الأمن، أثناء اعتقالها عام 1978 وقد سربت القيادة والمشرفين على جهاز الإعلام مع الموضوع المنشور، إسم أبو عامل كونه المقصود بهذه المقابلة، التي جاء فيها يرفض بتواضع التحدث والإفصاح عن نفسه وعن موقفه البطولي أثناء الإعتقال والسجن وما لاقاه من تعذيب، وقد خلقت هذه المقابلة شعبية كبيرة لأبو عامل، زادت من رصيده وحب الناس له بحكم ما يمتلكه من صفات إيجابية وتواضع وما يحمله من مثل وحسن معشر لكل من خالطه، لكن الحقائق هي الحقائق وفي السياسة توجد الكثير من الحقائق المزيفة لأنها تلد من إكذوبة .

في المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي العراقي الذي عقد في شقلاوة، وقف فخري كريم أمام المندوبين بعد أن حاول البعض محاصرته بتهمة سرقة أموال الحزب والتلاعب بها، التي نفاها مؤكدا إنه يطلب الحزب75 ألف دولار، وأعقبها إشارة منه ذات معنى عميق حينما قال : كل القياديين الذين وقعوا في يد أجهزة الأمن وكذلك العاملين في الخط العسكري لم يخرجوا سالمين وبصموا .... لم يكتفي بالكلمات، بل أشَّر بإبهام يده في حركة تشير إلى توقيع هؤلاء، على تعهدات للبعث !!!.

كنتُ جالسا ً بجوار أبو جوزيف، سألته على الفور : هل وقع أبو عامل على تعهد للبعثيين أثناء إعتقاله ؟ .

أجابني.. نعم، وقع على تعهد، بعدم العمل في الخط العسكري للحزب، كان جوابه صدمة ً كبيرة ً زلزلت كياني وبقيت أستذكر السنين التي مضت، في الكفاح المسلح وبقاء أبو عامل في موقعه القيادي طيلة تلك السنين، كانت تداعيات المسألة اقرب إلى المهزلة وراحت الأسماء تتواتر في ذهني وقلت من بقي إذن؟!!....

أبو عامل مازال حيا ً وأرجو أن نسمع منه رأيا ً يفند ماقيل بحقه، و عسى أن تكون الحقيقة شيئا ً آخر غير التي تم نقلها . وأرجو أن لا يكون صمته هو الجواب .....

ونمضي مع لطيف في مذكراته التي يقول فيها : ( تفرد الشيوعيين بميزتيين، تجلتا أكثر سطوعا في المهجر، هو عدم الوفاء لرفاقهم، رفاق الأمس يجلدونهم، إذا اختلفت في الرأي معهم، وثانيها، إنهم غير مهتمين بتاريخهم ولا يبالون به، لم يكترثوا وينقبوا صفحات ذلك الإرث النضالي والإنساني الذي يلفه النسيان المتعمد والغموض على امتداد 70 عاما ً، وممن تجرأ وكتب سفهه وحوصر لأنه لا يتفق مع السياسة العامة و النهج الذي أجبرنا على إدمانه ( . .( أخذت الاسئلة تحاصرني بحثا ً عن أجوب واقعية و مقنعة . هل تؤدي بنا هذه الطرق إلى الخلاص ؟) . (راودني شعور الخيانة وتداعياته،همست بخوف وحزن مع نفسي، أين هو الآن قادر رشيد ؟!! ربما أعدم من قبل الحزب بعد أن وصلتهم تفاصيل خيانته بتسليمي إلى الاستخبارات العسكرية كركوك، لم أكن أتصور في تلك الساعات المرعبة، إنّ الحزب يجهل ولا يعلم بتفاصيل إعتقالي على بعد أمتار ٍ من مواقع أنصاره ) (إلى اليوم أتسأل وغيري أيضا ً يبحث كيف تم أفراغ هذه التجربة من مضامينها الثورية والنضالية ؟ وكيف ومتى ومن وضع أليات العمل ؟ التي كانت بمنظورها العام وسياقها الزمني والتاريخي تهدم و لاتبني، الخطأ ليس بمشروعية هذه التجربة أم لا مشروعيتها، الخطأ كل الخطأ في من دار دفتها. )

( أود هنا أن أعرج على حقيقة مرة، على خلفية الخلافات مع الرفيق بهاء، بعدما كان بهاء، لي شخصيا، ولربما لجيل الجبهة وما شكله من تاثيرات على مساراتنا الفكرية من خلال كتابة ( أيام صعبة ... ذكريات شيوعي من العراق ) الذي يروي فيه مواقفه البطولية في الخمسينيات عندما كان سكرتيرا للحزب، أما في الثمانينيات عندما إختلفت وجهة نظره مع الحزب، نعتوه بالعمالة و الإرتباط بالأجهزة الأمنية العراقية، لم أخفي سرا، عندما طرق لسمعي هذا الاتهام الخطير لمناضل فدى حياته للحزب والوطن، أصابتني رجة فكرية لم أتخلص منها بسهولة وحددت لي مسارا ً جديدا ً في كيفية تعاملي مع الآخرين، أعطتني معاني أخرى للنضال والوطنية، ودافعت عن مباديء الحزب إنطلاقا ً من هذه القيم ) .

(عندما توجهت الى بغداد يوم 14- 2-1986 من قاطع بهدينان، لم أجهل وحيد وضعته في ذاكرتي لأتصل به، وسارعت اللقاء به لضروفي الصعبة في بغداد، كنت قد طرحت الفكرة على التنظيم قبل توجهي إلى الداخل بيومين، وجدت إصرارا بعدم التقرب من هذا التنظيم، للإشتباه بإرتباطه بالأجهزة الأمنية، ولقرب وحيد من خط حزبي تقوده المخابرات، وصلت خيوطه ومجريات التحقيق به إلى قواعد التنظيم في كردستان، من خلال ثلاثة أشخاص إلتحقوا وإعترفوا بارتباطهم مع الأجهزة الأمنية . بعد وصولي إلى بغداد، إتصلت بوحيد غير مراعيا لوصايا الرفاق، كانت هناك جملة إعتبارات لهذا التصرف من قبلي لا يستوعبها إلا من يعيش في تلك المرحلة الصعبة. هنا بدأت المشاكل مع التنظيم في كردستان، كنت أؤكد دائما مسؤوليتي الأولى عن هذا التصرف، لكنهم كانوا يعتبرون وحيد والمحيطين به خطوط أمنية وهمية لأيقاع الشيوعيين في مصيدتهم، حسب إعترافات أدلى بها الملتحقين الثلاثة، لم أكن أعرف بنتائج التحقبق، إلا بعد عودتي من بغداد عام 1986، بعد أن حدثني بها أبو ناصر فقطعت علاقتي بهم، لكن للأسف الشديد لم نتعظ ونأخذ العبرة من دروس الماضي بالغنا في تقديراتنا بحق الآخرين و ننظر إلى ضحايانا كجلادين من دون رحمة وضمير تمادينا بالتشهير بهم، إلى حد جلدهم . )

في ساعة الصفر تمكنوا من إلقاء القبض على جميع رفاق التنظيم، وبعد سلسلة من التحقيقات والتعذيب، أدت الى إعترافات كبيرة، شملت أيضا مستلمي رسائلي، الاستاذ جليل كمال الدين، حكم عليه عشرون عاما . محمود صالح حكم عليه أيضا عشرون عاما، .... أما الدكتور عزيز وفالح فتمكنوا من الوصول إلى كردستان. لقد توجهت إلى بغداد يوم 19860214 من قاطع بهدينان، بعد أن تركت قاطع السليمانية في أواخر عام 1985 وجدت جميع من أفكر بهم مشمولين بالاعترافات.

بدأت خطة عمل جديدة، وضعتها لنفسي بعد صعوبات لاقيتها في الأيام الأولى من وجودي في بغداد، تحديدا موضوع السكن، وصعوبة الاتصال بالناس الكل حذر، لاسيما بعد سلسلة الاعتقالات والاعترافات التي شملت أعدادا واسعة من الناس، كانت الأجهزة الأمنية تواصل بحثها، رفيقي عمر ( ابو الجاسم ) تأخر من الالتحاق بي .

ويسأله الجلاد ذات يوم : ( لو رأيت أخوك أحمد هل ستعرفه ؟! بعد سنوات طويلة عرفت إن أخي كان أيضا ً في زنزانات الشعبة الخامسة للاستخبارات العسكرية )

ويستكمل مذكراته بلقاء ٍ مع رجل عمل في معتقل الرضوانية الذي أفصح له عن بعض ٍ من طبيعة العلاقة بين أفراد هذا الموقع :

(هنا في السويد التقيت مع أحد العاملين في هذا الموقع المرعب، علي حسين منصور، كان مع مجموعة، قبل أن يهرب من مهمة استخباراتية خارج العراق،لكنه قبل الالتحاق إستطاع الإفلات والوصول إلى كردستان، فألغيت الدورة، في إيران شخص من قبل احد المعتقلين العراقين ولاقى مالاقى في السجون الايرانية. حدثني كيف يتم أختيار منتسبي هذا الجهاز - ونسبة الذكاء تكون أهم الشروط، ان مديرية الاستخبارات العامة وتحديدا في موقع الكاظمية لها خمسة عشر شعبة، مع شعبتين إضافيتين في مواقع أخرى من بغداد، عندما سألته عن بعض العاملين في الشعبة الخامسة، سخر مني مؤكدا ً لاأعرف اسم احد منهم، وممنوع التعرف عليهم والحديث معهم فقط بحدود مهام العمل، في الشارع لايسمح لنا أن نسلم على بعضنا.)

ولصوت الخائن المسموع رنينه الأبدي ...( ناداني أحدهم بعنف أن استمع إلى شخص آخر كان متواجد ً في الزنزانة قائلا لي: أنت لطيف ولك ليش تنكر كل شيء .. ألم تكن في الفصيل المستقل وتنام في الغرفة مع الخونة .. وبدأ يعدد لي أسماء الرفاق، وقال أما الخونة الذين سبقوك في النزول إلى بغداد أبو سالار، ابو بشرى، ابو سرمد، ابو احمد، ابو عبير، ابو أثير، بعضهم قتل والاخرين تحت سيطرتنا . وستلتحق بهم أنت أيضاً .

سماعي لهذه الشهادة الواقعة صعقني،حاولت لملمة قواي البدنية لمواجهة تداعيات هذا الموقف المؤلم والمضحك، لكن لهذا الصوت المألوف وقعا أخرا على نفسي، كأنني سمعته لمرات عديدة، تسألت بألم من أين أتى هذا؟ وهل كان رفيقا لي بالامس؟ في محاولة بائسة وغير مجدية قمت بالتملل قليلا لاتأكد من رباط يدي، في محاولة لزحزحة الغطاء عن وجهي ورؤية محدثي، هل هو قادر رشيد أو واحد من صنائعه ؟ ليلة حفرت في روحي الألم والهزيمة، خرت قواي وإنكسرت، بكيت مرارة السنين، الذي صعقني التفاصيل الدقيقة عن حياتي في كردستان، ومهامي وتحديدا في الفصيل المستقل. الفصيل المستقل مهمته الأولى زج الرفاق في الداخل،. بهذه الادلة المجانية شدوا قبضتهم حولي. تظاهروا بالضحك والمقدرة

هجموا عليّ كالذئاب، إنتقاما من موقفي وصمودي الفترة ( القليلة )، قد تحسب هكذا من البعض، ممن لم يمر بهذه المواقف، لكنها طويلة بلياليها ومرارتها، ومشاهدها اليومية المريعة، الموت يأتي مع كل مشهد من مشاهد التحقيق والتعذيب، لا أتمكن من وصف تفاصيل تلك المشاهد، الزمن يكفيني،عشت بائسا ومكسورا، وساخرا ً ممن يزاودُ على المناضلين الذين إجتازوا بصمودهم البطولي عتبات زنازين الشعبة الخامسة ..

هذا ماجاء من حكايا في مذكرات الشيوعي لطيف وأيامه على الرصيف، ودعوة هي للمزيد من الشهادات الحية التي تكشف الوجه القبيح للقمع والتاريخ اللاإنساني لنظام البعث المقبور .

 

 صباح كنجي

منتصف /آب/2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 (2)

مسافات الحق والباطل --- والشهيد منتصر

 

في البدء - ينبغي أن أؤكد حقيقة أمثلتها ساطعة,وشخوصها أبطال -- ولاتحتاج الى أفتراءات حول مضمون وأهداف حركة الانصار الشيوعيين - والتي أنطلقت باكورتها في نهايات السبعينيات من جبال ووديان كردستان - بعد أن فرط التحالف الذيلي مع البعثيين . ذهب ضحيته المئات من الشيوعيين في سجون الدكتاتورية بين الاعدامات والتسقيط السياسي من خلال أرغامهم على توقيع مادة رقم 200 السيء الصيت - بموجبها يحرم على المناضل العمل السياسي الا تحت سقيفة تنظيمات حزب البعث - ماسميت أنذاك بالخط الوطني . ترك ألاف الشيوعيين من الكادر الوسطي والقاعدة تحت سطوة ورحمة الدكتاتورية - وتصاعدت هذه الحملة الشرسة ضد الشيوعيين بعد الهروب الجماعي من قيادة الحزب وبوثائق رسمية وبتغطية مباشرة وغير مباشرة من أجهزة النظام - وتركوا وراههم رفاقهم في بحر متلاطم الامواج تحت شعار ( خلص نفسك يا رفيق ) سأل سكرتير الحزب الاول عزيز محمد بعد أحداث المؤتمر الرابع للحزب في منطقة ( أرموش ) الحدودية عام 1985 من قبل أحد الرفاق . كيف سيكون مصيرنا أذا شن النظام هجوما علينا بعد أنتهاء الحرب العراقية الايرانية ونحن محاطين من دولتين معادتين هما تركيا وايران ؟ قال السكرتير للرفيق - أطمئن حاسبين كل حساباتنا - لكن عندما وقع الهجوم بعد أنتهاء الحرب ضاعوا الرفاق في الجبال والوديان ومعسكرات الدولة المجاورة وترك الحزب وممتلكاته - بهذه العقلية القيادية دمر الحزب وقادوه الى المهالك وتوج أخيرا بالخيانة الوطنية مع المحتل الامريكي ضد شعبه . تجربة حركة الانصار الشيوعيين كما أكدت عليها في كل كتاباتي كانت وسام شرف على صدور كلمن خاض غمارها - أنا شخصيا أعطتني أكثر مما أخذت مني في مجالات المعرفة والدراية والتجربة - وفخورا بها - لكن الى الأن أتسأل وغيري من الرفاق - كيف تم أفراغ هذه التجربة الثورية من مضامينها الوطنية - بعد ان فرضتها القاعدة الحزبية على قيادة الحزب في تبنيها - لكن سيشهد التاريخ لاحقا كيف تمكنت تلك القيادة في القضاء عليها بجملة قرارات وتسلكات وخيانات وما خفي هو أعظم . وهناك من يحاول أن يسيء الى فروسية هذا العمل الثوري - ويتجنى على تاريخ ونضالات هذه التجربة وشهدائها. يدعون أن بنادق الانصار كانت موجهه الى ظهور وصدور الجنود العائدين من جبهات القتال - وفي الاغلب صدرت من الذين لم يؤدوا هذا الواجب الوطني - فهو لايخلو من الخيبة والهزيمة . قدمت هذا السياق التاريخي كمدخل الى الموضوع الذي حقا أستفزني من خلال ألحاق الحيف بالمناضلين والتجني على تجربتهم - وسأتوخى الموضوعية والدقة والتجربة كما تعودت في كتاباتي . وسأتناول - رابطة الانصار ...... التي سرقت تاريخ سنيين من النضال والتحدي لمئات من المناضلين والانصار . في بداية سياقي للموضوع - حددت موقفي الواضح من تجربة حركة الانصار - وألان انا في صدد تناول رابطة الانصار - التي طرحت مؤخرا في مواقع الكترونية عديدة - ودورها الغير مشرف في الدوس على حياة المناضلين من خلال أقصائهم وتهميشهم وما أقرب اليوم الى البارحة - عندما حاول نظام صدام ألغاء تاريخ الناس . والذي دعاني الى الكتابة حجم الكذب والافتراء على ألية وأخلاقية رابطة الانصار من بعض الفعاليات هنا وهناك . كيف يتجرء المرء العاقل بعد مرور هذه السنين من الخيبات والفضائح والدونية - أن يطلي الحقائق على ممن كان جزءا من تلك التاريخ المسروق - لا أدعي أمتلك الحقيقة كلها - لكن في جعبتي الكثير من التاريخ والوقائع والمعلومات ممن عشتها في تجربة الانصار الشيوعيين - ست سنوات تمكني من أن أمتلك جزء غير قليل من الحقيقة مسيرة نضالية شاقة من مناطق قره تبة في جلولاء - مرورا بجبال كاروخ في راوندوز - نزولا الى قرية دوغات في دشت الموصل ووصولا الى الحبيبة بغداد والعودة ثانية . ودعوة شخصية مني ممن يريد أن يطلع على المزيد حول مضامين هذه التجربة - هناك تجربة لي بعشرة حلقات موجودة في موقع النور*

 أطلعت أخيراعلى مقالة في موقع الحوار المتمدن - وبعدها بيوم أعيد نشرها في موقع - البديل العراقي ... سعد العميدي - والتجني المر \ قضايا وسجالات - اليسار العراقي - للنصير أشتي . وأنا متعني هنا لمناقشة وتوضيح المغالطات والاحتيال على الحقيقة المرة - جاءت مقالته هذه ردأ على أدعاءات مقالة سابقة - للكاتب سعد العميدي - حول موضوعة رابطة الانصار - بين الواقع والخطاب التعبوي

يتحفنا النصير أشتي - بخطاب شديد اللهجة من الكلمات التقليدية الخطابية الساذجة - حول مؤتمرات الرابطة وأنتخاب اللجنة التنفيذية ونوعية وتوجهات الحاضرين بتبوأ مراكز قيادية في الرابطة وهم معاديين للحزب - ويتغافل ان الرابطة تدار من قبل الحزب وهذا لاخلاف عليه من حيث المبدأ والانتماء - أنا واحد من الانصار الشيوعيين والعشرات في مالمو ونواحيها - لم يدعون - لتلك المؤتمرات الضائعة بين التاريخ والمهزلة - ومعروفة نتائجها للمتابعين - والمبدئيين . مواقفنا الوطنية والتاريخية لم تسمح لنا بحضور هذه الفعاليات الواضحة الميول والهوى . لكن التجني على الحقائق والتاريخ - له حساباته المستقبلية على مستقبل وتاريخ حركة

= = = = = = = = = =

*http://alnoor.se/author.asp?id=316

الانصار الشيوعيين . لم يوفق النصير أشتي حتى في أدعائه - ان النصير ابو أكتبور - أستلم بمعيته راتبا تقاعديا - الذي أنفاها ابو أكتوبر - وتحداه ان يقدم دليلا واحدا على أستلام تلك التقاعد . أسجل هنا موقفي أنا ليس ضد منح هذا الراتب الى الانصار - هذه واحدة من أستحقاقاتهم التاريخية - الذين دفعوا أعمارهم قربانا لتلك التاريخ - الذي يحاول أشتي وزبانيته - سرقت بريقه الوطني.

يقول النصير أشتي --- وأخذت على عاتقها يقصد الرابطة - تحقيق ذلك لجميع الانصارالذين حملوا السلاح وخاضوا هذه التجربة لافرق بين شيوعي وغير شيوعي - مثلما هو لافرق بين حزبي وغير حزبي --- نحن أولاد تلك المؤسسة النضالية - التي تجاوز عمرها السبعين عام - ومازالت متمسكة بتلك السياسة التي تحرم الرأي الأخر وتهمش من يتمسك به - بل تفخخه بأطنان من مادة ( تي ان تي )الشديدة العمالة . أذكر ضمن هذا السياق - جريمة واحدة - بقتل الشهيد منتصر تحت التعذيب - بدون أدلة ولاأسانيد - أنه صاحب رأيا أخر- ما هو موقف ( الرابطة ) من الشهيد منتصر ؟ هل عادت أعتباره - باعتباره نصيرا شيوعيا ؟ طالما نشهد في أخلاقنا ورابطتنا عرسا ديمقراطيا وأستقلاليا - لافرق عندنا بين شيوعي وغير شيوعي -- بل حتى المعاديين للحزب هم أعضاء في اللجنة التنفيذية - كلام قد يسوق في سوق مريدي بأثمان رخيصة . أين موقف ( الرابطة ) من الذين ساهموا في قتل الشهيد منتصر؟ وهل ثمنته الرابطة - وكرمت أهله باعتباره شهيدا . ربما الرابطة --- عثرت على أضبارته الشخصية في ملفات المخابرات العراقية التي بحوزة أحمد الجلبي . أو ربما أيضا كان أسمه - مدروجا في قوائم أجتثاث البعث - من خلال منشورات عضوة مجلس النواب عن قائمة الائتلاف جنان الفتلاوي .

يقول النصير أشتي .... ويشير أن المؤتمرين الاول والثاني عقدا تحت شعار ( من أجل المساهمة الفعالة في العملية السياسية الجارية في بلدنا ومن أجل تعزيز الديمقراطية ) . أي عملية سياسية وأي ديمقراطية يتحدث - المعلوم لجميع المتابعين المنصفين وحتى المعادين - ان هناك في العراق المحتل من الامبريالية وعملائها كانتونات سياسية في المنطقة الخضراء - وديمقراطية المحاصصة الطائفية وقتل الضباط والعلماء وأغتصاب النساء وتهجير طائفي وسرقت أموال الدولة وتهريب النفط وحرق المكاتب وسرقت الأثار والتراث - والعراق الأن معروض في المزاد العلني بناسه وتاريخه وشهدائه . هذه المغالطات والتجني - تعيدني سنيين الى الوراء - وللحديث صلة عندما كنا أنصار كنا ندفع وبرضه عالي من مخصصاتنا الشحيحة - في التزاحم على شراء مجلة النهج - مجلة الحزب الشيوعي العراقي - بهذه العقلية ظللنا وخدعنا وأنت واحد منهم أشتي - لكن للحقيقة مرارة أيضا - عندما ندركها متأخريين - أن مجلة النهج - صاحبها فخري كريم - هل طالبت الرابطة - بمحاكمة سارق أموالنا وتدمير حزبنا .

في المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي العراقي الذي عقد في شقلاوة . وقف فخري كريم أمام المندوبين بعد أن حاول البعض محاصرته بتهمة سرقة أموال الحزب والتلاعب بها - التي نفاها مؤكدا أنه يطلب الحزب 75 ألف دولار - وأعقبها أشارة منه ذات معنى عميق حينما قال .... كل القيادين الذين وقعوا في يد أجهزة الامن - وكذلك العاملين في الخط العسكري لم يخرجوا سالمين - وبصموا ... لم يكتفي بالكلمات - بل أشر بابهام يده في حركة تشير الى توقيع هؤلاء - على تعهدات البعث .

هذه دروس بليغة في النضال والمواقف - تدعوا المناضل الحقيقي والوطني والذي تهمه تاريخ الحركة الشيوعية في العراق ببريقها الوطني - أن يرسم مواقف ومسارات جديدة وجذرية لعيون شهدائنا - شهداء الحركة الشيوعية العراقية - وهناك في العراق المحتل - بواكير نهضة يسار جديد يعيد لنا تاريخنا النضالي والوطني في طرد المحتل من بلدنا وقاعدته وميليشياته ومحاصصته الطائفية - وسننعم بعراق ديمقراطي وشعب سعيد - والى غد قريب .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

.

 

 

 

 

.

 

 

(3)

بشتاشان بين الواقع والخيال

 

للمؤلف قادر رشيد وبعنوان بشتاشان بين الالام والصمت صدر كتابه , وانا اعنون مادتي بشتاشان بين الواقع والخيال لما تضمنته صفحات الكتاب ثمة مغالطات مست جزء مهم من تاريخ الحركة. وشوهت احداث مازالوا شهودها احياء. وانا واحد ممن عشت في قلب تلك الاحداث , وأعني تحديدا عشت الحدث بتفاصيله اليومية من انسحاب , وقتال , وهزائم وللاجيال القادمة في صنعهم للتاريخ فلابد للحقيقة من ان تتكلم , وانطلاقا من موقع الامانة, وانصافا للتجربة وشهدائها وصانعيها وابطالها أروي شهادتي حصرا على ما سطرته صفحات الكتاب المقلوبة والمغلوطة .

في نهاية السبعينيات تعرض الشيوعيين العراقين الى هجمة شرسة , تهدمت خلالها كل تنظيماته في عموم العراق بعد عرس دام خمسة سنوات مع البعثين تخللته ايام صفاء وحب وايضا ايام تنافر وزعل انتهت الى الطلاق الابدي فانتقل اللاف من الشيوعين الى خارج الوطن مضطرين بعد اشتداد الحملة وصدور قرار 200 السيء الصيت الهادف الى التسقيط السياسي في خضم هذه الاحداث الدموية وتداعياتها المتسارعة, تنازل الالاف الشيوعيين عن تنظيماتهم والابتعاد عن حزبهم لشدة وطأة الحملة الشرسة وأساليبها القذرة , وكان ايضا شعار خلص نفسك هو الاخر مساهما في ابتعاد الشيوعين عن حزبهم , وظلت عشرات الاسئلة بدون أجوبة , ربما الى الان يبحث البعض منها عن جواب .

تبنت القاعدة الشيوعية سياسة الكفاح المسلح. أسلوبا نضاليا متطورا لرد اعتبار الحزب ورفاقه , وثأرا لشهدائه الذين قتلوا في زنازين وأقبية البعث , وكان للقيادة الحزبية ايضا حساباته في تبني هذا المشروع النضالي . فاصبح نهجا نضاليا جديدا وكانت سفوح وجبال كردستان موقعا للانطلاق منه، فالكفاح المسلح عزيز على قلوبنا, ووساما على صدر كل من خاض غماره وتجربة اعطتنا أكثر مما اخذت منا بغض النظر حول الاختلافات التي سبقته , وفيما بعد رافقته في مسيرته النضالية . حول طرق وأساليب العمل به , كأسلوب نضالي يقتضي ان يرتقي الى مستوى تلبية حاملي اهدافه. هذه مجرد توطئه بسيطة للدخول في مناقشة تفاصيل الكتاب بشتاشان بين الالام والصمت .

أود ان اشير الى التفاته مهمة , من خلال أستعراضي للكتاب , ان مهمتي تنحصر فقط على الاحداث التي عشتها وواكبتها بتفاصيلها اليومية بغض النظر عن نتائجها لكن تبقى جزء مهم من تاريخ الحركة فهي ملكا للناس ولهم الحق في تقيمها من خلال عكس حقيقتها على ارض الواقع بدون تزويق ولارتوش . فمن يريد ان يكتب ويخدم الناس .يجرد نفسه من الانانية ويبتعد عن الانا. ويضع في مقدمة مهامه مصلحة الشعب . الحركة . الناس. حول احداث ( بشتاشان ) هو الهجوم الذي أكتسح مقرات حزبنا في منطقة بشتاشان في يوم 1 أيار من عام 1983 على يد مسلحي قوات الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة نوشيروان الى تشريد المئات من الانصار الشيوعيين وضياعهم في تضاريس الجبال , واكوام الثلوج . وسقط العشرات من الشهداء الشيوعيين , ومنهم من وقع في الأسر , وأعدم رميا بالرصاص وتحديدا الرفاق العرب . مما سببت نكسة كبيرة في تطور الحركة , حيث اصيبت بالانهيار . لكن بصمود الشيوعيين تمكنت بعد فترة من استرجاع وضعها الطبيعي .

في معرض استعراض المؤلف قادر رشيد حول بشتاشان - كان يلوم الجميع وينتقد --- وهو فقط المعارض لسياسة الحزب في اختيار بشتاشان موقعا قياديا . هو المنقذ والواعظ في التصدي لكل اخفاقات التجربة . تجده حينا يلوم الى حد الطعن في اساليب الاتحاد الوطني الكردستاني في مجازر بشتاشان الى حد اعتبارها جريمة ويجب استنكارها . ودحض كل أدعاءاتها التبريرية التي ادت الى ذبح الشيوعيين . ونحن الشيوعيون نتطلع من قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني ومن مام جلال شخصيا الاعتذار من عوائل الشهداء الشيوعيين . يحاول المؤلف تارة اخرى ... اعطاء صفة الشرعية على جراتم بشتاشان ردا لاعتبار معارك واحداث وادي بليسان الذي يحمل الشيوعيين في نتائجها . اود التنويه ان المؤلف ايضا وقع في الاسر ... وخرج متأبطا مسدسه الذي هو أكرم به من قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني .

المادة الاولى التي سأناقشها في معرض تصديه للكتاب . بل سأرجع الوقائع الى نصابها , بعد ان شوهت . أحداث ( خورنوزان ) ايضا اود الاشارة ان السيد قادر رشيد في تأليفه للكتاب وطريقة تناوله للاحداث . طرق بابا , ربما لايجرء الاخرين حتى على القرب من عتبة الباب , باعتبارها قضايا مقدسة لايجوز المساس بها , بس هو مسها واراد فضح العديد من الاحداث التي مازالت مطمورة . وانا اناقشه من باب تبيان الحقائق لانه كنت مساهما فعالا بها.. وايضا ان لايفوتني ان اشير كان قادر رشيد سببا في ايقاعي في يد المخارات العراقية عندما كان مسؤولا على محلية كركوك - وسليمانية عام 1987 في منطقة ( طوزخورماتو ) عندما توجهت الى بغداد , وكان هو مسؤولا عن سلامة ضمان طريق أمن لي والوصول بسلام الى بغداد .... أدت الى وقوعي بيد المخابرات . وفي الايام القادمة ستصدر اوراقي الشخصية . وستقف طويلا في فضح حيثيات وملابسات ونتائج هذا الموقف . أعود الى خورنوزان ..... اعتبرها المؤلف ومصورا احداثها هزيمة سياسية وعسكرية , باعتباري كنت في الموقع , وعشت الحدث بتفاصيلها , ومازالوا بعض الانصار كانوا ايضا في الموقع , وواكبوا احداث الهزيمة السياسية والعسكرية كمايحلوا له تسميتها . ايضا قادرين ان يدلوا بشهادتهم على الاحداث . لانه السيد المؤلف تناول الحدث بالمقلوب تاريخا وواقعا .... سأقطتع فقرات من كتابه .. للتوضيح ما حدث للقراء ولقادر رشيد ايضا , لانه كان بعيد عن وقع الحدث مكانا وزمانا .... فوقع أسير خياله البعيد عن صلب الحدث . للتعريف بخونهوزان واحداثه . لابد من مرور سريع حول كهف ... هزارستون .. معناه بالكردي تعني ( ألف دنكة ) كان كهف يحتوي بفعل الطبيعة على مجموعة غرف وصالات , تمتاز بنشعة البرودة الكردستانية في الصيف , لا يكسر سكونه الليلي سوى خفافيش الليل , التي تتألق في الطيران الليلي ... ومهربي المواشي والاغنام ...وتحركات الجيش الايراني وهذا الكهف يقع في جبل( سورين) المطل على منطقة سهل شهرزور . كانت خطة النظام هو اجتياح المنطقة . بعد ان بدأت تحركات ايرانية في تعزيز قواتها , وفتح طرق وشوارع جديدة . كنا فيه عشرة رفاق .... محسوبين على التنظيم المدني , في كهف هزارستون , اجتمعنا في الليل , وقيمنا التطورات المسكرية والسياسية . انتهت ان المنطفة يعمها الهدوء . رغم التحركات الايرانية , وكنت مكلف شخصيا السفر الى مقر قيادة القاطع وتسليمهم محضر الاجتماع , لكن الاحداث سبقت حتى تحركي من الموقع . في الصباح استيقظنا على صوت المدافع والدبابات , وعندما التزمنا سفوح جبل سورين, رأينا بأم اعيننا الدبابات العراقية في دشت منطقة (سيد صادق ) وهي تدق بنيرانها المواقع الايرانية التي هي خلف مواقعنا . وكانت قوة مهاجمة عراقية تتسلق الجبال في احتلال اعلى راقمين ايرانين وقتلوا الجميع . ماعدا ضابطين ايرانين فروا بجلدهم. فاصبحت المنطقة ساقطة عسكريا. وانسحبنا باتجاه مقراتنا في خورنهوزان ردت اوضح ان الهجوم على خورنهوزان هو امتداد الهجوم على هزارستون.

ص111 يقول المؤلف ( بعد احداث بشتاشان الاولى والثانية , تعرضنا الى هزيمة سياسية وعسكرية اخرى في منطقة ( خورنهوازان ) التابعة للمركز العسكري لحزبنا في السليمانية وكركوك . ان العدو لم يستطع السيطرة عليه رغم استعماله للطائرات والمدافع بالاضافة الى قواعدنا كانت توجد فيها قواعد لمقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني وحسك وباسوك وخاصة في قرية ( ميري سور ) المرحل سكانها. ان كهف هزارستون هي خاتمة لهذه السلسلة الجبلية والوديان والمضايق) يحاول المؤلف ان يشبك وقائع الاحداث بالخيال . متناسيا ان هناك ثمة بشر مازالوا احياء, وذاكرتهم لم تتلف. حتى يجرء كاتب وسياسي عاصر تاريخ الحركة من بداية انطلاقتها الى الابتعاد عن صلب الواقع, بنى جمله على ضوء تقديره الشخصي . أولا لم يكن هناك اي ربط ولاحتى تشابه بين ماوقع في بشتاشان وما وقع في خورنهوزان . فمن الجانب العسكري كانت ساقطة عسكريا. ونحن ومقراتنا تحت مرمى المدافع ودبابات العدو حتى طرق وممرات تنقلاتنا تحت رحمة المدفعية وهذا الوضع بدأ بعد معارك بشتاشان , حيث حوصرنه في شريط حدودي مع ايران بعد تحالف الاتحاد الوطني الكردستاني مع نظام بغداد, فالمنطقة لم تتعرض الى هجوم سابق مدعوم بالطيران كما يقول المؤلف, فكان هذا الهجوم الاول منذ ان وضعنا اقدامنا على هذا الشريط, بس اؤكد هناك كان قصف صاروخي ومدفعي يومي .

ص112 يقول المؤلف ( في صيف عام 1984 وفي ليلة حالكة الظلام وعلى حين غرة وبصورة غير متوقعة, هاجمت قوات عسكرية لنظام بغداد والذي لم يتجاوز عددها ثلاثون جنديا بقيادة ضابط برتبة ملازم مقر مقاتلي حزبنا واستولوا عليها بكل سهولة ودون اية مجابهة واطلاق نار دخلوا الى المقر , ان المقاتلين والكوادر السياسية الموجودة هناك والذين يبلغ عددهم اكثر من خمسين شخصا لم يتمكنوا من اي عمل سوى الفرار وانقاذ انفسهم , وحتى البعض منهم والذين كانوا يغطون في نوم عميق لم يتمكنوا من اخذ سلاحهم معهم وقد تركوا مقرهم دون اسلحتهم . وقد استولى العدو على كمية كبيرة من الاسلحة والعتاد والمواد الغذائية والحاجيات الشخصية ) .

أولا لم يكن الهجوم في ليلة حالكة الظلام .... الهجوم كان في ليلة قمرية من عام 1985 وليس كما ذكر عام 1984, وكان القمر بدرا , والنجوم تتلألأ في السماء , وكانت ليلة أربعاء, وفيه فيروز يصدح صوتها عبر اذاعة الكويت, تداهمك الشجون عبر صوتها الى الحنين الى الوطن والاحبة.ولم يكن الهجوم على حين غرة , بل كان امتداد للهجوم الذي سبقه في منطقة هزارستون, والذي لم يمضي عليه الا شلاشة شهور . اما القوة التي هاجمتنا في تلك الراقم , كانت المئات من الجنود بقيادة العميد قوات خاصة(علي عربيد) من اهالي العمارة وكانت القوة تتكون من سريتين فالسرية الواحدة في الجيش العراقي وفي الوضع الطبيعي تتكون من 56 محاربا , وليس ضابطا برتبة ملازم هو نفسه الذي أقاد الهجوم الذي سبقه وفيما بعد الحق بهجومات اخرى انتهت بالسيطرة الكاملة على المنطقة . ولم يجرءوا في تلك اليلة ولا التي بعدها من دخول المقر , فقط تم احتلال الراقم الذي كنا نتواجد فيه اربعة رفاق , وللتأكيد من عدم دخولهم المقر , ذهبنا بعد انسحابنا بليلتين الى المقر في الساعة الثانية ليلا وسحبنا بعض الاشياء التي كنا نعتقد مهمة , ولم نجد جنديا واحدا ولم يكن هناك اي مؤشر على دخولهم المقر ولم يوجد رفيق واحد قد ترك سلاحه ولم يستولي العدو على كمية من الاسلحة والعتاد ولا اية اشياء مهمة .

ص112 يقول السيد قادر رشيد ( ورغم انه لم تكن هناك خسارة في الارواح , الا ان الحادثة تعتبر هزيمة سياسية ومعنوية وعسكرية كبيرة , وقد تأذى الحزب كثيرا من جراءها , حتى ان الملك حسين ملك الاردن ارسل برقية الى صدام حسين يهنؤه فيها على انتصار قواته في هذه الحادثة ) .

يذهب السيد قادر في تناوله للاحداث من افاق ضيقة جدا , لاتتعدى ان تكون ضمن كواليس الصراع مع الاخرين من اجل تربع المسؤوليات , حتى خياله الخصب لم يحالفه في تقريب الوقائع , وبعيدا عن الاسانيد . فاية خصوبة خيال التي يمتلكها بان يدعي بان الملك حسين يقوم بتهنئة صدام على النصر لايتعدى ان يكون تعرض بسيط من جبهات القتال مع ايران .

هنا اود ان اذكر الكاتب ان الهجوم كان شامل ومخطط منذ فترة بدأ من هزارستون واتنهى بقرى ( بياراوطويلة ومقرات قيادة القاطع في كرجال ( مصيف أحمداوه ) ص 115 يقول المؤلف ( بعد هذه الحادثة باسبوع قام الحزب الديمقراطي بتجميع قواته في المنطقة وحواليها وشن هجوما مباغتا بقيادة الاخ نادر هه ورامي, مستعملا فيه مدافع الهاون والاسلحة الثقيلة الاخرى على (خورنه وزان) , ربما ان هجومهم كان مفاجئا وغير متوقع من العدو اصابهم الارتباك وفي معركة قصيرة تمت السيطرة على ( خورنه وه زان) وتم أسر الجنود الذين بقوا احياء ومن ضمنهم الملازم الذي قاد الهجوم في المرة الاولى . وتم نقل جميع الاسرى بما فيهم الضابط الى مقر قيادة البارتي في رازان . وقد بدأت اذاعة البارتي بنشر خبر هذا الانتصار مرات عديدة).

قبل مناقشتي لهذه الاسطر المأخوذة من صفحات الكتاب .... استرجع في ذاكرتي تفاصيل الهجوم . واعمل صادقا بنقل الواقع التفصيلي للهجوم ... كان مقر الفوج الخامس عشر في( خورنه وزان)بعد ان انسحب من منطقة شهرزور على خلفيات الاحتراب مع الاتحاد الوطني ولم يبقى للفوج الا مفارز صغيرة ومتخفية من مقاتلي الاتحاد الوطني بعد ان اصبحوا القوة الفعلية في المنطقة لتحالفهم ومفاوضاتهم مع سلطة بغداد ..... والتي انتهت بالفشل . ففي معمعة هذه التطورات وسقوط منطقة هزارستون في ربيع 1985 . نسبت مؤقتا الى موقع الفوج في منطقة( خورنه وزان) مع الرفيق عمر من اهالي الصويرة . استشهد في ايام الانتفاضة بعد هزيمة الجيش العراقي في الكويت . حيث عاد وعبر ايران الى مدينته للقاء بابنته رماح الذي لم يلتقيها بحياته , ومات قبل الوصول واللقاء بها .

كان هناك تنسيق بين الفوج الخامس من الحزب الشيوعي العراقي وبين قوة من الحزب الديمقراطي الكردستاني نوجة خانقين ( فرع خانقين ) للمرابطة ليليا عبر مفارز صغيرة في حماية الوادي التي تتواجد فيه القوتين من خلال الالتحاق بالربتين في قمة الجبل الذي تركهما النظام لاشتداد الحرب مع ايران في المنطقة الجنوبية . ونحن الشيوعين كنا مسؤولين واحدة من الربايا . والحزب الديمقراطي مسؤول عن الاخرى التي هي اقرب الى تقدم الجيش العراقي لانه واقعه في سفح الجبل , بينما ربيتنا في قمة الجبل والمسافة بيننا ببعد النظروكانتا واقعتان على خط مستقيم . العديد من المرات كانت مفرزة الديمقرطي لم تلتحق الى موقعها . مما اثار استغرابنا , وايضا احتجاجنا . ففي تلك الليلة القمرية كنا اربعة رفاق . . انا .. وابو زاهر مسؤول المرزة مع رفيقين . التحقنا في ربيتنا الساعة التاسعة ليلا , اما مفرزة الحزب الديمقراطي لم تلتحق في ربيتها في تلك الليلة ممااستحوذت على احاديثنا تعليقات سخرية انه ليللة مبيته لنا , ولاسيما منذ ايام قدمنا شكوى الى قيادتهم بعدم الالتزام بالواجبات الليلية والمنطقة تغلي على نار بسبب التحشدات الايرانية . استوعبنا الامر وقدمنا جملة تبريرات . وبدأنا بالحراسة منذ الساعة الثانية عشر ليلا . وكان دوري في الساعة الثانية ليلا , استلم بعد ابو زاهر . بعد استلامي بخمسة دقائق طرق سمعي اصواتا مع نسمات الهواء الصيفية . تقدمت باتجاه الوادي . فرأيت بأم عيني مئات من الجنود مدججين بالاسلحة ومحتلين كل الجبل ونوافذ الانسحاب فقط مترول لنا ممر في قطع جبلي ممكن من خلاله الانسحاب وهذا ماتم . بعد ان شاهدت هذه القوة عدت الى مسؤول المفرزة لابلاغه بالامر حالا قرر بأمر الانسحاب . لو فتحنا طلقة واحدة لكانت هناك مذبحة جماعية . كل رفاقنا كانوا نائمين في الوادي والجيش سيطر على القمم الجبلية , واذا دارت المعركة , وعند انبلاج الصباح لم نتمكن من الانسحاب الى وادي باني شهر باتجاه الاراضي الايرانية . فانسحابنا كان سهلا لانه تحت ستار الليل .... والى الان أتسأل لماذا لم يفتحون النار علينا ونحن ننسحب من الربية ؟ انسحبنا الى وادي باني شهر حيث كان هناك رفاقنا في الفوج التاسع . فتركنا مواقعنا جميعا باتجا عمق الوادي صعودا باتجاه الاراضي الايرانية . بدأنا بالاتصالات ووضع خطط جديدة . توصلنا الى قرار العودة الى المقر وسحب بعض الممتلكات وهذا تم بعد ليلتين من تاريخ الانسحاب . وانجزنا العملية من الساعة التاسعة لبلا الى طلوع الفجر . وكان موقعي في كمين حماية مدخل الوادي , ولم توجد هناك دلالات على دخولهم المقر بتاتا . واشتغل التنوير علينا حتى الصباح .

في الليلة التالية حددوا موقعنا , وبدأوا يقصفوننا على طول الليل كانت في كل ثانية تسقط علينا عدة قذائف, حيث تفتت الصخور وقلعت الشجار وتحركت الجبال , ونحن لابدين في الكهوف على مجامبع صغبرة ورغم قرب المسافات بيننا , لايعلم احدنا عن الاخر , الاتصالات مقطوعة. عند انبلاج الصباح , واندثار الليل الابدي , وتوقفت الحمم البركانية , فخرجنا من الكهوف بتعجب احدنا ينظر للاخر بوجع وهل انت بعدك طيب ؟ الجميع كان متوقعا بعد هذا القصف الوحشي ان قوات النظام ستكون في الصباح فوق رؤوسنا .

يقول كاكا ابو شوان ....... بعد الحادثة باسبوع قام الحزب الديمقراطي بتجميع قواته في المنطقة ........ الهجوم لم يكون بعد اسبوع , وانما بعدها بيوم توقعا من مقاتلي الحزب ان الجيش مازال في وضع قلق وبحاجة الى فترة حتى يستطيع تثبيت وضعه . والهجوم لم يكن بقيادة نادر هه ورامي ولامسنود بقصف مدفعي وهاون وانما كان محاولة لاقتحام الربية , نفس الربية يا كاكا ابو شوان الذي تركوه قوات الحزب الديمقراطي في ليللة الهجوم علينا , والجيش احتلها اولا قبل التوجة الى ربيتنا لانه من الناحية العسكرية هي الاقرب الى تقدم الجيش , وثانيا اهمية موقعها العسكري . فالمعلومات التي وصلت لنا كان الهجوم باديء في الساعة السابعة مساءا، وواحدة من نقاط الضعف, هو سيطرة الجيش على ربية الحزب الديمقراطي التي هي اصلا كانت متروكة في تلك الليلة . فنتائج الهجوم كان ثلاثة شهداء من الحزب الديمقراطي وبعض الجرحى . كان هجوما فاشلا لم يحقق اي نتائج ملموسة , فهم لم يحتلوا الربية . حتى يتمكنوا من استرجاع ( خورنه وزان), كما يذكر لنا الكاكا ولاتم أسر ضابط , ولا حقق الهجوم اي نصر , فقط دعاية امام القرى والجماهير واذا كانت اذاعة البارتي تتكلم عن الانتصارات فهي ضمن الدعاية الاعلامية . بعد الهجوم مباشرة تقدم الجيش واحتل مقراتنا وخيمنا . وصورت في التلفزيون العراقي واعتبرها اوكارا للعملاء والخونة .

بعدها انسحبنا الى الاراضي الايرانية , وانتقالنا الى مقر القاطع في كرجال , لكن هو الاخر لم يسلم من خطة النظام , فسبقنا الهجوم وتحركنا باتجاه مناطق شرباجير ... واصبح موقعا لقيادة القاطع الجديدة . هنا انا أسأل اين كان موقع ابو شوان من النسحاب الى شرباجير حتى قبل بدأ الهجوم ؟ هذا الايام ستجاوب عليه .

وايضا يذكر في ص 115 (( كان الرفيقان هيوا وابو ظاهر يحرسان القاعدة , وقد روى لي الرفيق هيوا وقال .... كنت ورفاقي على قمة المضيق نؤدي واجب الحراسة , وفي منتصف الليل رأينا ان مجموعة يتوجهون نحونا وكانوا يتحدثون بصوت عال , واقتربت المجموعة منا دون اي حذر , وحينذاك عرفنا انهم من الاعداء , لم تبق لنا فرصة للقيام بأي عمل سوى الانسحاب والذهاب الى المقر واخبار رفاقنا بالامر , وكانت قوة العدو تسير وراءنا مطلقين عدة طلقات مع مناداتنا للاستسلام , فهربنا نحن وتم احتلال خورنه وزان ووقع بيد العدو .

( يعتصر قلبي ألما ... ولم اصدق للوهلة الاولى ان سياسي مثل كاكا قادر يصل به المستوى ليس فقط بتحريف الوقائع , وانما ان يختلق اسماء ويعتبرها مصدرا لكتاب اراد به تنوير الاجبال القادمة على تاريخ تجربة خيضت بعناد ثوري رغم كل المعوقات التي اعترت طريقها . أولا لايوجد رفيقان لنا باسماء هيوا وابوظاهر ..... فهي مختلقة وكل ماجاء على لسانهم من خلال سرد الكاتب حول تفاصيل تقدم العدو فهو ايضا مختلق . الذي كان على قمة المضيق هو انا مع ثلاثة من الرفاق وكنا في المواجهة منذ اليوم الاول للتقدم بدأ من( هزارستون) الى( خورنه وه زان) وبعض التعرضات التي لحقت بها .

ص 116 يقول ( ان كل ما اتخذ من الاجراءات بعد هذا الحدث , هو ان الرفيق د . ( أ.ع) احد المسئولين في قاعدة خورن ه وزان ارسل الى موسكو حسب طلبه هو للالتحاق بعائلته , ونقل مسؤول اخر وحسب طلبه ايضا وهو الرفيق ( أ.ز) الى منطقة بعيدة خوفا من انتقام عناصر البشمركة منه . الى مقر القيادة في لولان واصبح خبازا للمقر هناك )

المقصود من أ.ع ... هو الدكتور ابو عادل كان مستشار سياسيا للفوج .. وهو مازال حيا وبامكانه التعليق . اما ( أ.ز ) فهو ابو زاهر الاداري في مقر الفوج وكان معي في ليللة الهجوم ... وليس عيبا ان يكون خبازا , كل الرفاق مع بعض الاستثناءات انت احدهم كانوا يقومون بهذه الواجبات الرفاقية.لكن مشكلة ابو زاهر حتى الانسحاب الذي أمر به حاول التنصل منه, وتحميل مسؤولية الاخرين وهذه المواقف تحتاج الى قوة قرار وجرأة . انا مازلت ادافع عن موقفي بعدم اطلاق النار مثل هكذا موقف يسبب مذبحة جماعية , وبعد عشرين عاما لو اعيد الموقف الان سوف اتخذ نفس الموقف .لكن الكاتب لم يشير لي انا ايضا بعد هذه الحوادث تم نقلي الى بهدينان الفصيل المستقل للتنظيم المدني , هل يعتبرها الكاتب ايضا عقوبة .

وفي نفس الصفحة من 116 يقول كاكا قادر (( قام الحزب بهذه الاجراءات , بعد ان اعلن البارتي ان الضابط الاسير قد اعترف لدى استجوابه بان قائدهم ابلغه وقال له : اذهبوا لاحتلال ذلك المقر دون خوف او وجل وستحتلونه ببساطة , وكان الملفت للنظر والسبب في انزعاج وقلق الرفاق والمواطنين في المنطقة هو ان هجوم قوات العدو جاء من الجهة التي كانت تتواجد فيها رفاقنا , وقد سيطروا على (خورن هوه زان ), ومما زاد الطين بلة هو ان مقاتلي حزبنا والاحزاب الاخرى لم يشعروا باية بوادر للتحرك من جانب قوات العدو في المنطقة ) .

اريد هنا اعلق على نقطتين بل أؤكد جازما باعتباري كنت في المنطقة في مواجهة الاحداث ... ووفاءا لمبادئي اقول :

اولا ... ان موضوع أسر الضابط ... كله لا صحة له وانه مفتعل , مثلما كان الهجوم وارجاع ( خورنهوزان) مفتعل .

ثانيا ... يا كاكا قادر . الهجوم لم ياتي من جهتنا . .. قبل التقدم بساعات نحونا كانت ربية الحزب الديمقراطي محتلة .

واخيرا لايسعني الا ان الفت انتباه كاكا قادر ان يتوخى الحقيقة والمصداقية في البحث حتى اذا تتطلب الموقف جلد النفس من اجل خدمة القضية واهدافها المشروعة , انتهى زمن تحريف التاريخ والان نواجه جيل اخر متطلع ويبحث عن الحقيقة في خدمة العراق شعبا ووطنا .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(4)

ملاحظات عامة - على لحظات حرجة وحادة

 

وصلتني يوم 8 حزيران من الشهر الجاري - مقالة على بريدي الاكتروني - بعنوان .... هوامش على لحظات حرجة ومنعطفات حادة ...للقائد النقابي والشيوعي الوطني أراخاجادور .... الذي أكن له كل التقدير في جرأته وموضوعيته في طرح الاحداث - مما تترك صداها البعيد والمفيد في نفوس الذين يتابعون همومنا النضالية - وتاريخ حركتنا الشيوعية العراقية - بعد أن كثرت الاسئلة والتي أحيانا لاتخلوا من خانة المسائلة والاتهام .... ما ألت اليه سياسة الحزب الشيوعي العراقي في الوقوف مع المحتل في معركته ضد الشعب العراقي في التحرر وطرد المحتل من أراضينا . طيلة سنوات غربتي في السويد , وأقول لزاما عليه التواصل في العلاقة مع الرفيق أرا - لانه كنت أنهل من شموخه الوطني - وموضوعيته في تناول الاحداث والدقة في توثيقها - و كنت كثير الالحاح في الاطمئنان على صحته - لانه في زمن يعتبر ضخرا نضاليا لايعوض - في تفاصيل مهمة ومنسية وتناسوها عمدا في تاريخ حركتنا الشيوعية العراقية - عندما أراد أن يكتب مذكراته في حديثه لي تبرعت له بكل طاقاتي وأمكاناتي في مد يد المساعدة - خدمة لشعبنا وحركته الوطنية . لانه للأسف الشديد هناك أعداد كبيرة من الشيوعيين لايقرؤن تاريخ حزبهم - مازالوا في تلك القوالب الستالينية الجاهزة - في عدم سماع الرأي الأخر - بل تخوينه - تحضرني هنا واقعة أليمة - تعبير عن عقلية الشيوعيين في التنظيم . أحدهم تهجم بطريقة متخلفة على مذكرات باقر أبراهيم - وأكتشفت فيما بعد أنه لم يتعب نفسه في قراءة سطر واحد منها - فكيف يتجرأ في تجريح جزء مهم من تاريخ شعبنا . لأنه تاريخ شعبنا هو تاريخ الحركة الوطنية . لابد لي هنا أن أسجل موقفي حول كل المذكرات التي صدرت من قادة الحزب الشيوعي العراقي وقرأتها جميعها وبغزارة - لم ترتقي الى هذا المستوى الذي كنا ننتظره في تقيم الاحدات - ونقد التجربة بشخوصها - والهزيمة الاخلاقية والسياسية التي لحقت بنا - بل أنتهى بنا السفر النضالي الطويل - الى خلية بسيطة عند أياد علاوي - وأصبحوا نزلاء دائمين في المنطقة الخضراء - يخافون شعبهم - ويتمتعون بأموال ودماء العراقيين تحت حماية حراب المحتل . أمتاز الشيوعيين العراقيين في المهجر بصفتين - والصفة في الاعراب دائما تتبع الموصوف . غير معنين في قراءة تاريخهم ونبشه - وثانيا - في تخوين رفاقهم - تفردوا بأمتياز بصفة عدم الوفاء مع رفاقهم . في عام 1984 وتحديدا في شهر شباط في كردستان منطقة ( كرجال ) القريبة من مدينة حلبجة - كنت نصيرا شيوعيا ألتحقت من تنظيمات الداخل بعد أن دوهم بيتنا محاولة لالقاء القبض عليه - ونجوت بأعجوبة غريبة . قررت منظمة الصدى ..كنت أحد أعضائها البارزين الالتحاق بفصائل الانصار في كردستان . تمردوا مجموعة من الانصار الشيوعين على قرارات قاطع سليمانية وكركوك - بقيادة بهاء الدين نوري أبوسلام - الذي قاد الحزب في مرحلة مهمة من تاريخه في مطلع الخمسينيات - أشتدت الخلافات على ضوء وثيقة التقيم لتاريخ الحزب منذ نشأته الى سنوات مسيرة الجبهة مع البعثين - فلم تروق لقيادة الحزب - فمنعته من نشرها - وفي سيرة ذاتية لي سأتوقف عند تفاصيل أحداثها . ما يهمني منها هنا - وللقاريء العزيز - في معمعة هذه الاحداث والخلافات مع الرفيق ابو سلام - تمكنت قيادة القاطع عبر أبواقها - قذف الرفيق ابو سلام بالعمالة للنظام - شكلت لي الرجة الدماغية الاولى في عملي النضالي اللاحق - وفي قناعاتي بعدما تكونت جزء منها في مسيرتي الفكرية - من... أيام صعبة عن حياة شيوعي من العراق - للرفيق بهاء ابو سلام .

تقول الاديبة والفنانة حياة شرارة ... على لسان أختها بلقيس شرارة - ( ان بعد تردي الوضع العام - عام 1961 - حيث وجد ان عراق نوري سعيد وعراق الثورة لايختلفان . فقررت حياة الذهاب الى موسكو للدراسة لانها كانت مصممة على ترك الحزب الشيوعي العراقي - بعدما خاب ظنها في العمل السياسي - وكانت على أختلاف مع الشيوعيين - ولم يكن بوسعها ترك الحزب والبقاء في الداخل - حيث سيتحول بعض أعضائه الى مهاجمتها ونعتها بالخيانة والجبن - الامر الذي كانت تتجنبه - كانت في صراع نفسي متواصل . فكان تقديمها بطلب الالتحاق بالبعثة لاتمام دراستها فرصة مناسبة للتخلص من هذا الجو والابتعاد عنه.)

وقد صورت تلك الخيبة على لسان أبطال أحد روايتها ( وميض برق بعيد ) سقت هاتين التجربتين رغم البعد الزمني بينهما لكنهما تصبان في تلك النهج الذي دمر تاريخ حزبنا . أنا أيضا أقول الى رفيقي أرا ... بل أؤكد على مصداقيته في تناول الاحداث . أن لم تكن قد عشتها - فضرورة توثيقها قبل طرحها للقراء والمتابعين - ومنذ خروجي من الحزب توخيت تلك الميزتين في النقاش والكتابة والبحث - ومازالت مترددا في طرح مسودتي في تقيم تلك المسيرة البسيطة من حياتي النضالية - لكنها تتضمن تفاصيل مؤلمة وجريئة - رفاقي كل من أطلع عليها دفعوني الى نشرها - ومن ضمنهم الرفيق أرا . لم يتجرأ قادة الحزب ممن كتب مذكراته في التطرق الى تفاصيل نحن بحاجة لها . لكن من ينظر ويقرأ مذكرات البعثين هاني الفكيكي - وخالدعلي الصالح وغيرهما يتلمس فيها الجرأة وجلد النفس - ونقد التجربة بتحمل مسؤولية شخوصها . ضمن رؤيتي للتجربة والقراءة - ستشكل مذكرات الرفيق أرا خاجادور العمر المديد له - وأدعوا الى الله ان يحفظه لنا ليواصل عطائه النضالي مع قضايا شعبنا . ستكون مذكراته فاصل مهم في تاريخ الحركة الشيوعية العراقية - بعد ان حاول الاحتلال ان يمنحها لقب الحركة الامبريالية العراقية . بعد أحتلال العراق والمواقف الغير وطنية من قبل الحزب دفعتني اليوم أكثر من البارح - أشد تمسكا بشيوعيتي - ومواصلة ذلك الطريق العادل والشريف الذي سرت عليه - ومن يفطن اليوم الى مأسي الامبريالية وأنتهاكها الى حرمات الشعب العراقي - سيتمسك أكثر بقضايا شعبنا الذي يقاوم الاحتلال .ومن يمتلك تكوين نضالي - حيث لانضال من يخدم الاحتلال .

تضمنت رسالة الرفيق أرا ..... منعطفات حادة وحرجة من تاريخ حركتنا الشيوعية - سأتوقف عند بعضها حسب معطياتي وتجربتي النضالية . دعا في رسالته الى ركيزتين أساسيتين تدعم نضال شعبنا في التحرير وطرد المحتل من أراضينا . الأولى الذي يبوبها بهذه الاولويه - وأنا على أتفاق معه . المقاومة ....... هذا المشروع النضالي والوطني الكبير - بكبر العراق وأهله - كنت أرى ومازالت منذ اليوم الاول للغزو 20030320 - على العراقيين الشرفاء أن يتصدوا لهذا العدوان الغادر - والهادف للنيل من العراق وأبنائه - بتحطيم نسيجه الاجتماعي والعلمي . وكنا على ثقة من خلال رؤيتنا للاحداث - وطبيعة المشروع الامريكي - معتمدين على تاريخ شعبنا ونضاله الوطني ضد الاستعمار والانتداب طبعا هذا- لم نخفي من ذاكرتنا سجل ونضالات مقاومة الشعوب الاخرى ضد الاحتلال . كانت تجربة شعب لبنان في الجنوب في طرد المحتل الصهيوني من أراضيه درس مليء بالمعاني والنضال - ومازال الشعب الفلسطيني البطل يقاوم المحتلين رغم سياسة الحصار والقتل - فالمقاومة العراقية كانت الاسرع في تاريخ مقاومات الشعوب من حيث التوقيت والدقة - والدلالة لفاعلية هذه المقاومة وأنتشارها - قتلى الجيش الامريكي حسب بياناتهم الرسمية واليومية والتي فاقت قتلاهم في أحتلالهم لفيتنام . وكل التقارير والدراسات تشير الى هزيمة قريبة من العراق وسينتصر شعبنا في حكومة وطنية تلم كل أبناء العراق الذين ناضلوا من أجله . وستندحر الطائفية والمليشيات والقاعدة وفرق الموت مع هروب الاحتلال . في يوم أحتلال بغداد وسقوط النظام - وفي حديث مع أحد المرتبطين بالتنظيم في مدينة مالمو - نصحته بايصال رسالتي الى الحزب - ان يتبنى الحزب مشروع مقاومة سلمية على أقدر تقدير - ليلم الجماهير حوله المتعطشه في سماع أخباره - ليرتقي الى مشروع وطني كبير بعيدا عن سياسة الاحتلال - وانطلاقا من تاريخه وأرثه النضالي في مقارعة الامبريالية والتمسك بمباديء الشيوعية الخلاقة في التحرر والبناء . هنا أقف عند منعطفين تاريخين في سجل الشيوعيين العراقيين في مقارعتهم للاحتلال والاستعمار . في عام 1941 وتحديدا حركة رشيدعالي الكيلاني - حركة مايس - في مقاومته للاستعمار البريطاني ومعركة سن الذبان - دعا الرفيق فهد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي رفاقه وأعضاء الحزب الى مقاومة الاستعمار البريطاني - وتأجيل الخلافات مع حكومة رشيدعالي الى بعد التحرير - لأنه الوطن في خطر . الانعطافة الاخرى - عام 1967 حرب حزيران مع أسرائيل . عندما أشترك الجيش العراقي عبر سوريا - طالبوا حكومة عارف كوكبة من الضباط الشيوعيين العراقيين من سجن رقم واحد في معسكر رشيد - بأطلاق سراحهم ومشاركتهم في الحرب ضد أسرائيل - والعودة ثانية الى السجن بعد أنتهاء الحرب - رغم الجراح والدماء من مأسي أنقلاب 8 شباط . أكد الرفيق أرا في رسالته على معاناة شعبنا من هتك وجوع وفقدان أبسط مقومات الحياة - وان وجود الاحتلال الكريه في بلدنا هو يجب ان يكون الشغل الشاغل وفي مقدمة أولويات النضال في التصدي لأجندة الاحتلال من طائفية ومفخخات تستهدف الابرياء من أبناء شعبنا . وان بغداد الحبيبة وحدها تحتضن اليوم 900 ألف يتيم في ظل الديمقراطية الجديدة وحقوق الانسان . هناك حقيقة تمسكت بها منذ اليوم الاول للاحتلال - بل ودافعت عنها ضد رؤية بعض الرفاق والزملاء - ونحن نسير على نفس الطريق طريق الوطنية والمقاومة . وها هو الرفيق أرا اليوم يقف بمسؤولية شيوعية ضد أستهداف الشرطة :

هناك فرق شاسع بين من تطوع كشرطي بسيط في جهاز الحكومة - تحت وطأة الجوع والحرمان اللذين فرضا على الشعب عمدا . حيث محاولات أغلاق كل فرص العمل الشريف . وبين العملاء المتمرسين في خيانة الوطن عن قصد وعمد .

تضمنت المقالة - جملة من التجاذبات السياسية حول الحزب وتاريخه وشخوصه - أستنادا الى بعض المذكرات والمقالات - ومايهنني أن أتوقف عند بعضها أنطلاقا من تجربتي وتقديري لها . حول ما عرف بمذكرة الشخصيات الوطنية - وردود الافعال بين مؤيدة ورافضة حول الشخصيات التي وقعت على المذكرة - وكما عرفت من مقالة الرفيق أرا أنه وافق على توقيع هذه المذكرة وهذه المرة الاولى - أنطلاقا من تجميع الناس ضد مشروع الاحتلال - الاعتراضات كانت من قبل البعض منطقية هناك أسماء كريه وغير نظيفة في العمل السياسي - وأنا كان لي مواقف سابقة على الاعتراضات على بعض الاسماء - أسوق هنا مثالا - مرات عديدة تستضيف قناة الجزيرة القطرية - أسماء تتكلم بأسم المقاومة العراقية - وهي بعيدة بكل قياسات العمل السياسي والاخلاقي أن تتكلم بأسم الوطن والمقاومة - لاتفسر من جانبنا - وأيضا من جانب المقاومين - الا الأساءة الى مشروع المقاومة من قناة الجزيرة ومن ضيفها القميء . العمل على قاعدة لملمة الناس - كل من هب ودب - ويتبجح في معاداته للاحتلال - هناك ناس مجرمين في زمن النظام السابق - وأرتكبوا مجازر بحق شعبنا ينادون بالمقاومة - هل ننظمهم بين صفوفنا - ونسمح لهم العمل بين صفوفنا - ونغفر لهم جرائمهم - هنا يجب ان نضع أسس وطنية للنضال. قبل أيام أستضافت قناة البغدادية أحد قادة المقاومة العميد الركن علي الفتلاوي - وضمن ماتحدث به - سؤال حول صدام - فقال بصريح العبارة لو تسنى لنا تحرير العراق - وصدام ما زال حيا - سنحاكمه على سياسته السابقة تجاه شعبه والمنطقة - يجب ان تضع الاسس النضالية والعمل السياسي من الأن .

تناول الرفيق أراخاجادور - في مقالته - حول الحملة الشعواء لتاريخ الحزب - والاخطاء - والتجني على بعض المواقف - والموقف من العلاقة بالسوفيت - والقيادة المركزية - وحركة حسن السريع - والعمل الحاسم - والعلاقة المالية مع البعثين أيام الجبهة . ولقاء براغ عام 1990 مع مبعوث السلطة الدكتور مكرم الطالباني- تم الاجتماع بحضور مكرم وجلال الطالباني وعزيز محمد وأراخاجادور - ومسعود لم يحضر بسبب صعوبات السفر من أيران- لكنه كان متفق مع الاجتماع ونتائجه - وكان الاجتماع مثمرا - وحمل عبد الرزاق الصافي - المحضر وذهب به الى سوريا - لكن هناك أنقلب القالب - واليميني أصبح يساري متطرف - بعدها سارق مالية الحزب .

أمام مجمل هذه الموضوعات - كما أكدت مسبقا الامانة في البحث والكتابة- مازالت أعتبر الذي يسمى أنشقاقا عام 1967 في أدبياتنا الحزبية - أعتبره أنتفاضة حزبية - أنطلقت في 17 أيلول من عام 1967 - ضد النهج التقليدي والمساوم في الحزب - وكانت من خيرة كوادر الحزب - أمتدادا لتلك العمل الثوري - أنتفاضة معسكر الرشيد البطلة ووصولا الى العمل الحاسم .

 سياسة التبعية الى السوفيت - أقف عند كتاب تاريخ الحزب للباحث حنابطاطو - يقول عندما تململ مجموعة من الضباط الشيوعيين في زمن حكم عبد الكريم قاسم - وأستلام السلطة لتفويت الفرصة على أعداء الثورة - بعثوا السوفيت جورج تلو عضو المكتب السياسي - الذي كان يعالج في مستشفيات موسكو الى العراق - والتحذير من أي عمل ضد قاسم وحكومته .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(5)

رسالة وتعقيب

 

ذكريات شيوعيه من العراق

الاخ صباح كنجي المحترم

أنا عراقيه وشيوعيه (حزبيه سابقا ) أتحفظ على ذكر أسمي لانني الان جده لحفيدين من أولادي كنت قد عملت في صفوف الحزب الشيوعي لسنوات طويله وكانت أروع سنين العمر قدمت ما أعتقد به وأمنت ومستعده أن أقدم لو تطلب الامر ....كنت قد طالعت 5 حلقات التي نشرتها في موقع البديل ** ولم أفاجئ بكثير مما كتبت من حقائق أنا عشت بعض منها ولكن أراك قد تجنيت على قياده الحزب انذاك وبرئت القاعده الحزبيه التي أن لم تكن بسوء القياده فأحيانا أسوء . وأليك تجربتي مع القاعده الحزبيه للحزب وخصوصا في فترة الكفاح المسلح ....سوف لا أدخل بتفاصيل وتعقيدات وتشابكات الحدث لطول شرحها وحفاضا على أسماء أناس لا زالوا يقدمون ما تبقى من عمرهم في سبيل الفكر الشيوعي !

عام 1982 كلفت من كردستان بالعوده الى بغداد لاعادة بعض الصلات المقطوعه وافقت رغم أدراكي خطورة وصعوبة المهمه وكانت أحدى التوجيهات المهمه من قيادة الحزب ( أذا وقعت بيد العدو فقد أمهلينا 48 ساعة لغرض حماية صلات الوصل ومن ثم أبلغي قوى الامن انك شيوعيه ) وكان هناك قصه متفق عليها يتم تمريرها للامن ....هل سأقبل المهمة وهناك مخاطر عديده أولها مصير أخوتي المعتقلين لدى أمن بغداد ....لقد كان الحماس هو الغالب لقبول هذه المهمة الخطره وبدون الخوض في التفاصيل وبعد مده وقعت بيد ألسلطه وتمكنت من الصمود 7 أيام وليس 48 ساعة وأعتقدت ان المهله كافيه ليلملم الحزب صلاته ونفذت بالحرف الواحد ما طلب مني ....وهنا بدأت مأساتي ....فبعد الاتفاق مع الامن بالعمل لصالحهم في داخل صفوف الحزب وهددت أذا أخلفت في الاتفاق فسيتم أعدام أخوتي .....عند عودتي لصوف الحزب في كردستان كان علي أن أختار بين خيانة أخوتي في الحزب وقطعا التسبب بقتل العشرات أو التضحيه بأخوتي الموجودين في السجن أخترت أن لا أخون(علمت بعد سنوات أن السلطة نفذت الاعدام بأخوتي) أبلغت الحزب بكل شئ ولتعقيد المعلومات التي بحوزتي والتي تشير الى حجم الاندساسات في تنظيم أقليم كردستان تم أشاعة الخبر عني أني سقطت بيد العدو وأعترفت بكل شئ وكانت هذه أصعب عقوبه وجهت لي نظرات الشك والريبه والاحتقار من أخوتي الانصار الا قله قليله لا تزيد عن أصابع اليد الواحده لم أحتمل كل ذلك وقلت في نفسي لماذا يا أخوتي أنا التي ضحيت بأخوتي الحقيقين وأخترت أن لا أخونكم هكذا تعاملوني ...مع الاسف ....هكذا يا صباح هذه القاعده الحزبيه والى الان والبعض من هذه القاعده والتي بلغت من العمر مرحلة النضوج التام لم تتخلص من فكرة القياده تعلم كل شئ وتعرف كل شئ ولازالت هذه القاعده ( أذا كان جائز ان نطلق عليا قاعده الان ) متمسكه باحكام قياده كانت تحاول حماية نفسها في العمل الحزبي للحفاظ على مناصبها .أو لاسباب أخرى ....وأنا أقرء حلقاتك الخمس يا أخي صباح ...تذكرت قصة مله عبود الكرخي والسمكه وهذا ما دفعني الكتابه لك عسى أن تتذكر القاعده الحزبيه ليس من باب التوبيخ بل أخذ العبر وأعادة تقويم الذات ......تحياتي لك

أختك للابد الشيوعيه

 أ .م

 

** لدي تحفظ على نشر مقالاتك عن ذكريات لطيف الشيوعي العراقي في موقع البديل وأنا أعتذر مسبقا للاخوه في البديل والاسباب كالتالي:

1- كان يجب نشرها أما في موقع الحزب أو موقع الناس هذين الموقعين شيوعيين ويمكن أن تصل الى الجميع.

2- وإذا لم ينشر لك في الموقعين أعلاها كان عليك أن تنشرها في موقع ( البديل تتحفظ على ذكر الاسم ) واعتقد في هذا الموقع تلاحظ أن أسماء كبيرة مثل عبد الرواق الصافي ينشر مقالاته هناك رغم أن الموقع يعج بالوساخات الطائفيه والشوفينيه.

3- موقع البديل محدود الجماهيريه غير منتشر في أوساط اليساريين العراقيين فلمن ستصل رسالتك ؟

مره أخرى أعتذر لموقع البديل والله ليس قصدي الاهانه

 

الأخت العزيزة أ.م

تحية حارة

منذ نشري للحلقات الخمسة التي قرأتِها،ورسائل الأصدقاء لم تنقطع عني تتابع مضمون ما نشر، وهناك هيئات ناقشت الموضوع، وبالرغم من إنطباعات الغالبية الإيجابية التي قيمت المادة بشكل إيجابي،هناك من عبر عن إمتعاضه وعدم إرتياحه،وحتما ً إن ماجاء فيها، ليس إلا جزءً من المسالة التي تطرقت إليها بخصوص القاعدة وغيرها من جوانب العمل في تلك السنين العجاف،التي أود التطرق إليها من خلال مشروع مذكرات،سيتناول الكثير من الشؤون التي نوهت لها في رسالتك .

 أنا ممتن لك ولشجاعتك في طرح تجربتك المريرة،رغم جراحك في فقدان الأعزة من الأشقاء في تلك المرحلة القاسية ..أمّا بخصوص لماذا لم أنشرها في موقع الحوار المتمدن والناس وموقع الحزب الشيوعي .. السبب يعود لأعتذار موقع الحوارالمتمدن من نشرالموضوع من الحلقة الثالثة .

 أمّا موقع الناس فقد إختار مدير الموقع النصير أبو آذار عدم نشرها رغم إرسالها له في الوقت الذي نشرها موقع الأنصار بحلقاتها الخمسة ... ومن المؤكد إن الغاية من طرح المادة هو الأستفادة من دروسها وعبرها، ولا تدخل في باب التشهير والقذف، حتى بالنسبة للأشخاص الذين وجهَتْ لهم التهمة في التعامل مع أجهزة النظام السابق، طلبت منهم أن يبادروا للدفاع عن أنفسهم وقول ما يمكن قوله خدمة للحقيقة، وجيل المناضلين الجدد الذي يواجه أحزاب و أنظمة تسعى لأختراقه، كما تسعى اليوم القوى المهيمنة على الأوضاع في العراق لأختراق جميع الأحزاب والتشكيلات السياسية و الإجتماعية فيه ..

ونزولا ًعند رأيك سوف أبادر لأرسال المادة إلى موقع الحزب الشيوعي و أرجو أن يحققوا طلبك في نشرها،رغم قناعتي بإستحالة ذلك، ولو كنا قد وصلنا إلى هذا المستوى من الوعي،وحرية التعبير، لكنا في وضع آخر، منذ سنين طويلة، كما لا يفوتني أن أنوه إلى ما إقترحه في تعليقه على الموضوع السيد عبد المنعم الصافي حيث إقترح التعامل مع المندسين والجواسيس في صوف الأحزاب السياسية في فترة النظام السابق،من قبل القضاء العراقي، بإقامة دعوات قضائية ضدهم من قبل ممثلي الأحزاب،أو من قبل عوائل الضحايا،وهي وجهة نظر قابلة للنقاش والتطبيق،ولا أرى فيها، ما يمنع من تدارسها،من قبل المعنيين بالأمر...

 مع إعتزازي وتقديري ...

 صباح كنجي

  

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org