بحوث

الازمة المالية والبديل الثالث .. (سقوط الرأسمالية)

 

  العلامة الدكتور/ عبد اللطيف الهميم

 المقدمة..

لم اشأ الكتابة في موضوعة الازمة الاقتصادية التي يعانيها العالم اليوم لانني سبق وان كتبت في هـذا الموضوع من خلال العديـد من الكتب التي الفتها مثـل ( الدولة ووضيفتها الاقتصادية فـي الفقه السياسي الاسلامي ) وكتابي ( الاقتصاد الاسلامي المرتكزات والاهداف ) وكتابي ( من يحكم امريكا ) وتحت الطبع كتاب ( عالم ما بعد امريكا ) وغيرها من البحوث والدراسات.
 
ومنـذ عـام 1988 ذكرت في كتـاب ( الدولـة ) انه يكفي يوم واحـد من الانفتاح ومن امكانية ما للقيام بعمل مشتـرك حتى تتحول شكوكيت العجـز لـدى الاتحــاد السوفيتي الى مطلـب ثـوري للتغييـر وهـذا ما حـدث وقلت فيه ايضاً انه يكفي يـوم واحد لان ينظر العالم الى الدولار على انه ورق ( بنكنوت ) حتى تنهار الرأسمالية وعندها لن تنفع قوانين ( كينز ) في ( مضخة الرواج ) الرأسمالية ولن تشفع لها.
 
ان الذي دعاني في هذا الوقت للكتابة في هذا الموضوع هو خطاب بوش بتاريخ 10/10/2008 والذي حاول فيه تحميل مسؤولية الازمة الاقتصادية الحالية على اكتاف العالم في تضليل واضح ذلك لاننا نعتقد وبيقين ان اسباب الازمة ومن يتحمل مسؤوليتها هي الادارة المالية للرأسمالية بقيادة امريكا وتلك السياسات الاقتصادية الحمقاء التي ادت الى هذه النتائج وبالتالي فأن الاقتصادات الثلاث الكبرى وهي الاقتصاد الامريكي والياباني والاوربي هي المسؤولة عن هذا الانهيار الكبير.. صحيح ان العالم كله لن يكون بمنئى عن تأثيرات هذه الازمة بشكل أو بأخر ومرد ذلك أيضاً تتحملها السياسات المتهورة للادارة الرأسمالية بقيادة أمريكا بأعتبارها ناتجاً لسياسات العولمة حيث تداخلت الاقتصادات العالمية وبشكل غير قابل للفرز.
 
 
 
الازمات الدورية
 
قد يبدوا ولاول وهلة ان هذه الازمة لا تختلف عن الازمات الدورية التي تضرب الاقتصاد الرأسمالي بين فترة واخرى خصوصاً اذا علمنا ان الرأسمالية في عديد من البلدان قد مرت بــ 117 أزمة خلال الاربعين عاماً الماضية الا ان هذا التصور لا يخلوا من السذاجة والتبسيط ذلك لان الازمة الحالية ازمة معقدة ومركبة لان عناصرها تتكون من ثلاث مفاصل:
 
1.     الازمة المالية.
2.     ازمة الطاقة.
3.     الازمة الغذائية.
 
وبالتالي فأن هذه الازمة مرشحة لان تكون ليست فقط ازمة اقتصادية وانما ازمة انسانية لانها دونها كل الازمات الاقتصادية.
 
ان هذه الازمة تفصح عن اختلالات بنيوية وهيكلية في الاقتصادات الرأسمالية وعن خلل فاضح في الجهاز التحليلي الناظم لها فأن عدم كفاءة جهاز الثمن وغياب المنافسة البناءة كان العامل الأساسي في انهيار المذهب الفردي الحر ومظهره النظام الرأسمالي التقليدي ذلك، لأنه أدى الى ظهور عيوب كثيرة تمثلت في ظهور الازمات، وتفشي البطالة، وبروز الاحتكارات الكبيرة والتفاوت في الدخول والثروات.
 
فعلى صعيد الازمات وتفشي البطالة كان التقليديون يعتقدون ان النظام الرأسمالي يتفق مع طبيعة الاشياء تلك الطبيعة التي تؤدي الى التوازن المنشود في الحياة الاقتصادية، ولكن الواقع اثبت ان ثمة اضطرابـات حـادة ألمـت بالنظـام الرأسمالـي وكانـت تتـم وبشكـل دوري اصطلـح الباحثـون الاقتصاديون على تسميتها بالازمات الاقتصادية الدورية.
 
ان السبب الرئيسي لحدوث الازمة كما يفسرها مفكروا الاقتصاد الغربي هو اختلال التوازن بين الانتاج والاستهلاك ولعل أول هذه الاسباب المؤدية الى هذا الانفصال هو ان الطلب على الاستهلاك لا يكون كافياً عند المستويات العليا من التشغيل في الدولة الرأسمالية  الصناعية لمقابلة الزيادة في الدخل وهو ما يعني ضرورة البحث عن استثمارات جديدة لتحقيق المستويات العليا من التشغيل وهذا ما قرره (كينز) في نظريته المشهورة عن البطالة. اما الاقتصاديون الاشتراكيون وعلى راسهم (ماركس) فيرون ان الازمة كامنة في طبيعة النظام الرأسمالي وآليته ومن ثم فهي ظاهرة طبيعية في هذا النظام ويعللون الازمة بالافراط في الانتاج بمعنى ان هناك سلعاً كثيرة انتجت ولا تجد لها مشترياً، وليس الافراط في الانتاج هو العامل الرئيسي بل اتجاه الصناعة نحو التركيز في وحدات كبيرة الحجم قليلة العدد التي أدت الى استخدام الالة بدلا من العمالة اليدوية مما ادى الى ظهور جيش من العاطلين تبعه انخفاض في اسعار السلع واحلال المزيد من الالات محل العمالة، وظهور البطالة مرة اخرى وعندها تتم هذه الدورة البائسة المظلمة كما يسميها (ماركس) وتتوالى الازمات الدورية القاتلة.
 
واياً ما كان تعليل الازمات الاقتصادية وتحليل اسبابها فان هذه الازمات قد ارتبطت بحدوث الظواهر التالية:
أ‌-       انخفاض الدخل الفردي والذي يؤدي الى قلة الطلب فتنخفض الاسعار وينقص المتداول من النقود، وتحجم البنوك عن تقديم الائتمان.
ب‌-   وفي الازمات الشديدة تعلن العديد من المستودعات افلاسها وانسحابها من السوق مما يدفع الى ظهور البطالة الذي بدوره يؤدي ايضاً الى انخفاض الطلب، وانخفاض جديد في الاسعار.
ت‌-   امـا تلك المشروعات التي يمكنها المقاومة فانها تضطر الى تسريـح عـدد كبيـر مـن العمال، وتخفيض اجور العمال، وقد اشرت الاحصاءات انه بين 1918 و 1938 بقي حوالى 10 % من الطبقة العاملة بلا استخدام طوال عشرون عاماً.
 
وقد دلت الدراسات الاقتصادية على ان هذه الازمات هددت الحياة الاقتصادية في التواريخ الاتية: 1815 ، 1825 ، 1847 ، 1857 ، 1866 ، 1873 ، 1882 ، 1890 ، 1900 ، 1907 ، 1913 ، 1920 ، 1959 . وهذا ما حدا بـ " الغارديان " ان تكتب وتحت عنوان افلاس الاقتصاد السياسي عقب ازمة 1929 : (( اننا نعرف سرعة حركة الكهرباء خيراً مما نعرف سرعة تداول النقد ونعرف عن دورة الارض حول الشمس ودورة الشمس في الكون أكثر مما نعرف عن الدورة الصناعية )) .
 
وفي الحقيقة فانه بغض النظر عن السبب في هذه الازمات الاقتصادية الا انه من المؤكد ان هناك صدعاً في التفسير النظري الاكاديمي للرأسمالية نفسها ذلك ان حركة عناصر الانتاج بعيدة جداً عن الكمال فهي لا تخضع تواً لمؤشر الاسعار وبذلك  لا يتحقق التوافق الفوري بين العرض والطلب وبين الانتاج والحاجيات وحتى نضع القارء في صورة ما جرى ويجري لابد لنا من دراسة الرأسمالية وتطورها بداً من المذهب الفردي مروراً بالمذهب الاجتماعي الذي قاده ( كينز ) وانتهاءاً بالنظام الرأسمالي الانكلو سكسوني الذي أسس له ريغان و تاتشر والذي يعد عودة فوضوية الى الرأسمالية التقليدية.
 
 
 
المذهب الفردي
 
إن مقتضى هذا المذهب هو غل يد السلطة ( الدولة ) من التدخل في الشؤون الاقتصادية، واعتبار الفرد هو الغاية من النظام الاقتصادي ويحاول هذا المذهب أن يتيح أكبر قدر من الحرية للفرد لتحقيق المنافع التي تعود عليه، وهو لا يرى اي تعارض بين مصلحة الفرد، ومصلحة الجماعة بل كلا المصلحتين متوافقة ومنسجمة، ومن هنا تحددت وظيفة الدولة في العمل الجماعي فحسب دون أي تدخل في الحياة الاقتصادية، ولا في محاولة تغيير مواقع الأفراد ومراكزهم، فالدولة لا يجوز لها أن تتدخل في الحياة الاقتصادية بل يجب أن تتركها حرة للنشاط الفردي فيمتنع عليها إقامة المشروعات الاقتصادية، كما أنه يجب ان تترك المشروعات الخاصة حرة فتكون لهم حرية الانتاج، وحرية التوزيع، وحرية تحديد الأثمان وحرية الاستهلاك، وحرية ادخار القيم النقدية والمادية. وحرية الاستعمار لا تحكمها إلا القوانين الطبيعية كما لا يجوز للدولة أن تجري أي تخطيط اقتصادي حتى لو كان هذا التخطيط علميأ ومدروسأ يعتمد على الاحصاءات والبيانات، وليس لها أن تتخذ اي تدابير لتوجيه العمل والانتاج نحو وجهات معينة، كما لا يجوز لها أن توزع الخيرات بين أبنائها أو تحث الأفراد على الادخار والاستثمار. ولعل ابرز مظاهر عمل الدولة، أو وظيفتها حسب هذا المذهب تتمثل في الآتي:
 
1. حماية الدولة نفسها من أي اعتداء يقع عليها، ودفع الأخطار الخارجية التي تهدد سلامة الوطن.
2. المحافظة على سلامة الشعب، وكفالة الامن والنظام والاستقرار في ربوع البلاد.
3. حماية الممتلكات الخاصة وتدعيم الملكية الخاصة.
4. حماية مراكز الأفراد ومواقعهم.
5. حماية الصفة الإلزامية للعقود، والالتزامات الناشة عنها.
 
وفيما عدا هذه الوظيفة تترك الدولة للأفراد حرية ممارسة، أوجه النشاطات الأخرى اقتصادية كانت، أو ثقافية، أو اجتماعية وتقوم بدور الرقيب، والمشرف على هذا النشاط حتى لا يتعارض مع وظيفتها الاساسية الذي هو تحقيق الأمن في الداخل ورد الاعتداءات الخارجية.
 
وقـد انتشر هذا المذهب في القرن الثامن عشر باعتباره ثمرة من ثمـار الاتجاه الاقتصادي الحر الذي رفع شعار (( دعه يعمل دعه يمر )) والذي تزعمه ( آدم سمث )، ( وريكاردو )، ( ومالتس )، و ( باتست ساي ) ، كما انه ثمرة من ثمار جهود الفلاسفة والمتعلق بالحريات السياسية والذي تزعمه ( لوك ) ، وشاركه ( بينتام ) ، و ( سبس ) .
وقـد ظهر المذهب الفردي باعتباره رد فعـل على السياسة ( المركانتيليـة ) (1) ، والتي سـادت أوربا لثلاثة قرون، وكانت هذه السياسة تقوم بالاساس على مبدأ تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، وترى وجوب بذل أقصى الجهد لتقوية الشعب واغنائه، وتحقيق الرفاهية لـه، وان وسيلـة تحقيق ذلك لا يتـم إلا بامتـلاك اكبـر كميـة من المعـادن الثمينة، لأنها هي الثـروة الأساسية للمجتمع، ولمـا كانـت كـل دولـة تعمل على تجميع أكبر كمية ممكنة من المعادن الثمينة - حتى تضمن لشعبها الرفاهيـة فـأن مصالح الـدول ستتعارض فيمـا بينهـا، وستعمل كـل دولـة علـى إغنـاء نفسها، وافقار الدول الأخرى، لأن المعادن الثمينة محدودة، وفي سبيل تحقيق هذه السياسة يصبح من الواجب على الدولة ان تتدخل، لأنها اقـدر من الأفـراد على ممارسة هذه الأعمال، وتحقيق تلك الغاية.
 
ولكـن هـذه السياسـة قـد أدت إلـى أخطـاء عديـدة علـى الصعيـد الاقتصـادي فقـد كانـت السبـب فـي تقلـص النشـاط الصناعـي، والزراعـي، والتجـاري، وأصبحـت سياسـة خانقـة تعـرض التطـور فـي مختلـف الأنشطـة الحياتيـة للخطـر، وكذلك هو الحال على الصعيد الفكري، يضاف إلى هذا انها كانت سببـاً رئيسـاً فـي تلك العـداوة التي نشـأت بين الدول، وكانـت إيذانـاً حقيقياً ببدايـة ظهـور الاستعمار، وقـد بلـغ فيها تدخـل الدولة في النشاط الاقتصادي ذروتـه حتى وصل إلى حـد تحريم بعـض الملابـس، وفـرض أشكـال معينـة للأزيـاء، وتشجـع بعـض الصناعـات، وعرقلـة أو منـع صناعـات أخـرى.
 
والحق فإنه بصرف النظر عن العوامل المنشئة للمذهب الفردي - فكرية كانت أو اقتصادية - فإنه من المؤكد ان هذا المذهب قد اعتمد في تحديده لوظيفة الدولة، والمجال الذي تعمل فيه على مبررات عديد بعضها قانوني وبعضها تاريجي، وبعضها الثالث اقتصادي.
ــــــــــــ
(1) سادت السياسة المركانتيلية اوربا منذ اواسط القرن الخامس عشر حتى اواسط القرن الثامن عشر وكان من اكبر دعاتها ( جان بودان ) و ( لافاماص ) و ( مونت كرينان ) وتجد صداها الحقيقي في فكر ( ماكيفالي ) وقد اتاحت فكرة السيادة عند ( بودان ) ان تضفي صفة الشرعية على إرادة الملك في ان يتخذ ما يشاء وان يتدخل في حياة الأفراد باعتباره هو المعبر عن إرادة الدولة، وهذا هو ما قرره ( ماكيافلي ) الذي جعل الدولة مجرد هيئة تبحث عن القوة، والعظمة كي تضمن لنفسها البقاء، وتدعم نفوذها، وبهذا قد فصل القوة عن الأخلاق والدين، فالدولة في نظره نظام له قوة مستقلة عن بقية الاشياء، ويعتبر ( كولبير الوفي ) هو الواضع الحقيقي للمبادئ المركانتيلية والقائلة بأن كل شي، يجب ان يكون خاضعاً لقوة الامة، وغناها، وهكذا فان وضيفة الدولة في هذه الصورة مطلقة بلا حدود، ويقع على عاتقها التدخل في كل العمليات الاقتصادية.
التبرير القانوني(1)
 
يقوم المذهب الفردي على أساس أن للانسان حقوقأ لصيقة به سابقة على نشوء الدولة، بل هي سابقة على نشوء مطلق المجتمع فهي حقوق نابعة من ذات الإنسان، والدولة كما يرى فلاسفة المذهب تنحصر وظيفتها في تنظيم الحقوق الفردية، فهي لا تخلق الحقوق، أو تمنحها، بل هي تضفي عليها طابعأ رسميأ وقد اعتمد هذا المذهب في تقريره لوجهة نظره على نظرية الحقوق الطبيعية، تلك النظرية التي ظهرت في نهاية العصر الروماني مروراً بالعصور الوسطى فالعصور الحديثـة، ولما كانت هـذه الحقوق نابعة من ذات الانسان وملاصقة له فان السلطة لا تملك التعـرض
 
ـــــــــــ
(1) وقد تأسس المذهب الفردي على العديد من النظريات، والأفكار إلا انه يمكن حصر المصادر الرئيسة للمذهب الفردي بالاتي:
1. المسيحية
لقد كان للمسيحية بعض الفضل في تحديد مجالات السلطة وأهدافها، وفي تضييق دائرة عمل الدولة ووظيفتها، ولقد كان للمسيحية هذا الدور وذلك حين فصلت بين الدين والدولة، وبالتالي اخرجت عن نطاق السلطة الزمنية كل ما يتعلق بالدين، ويعد هذا هو الأساس في إرساء المبدأ الفردي وظهوره في الميدان السياسي، والاقتصادي، فالمسيحية قد ساهمت في استشعار الأفراد لحقوقهم، ومنع الدولة من التدخل في كل ما يتعلق بحريات الأفراد الشخصية أو الدينية، ومن ثم في تحديد مجالات الدولة في التدخل.
 
2. نظرية العقد
تعد هذه النظرية من اهم مبادئ المذهب الفردي الفكرية ذلك لأن هذه النظرية تعترف للأفراد بالحقوق الطبيعية التي هي جزء من ذات الفرد وفطرته، ومقتضى هذه النظرية ان الأفراد إنما قبلوا العيش في ظل سلطة سياسية، لأنهم يريدون المحافظة على حقوقهم الطبيعية والتمتع بها بعد أن كانوا قبل ذلك يعيشون على الطبيعة البدائية، وقد اتسمت حياتهم تلك بالحرية المطلقة، والاستقلال الذاتي وهكذا فان الفرد بحقوقه سابق على الجماعة، وان الجماعة السياسية ما وجدت إلا لخدمة الفرد، فالفرد هو غاية الدولة، وحقوقه هي التي تحدد أوجه نشاطها، ونطاق سلطتها.
 
3. المدرسة الطبيعية
تقوم هذه المدرسة على أساس نظرية النظام الطبيعي، ومقتضاها أن الوجود محكوم بقوانين طبيعية لايد للإنسان في إيجادها، او صنعها، بل يجب على الإنسان الانسجام معها، والعمل على سننها، ومن ثم فإن الالام البشرية في حقيقتها ليست إلا وليدة عصيان هذه القوانين، فاستسلام الإنسان للطبيعة كفيل بأن ينظم للإنسان حياته تنظيماً دقيقاً محكماً كما نظمت حياة سائر الموجودات الحية مثل النحل، والنمل، وترك قوانين الطبيعة تعمل بتلقايتها هو العامل الأساس في سلامة كل شيء بما فيه النشاط الاقتصادي فالإنسان الذي يسعى لتحقيق غاياته لا يفسر اهتمامه هذا بأنه خاص به وحده، بل هو في سعيه لشائه الخاص يتطابق مع الاهتمام العام تلقائياً ويكفي أن يترك الناس أحراراً ليسعى جميع البشر تلقائياً نحو هذا النظام التناسقي الذي تعمل القوانين الطبيعية على تحقيقه، وقد سادت هذه النظرية في منتصف القرن الثامن عشر وكان من ابرز رجالها ( آدم سميث ) في إنجلترا ( وكينيه ) في فرنسا وهذه النظرية بالإضافة إلى مدلولها الاقتصادي لها مدلول سياسي يتعلق في بيان مركز الفرد من السلطة، وان حقوق الفرد تعد هدف الجماعة وغايتها.
 
4. مدرسة القانون الطبيعي
معلوم أن فكرة القانون الطبيعي تعني وجود قوانين طبيعية أسبق واعلى من القانون الوضعي خالدة وثابتة، وتصح في الزمان والمكان، وفكرة القانون الطبيعي تجد صداها في كتابات الإغريق والرومان مثل: سقراط – افلاطون - أرسطو - شيشرون فالقانون الطبيعي هو قانون ازلي توحي بـه الطبيعة، ويكشفه العقل البشري، ويستحسنه الوجدان، وهو يدعونا إلى اتباع الأوامـر، واجتناب النواهي وهو يقرر أن للفرد حقوقاً لصيقة به استمده من طبيعته الإنسانية، وعلى الرغـم من أن فكرة القانون الطبيعي كانت معروفة عند الإغريق والرومان حتى استقر مفهومها في القرن السابع عشر على يـد ( توما الاكويني ) و ( كروسيوس ) إلا انها لم تعمل على تحديد سلطان الدولة والحد من تدخلها فـي النشاط الاقتصادي إلا في القرن السابع عشر باعتبارها رد فعل على السياسة ( المركانتيلية ) التي سادت أوربا قبل ذلك والتي عملت على التدخل في مختلف الأنظمة الاقتصادية.
لها او مساسها فحسب، بل يجب عليها أن تيسر للأفراد القدرة على استعمالها، والتمتع بها، وبالتالي فـأن هذه الحقوق بموجب هذا الاعتبار القانوني يفرض على الدولـة واجبين أحدهمـا سلبـي وهو غل يد السلطة، وذلك بالامتاع عن المساس بتلك الحقوق والاخر إيجابي وهو أن تعمل الدولة على تشجيع الأفراد للتمتع بحقوقهم، والعمل من أجل ممارستها. وقد كان لنظرية الحقوق الطبيعية انتشاراً واسعاً على مستوى السياسة، والاقتصاد، وكان من أبرز معتنقيها، والمدافعين عنها ( جون لوك ) و ( هربرت سبنسر ) وغيرهما.
 
ويلاحظ أن التبرير القانوني هو في حقيقته وجوهره يعتمد على نظرية العقد الاجتماعي(1) تلك النظرية التي تذهب إلى ان اساس نشأة الدولة إنما هو ناتج عن اتفاق بين الأفراد مفاده أن يتازل كل فرد من الأفراد عن جزء من حقوقه لشخص هو الحاكم، او السلطة السياسية حتى يكون قادرأ على حمايتهم من الظلم وتوفير الأمن لجميعهم، ومن ثم فان ترك الأفراد للحياة البداية، ودخولهم في الحياة الاجتماعية إنما كان الغرض منه هو تحقيق ضمان افضل لتلك الحقوق البدائية، وهم في هذا الدخول مع الجماعة لم يتنازلوا عن كل حقوقهم بل عن ذلك القدر الضروري لإقامة الجماعة السياسية، وبالتالي فإن الحقوق الاخرى قد احتفظوا بها في منأى عن تدخل السلطة السياسية، يقول روسو: (( إيجاد شكل من الاتحاد يدافع، ويحمي كل القوة المشتركة شخص كل مشارك، وأمواله، ومع أن كل فرد يتحد مع الجميع إلا أنه لا يطيع إلا نفسه، ويبقى حراً كما كان من قبل )) وهكذا تكون نظرية العقد الاجتماعي بالاضافة إلى انها قد قدمت مفهومأ عن نشأت السلطة السياسية قد حددت أهداف هذه السلطة ووظيفتها.
 
 
 
التبرير التاريخي
 
يذهب هذا التبرير إلى أن الفرد سابق على نشؤ المجتمع وبالتالي فهو سابق على نشوء الدولة، ومطلق السلطة السياسية، وبناء على هذا فأن الفرد لا يرضى الخضوع لسلطة المجتمع إلا في الحدود التي تحافظ فيها هذه السلطة على حقوقه الطبيعية التي نشأت معه، ووجدت بوجوده، وانتظام الفرد في نطاق الجماعة لا يعني أنه قد تنازل عن حقه وضمها إلى حقوقه.
 
 
 
التبرير الاقتصادي
 
يعتقد المذهب الفردي ان تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي يتنافى مع المبادئ الاقتصادية الرشيدة، ويجد هذا المذهب أساسه في الأفكار التي قدمتها المدرسة الاقتصادية، الكلاسيكية التي ضمت نخبة من رجــال الاقتصاد، مثل ( أدم سمث ) ، و ( مالتوس ) ، و ( ريكاردو ) تلك المدرسـة
 
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) من اشهر من كتب عن نظرية العقد من الإنجليز: ( توماس هوبز ) ، و ( جون لوك ) ومن الفرنسيين: ( جان جاك روسو ) ، و ( منتيسكو ) ، ونظرية العقد تذهب إلى أن الدولة من صنع الإنسان، وانها نشأت نتيجة لإرادة الأفراد التعاقدية الرضائية حيث اتفقت إرادة الأفراد على إنهاء حالة الطبيعة البدائية. إما لكونها غير عملية على الرغم من مثاليتها كما هو الشأن عند ( لوك ) أو لأنها شريرة كما هو عند ( هوبز ) ، أو استجابة لظروف قاهرة كما هو عند ( روسو ) .
التي ترى ان الشؤون الاقتصادية شأنها شأن عامة الأشياء الطبيعية الموجودة في الكون المحكومة بقوانين طبيعية، فكذلك الاقتصاد محكوم بقوانين اقتصادية طبيعية، وان الخير كل الخير منوط بمقدار اكتشاف هذه القوانين والانسجام معها، وأن تترك وشأنها تعمل ذاتيأ دون تدخل يعيقها، أو يعطل عجلتها، إذ أن عملها الذاتي هذا كفيل بأن يحقق افضل النتائج، فيكفي ان يترك الناس أحرار. ليسعى جميع البشر تلقائيأ نحو هذا النظام التناسقي، وتعبيرأ عن هذا المعنى وضع المذهب الفردي شعاره (( دعه يعمل دعه يمر )) يقول ( سمث ) :
(( لو أزيلت النظم كافة سواء ما تعلق منها بالإيثار أو الضبط فان نظام الحرية الطبيعية الواضح والبسيط يثبت وجوده بمحض إرادته، وترى هذه المدرسة أن المحرك الأساسي للفرد هو الدافع الاقتصادي والمعبر عنه بالذة أو الرغبة الشخصية، والمنافسة التي هي محرك الفعاليات الاقتصادية إذ هي تعمل على دفع الفرد للتحري عن أقصى الاكتفاء بأقل جهد ممكن، ويمد هذا الحافز كل المقومات التي ارتكز عليها النظام الرأسمالي بطاقات لا حدود لها فهي التي تعمل على إيجاد التوازن بين الأسعار والكلف، وعلى مستويات تخفيض الأرباح إلى الحد الأدنى، وتشجيع إدارة الأعمال على النطاق الاقتصادي في وضع تقني معين، فالمجتمع الذي يخلو من المافسه لا يكون مجتمعأ رأسماليأ، لأنه لا وجود فيه للمحرك الاقتصادي الرئيس وهو المافسه )) .
 
ويلاحظ ان المنافسة انما تحقق مصلحة اجتماعية، لأن هذه المصلحة ليست إلا مصلحة مجموع الأفراد صحيح أن الفرد عندما يوجه الصناعة إنما يسعى لتحقيق أكبر قدر من الربح وهو لا يهدف بهذا إلا إلى الكسب الذي يعود عليه لكنه في هذه الحالة كما في حالات كثيرة غيرها إنما تقوده يد خفية لتحقيق غايات اجتماعية اخرى، وهكذا فأنه في الوقت الذي يعمل فيه الفرد على تحقيق مصلحته فإنه يعمل في ذات الوقت وبصورة فعالة على إنماء مصالح الجماعة، أو بتعبير آخر فإنه لا يفسر اهتمامه هذا بأنه خاص به وحده بل هو في سعيه لشأنه الخاص يتطابق تلقايأ مع الاهتمام العام.
 
وهكذا ترى هذه المدرسة انه في كل الأحوال التي يتوهم ان هناك تعارضأ بين مصلحة الفرد، ومصلحة الجماعة فان جهاز الثمن وقانونه، أو بتعبير آخر ميكانيكية السعر تلعب دوراً بارزاً في إقامة التوازن بين المصلحتين، وتحقيق التوافق والانسجام بينهما وذلك من خلال التوفيق بين حالتي العرض والطلب.
 
وبيان ذلك أن البضائع إذا ازداد إنتاجها، وكان أكبر من حجم الطلب عليها فأن هذا يؤدي بالضرورة إلى انخفاض ثمنها وبالتالي إلى انخفاض ربح المنتج، أو التعرض للخسارة فيحمله هذا إلى التقليل من الانتاج اما إذا زاد الطلب على سلعة، وكان حجم إنتاجها أقل ارتفع ثمنها وهنا يحصل المنتج على أرباح تدفعه إلى زيادة إنتاج تلك السلعة فتتحقق بذلك رغبات المستهلك، وفي كل هذا يكون جهاز الثمن قد حقق التوازن، وهكذا وحتى تستطيع ميكانيكية التوازن أن تعمل بصورة صحيحة فأنه يجب على الدولة أن تترك الناس أحراراً يعملون كما يشاؤون، وينتقلون من فرع إلى آخر بملئ رغباتهم، وأن تنزلق الفعاليات الاقتصادية بحرية لتحقق المصلحة العامة وبصورة عفوية.
 
وجهاز الثمن إذا ما توفرت شروطه فانه من الكفاءة بحيث لا يلعب دورأ حاسمأ على مستوى إقامة التوازن بين مختلف المصالح الفردية والعامة فحسب، بل إنه سيعمل على تسجيل رغبات المستهلكين التي تحتاج إلى إشباع كلما سجل ذلك الجهاز زيادة فى ثمن سلعة ما وكان ذلك دليلأ على زيادة رغبة المستهلكين عليها لإشباع بعض حاجاتهم، والعكس صحيح كلما انخفض ثمن سلعة ما كان ذلك دليلأ على عزوف المستهلكين عن هذه السلعة، وجهاز الثمن هذا بعد ان يبين لنـا تلك البيانات يعمل تلقائياً على تحريك الموارد الاقتصادية نحو إنتاج السلع المطلوبة تبعأ لترتيب تفضيل المستهلكين، وهكذا يقود "بارومتر السعر" كل العملية الاقتصادية ذلك أن المنتج إنما يوجه الموارد المتاحة له نحو إنتاج السلع المطلوبة من قبل المستهلك يسوقه إلى ذلك مصلحته الذاتية في تحقيق أكبر قدر من الأرباح وتحقيق الربح إنما يتم في السلع التي يمكن أن يبيعها بربح يربو على التكاليف وهذا مرهون برغبة المستهلك، واقباله على السلعة المنتجة، وتلك الرغبة لا يمكن معرفتها إلا من خلال زيادة الثمن الذي يؤشره جهاز الثمن، وبالتالي فجهاز الثمن هو الذي يقيم تلك الروابط القوية بين مختلف الفعاليات الاقتصادية فهو الذي يوجه انتقال الموارد الاقتصادية نحو إنتاج السلع التي يشتد عليها الطلب، وبهذا توجد علاقة أصيلة بين الإنتاج والاستهلاك وفي ذات الوقت يعمل على توزيع الدخول بين المنتجين كل حسب مساهمته في الانتاج والى جانب دوره في تحقيق التوازن بين الانتاج والاستهلاك يقوم الثمن في هذا النظام بوظيفة أخرى يؤدي إلى الملاءمة بين الموارد المحدودة، والحاجات الإنسانية المتعددة.
 
تلك هي اهم الخصائص والتبريرات التي اعتمد عليها المذهب الفردي والذي يعتبر الأساس الفكري والنظري للنظام الرأسمالي وقد تعرض هذا المذهب للهجمات من كل ناحية وصب دعاة الاشتراكية وأنصار المذاهب الاجتماعية وابلأ من الانتقادات والمآخذ. وفي الحقيقة فان لهذا المذهب من النواقص ما لا يمكن السكوت عليه، ولذلك فأن غير واحد من معتنقيه قد وجه إليه النقد، ذلك ان الدعائم التي اعتمد عليها تفتقر إلى وجود سند علمي يدعمها، ولعل من المفيد ان نسوق أهم وأبرز عيوب المذهب الفردي وذلك كالآتي:
 
أولأ: إن الدعامة الأولى التي اعتمد عليها المذهب الفردي، وهي القول بالحق المطلق السابق على وجود الجماعة، وان الفرد كان يعيش في عزلة قبل دخوله في الجماعة السياسية وان الفرد يستمد حقوقه من ذاته بحكم كونه إنسانأ إنما يصدر في كل هذا عن منطق متناقض والحق لا يتصور وجوده فى حياة العزلة، لأن الحق في الدرجة الأولى ظاهرة اجتماعية لا توجد إلا بوجود الجماعة وقيام العلاقات بين افرادها، وتدخل الجماعة من أجل سلامة تلك العلاقات وحماية المعاملات، يضاف إلى ذلك أن القول بالحقوق المطلقة يجعلنا بإزاء حقوق متعارضة لا يمكن إقامة التوازن فيما بينها فمثلأ القول بالحرية الاقتصادية قد جعل من الحرية السياسية مجرد وهم وخديعة لا يرتقي إلى أكثر من كونه شعارأ أجوف لا معنى له، لأن هذه الحرية قد أصبحت سلاحأ فعالأ في يد الأقوياء ولهذا قيل وبحق بأن النظام السياسي الذي توزع فيه القوة على أساس الأعداد وحدها لا يتسامح بوجود نظام اقتصادي حر ومستقل تكون القوة فيه موزعة على أساس الثروة فالحرية السياسية لا معنى لها في ظل نظام يقوم على الحرية الاقتصادية لأنه لا قيمة لحق الترشيح لرجل يسعى للبحث عن قوته اليومي ويسعى للمال اللازم للتعليم، أو للذهاب للاستطباب هذا فضلأ عن أن الحرية الاقتصادية ستصنع طبقة من الأفراد إضافة إلى تحكمهم في الاقتصاد وأنشطته المختلفة سيتحكمون في السياسة ومجرياتها وذلك لأن مواردهم المالية ستيسر لهم شراء صناديق الاقترع وأصوات الناخبين ووسائل الدعاية والإعلام.
 
ثانياً: سبق وان قدمنا ان المذهب الفردي التقليدي يقوم على اساس النزعة الفردية المطلقة وهو لا يرى تعارضأ بين المصلحة الفردية الخاصة وبين المصلحة العامة، لأن هذه المصلحة إنما هي مصلحة مجموع الأفراد.
 
والحقيقة أنه لا يمكن للمصلحة الفردية الخاصة أن تتساوق مع المصلحة العامة، لأن هذه المصلحة ستدفـع الناس لاستغلال الحريـة فتقيد التنافس وتـحدده وتتجنب المسؤوليات ولـن يتـوازن النظـــام
مـا دام متروكـاً لضمائرهم. إن الخطأ يكمن في تصور أن الجماعة لا ينظـر إليهـا كونها حاصـل جميع أفرادهـا، ولا ترى في المصلحة العامة إلا حاصل مصالح الأفـراد وهــذا التصور يشهـد الواقع بعـدم دقته ذلك، لأن مصلحة فـرد من افـراد الأسـرة لا يعنـي انه مصلحة الأسرة مجتمعـة، ومـن هنـا يسعـى الفـرد إلـى تحقيـق مصلحتـه وأكبـر قـدر من الأربـاح واشبـاع حاجاتـه دونمـا نظـر إلى مصلحـة الجماعـة فكثيـراً مــا يتجـه الفـرد إلـى توظيـف أمواله واستثمارهـا في الصناعـات ذات العائـد السريع وان قـل فـي حين أنـه يعـزف عـن الصناعـات ذات العائـد البعيـد حتـى مـع تحقـق وفرتـه وبالتالـي لا يمكـن استخـدام مـوارده المتاحـة أفضـل استخـدام وفقـاً لرغبـات المستهلكيـن بمـا يحقـق أكبـر قـدر مـن الرفاهيـة ولـم يعـد بالإمكـان التعويـل علـى تلك اليـد الخفيـة التـي تعمـل علـى تحقيـق التـوازن بيـن مختلـف المصالـح المتعارضـة وبصـورة تلقائيـة لأن تقـدم المجتمـع وتطـوره وبـروز التقنيـة المتطـورة والحاجـات المتنوعـة كـل ذلك قـد أذن بظهـور حقـول مهمـة متزايـدة يتعـذر معهـا الوصـول إلـى شـروط سليمـة للتسويـات مـا لـم يقصـد النـاس بشكـل جيـد مـدرك الوصـول إليهـا، وهـذا يحتـاج إلـى فهـم حقيقـة التكيفـات الاقتصاديـة الصحيحـة والـى وجـود إرادة تعمـل لتيسـر حصولهـا بـدلأ مـن السعـي للمصلحـة الذاتيـة بشكـل غيـر مسـؤول.
 
ثالثاً: جهاز الثمن والذي يعتبر السوق جهازأ مثاليأ إذا ما أضيفت إليه المنافسة كافيأ للقيام بالمهمة الاقتصادية الأساسية، ذلك بتوجيه الإنتـاج عن طريق تقلباتـه والذي يـؤدي وبصورة تلقائيـة إلى إقامة التوازن بين الإنتاج والاستهلاك وتوجيه الموارد نحو الاستثمار بوظيفـة الملائمة بيـن الموارد المحدودة، والحاجات المتعددة. إن هذا الجهاز الذي يقود آلية العمل في النطام الراسمالي لم يعد قـادرأ وبتلقائيته الساذجة أن يقيم التوازن بين مختلف أنشطة الاقتصـاد ومرد هـذا ومكمن الخطأ فيه أنه يفترض تحركاً تامـأ لعناصر الإنتــاج للقيام بدورهـا، أي إمكانيـة توجيـه الإنتاج وحجمه في كل لحظة مما يعنـي أنه في اللحظة التـي يرتفـع فيها سعر سلعة معينة يمكن رفع إنتاجها مباشرة، وفور انخفاض أسعار سلــع معينـة إمكانية إيقـاف الإنتـاج مباشرة، أو التحـول إلـى إنتـاج سلعة ثانيـة سواهـا مع أن الواقـع بخلافـه، لأن هنـاك دائمأ معوقأ في آلة الإنتـاج يمنـع ذلك التوافـق المباشـر، وهـذا المعـوق يعـود لعنصري رأس المال والعمل معاً وبالتالـي فإنـه لا يمكننا أن نعـرف وعلى وجــه الدقة مـا إذا كانت كمية سلعة متاحـة فـي ســوق مـن الأسـواق مساويـة للحاجـة الموجـودة فـي تلك الفتـرة أم اقـل منهـا أم أكثـر، ولا يتبين الأمـر إلا بعد مضـي الوقـت، ومـا دام الأمـر لا يعـرف ألا بعد فوات الوقت فإننا لا نعرف في هذه الحالة فيما إذا كانـت كــل كمية العمل المبذول في فـرع من فروع الصناعة قد استخدم وبالشكل الضروري اجتماعياً أو أنهـا بددت جزئيأ فإنه من المتعـذر معرفة قيمـة السلعة إلا بعد مضي الوقت، ومن ثـم تصبح القيمة فكرة مجردة لا مدلول لهـا، لأنها عندئذ تكون ثابتة تتقلب الأسعار من حولهـا.
 
واذا كانت النظرية التقليدية تفترض المنافسة البناءة فان هذه المنافسة لا يمكن أن تحدث وبشكل تلقائي بل من الممكن أن يتجه أعضاء الصناعة الواحدة نحو التآمر على الجمهور.
 
إن غياب شروط المنافسة التي يغذيها جهاز الثمن الحر وذلك مثل العلانية والمعرفة الكاملة بين المنتجين والمستهلكين والتجزئة كل ذلك أدى إلى عجز المجتمع الرأسمالي عن استخدام الموارد المحدودة وفقأ لرغبات المستهلكين مما تسبب في عدم تحقيق أكبر قدر من الرفاهية الكلية للمجتمع.
اما على صعيد توزيع الثروة فإننا بغير أن نصل إلى إقرار قانون ( الإملاق المطلق العام ) لتراكم رأس المال الذي قال به ( ماركس ) نستطيع القول أن توزيع الثروة في ظل النظام الرأسمالي التقليدي تؤدي إلى البؤس والى أوضاع من المؤكد أنها لا إنسانية ، فقد كشفت الوقائع في بريطانيا أنها غير مشرفة على الإطلاق لبلد متحضر، وكذلك الشأن في فرنسا وعلى حد تعبير بزرائيلي في روايته سيبل: (( كأن هذه الأوضاع لم تستلفت انتباه الجمعية التي تألفت لإلغاء عبودية الزنوج )) وحتى نتبين حجم المأساة في توزيع الثروة نقتبس تلك الاحصائية التي أجراها الأستاذ ( بيجو ) قبل الحرب العالمية الثانية والتي تؤكد أن ( 1 % ) واحد بالمئة من الأشخاص الذين يزيد عمرهم على 25 سنة في إنجلترا وويلز يملكون 60 % ستين بالمئة من الثروة الخاصة الكلية في حين أن 75 % من الأشخاص الذين يزيد عمرهم على 25 سنة في نفس البلاد يملكون 5 % من الثروة الكلية.
 
إن وظيفة النظام الاقتصادي اي نظام إنما هو بمقدار مـا يحققه ذلك النظام من رفـاه كلـي للمجتمع، ومن إشباع حاجاته وهذا المعيار ليس معياراً اصطلاحياً تحكمياً، بل هو موضوعي يجـد مبرراته في غاية الاقتصاد وأهدافه، وقد فشل النظام الرأسمالي التقليدي في تحقيق هذه الغايات وتلك الأهـداف يدلنا إلى ذلك واقـع المجتمع في ظـل النظـام الرأسمالي التقليـدي خصوصاً إذا أخذنـا بنظـر الاعتبـار تلك الأزمات الدورية التي ألمحنا إليها ومصاحبتها من قلة الدخول والبطالة وتقليل الأجـور.
 
أمـا على صعيد الاحتكارات فـأن انعدام أركان المنافسة قـد أدى إلى ظهور الاحتكارات الضخمة والتي ظهرت على شكـل تكتـلات ومؤسسات ضخمة واتحـادات، وللتدليل على حجـم هذه الاحتكارات نقـول: إن صناعة الحديد والصلب في أمريكا تملكها سبع عشرة مؤسة احتكاريـة تهيمن على 95 % من إنتاج الصلب في البلاد وان شركتين فقط من هذه الشركات تهيمن على نصف الانتاج، وهكذا الشأن في صناعة السيارات إذ أن ثـلاث شركات تهيمن على 93 % من إنتاج السيارات في البلاد وهذه الظاهرة منتشرة في أغلب الدول الرأسمالية مما أتــاح للعديـد من المنتجين التحكم في مورد أو اكثر من الموارد الاقتصادية، او الاحتفاظ بأسرار العملية الإنتاجية لصنع سلعة ما في منشـأة مـا، أو التآمر فيما بينهم بتحديد كميات الإنتاج أو تحديد أسعار منتجاتهم، أو توزيع أسواق الاستهلاك عليهم. إن هذه الاحتكارات فضلأ عن أنها تصطدم مع مصلحة الجمهور في العديد من الأحيان ومع مصلحة المستهلك بالدرجة الأولى إلا أنها في ذات الوقت تؤدي إلى صعوبة دخول منافس جديد إلى سوق الإنتاج في فروع الإنتاج الضخمة التي تخضع للاحتكارات.
 
وخلاصة القول إن هذه العيوب سواء على المستوى الفكري الذي يمثله المذهب الفردي الاقتصادي، أو على مستوى الواقع الذي تمثله الرأسمالية التقليدية قد أدى إلى انهيار المذهب الفردي بنوعيه العملي والنظري، ودفع من غير وجه العديد من الكتاب الذين ينتمون إلى الرأسمالية ومنهجها أنفسهم إلى ضرورة إعادة النظر فيها وذلك من أمثال ( مارشال ) و ( بيجو ) وقد بلغت قمة تلك الصيحات بظهور النظرية الكنزية فقد أدرك هؤلاء وغيرهم انه أصبح من المستحيل في ظل الاقتصاد الحديث الاعتماد على اليد الخفية وتلك القوانين الاقتصادية الطبيعية في مهمة تحويل المصلحة الذاية إلى جهاز كفء قادر على مواجهة كل الاحتياجات الاجتماعية وذلك لأن نظام الحرية الاقتصادية غير المراقبة هو أبعد من أن يحقق انسجام المصالح ما بين مختلف الفعاليات الاقتصادية والمالية.
 
تطور الرأسمالية
 
في البداية وقبـل أن نعـرض لأبـرز الأفكـار والنظريات ذات التوجه الاجتماعي نود أن ننبه إلى أنـه لم يكن هناك مناص أمام الدول التي سارت في فلك المذهب الفـردي من أن تراجـع مبادئها وتعيد النظر فيهـا، وقد كانـت مدفوعة إلى هذا تحت ضغـط النزاعات الاشتراكية التي شهدهـا القرن التاسع عشر والأزمات الاقتصادية في مطلع القرن العشرين وتحت وطأة مطالب العمال الملحة في تحسين ظروف العمل، وزيادة الأجور.. اضطرت الدولة تحت وطأة هذه العوامل أن تمد نشاطها إلى ميادين النشاط الخاص الذي كان محظورا عليها في الماضي، فاعادت النظر في توزيع الثروات، وتحديد الملكية وتقرير رسم الأيلولة على التركات ،وتحديد الأجور، وساعات العمل إلى غير تلك الإجراءات.
 
وهكذا تعاظم الدور الذي تقوم به الدولة في الميدان الاقتصادي بين عهد ( آدم سمث ) في أواخر القرن الثامن عشر، وبين عهد ( كينز ) في منتصف القرن العشرين، فلم تعد الدولة مجرد لجنة لإدارة المصالح العامة للطبقة البرجوازية وأصبح من الصعب قبول مثل هذه الأفكار التبسيطية، فالدولة أصبحت محصلة تنازع عديد من القوى والمصالح السياسية والاقتصادية، وقد نجحت العديد من الأحزاب العمالية، والاشتراكية في العالم الرأسمالي في الوصول إلى الحكم، وإدارة الدولة ولفترات طويلة، ولذلك لم يكن تدخل الدولة في كثير من الأحيان موافق لرغبات البرجوازية ان لم يكن قيدا يرد عليها على أن الأحزاب العماليـة، والتيارات الاشتراكية تشكل واحدا من العناصر الأساسية في القوى السياسية والاقتصادية في العالم الرأسمالي وثمة عامل مهم مرتبط بما تقدم يفسر تدخل الدولة المتزايد في الحياة الاقتصادية وهو الحرب الباردة، أو بصورة أعم التحدي الذي تطلقه مجموعة القوى المعادية للرأسمالية، فمناخ التحدي يجعل احتمال أزمة اقتصادية مثل أزمة 1929-1933 أمرا من الاستحالة بمكان، وحتى ندرك حجم هذه الاستحالة إذا تصورنا انه لو وجد في ألمانيا خمسة ملايين عاطل عن العمل في ذلك الوقت فإنا ندرك للتو أسباب هذه الاستحالة من وجهة النظر السياسية ،ومن هنا كأن تدخل السلطات في الحياة الاقتصادية موجه قبل كل شيء ضد الأزمات.
 
ولعل مـرد هـذا التغيـر فـي الوظيفـة الاقتصاديـة للدولـة لا يرجع فقـط إلى تأثيـر النزعات الاشتراكية، بل إن التغيرات التي طرأت على طبيعة المشاكل التي واجهتها الدولة استلـزم إيجـاد الحلول خصوصاً بعـد الحـرب العالمية الأولى التي أحدثت ارتباكـاً واضحـاً في التجـارة هـزت ميـزان المدفوعات الدولية، فتعرض  ذلك الارتياح الـذي كان يتسم به التقليد الكلاسيكي إلى هـزة عنيفة جعـل الدولة تفكـر بطريقة أخرى للتدخل في الشؤون ألاقتصاديه وذلك بغية تركيز الإنتـاج في الضرورات الحربية، الأمر الذي أدى إلى تراكم الديون الطائلة وخلق سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي لا تكاد تنتهي إحداها حتى تبدأ أخرى من نوع جديد، وقد واجهت أوربا عموما وبريطانيا على الأخص أخطاراً حقيقية اضطرتها إلى بيع   جانب وافر من استثماراتها لتسديد ثمن مشترياتها من الآلة الحربية.
 
وخـلال الحـرب الكونيـة الأولـى وبعدهـا حصـل تضخم حـول أعباء الاستثمار المصحوب بزيـادة مذهلة في الأسعار، وعم هذا جميع بلدان العالم ثم أعقب هدا التضخم كساد ترتب عليه هبوط في الأثمـان ( أزمة 1920 - 1921 ) ثم أعقب هـذا الكساد وذلك التضخم تناقـص فـي الأسـواق التي كانـت تستوعـب صـادرات بريطانيـا، وفي كـل الأحـوال كانـت البطالة واحـدة من مصاحبات الكساد، أو أثـراً من آثـاره، وجاءت أزمة 1929 والتي تعد أعنف أزمة يمر بها النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة وأوربا ليضع النظام الرأسمالي برمته بإزاء مأزق حقيقي، وقـد كانت هـذه الأزمـة للمجتمع الأمريكي بداية وعي المسألة الاجتماعية خصوصا إذا علمنا أن البرجوازية الأمريكية كانت تتميز عن كل الطبقة الرأسمالية العالمية بثقة كلية بمستقبل المشروع الحر. كل هذه الأزمات كانت بمثابة ضربات أليمة في البناء التكويني للجهاز الرأسمالي الضخم الذي بناه التقليدي الكلاسيكي في أعقاب الثورة الصناعية.
 
وقـد دفعـت هـذه الأزمـات كتـاب الاقتصـاد إلى محاولـة إصلاح ما طـرا على النظام، ووضع المعالجات العمليـة للمشاكل الاقتصادية، وعظـم نفوذهـم وراح النـاس يصغون إلى كـل مـن لديـه اقتراح لعلاج الحـال، ومحاولة الإصلاح، وفي هذا الجـو المفعـم بالاضطراب الاقتصادي ظهـرت عـدة أفكـار ونظريـات تدعـو إلـى ضـرورة تدخـل الدولـة في الحيـاة الاقتصادية، أو محاولة وضع نمـط من المخططـات يبيـن نـوع التدخـل، وحـدوده وكـان مـن أبرزهـا وأكثرهـا تأثيـراً النظريـة الكينزيـة التـي ولـدت من رحـم التناقـض الرأسمالي والتي أصبـح لهـا تأثيـر قـوي سـواء علـى مستوى الفكر الاقتصادي، أو على المستوى العملي، إذ فتحت آفاقا جديدة أمام الدول للتدخل في النشاط الاقتصادي. وهكذا أخذت الدول الرأسمالية تتدخل ليس فقط في ميدان التجارة الخارجية والعلاقات الدولة المتبادلة بل في مختلف قطاعات الاقتصاد مثل إعادة توزيع الدخول، وتخصيص الموارد، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وقد زاد مع زيادة ما تملكه الدولة من مـوارد اقتصاديـة خاضعـة لهـا مباشـرة، فالقطـاع العـام وملكية الدولة في تزايد مستمر في كثير من الدول الرأسمالية، فقـد تـم تأميـم عـدد مـن الفـروع الأساسيـة للاقتصاد مثل البنوك الأساسيـة، وصناعة الصلب، والفحـم كمـا حـدث فـي فرنسـا وانجلتـرا، وتملك الدولـة أهـم المؤسسات الاقتصادية في إيطاليا مما دفـع البعض إلـى الحديـث عـن رأسماليـة الدولة فيها، وهذا أيضا ما حدث أو بعضـه قبـل ذلك في معقـل الرأسمالية وهي الولايات المتحدة، لأن تجربة أوربـا كانـت امتـداداً لتجربـة روزفلت فـي أمريكـا.
 
وفـي الحقيقـة فإننـا حيـن نذهـب إلـى أن دور الدولـة قد تعاظم بعد الحرب العالمية الثانية في النشاط الاقتصادي فليس معنى هذا أن الدولة لم تلعب دورا أساسيا  على طول تاريخ الرأسمالية، فسـواء بطريـق مباشـرة أو غيـر مباشر، أو بطريق تقديـم المعونـة لبنـاء السكـك الحديديـة كمـا حـدث فـي ألمانيـا والولايـات المتحـدة، أو بطريـق النهـوض بالمصالـح الاقتصاديـة للرأسمالييـن المحليين في الخارج بوسائل مناسبة كما حدث في بريطانيا وهولندا، أو بطريق عمليات مالية معقدة، وفـرض رسـوم جمركية كما حـدث في فرنسا فقـد كـان للدولـة دور مهـم. ولكـن مع ذلك فـأن الحدود المعترف بها للدولة لم يكـن بـارزاً إلى الحد الـذي صورنـاه بـل تـم تقـدم تصاعدي فـي نطـاق العمـل الحكومـي.
 
وقد وافق الاقتصاديون الأحرار أو الأرثوذكس على مثل هدا التدخل مضطرين تحت ضغوط الأزمات الاقتصادية وأنه ما دامت الدولة قد أرغمت على التدخل على هذا النحو الحاسم فإنه من الممكن التوسع في هذا الإجراء الحكومي حتى يتسنى بداية مرحلة جديدة من الاستقرار وهم الذين ذهبوا إلي اعتبار القوانين الاقتصادية أمراً مستقلاً عن المؤسسات الإنسانية والذين طالما اعتقدوا أن هذه القوانين ممثلة لقوى مسيطرة تحد من العمل الحكومي ضمن إطار لا يمكن له إن يتخطاها وأن التوازن السليم إنما يتحقق بطريقة آلية. جهاز الثمن.
 
 
 
ويبدو لنا ان التوسع في تدخل الدولة قد جرى بسرعة على الرغم من أنه كان في بداية أيامه تدريجيا وهيابا، وكان في الأساس ذو طبيعة متقطعة ويوجه في الغالب إلى قضايا اقتصادية معينة بذاتها. أو يستجيب لمتطلبات عامة.
 
وأياً كان حجم التدخل على المستوى العملي وطبيعته فإننا يمكن أن نسوق الموضوع في إطار من العمومية لنؤكد أن الشطر المهيمن على الفكر الاقتصادي ومنذ عهد ( سمث ) والى عهد ( كينز ) كان يدعم دائما التوجه القائل : بأن المبرر الرئيسي لاقتصاد ما وللمؤسسات التي تؤلف كيانه، هي طاقة هذا الاقتصاد على سد حاجات المستهلك من السلع والخدمات ومن هنا كان لمثل هذا التوجه دوره في توسيع دائرة تدخل الدولة يدفعه إلى ذلك ثقل الأزمات الاقتصادية حتى ظهر على شكل من التنظير كان من أبرزها وأكثرها تأثيرا النظرية الكينزية، والتدخلية الجديدة، وهذا ما نحاول إلقاء الضوء عليه في الصفحات القادمة.
 
 
 
النظرية الكنزية
 
ارتبطت نظرية ( كينـز ) بالأزمة العنيفة التي تعرض لها العالم الرأسمالي في الولايات المتحدة وغيرها من بلدان أوربا وذلك سنة 1929 -1933 ومن هنا كانت وجهات نظر ( كينز ) قد تأثرت كل التأثر بهذه التجربة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عد بعضهم نظريات ( كينز ) فاتحة تاريخ مهم في تطور الأفكار الاقتصادية وأرخوا لها تماما كما أرخوا لكتاب ( ثروة الأمم ) . ( لأدم سمث ) وكتاب ( رأس المال  ) لــ ( ماركس ) ذلك لأنـه احدث تغييرا جذريـاً في النظريـة الرأسمالية، وخرج على جبرية قوانينها الاقتصادية بصورة جريئة تستحق التقريظ، وحتى ندرك حجم ما قام به ( كينز ) يجب علينا توضيح أن المشاكل المثارة في عصره كانت تدور حول نظريتين أساسيتين: إحداهما: الاستخدام الشامل ودور الدولة فيه، وحدود هذا الدور ونطاقه. وثانيتهما تدور حول نظرية النقود وذلك لعلاقتها الوثيقة والقوية بالتضخم والانكماش، وما يصاحبهما من اضطرابات عنيفة في الأسعار والتبادل الخارجي، وميزان المدفوعات الدولية. وسنحاول إلقاء الضوء على هذين الموضوعين وبصورة موجزة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
أولا: النظرية العامة... العمالة
 
لـم يتحـدث الاقتصاديـون التقليديـون(1) عـن العمالـة بصـورة تفصيليـة وظلـوا حتـى الثلاثينـات يفترضون أن البطالـة العامـة أمـر بعيد الاحتمال ومـرد هـذا أنهم قـد أخـذوا العمالة الكاملة بـدون تضخم باعتبارهـا أمـراً مسلماً، لأنهـم قبلـوا نظريـة(2) فـي العمالة مفادها، أن القـوى التـي تعمـل فـي داخـل النظـام الاقتصـادي كفيلـة بالاحتفـاظ بحجم الإنتـاج للاقتصـاد القومـي عنـد ذلك المستـوى الذي يمكن التوصل إليه في ظل الاستخـدام الشامل للعمل ولرأس المـال وانـه في ظـل الفردوس المتوازن يستطيع كـل من يستحق عملا أن يحصل عليه، وفي هـذا العالم الوهمي الـذي استطلعـه الاقتصاديـون الكلاسيـك منتفـي البطالـة سواء بالنسبة للقـوى البشرية أو بالنسبة للعوامـل الأخـرى، واذا حصـل وان حدثـت بطاله غير إرادية بصفة استثنائية فإن هذه القوى ستعمـل على إنهائهـا والوصـول إلى حالـة العمالـة الكاملة، وافترضت النظرية التقليدية أنه من غير الممكن أن يسود كساد كبير ولمدة طويلة، واذا حصل هذا فان سببه عناد العمال ورفضهم الأجور المخفضه.
 
وفـي الحقيقـة فـإن الأفكـار الأساسية للنظرية التقليدية في العمالة يمكن أن توضح من خـلال قانون ( ساي ) نسبة إلى الاقتصادي  الفرنسي "باتست ساي" ومفادها أن كل عملية من عمليات الإنتاج تخلـق فـي حالـة توفـر ظـروف تنافسيـة حقيقيـة الطلـب الـلازم لشـراء السلعـة المنتجـة بثمـن يغطـي تكاليـف إنتاجهـا، واستحالـة حـدوث حالـة عامـة مـن فائـض الإنتـاج، ومـا يترتـب علـى ذلك من بطالـة شاملة لفترة ممتـدة يكـون مظهرهـا زيـادة العـرض الكلي للمنتجـات على الطلـب الكلـي محتجـاً بـأن العرض دائمـاً يخلـق الطلب عليـه، وذلك على حسـب الصياغة الجارية المتعارف عليهـا لقانونـه.
 
وبيان هذا أنه في ظل اقتصاد يقوم على المقايضة فإن المنتجات بتبادل بعضها في مقابل البعض الآخر، فمثلا عندما يرغب أحد الأفراد في الحصول على سلعة ما ( القمح ) مثلا فإنه لابد أن يقدم شيئا ما في مقابله ( المنسوجات ) في هذه الحالة يكون الطلب على القمح في آن الوقت عرضاً للمنسوجات، وكذلك العكس صحيح، فـإذا كانت المبادلة هي كل ما يحصل في الاقتصاد فإن العرض الكلي والطلب الكلي يجب أن يكونا متساويين وان اختلفا في المظهر.
 
ــــــــــــــــ
( 1 ) مصطلح الاقتصاديين التقليديين ابتدعه ( ماركس ) ليدخل فيه ( ريكاردو ) و ( جيمس مل ) والسابقين عليهما ولكن ( كينز ) ادخل في المدرسة التقليدية أولئك الذين تبنوا أفكار ( ريكاردو ) في الاقتصاد، وأولئك الذين عمدوا إلى إجراء تحسينات على هذه الأفكار وبالتالي يكون المصطلح عند ( كينز ) شاملاً لــ ( جون ستيوارت مل ) و ( الفريد مارشال ) والأستاذ ( بيجو ) المعاصر لــ ( كينز ).
( 2 ) يعد التحليل المفصل الوحيد عن النظرية الكلاسيكية في البطالة هو المخطط الذي وضعه الأستاذ ( بيجو ) ونظرية الاستخدام هذه قد بنيت عمليا على بديهيتين أساسيتين:
1. الأجرة مساوية للإنتاج الحدي للعمل : ومعنى هدا أن أجرة الشخص المستخدم مساوية للقيمة التي تصبح إذا أزيحت إحدى وحدات الاستخدام مع العلم أن هذه المساواة قد يطرأ عليها الخلل وفقأ لبعض المبادئ إذا كانت المنافسة والأسواق تتصفان بعدم الكمال.
2. منفعة الأجرة : حينما يستخدم حجم معين من العمل مساو للمنفعة الحدية لهذا الحجم من الاستخدام ومعنى هدا أن الأجرة الحقيقية للشخص المستخدم هي تلك التي تكون كافية لأن تجذب إلى السوق كل حجم العمل المستخدم فعليا، وهكذا فإن حجم الموارد المستخدمة بحسب النظرية الكلاسيكية يتحدد بالبديهيتين تحديدا مناسبا الأولى تعطينا منحنى طلب اليد العاملة، والثانية منحنى العرض ويستقر حجم الاستخدام عند نقطة تعادل منفعة الإنتاج الحدي مع منفعة الاستخدام الحدي.
أما في حالة إدخال النقود في الصورة فأن الأمر لا يتغير شيئاً وذلك لأن النقود عند "ساي" وغيره من التقليديين ليست إلا وسيلة تسهل التبادل، وتزيد في فعاليات الإنتاج، فهي ذات طبيعة أو وظيفة محايدة، ويعتقد التقليديون من "ساي" و" ريكاردو" أنه كلما عرضت منتجات في السوق فإنه يخلق تلقائيا طلبا مساويا في قيمته للدخول التي وزعت عوامل الإنتاج المشتركة في إنتاج هذه المنتجات، أي أن مجموع كلف الإنتاج تستدعي وبالضرورة من الجماعة وبأسرها أن تتفق وبطريق مباشر أو غير مباشر لشراء الإنتاج ، وبالرغم من أن هذا المبدأ في النظرية التقليدية غير صريح إلا أنه يفهم من القانون الذي تواضعوا عليه: هو (( إن العرض يخلق طلبه الخاص ))، وقد شرحه ( ستوارت مل ) في مبادئ الاقتصاد السياسي حيث بين أن (( وسائل دفع ثمن البضائع هي البضائع  نفسها والأدوات التي يملكها كل فرد لدفع ثمن إنتاج الآخرين هي المنتجات الموجودة في حوزته والبائعون هم بالضرورة وبالمعنى الحقيقي للكلمة مشترون، لو استطعنا مضاعفة طاقة البلد الإنتاجية فجأة لتضاعف عرض البضائع في كل الأسواق ولضاعفنا القدرة الشرائية في نفس الوقت ولضاعف كل الناس طلبهم وعرضهم معا ولأصبح كل فرد قادرا على مضاعفة كمية الشراء، لأن كل فرد يعرض بالمقابلة كمية مضاعفة )) .
 
لقد ظل قانون ( ساي ) هو الأساس الذي بنيت عليه معظم الكتابات السابقة على الثورة الكينزية باعتباره التفسير الصحيح لكيفية عمل النظام الاقتصادي، وان القول بإمكان نقصان الطلب بصفة عامة ، ومن ثم وجود حالة عامة من فائض الإنتاج يعد خروجا عن الإجماع ، ويلاحظ أن هناك من الاقتصاديين حتى في الفترة المبكرة وقبل ظهور ( كينز ) من عارض هذا القانون مثل ( مالتس ) الذي حارب محاربة عنيفة نظرة ( ريكاردو ) القائلة بأن الطلب الفعلي لا يسعه أن يكون غير كاف إلا أن ( مالتس ) لم يتوصل إلى إعطاء نظرة قادرة على أن تحل محل النظرة المهاجمة، لأنه لم يفسر كيف ولماذا يمكن الطلب الفعلي أن يكون غير كاف ؟ وقد غزا ( ريكاردو ) إنكلترا غزواً تاماً كما غزت محكمة التفتيش إسبانيا فلم تقبل نظريته فقط في أوساط ( بوسطه لندن ) ورجال الدولة والجامعة، بـل إن كـل جدل قد توقف وسقط المفهـوم الآخـر في زوايـا النسيـان التـام، وانقطـع حتـى مجرد البحث فيه واختفت أحجية الطلب الفعلي الكبرى التي تصدى لها ( مالتس ) من الإنتاج الأدبي الاقتصادي حتى إننا لا نجدها مذكورة مرة واحدة في كل مؤلفات ( مارشال ) و ( أدجورث ) و ( بيجو ) الذين أعطوا النظرية الكلاسيكية اكمل شكل لها، ولم تتمكن من البقاء إلا خلسة في حمى ( كارل ماركس ) والماجور ( دوجلاس ) .
 
واذا كانت محاولة مالتس قد باءت بالفشل وطواها النسيان فإن ( كينز ) قد استطاع إقناع الكثيرين من مواطنيه أن يأخذوا مأخذ الجد العديد من نظرياته التي كان يعدها أغلب الاقتصاديين المحترفين ضربا من ضروب الجنون، ويرجع هذا إلى كفاءته النادرة، والى ظروف الأزمنة التي كان يكتب في ظلها، لقد عارض ( كينز ) النظرية التقليدية ورأى أنها وان بدت في شكلها منطقية إلا أنها لا تنطبق على العالم الحقيقي ذلك، لأن الحالة التي افترضها وهي حالة ( العمالة الكاملة ) من غير الممكن أن تتحقق في صورة الوضع الاقتصادي المعتاد بطبيعته التلقائية وبدون تدخل في عمل القوى التي تحكمه لأن معادلة العرض والطلب إنما تصح لا مع عوامل الإنتاج العاملة وحدها بل وغير العاملة أيضا، لأنه ليس هناك من الوجهة الطبيعية ما يجعل بعض العوامل التي تعجز عن أداء وظيفتها، تؤدي تلك الوظيفة في حالة انعدام وجود إجراءات محددة لتحقيق هذا الغرض.
 
نعم من الممكن الوصول إلى العمالة الكاملة وذلك في حالة التدخل في تسيير القوى التي تحكم النظام الاقتصادي، وذلك إنما يتحقق بشيئين أحدهما: وهو الميل إلى الاستهلاك ( دالة الاستهلاك ).
 
وثانيهما: الاستثمـارات الجديـدة ( دالـة الاستثمار ) فالميـل إلى الاستهلاك ومقدار التوظيف الجديـد هما اللذان يحددان معا حجم الاستخدام ولا يمكن إن يتحقق توازن الدخل عند مستوى العمالة الكاملة إلا في حالة واحدة وهي عندما توجد علاقة محددة بين حجم الاستثمارات الجديدة ودالة الاستهلاك مفادها أن يكون حجم الإنفاق على الاستثمارات الجديدة مساويا تماما للفرق ما بين حجم الدخل القومي عند مستوى العمالة الكاملة وحجم الإنفاق ( الاستهلاك ) الذي يتناسب مع هذا المستوى.
 
وهكذا تكـون العمالة هـي حالـة واحـدة من حالات متعددة في طرفهـا الآخـر البطالة وهـذه الحالة حالة مثالية كما عبر عن ذلك ( كينز ) من أن الطلب الفعلي الذي يتناسب مع مستوى العمالة الكاملة هو حالة خاصة وهو يتحقق فقط عندما يتخذ كل من الميل للاستهلاك، والدافع على الاستثمار أحدهمـا في مواجهـة الآخـر شكـل علاقـة معينة وهذه العلاقة المعينة هي التي تتناسـب مـع الافتراضات التـي تقوم عليها النظرية التقليدية، وهي علاقة مثلى لا يمكن أن توجد إلا إذا حـدث - سواء بالصدفة أم بالقصد - أن قدم الاستثمار الجاري مقدارا من الطلب مساويا تماما لمقدار الزيادة في ثمن العرض الكلي للناتج عند مستوى العمالة مما يرغب الجميع من إنفاقه عند هذا المستوى.
 
وفـي الحقيقة فـإن النظرية التقليدية بافتراضها العمالة الكاملة أساساً، قد كانت مسرفة في التفـاؤل(1) ذلك، لأن الوصول إلى تلك العلاقـة المثلـى بيـن الاستهلاك والاستثمار غيـر ممكن في كـل الأحوال، ويرجع ذلك إلى طبيعة الاستثمار أكثر من رجوعه إلى طبيعـة الاستهـلاك فالميل إلـى الاستثمار محكوم باعتبارات متعـددة ومختلفة بعضها متوقـف على توفـر الفرصة المربحة، وبعضها الآخر على درجة المخاطرة، بالجملة فإن الاستثمار متوقف على ما يقوم به المنظمون الخصوصيون والعموميون من نشاط ، وإذا ما قل الاستعداد لسبب من الأسباب لاستغـلال الأموال فـي شـراء أدوات الإنتـاج فلابـد مـن انخفـاض الطلـب على الأيـدي العاملـة وبالتالـي تدنـي الدخـل والاستهلاك معـاً.
 
وإذا مـا انتهينا إلى أن الاستثمار هو العامل الأكثـر تقلبـاً من فترة إلى أخرى – وقد يحدث هذا بصفة مفاجئـة - من بين العوامل التي يتوقف عليها حجـم العمالة فـي الاقتصاد القومي فمعنى هذا أن الاستثمار هـو المحدد الأهم لمستوى العمالة وهكذا ينتهي ( كينز ) إلى أن البطالة إنما تحدث أساسـاً نتيجة لنقص هـذا الإنفاق عن المقـدار اللازم لتعويض الادخـار الكلي عند مستوى العمالة، وتأسيساً على هذا لا يمكن إن تكون الأجـور المرتفعة منفردة هي السبب الرئيسي فـي البطالـة وإنما يرجع ذلك لسبب آخـر في نظـر ( كينز ) وهو أن كـل مدفوع له جانبان فالذي يتسلمه يحصل على دخـل يوازي ما ينفقه من يدفع ولا أكثر من ذلك والدخل ينساب في دائرة حـول النظام الاقتصادي، فـإذا حصل هبوط في الطلـب العـام فالسبب لا محالة هو انكماش في أسباب الدخل، وهنا لابـد من معرفة الأسباب التي تـؤدي إلى هذا الانكماش، ومن الـذي يمنع المال من الجريـان في دائرتـه حـول الاقتصـاد ؟
 
ـــــــــــــــــ
(1) أو كما عبر ( كينز ) بقوله : ((هذا التفاؤل الشهير الذي صار ينظر إلى الاقتصاديين بسببه على أنهم مثل كانديه - وهو بطل قصة لفولتير معروف بهذا الاسم - هجروا العالم ليزرعوا بستانهم، وصاروا يعلمون بأن العالم على أحسن ما يرام ولكن بشرط أن نطلق له العنان فيرجع فيما نعتقد إلى الجهل بالعائق الذي يضعه نقص الطلب الفعلي في وجه الازدهار، وربما كانت النظرية الكلاسيكية تصف الطريقة التي تتمنى يسير ان اقتصادنا بمقتضاها ولكن الافتراض بأنه يسير حقا على هذه الصورة يعني افتراض جميع المصاعب محلولة )) .
للإجابة على هذا نقول ظلت النظرة التقليدية تذهب إلـى أن كـل فعـل ادخـاري فـردي يؤدي لا محالة ويعـادل توظيفـاً للعمـل والبضائع غير اللازمة للحاجـة الاستهلاكية في إنتـاج السلـع التجهيزيـة وأن كـل عملية من عمليات الادخـار تضمن في الوقـت ذاته استثمـاراً مماثـلاً فـي الرأسمـال الحقيقـي مما يـؤدي إلى سحـب نسبة كافيـة من السلع تـؤدي إلى زعزعـة مركز تكاليف الإنتـاج بحيـث تجعلهـا أسعـاراً مربحـة تؤدي إلى الإبقـاء على عوامل الإنتـاج في حالة نشـاط دائـم ومـن ثـم فـأن الادخـار الفـردي قـد يساعـد علـى التوظيـف الجـاري بقـدر مـا ينقـص الاستهـلاك الحالــي، أو كما عبر مارشـال (( إن دخـل كـل فـرد ينفـق بتمامـه فـي شـراء البضائـع والخدمـات لا شـك فـي انـه يقـال عـادة أن الإنسـان ينفـق جـزء مـن دخلـه ويدخـر الباقـي، ولكنهـا حقيقـة اقتصاديـة مألوفـة إن المرء يشتـري البضائـع والعمـل أيضـاً بالقسـم المدخـر كمـا بالقسـم المنفـق بالمعنـى العـادي للكلمة ))(1).
 
إن ( كينز ) وقبله ( ويكسل ) يذكر هذه النظرية التقليدية ويصفها بالسخف والمغالطة ذلك، لأن تطبيـق هـذه النتائج على نوع الاقتصاد الذي بلا تبادل(2) وان التفكير المعاصر لم يزل مشوباً بالفكـرة القائلـة (( إن النقـود إذا لم تنفق بهذه الصـورة فستنفـق بصـورة أخـرى )) وهـي بعـد هـذا تخلـط بيـن نشاطيـن مختلفيـن اختلافـاً جوهريـاً وذلك بإقامتهـا رابطـة عفويـة بيـن قـرارات الامتنـاع عـن استهـلاك مباشـر بقـرارات استهـلاك مقبـل فـي حيـن أنـه ليـس هنـاك ثمـة علاقـة بيـن الدوافـع المعينة للقرارات الأولى والدوافع المعينة للثانية وذلك، لأن قرارات الاستثمار وقـرارات الادخـار منفصلـة فـي المجتمـع الاقتصـادي الحديـث فينـدر جـداً أن يكون الأفـراد الذيـن يقـررون بنـاء المصانـع هـم أنفسهـم الذيـن ادخروا نقودهم مـن أجل دفـع ثمن هـذه المصانـع، ففـي الاقتصـاد النقـدي الحديـث ليس هناك تلك الحلقـة التلقائيـة المباشـرة بيـن الادخـار والاستثمـار ذلك، لأن مجـرد الامتناع عن الاستهـلاك لا يخلـق طلبـاً مـا علـى السلـع وان خلـق مثـل هـذا الطلب لا يتم إلا إذا رافق كل عملية من عمليـات الادخـار استثمـار مماثـل فـي شـراء معدات الإنتاج.
 
ولكـن لمـا كـان المدخـر يدفـع نقـوده إلـى شركـة التأميـن وبنـوك التوفيـر فـأن هـذه النقـود قـد لا تـأخـذ طريقهـا نحـو استثمـارات جديـدة كبنـاء المصانـع والمعـدات خصوصـاً فـي أوقـات الكسـاد والازمـات الاقتصاديـة وفـي هـذه الحالـة تحبـس النقـود عـن الاستهـلاك قـدراً أكبـر أو أقـل ممـا ينفـق فـي الاستثمـار ممـا يسبـب الهبـوط والارتفـاع فـي مجـرى الدخـل الكلـي ذلك لأن دخـول أهـل بلـد مـا هـو يحـدد إنفاقهـم أي طلبهـم الكلـي الكامـن وذلك فـي حالـة الإنفـاق. أمـا الجـزء المدخـر فإنـه لا يمكـن أن يكـون جـزء مـن الطلـب إلا فـي حالـة توظيفـه فـي استثمـارات جديـدة، ولكـن مـع ذلك فـأن الادخـار إذا زاد علـى الاستثمـار فـأن جـزء مـن المـال سيحبـس مـن رصيـد الإنفـاق فيقصـر الطلـب فـي هـذه الحالـة وتنخفـض الأسعـار. أمـا فـي حالـة مـا إذا حصـل العكـس وزاد الاستثمار على الادخـار فـأن الطلـب الكلـي سيزيـد وفـي نفـس الوقـت ترتفـع الأسعـار ولكـن في كل
 
 
ــــــــــــــــــ
(1) وفـي الحقيقة فإن المذهب التقليـدي لم يعد يشرح اليـوم بمثل هـذه الصورة الفجة كما هـو واضـح من كتابات (مارشال ) و ( ادجوورث ) و ( بيجو ) ولكن هذا لا يمنع انه الأساس الذي لم تزل تستند إليه العقيدة الكلاسيكية.
(2) المقصود بالاقتصاد المتبادل : هو اقتصاد ( روبنسون كروزو ) وطبقاً لهذا الاقتصاد الذي لا وجود للنقود فيه فالقرار بالادخار دائما يعني وبالضرورة قرارا بالاستثمار فى الوقت نفسه فالاستثمار والادخار ليسا متساويين فحسب بل هما نفس الشئ تماما فهما مجرد طريقتين مختلفتين لنفس القرار فإذا قرر (كروزو) تمضية الصباح فى عمل شبكة للصيد فهو قد قرر في نفس الوقت ادخار صباحه بامتناعه عن استهلاكه إياه فهو قد رفض استخدام صباحه فى صيد السمك فهو قد امتنع عن الاستهلاك وبطريقه تلقائية، أما فى الاقتصاد النقدي فلا وجود لهذه الحلقة التلقائية بين الادخار والاستثمار.
الأحوال فأن ( كينز ) يـرى إن (( أصـل الـداء يكمـن فـي أن فعـل الادخـار لا يقتضـي الاستعاضـة عـن استهلاك جـار بزيـادة معينـة فـي استهـلاك مقبـل يتطلـب إعـداده نشاطـاً اقتصاديـاً كإعـداد الاستهـلاك المعـادل للمبلـغ المدخـر )) ويـرى أن (( فعـل الادخـار يخفـض فقـط سعـر السلـع الاستهلاكية بصـورة مستقلـة عـن الفعاليـة الحديـة للرأسمـال الموجـود، بـل قـد يضعـف هـذه الفعاليـة الحديـة ذاتهـا بشكـل فعلـي وفـي هـذه الحالـة يقلـص طلـب التوظيـف الفعلـي كمـا يقلـص طلب الاستهلاك الحالـي )) .
 
 
نظرية النقود
 
ظلت نظرية كمية النقود(1) هي السائدة حتى الثلاثينات وقد اعتقد التقليديون أن قيمة النقود إنما تتوقف على كميتها أو حجمها وركزوا جهودهم في التغيرات التي تطرأ على العلاقات بين مستوى الأسعار وكمية النقود في تفسير ما يحدث من تغير في قيمة النقود.
 
وفـي الحقيقة فإنه لا يوجد شكل واحد لهذه النظرية وإنما عدة اتجاهات أو أشكـال يجمعها اتفاقهم على أهمية العلاقـة بيـن كمية النقـود ومستوى الأسعـار ويفرقهم اختلافهـم فيمـا بينهـم في درجـات تأكيدهم على تلك العلاقـات(2) ووفق النظرية التقليدية فأن النقود سلعة من السلع، وبالتالي فـأن ثمنها يتحدد طبقـاً لظـروف العـرض والطلـب الخاصين بهمـا إلا أنه مع ذلك يجب ملاحظة أن النقـود ليسـت سلعـة كباقي السلع وان كانت خاضعة لمعيـار الندرة والكميـة عند تحديـد القيمة شأنها فـي ذلك شـأن السلع لأنها تتغايـر مع السلع في جانب الطلب، لأن منفعتهـا ليست مباشرة وإنما تحـدد قدرة صاحبها علـى الحصول على مختلف السلع فـي مقابلها، ومـن هنـا كانـت وظيفتها
 
ــــــــــــــــــــ
(1) النظرية الكمية بدأت بملاحظة تاريخية أبداها ( جان بودان ) من حيث أن زيادة كمية النقود المتداولة ( الذهب والفضة ) نتيجة توارد الكثير من هذه المعادن من المستعمرات أدت إلى زيادة عرضها كنتيجة للطبيعة الازدواجية للنقود المعدنية مما يجعلها خاضعة لقواعد الندرة في تحديد القيمة، وقد تبع هذا التقليد بقية المفكرين في نفس الموضوع ( دافيد هيوم ) وتحدث عن سرعة التـداول ( كانتيون ) وعمم ( ريكاردو ) التحليل السابق على النقود الورقية مفسراً حالة التضخم وارتفاع الأسعار وانتهـى إلى أن زيـادة كمية النقود لن تـؤدي إلا إلى زيادة الأسعار. إن الصياغـة النهائية لهذه النظرية تمت على أيـدي كــل مـن ( فيشر ) 1971 ومعادلته المعروفـة عـن التبــادل و(مارشال ) و ( بيجو ) من خلال محاولتهما عن الدخل والرصيد السائل وما اصطلح على تسميته معادلة (كمبرج).
ويلاحظ أنه بالرغم من أن المعادلتين تبحثان نفس الظاهرة وهي مستوى الأسعار وعلاقتهما بكمية النقود إلا أنهما يختلفان في طريقة البحث فمعادلة ( كمبردج ) تهتم بالمال المحتفظ به سائلا أو عدم الإنفاق أما معادلة التبادل فتهتم بفكرة الإنفاق وبسرعة التداول لهذا الإنفاق وتأسيسا على هذا تكون المعادلة الأولى تركز على العوامل التي يتوقف عليها طلب الأشخاص للنقود أما المعادلة الثانية فتهتم بالعوامل التي تؤثر على عرض النقود وكميتها.
(2) هناك ثلاثة أشكال لنظرية كمية النقود وهي:
1.      معادلة التبادل: أو ما تسمى بمعادلة ( فيشر ) نسبة إلى الاقتصادي الأمريكي ( فيشر ) وتقول هذه المعادلة أن حاصل ضرب كمية النقود في عدد مرات تداول كل وحدة من النقود في فترة زمنية - مستوى أسعار السلع مضروبة في كمية السلع المشتراة فى أثناء هذه الفترة.
2.      هناك ما يسمى بالشكل الجامد لنظرية كميه النقود ومفادها أن الأثمان تتغير دائما بنفس نسبة تغير كمية النقود بمعنى انه إذا تضاعفت كمية النقود تضاعفت الأثمان. أيضاً وإذا نقصت النقود إلى النصف انخفضت الأثمان إلى النصف.
3.      هدا الشكل ينكر إن هناك علاقة سببيه محددة بين الأثمان والنقود، ويقول انه إذا زادت كمية النقود فأن الأسعار سترتفع، وانه إذا انخفضت فإن الأسعار ستنخفض غير أن أحدا لا يمكنه الجزم بالمقدار الذي تتغير به الأسعار نتيجة لتغير كمية النقود.
مختلفة عـن وظيفة كافـة السلع في المبادلة والحصول على السلـع الأخرى ومـن ثـم فـأن انخفاض قيمة النقـود نتيجة لزيـادة كميتها يعني ارتفـاع كافـة الأشياء فـي مقابلها مما يعني أن للنقود مقياساً محايداً للقيمة.
 
وبالجملة فإن النتائج التي توصل إليها التقليديون هي أن أي زيادة في كمية النقود يستتبعه بالضرورة زيادة في الأسعار، وأي نقص في كمية النقود فانه يستتبعه نقص في الأسعار، وهكذا ظلت النظرية التقليدية هي النظرية السائدة بدون منافسة أو مزاحمة من قبل أي نظرية أخرى في تفسير قيمة النقود.
 
 
 
النقود ومستوى الأسعار
 
الواقع أن التحليل الاقتصادي المعاصر لمستوى الأسعار وقيمة النقود يختلف اختلافا جوهريا، لأنه يتم من خلال نظرية جديدة تتصف بالواقعية والدقة في التحليل، ويرجع الفضل في صياغة النظرية الحديثة في حقيقته وجوهره إلى ( كينز ) صحيح أن في البناء التكويني للنظرية الكينزية أفكاراً. متضمنة ترجع إلى الفترة السابقة على ( كينز ) إلا أن هذه الأفكار متناثرة هنا وهناك وتنسب إلى مفكر أو آخر وهي في النهاية لا تشكل نظرية مستقلة . إن التحليل المتكامل الذي يستحق أن يطلق عليه اسم نظرية في النقود والأسعار هو من دون شك من صنع ( كينز ) ولم يسبقه إلى ذلك أحد.
 
لقد وصف ( كينز ) نظرية كمية النقود بأنها بديهية لها صفة الصحة المطلقة في جميع الظروف وان كان ينقصها المغزى ويرى أنه (( ثمة عيب كبير في النظرية الكمية حين تطبق على الواقع هو أنها لا تميز بين تحولات الأسعار، تلك التي تنشأ عن تحولات الإنتاج وتلك التي تنشأ عن تحولات وحـدة الأجر، ولعله يمكن تفسير هذا الإهمال بالفرضية المزدوجة القائلة بأنه لا يوجد أبدا ميـل إلـى الادخار وأن هناك دائما استخدام تام )). وتأكيدا لهذا الاتجاه راح ( كينز ) ينقد هذه النظرية، لأنها قامت على أساس الفصل بين نظرية القيمة ونظرية النقود والأسعار.
 
فالاقتصاديون التقليديون عندما يتحدثون عن نظرية القيمة نجدهم عادة مهتمين بالتأكيد على أن شروط العرض والطلب هي التي تتحكم بالأسعار وتلعب تحولات النفقة ( الكلفة ) الحدية ومرونة العرض في الفترة القصيرة دوراً. بارزاً وأساسياً في تكوين الأثمان. أما عندما يتحدثون عن نظرية النقود فتراهم ينسون تلك الأفكار ونجد أنفسنا وجها لوجه إمام تحليل جديد تتحكم فيه بالأسعار كمية العملة وسرعة تحولها إلى دخل وحجم التعامل والتكنيز إلى آخره ولم تصدر أبدا أي محاولة لربط هذه التعابيير الغامضة بمفاهيم العرض والطلب القديمة ولكن إذا ما حاولنا الربط بين تلك الظواهر النقدية وبين الأفكار السابقة المتعلقة بأمور العرض والطلب نلاحظ أن مرونة العرض تعتبر معدومة القيم والطلب متناسب مع كمية العملة.
 
وتأسيساً على هذا يرى ( كينز ) أنه من الواجب النظر إلى هذه الأفكار بصورة أكثر معقولية، وذلك إنما يتم بتحقيق الربط الكامل بين نظرية القيمة، ونظرية النقود فيبحث ابتداء عن مرونة الثمن بالنسبة لتغيرات الطلب الكلي والعرض ثم يقوم بعد دلك بدراسة أثر التغير في هذه الدوال على التغير في كمية النقود، ويحاول أن يؤسس ذلك الاتصال الكامل والفعال بين النظريتين على أساسين:
أحدهما: كيفية تحديد مستوى الأسعار وما هي العوامل التي تؤثر في هذا المستوى(1) .
وثانيهما: دور النقود. في تحديد ذلك المستوى ومتى يبدأ ويبحث ماهية العناصر التي تؤثر فيها هذه الظواهر النقدية، والطرق التي تؤثر بواسطتها التغيرات في العرض والطلب والمرونة على قيمة النقود والأسعار(2).
 
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يرى ( كينز ) أن العوامل التي تحدد الأسعار في الصناعة الجزئية انما تتوقف على دخول مختلف عناصر الإنتاج، ولا يرى سببا لتغيير هذه القاعدة في حالة الانتقال من الصناعة إلى مجموع الصناعات فالمستوى العام للأسعار متوقف على معدل مكافأة عناصر الإنتاج الداخلة في الكلفة الحدية وبدرجة الإنتاج الإجمالي، ويقاس عادة بالتشغيل مع ملاحظة أنه في حالة الإنتاج ككل فإن كلف الإنتاج ترتبط جزئيا بظروف الإنتاج في الصناعات الأخرى لأن هناك علاقة ( تبعية وتكامل ) بين مختلف الصناعات.
(2) يصوغ ( كينز ) نموذجين لبيان العلاقة بين نظرية القيمة ونظرية النقود وهما:
أولا: النموذج المبسط :
ويفترض فيه ( كينز ) ما يلي:
1.      إن الطلب يتغير بنفس النسبة التي تتغير فيها كمية النقود.
2.      إن عوامل الإنتاج متعطلة.
3.      وحدة الأجر ثابتة طالما هناك عناصر إنتاج متعطلة.
4.      ان عوامل الإنتاج قابلة للإحلال بعضها محل بعض.
فكيف يمكن إن تؤثر كميه النقود على الأسعار ؟ هنا يفرق ( كينز ) بين حالتين:
أ‌-        حالة يكون فيها الاقتصاد القومي متميزا بوجود موارد غير مستغلة وبخاصة الموارد البشرية وفى مثل هذه الحالة فإن تزايد كميه العملة تؤدي بالضرورة إلى زيادة الإنفاق والطلب الفعال زيادة متناسبة ومماثله لكمية النقود وهذا يؤدي بدور، إلى زيادة مماثلة في حجم التشغيل.
ب‌-     حالة يكون فيها الاقتصاد القومي متميزاً، بالاستخدام التام لكافة الموارد ويضمنها الموارد البشرية ففي هذه الحالة فان زيادة كمية النقود تؤدى بالضرورة إلى زيادة في التشغيل لعدم وجود موارد معطلة.
ثانياً: النموذج الحقيقي أو الواقعي:
وفيه يحرر ( كينز ) نموذجه من الفروض المبسطة السابقة ويحاول أن يبين كيفية تأثير كمية النقود الإضافية على مستوى الأسعار من خلال العرض والطلب، وقد بين ذلك في اتجاهين:
احدهما: النقود والعرض: وقد فرق فيه بين حالتين :
1.      حالة تمس حجم التشغيل فزيادة الطلب الفعال نتيجة زيادة كمية النقود يترجم كقاعدة عامة بزيادة في التشغيل من جانب، ومن جانب آخر بزيادة في الأسعار، فالأسعار بدلا من أن تبقى ثابتة عندما توجد حالة تشغيل جزئي وتزيد بنفس النسبة مع زيادة كمية النقود في حالة التشغيل الشامل فهي تزداد تدريجياً بزيادة التشغيل في الحالة الأولى وتتغير بطريقة غير تناسبية مع زيادة كمية النقود في حالة التشغيل الكامل وهذه الظاهرة تفسرها عدة عوامل مؤثرة في العرض والطلب وأول هذه العوامل سعر الفائدة ذلك، لأن زيادة كمية النقود سوف تؤدي إلى انخفاض سعر الفائدة وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الإنفاق وزيادة الطلب الفعال، وفي نفس الوقت الزيادة في التشغيل ولعل الجديد في هدا التحليل إن الزيادة في التشغيل لا تكون بنفس نسبة الزيادة في الإنفاق والطلب الفعال فالزيادة غير المتناسبة مع كمية النقود تؤدي إلى تناقص العائد نتيجة استخدام إنتاج أكبر بنفس النفقات وهذا يؤدي إلى زيادة النفقات ويقلل من درجة مرونة الطلب ومن ثم ترتفع الأسعار.
2.      وحالة تتعلق بتأثير كمية النقود على الأجور وفيه يذهب ( كينز ) إلى أن زيادة كمية النقود تؤدي إلى زيادة الطلب الفعال مع ملاحظة أن جزء من الزيادة يذهب إلى سد الزيادة في مستوى الأجور مما يزيد في نفقات الإنتاج وبالتالي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار حتى قبل وصول مرحلة التشغيل الشامل.
وثانيهما: الاتجاه الثاني وهو الطلب الحقيقي وكمية النقود فالطلب يعتبر هو العنصر المحرك في النظرية الكينزية فتأثير النقود على الأسعار من خلال الطلب على السلع الإنتاجية يكون أكثر وضوحا وايجابية، فالطلب الكلي من خلال الطلب الفعال يؤثر في حجم الإنتاج ومستوى الأجور وبالتالي على النفقات والتي تمثل العوامل المباشرة لزيادة الاجور وبالتالي على النفقات والتي تمثل العوامل المباشرة لزيادة الأسعار في نظرية ( كينز ). ويبحث (كينز) كيفية هذا التأثير، ويرى أنه متوقف على تحديد مكونات الطلب والظروف المحيطة بهذه المكونات، وهذه  =
وفي الحقيقة فإن نظرية كمية النقود التقليدية على الرغم من أنها قادرة على ان تفسر لنا ما يحدث وذلك في حالة ما إذا كانت العمالة كاملة وتوقف الإنتاج عن الزيادة. وهذه هي الحالة التي تتفق فيها المدرسة التقليدية مع النظرية الكينزية، إلا أن نظرية الكمية لا تستطيع على الإطلاق أن تفسر لنا شيئا مما يحدث وذلك عدما يكون الاستثمار والإنتاج كلاهما في ارتفاع، أو عندما لا يكون للزيادة في كمية النقود أي تأثير على الأثمان وذلك عندما تؤدي هذه الزيادة إلى مجرد زيادة الإنتاج وحتى في حالة الاتفاق المتقدمة ( حالة العمالة الكاملة ) ، فإن الاتفاق بين الآراء الكينزية والآراء التقليدية هو في حقيقته وجوهره اتفاق على النتائج وليس اتفاقا على الأسباب والذي يدعم هذا أن الاختلاف لم يزل قائما بين النظريتين حول طبيعة العلاقة بين ارتفاع الأسعار، وبين زيادة عرض النقود.
 
فالتقليديون يرون أن السبب في زيادة الأسعار هو زيادة عرض النقود اما السبب عند ( كينز ) فهو ذلك الأثر المترتب على زيادة النقود وهو انخفاض سعر الفائدة إلى حد لا يشجع على الاستثمار القادر على خلق عمالة كاملة. وفي حالة الوصول إلى هدا المستوى من العمالة فإن أي هبوط آخر في سعر الفائدة سيؤدي إلى رفع الأسعار النقدية دون إن يكون له أثر فعال في رفع حجم الاستهلاك الحقيقي. أو رفع حجم الاستثمار الحقيقي. وهكذا لاحظ ( كينز ) - وبحق - إن النظرية النقدية كانت معزولة عن الاقتصاد الرأسمالي وقلما تجيء في دراسات وأبحاث الاقتصاديين عن الأزمات سيما أزمة 1929 فحاول أن يؤسس على هذه الحقيقة حقيقة أخرى مفادها إن النظرية التقليدية ظلت تذهب إل استحالة حدوث أزمة، أو ركود حتى حدثت وبصورة أكثر اتساعاً وشمولية من أي أزمة أخرى، ومن هنا ربط ( كينز ) النظرية النقدية بالأزمة الاقتصادية باعتبارها واحداً. من الأسباب الرئيسية في حدوث الأزمات والركود، وقد كان على حق حين افترض إمكانية فقدان التوازن الاقتصادي نتيجة للدورة النقدية في المجتمع.
 
ومـن خـلال العـرض المتقـدم يتضح لنـا أن ( كينز ) قـد اكتشـف ذلك الصـدع فـي الوظيفـة المزدوجـة للنقـد الـذي يمثـل في آن واحـد وسيلـة تبـادل ووسيلة دفـع للبضائع في السوق ويستطيع الأفراد أن يتخذوا قرارين بصدد ما في حوزتهم من مبالغ أحدهما قـرار استهلاكها وثانيهما قـرار اكتنازهـا ومـا دام حجـم الطلـب هـو الـذي يحدد مستوى النشاط الاقتصادي فإن هذا المستـوى سينقلب بوجـه خـاص مع الميـل إلـى الاستهلاك تبعا لإنفاق الدخول أولا، ولما كان الأفراد في الأعم الأغلب ينفقون دخولهم فإن التوظيفات هي التي تحدد في التحليل النهائي حجم الطلب والاستخدام والإنتاج.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المكونات تتمثل في نوعين من أنوع الطلب:
أحدهما: طلب المنتجين والمشروعات وهذا يتأثر بقرارات المنتج أو المشروع المتعلقة بحجم الإنتاج والتوزيع بين الإنتاج الاستهلاكي والإنتاج الاستثماري.
وثانيهما: طلب الأفراد وهذا بدوره أيضا خاضع لقرارات الأفراد شان توزيع دخولهم ين الادخار والتوظيف والاستهلاك . أما الظروف المحيطة بهذه المكونات فيذهب ( كينز ) إلى أنه سواء تعلق ذلك بطلب المنتجين وتوزيع دخولهم الكلية، أو تعلق بطلب الأفراد وتوزيع دخولهم الفردية فإن زيادة الطلب وعدمه يتوقف بشكل أو بآخر على فكرة الميل للسيولة والعوامل أو الدوافع وراء هدا التفضيل ويلخص العوامل المحددة لتفضيل السيولة بأربعة دوافع هي:
1.   دافع الاحتياط .
2.   دافع المضاربة .
3.   دافع الدفع .
4.  دافع المشروع .
دور الدولة
 
على الرغم من أن دور الدولة لم يظهر في الفكر الكينزي حتى هذه السطور إلا أنه ما كان بالإمكان معرفة هذا الدور لولا ما قدمناه من تحليل لهذا الفكر ذلك لأن فكر ( كينز ) في حقيقته وجوهره، أو في غاياته وأهدافه يسعى إلى بيان دور الدولة في الاقتصاد، وضرورة تدخلها، وأن ترك الاقتصاد للسوق وقواه التلقائية ليس بإمكانه أن يوصلنا إلا إلى الفوضى وعدم الاستقرار والتوازن، فمن دون التدخل الحكومي في الاقتصاد يبقى هناك شبح حدوث البطالة الجماهيرية، وحدوث الكسادات الدورية وإذا صح لنا أن نعيد صياغة ما تقدم فإن النظرية الكينزية ليست إلا اصطفاء التحولات التي تستطيع السلطة المركزية أن تؤمن الإشراف عليها أو إدارة دفتها، عن دراية ضمن النظام الذي عاش فيه.
 
ومن هنا نجد ( كينز ) قد زاد من دائرة عمل الدولة في مجال الإنفاق وقيامها بعمليات استثمار واسعة وذلك عندما يضعف الحماس ويتزعزع تفاؤل رجال الأعمال الذي يدفعهم إلى الامتناع عن القيام بتوظيفات جديدة ذلك، لأن الدولة إذا أخذت على عاتقها القيام بأي مشاريع للاستثمار فإنها ستكون نافعة بصرف النظر عن أي حساب دقيق لغلتها المتوقعة، لأن الأموال التي تستثمرها قادرة على أن تولد دخلا يوازن الأرباح على أن الدولة حيـن توظـف أموالاً فإنما تتأثـر بالظن العـام القائـل بأنه يمكن انتظار بعـض المنافع الاجتماعية من التوظـيف بغـض النظر عن المردود التجاري الـذي سيتلخص منه(1)، وهكذا نستطيع من خلال التوظيفات الجديدة أن نخلق جـواً من التفاؤل بين رجال الأعمـال.
 
ولما كانت الدولة قادرة على أن تحسب الكفاءة الحدية لرأس المال عند إلقاء نظرة بعيدة واعتبار المصلحة الاجتماعية للجماعة فإن ( كينز ) يتوقع من الدولة أن تأخذ على عاتقها مسؤولية متزايدة في تنظيم التوظيف تنظيماً مباشراً.
 
إن ( كينز ) ظل يعتقـد بأن الدولة قادرة على أن تؤثر في مستوى النشاط الاقتصادي وذلك من خـلال الإنفاق سواء كان ذلك على الاستهلاك أو على الاستثمار، ومن ثم نستطيع زيادة الطلب وزيادة العمالة وبذلك يصبح من مسؤولية الدولة أن تتدخل للقيام بإنفاق جديد وطرح قوى شرائية في السوق إذا كان الطلب الإجمالي غير كـاف لتحقيق التشغيل الشامل، بيـد أنـه كـان ينظر إلـى تـلك النظريات التي تعتقد أن زيادة الاستهلاك هو الحل الحقيقي لمشكلة البطالة لا تخلو من المبالغة فـي عصر لا يـزال ينتظر فيه الكثير من المنافع الاجتماعية من ازدياد التوظيف، أو يأخذ عليها بأنها تهمل وجـود وسيلتين لزيـادة الإنتـاج، وأضاف بأنه شخصيا مأخوذ بالمنافـع الاجتماعيـة الناجمـة عن زيـادة رأس المـال ريثمـا يكـف عن أن يكون نادراً، ومع ذلك فإنه اعترف بأن الحكمة تقتضي السيـر في الاتجاهين معـاً. يقول ( كينز ) : (( وإذ نتمنـى بدافع من الروح الاجتماعية أن تكون سيالة التوظيف مسيرة بحيث تنخفض فعالية الرأسمال الحدية انخفاضاً تدريجياً نقبـل أيضاً أن تطبق في نفس الوقت كل التدابير الكفيلة بزيادة الميل إلى الاستهلاك وهاتان السياستان لا تزيحان أبداً بعضهما بعضا إذ ليس هناك ما يمنع من زيادة التوظيف مع رفع الاستهلاك في نفس الوقت )).
 
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بيد أن الدولة تكترث قليلا بمعرفة هل يلبي التوظيف أم لا الشرط الذي ينص على أن يكون التنبؤ الرياضي بالمردود أعلى من معدل الفائدة الجاري على أن معدل الفائدة الذي تضطر السلطات العامة على دفعه يمكنه أيضا أن يقوم بدور حاسم بتحديد أهمية التوظيفات التي يمكن للسلطات أن تسمح لنفسها به.
وفي الحقيقة فإن ( كينز ) إذ أعطى أهمية بالغة للاستثمار أكثر من تلك التي أعطاها لطرف رفع الاستهلاك فإنه كان متناغما مع التحليل الاقتصادي السليم، لأن الاستثمار فضلا عما يحققه من منافـع اجتماعية متوخاة فهو واقع تحت مقدور الدولة وفي إمكانها مباشرته، وهـذا بخلاف الاستهلاك وذلك، لأن الاستهلاك يتوقـف على الدخل وعلى الميل إلى الاستهلاك ولما كان الدخل متغيرا تابعا فإنه لا يمكن تغيره إلا بتغير المتغيرات المستقلة في النظام - صحيح أنه من الممكن إجراء تعديلات على الميل إلى الاستهلاك وبالتالي رفـع الاستهلاك والـذي يـؤدي بـدوره إلـى رفـع الدخـل وارتفـاع الأخير يؤدي إلـى ارتفاعات أخـرى في الاستهلاك إلا أنه يبقـى الميل إلـى الاستهلاك محكوم بالعـادات والتقاليـد وبجوانب نفسية تمنـع المستهلك من إجـراء تعديلات على خياراتـه، او تسمـح للآخرين بالتدخـل في شؤونه، وهكذا يكون ( كينز ) قد رأى أنه بإمكان المصاريف العامة أن تتدارك قلة التوظيفات الخاصة وذلك في الأحـوال التي يكون فيها هبـوط في الدخل وبطالة كثيفـة بالأصـل ويفضل المضاعف يزيد كـل مصروف عام الدخل القومي بمبلغ أكبـر منه هو نفسه، وهكذا تنشأ نظرية المصارف العامة الإضافية ( قانون مضخة الرواج ) وهكذا فإننا نذهب إلى عكس هذه السياسة وذلك حيـن يصبح هناك خطر حدوث حالة من التضخم ويوشك أن يقع ارتفاع كبير فـي الأسـواق فـأن خيـر وسيلـة لإنقـاص الطلب الفعال هو لجـوء الدولة إلى تقليص الإنفـاق الحكومي(1) الـذي يدعمه ارتفاع سعر الفائدة وفرض ضرائب على الإنفاق وعلى الاستهلاك وهـذا الإجراء فضلاً عن سرعته وسهولته ولا يتسبب في إشكالات سياسية واقتصادية فإنه لا تكون له آثار ضارة على الاستثمار الخاص ومن ثم التوظيف، وهكذا يجب على الدولة التدخل لتحديد حجم الإنفاق والطلب الإجمالي بما يحقق الاستقرار النقدي، ويحول دون زيادة الأسعار بشكل رهيب.
 
وإذا كان ( كينز ) قد رأى أن من واجب الدولة أن تتدخل من خلال الإنفاق وتقليصه في حالة الانكماش والتضخم فإنه يرى وجوب تدخل الدولة والتأثير على توزيع الدخول تلك النقطة التي كانت واحدة من أكبر نقاط الضعف في الدولة الرأسمالية، وذلك من خلال فرض الضرائب التصاعدية، وضريبة الدخل، وضريبة الإرث، وهذا يحقق تقدما عظيما في تخفيض الفوارق الكبرى في الثروة والدخل، ويرى أن امتناع الطبقة الميسورة عن دفع هذه الضرائب يعاكس نمو الثروة أكثر مما يساعد عليه ذلك، لأن التجربة تبين أن ادخار المؤسسات وأموال الاستهلاك تؤمن في الظروف الحالية ادخاراً. يفيض عن الكفاية كما يتبين لنا أن الآراء التي تعيد توزيع الدخل في منحنى ملائم للميل إلى الاستهلاك قادرة على أن تسرع كثيراً. في تنمية رأس المال.
 
وهكـذا اعتقـد ( كينز ) أن التفـاوت الكبير في توزيـع الدخـل يميـل إلـى زيـادة الادخـار والحـد مـن الاستثمار وهـو بهـذا يتفق مع ( ماركس ) و ( روبنسن ) إلا انه أفصح عن آرائه بصورة أكثر دقـة ومهـارة ويلاحـظ أن ( كينز ) ظل يعتقـد أن العوامـل النفسانيـة والاجتماعية هـي التـي تبـرر ذلك التفـاوت فـي الثـروات والمداخيـل، ولكنه مع ذلك كان يـرفض أن تكون هنـاك أسبـاب حقيقيـة تبيـن
 
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) ويلاحظ أنه هناك عدة طرق لمعالجة الطلب الفعال والتضخم. أحدهما ما ذكرناه أعلاه. وثانيهما تخفيض الاستهلاك إلا إن هدا النوع من المعالجة يتوقف على الدخل وعلى الميل إلى الاستهلاك، وقد رأينا أنه محكوم بمقدار إقناع الناس بالادخار عند كل مستوى من مستويات الدخل وهذا مشكوك فيه في الأوقات العادية. وثالثها هو فرض ضرائب على الدخل الذي كان يتم إنفاقه على الاستهلاك. وهذا الإجراء فعال للحد من التضخم إلا أن له مصاحبات ضارة بأن يزيد من الادخار السالب أو يقلل من الاستثمار، لأنه يسمح لسعر الفائدة بالارتفاع وبالتالي تختنق المشاريع الأقل ربحا. رابعا: مهاجمة التضخم برفع سعر الفائدة وهذا يؤدي بدوره إلى تقييد الاستثمار وما يترتب عليه من آثار المضاعف على الدخل، وقد يؤدي إلى الانكماش، وقد يسبب تشاؤماً يزيد عن الحد بالنسبة لرجال الأعمال.
فـوارق بـارزة كالفـوارق الحاليـة فوجـود الفـوارق فـي الثـروة مبـررة عنـده بـأن، هناك نشاطات بشريـة نافعـة تتطلـب لتؤتـي أكلهـا كامـلاً مهما كـان الربح وإطار الملكية الخصوصية بـل أكثـر، إذ ان بأمكـان كسـب النقـود وتشكيـل ثـروة يستطيع أن يوجـه بعـض الميـول الخطـرة فـي الطبيعـة البشريـة إلـى طريقـة تكـون فيهـا هـذه الميـول نسبيـاً غيـر مضـرة فـاذا لـم يجـر ارضـاء هـذه الميـول علـى هـذه الطريقـة فقـد تجـد منفـذاً فـي القسـوة وفـي النشـدان الجامـح للسلطـة الشخصيـة، ولئـن يمـارس المـرء طغيانـه علـى حسـاب المودع فـي المصـرف خيـر من أن يمارسه علـى مواطنيـه.
 
ويلاحظ مما تقدم أن تدخل الدولة من خلال ما تفرضه من ضرائب هو في الحقيقة يحد من مزايا الملكية فيما يتعلق بالدخول ذلك لأنها تؤثر على حق الملكية الخاصة من حيث مدى ما تعطيه لصاحبها من دخل ومع ذلك فإن الأثر الكامل لهذه الضرائب لا يبدو واضحا ولا يحقق أهدافه إلا في ضوء معرفة اتجاهات الإنفاق العام وهي بدون أدنى شك عند ( كينز ) لا تخرج عن الأهداف الاجتماعية.
 
ثمـة شـيء ثالـث، يـرى ( كينـز ) ضـرورة قيـام الدولة بتنظيمه وهو ميل معدل الفائدة إلى الارتفاع، وقد ضل ( كينز ) على مدى  نظريته الواسعة يؤكد هذه الحقيقة ويلح عليها فهو يرفض ذلك التبريـر الـذي يذهب إليه التقليديون(1) والذي يفيد أن ارتفاع سعـر الفائـدة يقـدم التشجيع الكافي للادخـار، لأنـه يعتقـد أن المقـدار الفعلي للادخار يتحدد تحديداً دقيقـاً بواسطة سيالة التوظيف، وأن التوظيـف إنما يتزايد كلمـا انخفض معـدل الفائدة، وان لا تسعى إلى رفعـه إلى المقـدار المقابـل للاستخـدام التـام، فهو يرى أن المقادير الحقيقية للادخار والاستهلاك الإجماليين لا تتعلق إطلاقاً فـي هذه القضيـة بـل يعتقـد أن كـل شيء يتعلـق بنسبـة ملائمة معدل الفائدة للتوظيف مع أخذ فعاليـة الرأسمـال الحديـة بعيـن الاعتبـار ومـن ثـم فـأن معـدل الفائـدة لـو كـان موجهـا بحيـث يبقـى الاستخـدام التـام دائمـاً لا استعادة الفضيلة حقوقها ولتعلقت سرعة تراكم الرأسمال بضعف الميل إلـى الاستهـلاك، وهـو يـرى أن السياسـة النقديـة فـي تخفيـض معـدل الفائـدة بإمكانهـا أن تنجـح إذا اعتبرهـا الـرأي العـام سياسـة ممكنـة معقولـة ومطابقـة للمصلحـة العامـة إذا استنـدت إلـى اعتقـاد راسـخ ودعمـت مـن سلطـة لا تتعـرض لخطـر الإزاحـة وذلك، لأن الـرأي العـام قـد يـألـف وبسرعـة انخفـاض معـدل الفائـدة وبالتالـي قـد يتبـدل التنبـؤ الاصطلاحـي بالمستقبـل، حينئـذ تكـون الطريـق مفتوحـة أمـام تقـدم جديـد، وهكـذا دواليـك حتـى نقطـة مـا. ويقـدم لنـا انخفـاض معـدل الفائـدة لأجـل طويـل فـي إنكلتـرا بعـد هجـر معيـار الذهـب مثـلاً هامـاً لمثـل هـذا التطـور.
 
 
ــــــــــــــــــ
(1) يعد معدل الفائدة بالنسبة للمدرسة الكلاسيكية العامل الذي يسير بطلب التوظيف والاستعداد للادخار إلى التوازن، فالتوظيف يمثل طلب الموارد للتوظيف والادخار يمثل العرض أما معدل الفائدة فهو سعر الموارد للتوظيف الذي يجعل هاتين الكميتين متساويتين، وهكذا فإن سعر الفائدة يستقر كأي سوق أخرى عند معدل الفائدة عند نقطة تساوي المقدار الموظف بهذا المعدل مع المقدار المدخر بنفس المعدل. وقد تحدى ( كينز ) هذه النظرية إذ أعلن أن الادخار والاستثمار يجري تعيين كل منهما بصورة مستقلة عن الأخرى، ويرى ( كينز ) أن معدل الفائدة ليس السعر الذي يحقق توازن طلب الموارد للتوظيف والميل إلى الامتناع عن الاستهلاك المباشر، بل هو السعر الذي تتفق عنده الرغبات في إبقاء الثروة في شكل سائل مع كمية العملة الجاهزة ومعنى دلك أن معدل الفائدة لو كان اقل ارتفاعا لكان مقدار العملة الإجمالي الذي يود الجمهور الحفاظ عليه أكبر من الكمية المعروضة، ولو كان أكثر ارتفاعا لكان هناك فائض من مقدار العملة لا يود أحد أن يحافظ عليه ، ومن هنا يكون معدل الفائدة هو مكافأة الإحجام عن السيولة لفترة معينة وليس هو مكافئة الادخار.
وإذا كان ( كينز ) مدفوعاً إلى دعوة السلطة إلى ضرورة تخفيض معدل الفائدة بإيمانه إن هذا التخفيض هو الذي يشجع على الاستثمار فإنه كان مدفوعا بعامل آخر هو تضايقه الشديد من قيـام طبقة غنية تعيش على ملكيتها الأوراق المالية أكثر مما تعيش على الإنتاج، وقد أطلق عليها اسم حملة وثائق الدخـل، وقـد بشر ( كينز ) باختفاء حامل وثائق الدخل، أو الرأسمالي بلا مهنة من المجتمع وبصورة تدريجية دون أن يتطلب دلك القيام بثورة وذلك حين يميل معدل الفائـدة إلـى الانخفاض حتى يصل الصفـر واعتقـد أن اختفاء هذه الطبقة سيجر إلى الكثير من التبدلات الجذريـة الأخرى في هـذا النظام لأنه باختفاء حامـل وثائـق الدخل إنما تختفي معه تدريجياً القدرة القهريـة لدى الرأسمالي على أن يستثمر بصورة تبعية القيمة التي تمنحهـا القـدرة للرأسمـال ذلك أن الفائـدة (( لا تكافئ اليوم أي تضحية حقيقيـة، كذلك ريـع الأرض، ففي وسـع مقتنـي الأرض، لأن الأرض نـادرة ولكن حيـن تفسـر نـدرة الأرض بعلة ذاتية فإنـه ليس هناك أي سبـب ذاتـي يبـرر نـدرة الرأسمال أي: لا توجـد أي تضحية حقيقية يمكن للمكافـأة المقدمـة بشكـل فائـدة أن تدفع على ميولها )) وهكـذا يكـون ( كينز ) ومن خلال تعليقه السابق قـد رجع إلى ذات المبـدأ الـذي ناـدى به ( أرسطو ) في خصوص الفائدة فهو يرى أن الرأسمال في حد ذاته غير منتج(1) ورأى أن العمل بما فيه الخدمات الشخصية التي يسديها المنظم ومساعدوه هي عنصر الإنتاج الوحيد وهذا الأمر هو الذي يفسر اعتبار وحدة العمل هي الوحدة ألميتافيزيقية الوحيدة اللازمة في مذهب ( كينز ) دونما حاجة إلى وحدتي - العملة والزمن - وهكذا يكون قد حبذ قيام مجتمع يعتمد فيه الأفراد على ما ينتجون مـن سلع وخدمات في حياتهم أكثر من أولئك الذين يمتصون قوة الناس ويحتكرون الثروات ويكتنزون الأموال.
 
وفي نهاية المطاف يلخص ( كينز ) نتيجة مفادها أن إسناد بعض السلطات الإدارية التي كانت متروكة للمبادرة الخاصة إلى مؤسسات مركزية أمر لابد منه ذلك لأن الدولة في مركز يسمح لها بأن تأمر البنك المركزي بالقيام بعمليات السوق المفتوحة، وبشراء أوراق مالية، وبتخفيض سعر الفائدة وستؤدي هذه الإجراءات إلى جعل تمويل الاستثمار أرخص مما كان، وقد يصبح من اللازم على الدولة حينما يكف المنظمون عن القيام باستثمارات جديدة أن تقوم هي نفسها ببرنامج استثمار حكومي، ومع ذلك فإن ( كينز ) لا يرى أي (( سبب واضح يبرر تبني اشتراكية دولة تشتمل على القسم الأكبر من وسائل الإنتاج وإذا تمكنت من تحديد الحجم الإجمالي للموارد المخصصة لزيادة هذه الوسائل، والمعدل الأصلي للمكافحة الممنوحة لمقتنيها فإنها تكون قد قامت بكل ما هو ضروري )) ومع ذلك فإن ( كينز ) لا يمنع من تطبيق تدابير اشتراكية شريطة أن لا يهدم ذلك التقاليد العامة للمجتمع، وتأسيساً على هذا فإن وجود مؤسسات توجيهية مركزية لازمة لتأمين الاستخدام التام يؤدي بالضرورة إلى توسيع تلك الوظائف التي تقوم بها الدولة.
 
ومن خـلال العرض السابـق يتضح لنـا أن ( كينز ) قـد استطاع وببراعة أن يهدم القواعـد الأساسية الاقتصادية للنظام الحر وبصورة أرغمت ألد خصومه بالاعتراف له بالفضل، وتركت تأثيرها على المفكريـن الاشتراكييـن والتقدمييـن من كـل الاتجاهات باستثناء الاتجاه الوحيد الذي لم تؤثر فيه هذه الأفكار وهم الاشتراكيون الماركسيون لأنهم قد أقاموا قطيعة واسعة بين ما يعتقدون، وبين كامـل الفكـر المعـارض، ومـن هنـا اعتبـر كتـاب الاقتصاد الماركسي النظرية الكينزية مثابة انعطاف
 
ــــــــــــــــ
(1) يرى ( كينز ) أنه بدلا من ان نقول عن رأس المال أنه منتج من الأفضل أن نقول إنه يقدم خلال وجوده دخلا أعلى من كلفته الأصلية الذي من اجله نستطيع أن ننتظر من الرأسمال أن يسدي خلال وجوده خدمات إجمالية تقود قيمتها الإجمالية سعر عرضه الأصلي هو أنه نادر، وهو نادر لأن معدل الفائدة المرتبطة بالعملة يسمح لهذه بان تنافسه، ومن هنا يبدو فضل مبدأ ما قبل الكلاسيكي والقائل بأن العمل هو الذي ينتج كل شيء بمساعدة الصناعة.
للاقتصاد السياسي البرجوازي الـذي أصبـح ذرائعيـاً بعـد أن كان تبريرياً، وأن ذرائعيتـه تضعـه فـي غالب الأحيان في خدمة الطبقة البرجوازية وأن الغايات التي يسعى إليها من تدخل الدولة هو إنقاذ النظام الرأسمال وأن كل ما فعله أنه أقام بناء نظريا ضخما داخل الرأسمالية كنوع من الدواء الذي يستطيع أن يمد في عمر الرأسمالية بعض الوقت وأنه قد يكون لوصفات ( كينز ) مفعول ما في تأخير أزمة الرأسمالية لبعض الحين على حد تعبير ( فارجا ) عميد النظريين السوفيت.
 
وفـي الحقيقة فإنه ليس من العدل إن نصف الفكر الكينزي بمثل هذه الأوصاف، لأن ( كينز ) كان يصدر في أفكـاره بعيـداً عن ذلك النزاع العقائدي الناشب بيـن النظاميـن الاشتراكـي، والرأسمالي بـل كان يبني كيانه النظري وفق منطق .متماسك لا دخل له بالموضوعة العقائدية، وهكذا جاءت الحلول التي اقترحها صالحة لأي نظام بغض النظر عن الخلفية العقائدية، المهم أن تأخذ الدولة علـى عاتقهـا توفير العمالة، ومحاربة الانكمـاش بوسائـل فعالـة، ومن هنـا فـأن تأثيـر ( كينز ) على الشؤون العمالية كان ولم يزل أعظم بمراحل كبيرة من أثر أي اقتصادي آخر في القرن العشريـن، ولعل أهميـة التحليل الكينزي الـذي صاغه بتماسك ومهارة، يرجع إلى وجهة نظر تاريـخ المذاهب الاقتصادية هـو أن نظريتـه كانـت قابلة للتطبيـق تطبيقـاً حاضـراً، وهكـذا لعـب هـذا التحليل دوراً بارزاً وأساسيا في تمكين بريطانيا من التغلب على تلك الصعوبات التضخمية للحرب العالمية الثانية، كما إن هذا التحليل كان هو الأساس في السياسة العالمية التي جاءت في أعقـاب الحرب الكونية الثانية.
 
وفـي الحقيقـة فـأن التحليل العاري عن الغرض للنظرية الكينزية يجعلنـا بـإزاء واحـد من اكبـر منظـري المذهـب الاجتماعـي، ذلك لأن الغايـات التـي يسعى إليها والأهـداف التي يرمي نحوها هي فـي التحليـل النهائي أهداف اجتماعية وهكذا فأن القطيعة بين نظريته العامة، وبين النظرية التقليدية سواء ما تعلق منها بموضوع العمالة الكاملة، أو في موضوع معدل الفائدة، أو في معالجات التضخم، والإنفاق الحكومي، أو في توزيع المداخيل ونظرته إلى الفوارق في الثروة - في كل ذلك إنما يصدر من مفهوم اجتماعي وغالبا ما كان يبـرر آراءه وأفكـاره على أسـاس من تحصيل المنافع الاجتماعية كمـا سبق أن بينا جانبا منها ضمن تحليلنا السابق، بل إن اضطلاع الدولة بمسؤوليتها في المواضيع السابقة هو بحد ذاته مبرر عند ( كينز ) على أساس ضرورة ان تلعب الدولة دورا اجتماعيا من خلال النشاط الاقتصادي على أن المواضيع التي ناقشها هي في حد ذاتها لها مغزى اجتماعياً عميقاً، ولعل من المفيد أن نسوق مقطعاً من نص ( كينز ) في معرض بيانه للسبب الـذي أكسب ( ريكاردو ) دلك الانتشار الواسع وأن مرده أنه ( نال شفاعة السلطة ) لأنه عرض كثيرا من المظالم الاجتماعية، والقساوات البينة لابد منها في سير ركب التقدم والمساعي لتعديل هذه الأوضاع على أنها تولد الشر أكثر من الخير في نهاية المطاف واستحق تأييد القوى الاجتماعية المهينة المتعصبة خلف السلطة ( لأنه قدم بعض التبريرات لنشاطات الرأسمالي الفردي الحرة ) .
 
وهذا الذي أسلفته هو السبب الرئيسي الذي دفعي إلى اعتباره واحدا من أبرز منظري المذهب الاجتماعي.
 
 
 
 
 
أسباب الازمة الاقتصادية الحالية
 
ان كـل من تحدث عن اسباب الازمة المالية الحالية يحاول ارجاعها الى اسباب فنية مثل شحة السيولة لدى المصارف ومرد هـذه الشحة يرجـع الى عجـز المقترضين عن سـداد الديون ولعـل سبب هـذا العجز مرده الى مشكلة الرهـون العقاريـة وهـذا صحيح من الناحية الفنيـة البحتـه خصوصاً اذا مـا علمنا ان حجم الديون العقارية في امريكا فقط قد زادة على عشرة ترليون يضاف الى هـذا ان هـذه المديونية ليست محصورة في البنك الذي اقـرض وانمـا في العـادة يتـم فـي ضل النظام المصرفي الرأسمالي بيع هـذه الديـون الى بنـوك وشركات اخـرى مقابل استحصال مبالغها أو جزء منها او بيعها الى شركات التامين مما يعني اننا بازاء شبكة اخطبوطية مالية شديدة التعقيد. ولنـا ان نتصور حجـم المشكلة اذا علمنا ان الاقراض في امريكا فقط قـد تـم بأكثـر مـن ضعفي الناتج القومي الامريكي.
 
ومما يزيد المشكلة تعقيداً ان شح السيولة لدى المصارف والشركات قد ادى الى تراجع الطلب الكلي على الاستهلاك نتيجة لعدم وجود سيولة لدى الافراد والمؤسسات مما ادى بدوره الى الكساد لعدم وجود طلب حقيقي فعال على السلع والخدمات ان هذه المشكلة مشكلة معقدة ومركبة ذلك ان الاستهلاك في النظام الرأسمالي هو الداينمو والمحرك الاساس للاقتصادات الرأسمالية الكبرى وهكذا وقع الاقتصاد الرأسمالي في متواليات من التدهور مما ادى الى دخوله في مرحلة الركود العظيم.
 
لقد توهمت الرأسمالية في مرحلة من مراحلها انها قادرة على قيادة العالم اقتصادياً خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفرد امريكا بالقطبية الواحدة في ادارة العالم سياسياً واقتصادياً وفي مرحلة التسعينات وما تلاها باتت امريكا من خلال المؤسسات المالية التي تسيطر عليها مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ( الجات ) وغيرها من المؤسسات المالية العالمية تصدر وصفات جاهزة وشروطاً ربما كانت في اغلبها ضالمة ومجحفة بحق الدول والشعوب النامية مما جعل فكرة الدولة القومية او الدولة السيدة التي تقود اقتصاداتها وفق فلسفة اجتماعية ترتب فيها اولويات كل دولة تنحسر نتيجة لاستجابة الدول للوصفات التي تقدمها الادارة الامريكية.
 
يضاف الى ما تقدم ان الادارة الامريكية وبحكم انفرادها بقيادة العالم قد عبأت العالم اعلامياً بمقولة مفادها ان الرأسمالية هي النظام الاقتصادي الاوحد القادر على تسيير مختلف الفعاليات الاقتصادية وبنجاح وصولاً الى الرفاه وهذا ما حدى بكثير من مفكريها الى الكتابة بموضوعات مثل نهاية التاريخ كما عبر عنه ( فوكا ياما ) وصراع الحضارات ( همنتجون ) وغيرهما  من الذين صوروا الرأسمالية بانها الجنة الموعودة وان العالم سيصل الى هذه الجنة مضطراً ومجبراً وان اختلفت ادواتهم ووسائلهم فبعضهم سيصلها بقطار واخر سيصلها بطائرة وثالث سيصلها على بعير فالعالم كله مرغم على الوصول الى جنة الرأسمالية الموعودة.
 
وربما فسر لنا هذا الذي تقدم من بعض الاوجه حملات امريكا في غزو العالم سواءً في العراق او افغانستان وتدخلها السافر في كثير من شؤون الامم والشعوب باعتبار ان هذه الاعمال هي الصدى المنطقي لقيادة العالم وان كنا ندرك الان وبيقين ان هذا يعد واحداً من اسباب الازمة المالية التي تعانيها امريكا.
 
وهكذا ونتيجة للاوهام العديدة دخل الاقتصاد الرأسمالي في سوق اقرب للقمار منه الى الاقتصاد وذلك من خلال استعمال الادوات الاستثمارية المسمومة او الملوثة. ان قراءة متأنية لارقام الاقتراض والاقراض في امريكا فقط ترشدان الى ان هناك فساداً مالياً ضخماً وشكلاً من اشكال المقامرة الفعلية على حد تعبير ( جوزف ستيغليتز ) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.
 
ان غياب الرقابة على السوق والايمان بالحرية الكاملة والمطلقة للاسواق الرأسمالية ومنع تدخل الدولة ولا في اي مستوى من مستويات التدخل هما العاملان الاساسيان التي ترتكز اليها الرأسمالية صحيح ان الرأسمالية بعد الركود العظيم في الثلاثينيات ومن خلال نظرية ( كينز ) وفلسفته في الاقتصاد قد ادت الى تدخل محدود للدولة مما انعش الاقتصاد الرأسمالي الا ان هذا التدخل وكنتيجة للغرور والغطرسة قد غاب بعد التسعينيات خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وعادت الرأسمالية بعد هذا التاريخ الى ايدلوجية عدم تدخل الدولة في السياسات الاقتصادية وقد وجد تبريراته في الموروث الادبي الاقتصادي الرأسمالي خصوصاً لدى المحافظين الجدد.
 
ان ازمة اليوم لم تحدث بين ليلة وضحاها فمنذ اواخر سبعينات القرن الماضي، اثر سلسلة من التغييرات القانونية والتكنولوجية، رفعت القيود على النمو وعلى امكانية جني الارباح التي كانت مفروضة على المؤسسات المالية، فقد سمح لصناديق التقاعد بالاستثمار في أسواق الاوراق المالية، واصبح بامكان السماسرة عرض بيع أسهم في الصناديق الاستثمارية المشتركة، وسمح لانواع مختلفة من البنوك الاندماج ودخول مجالات تجارية جديدة، وادى استعمال الات الصرف الالية وبرمجيات الاتجار بالاسهم الى خلق شبكة مالية الكترونية تعمل على مدار الساعة. ومنذ سبعينات القرن الماضي وحتى عام 2005 ، ارتفعت نسبة الامريكيين الذين يملكون اسهماً من 16 بالمائة الى اكثر من 50 بالمائة. وكما يشير ( روبرت رايخ ) ، وزير العمل السابق في ادارة كلنتون، في كتابه (Supercapitailsm  الرأسمالية المفطرة ) ، حصل تغيير جذري في نظرة الامريكيين الى المسائل الاقتصادية " وتحول المدخرون الى مستثمرين، واصبح المستثمرون ناشطين" .
 
الوكلاء الاستثماريون الذين كانو يبحثون، في اعقاب حقبة ( فولكر ) التي تميزت بمعدلات تضخم متدنية، عن طريق جديدة لجني ارباح تفوق 10 بالمائة، كانوا المحرك وراء كل ذلك. وانتشرت الابتكارات المالية بمساعدة السياسيين المشجعين للسوق، لاسيما ( رونالد ريغن ) و ( مارغريت تاتشر ) . وقد تخللت ذلك فترات من الازدهار المفرط والانهيارات هل تتذكرون ازمة بنوك الادخار والاقراض في ثمانينات القرن الماضي؟ لكن سرعان ما تم نسيانها بفضل استمرار تنامي الازدهار الذي ادى الى انتشار الفلسفة القائلة ان " السوق تدير نفسها بنفسها ". وخلال تسعينات القرن الماضي، استمر رفع القيود، وكانت احدى اهم النقاط التي تعكس هذا التغيير الغاء قانون ( غلاس ستيغل ) الذي يفرض الفصل بين البنوك التجارية والبنوك الاستثمارية.
 
ان المضاربات في هذه المشتقات المالية تعد واحدة من اخطر افات السوق وقد كانت ولاتزال سبباً في كثير من الكوارث والازمات حتى وصفها رئيس فرنسا السابق ( جاك شيراك ) بانها وباء الايدز في الاقتصاد العالمي ولخطورتها اصدرت السيدة (لاروش) رئيسة معهد شلر العالمي بياناً بعد كارثة تسونامي بعناون ( ما هو اجدى من المساعدات نظام اقتصادي عالمي عادل جديد ) وقد تضمن البيان توصية على غاية من الاهمية مفادها ان المضاربات في المشتقات المالية والعملات التي وصلت مؤخراً وفق اخر احصائية لبنك التسوية العالمي الى 2000 ترليون دولار يجب مسحها كلياً وجعلها غير قانونية عن طريق اتفاقية بين الحكومات.
ان ظهور المضاربات بهذا الشكل يذكرنا بالوسيط الانتهازي الذي عبر عنه ( كينز ) في نظريته العامة للاقتصاد بحامل الوثائق حيث تحول من حامل حقيبة اسهم الى حامل كومبيوتر وهكذا قام الاقتصاد الرأسمالي المعاصر على الادوات والمشتقات المالية الملوثة التي تسمى بالمضاربة ومن هنا تم خلق تعامل نشط على سهم او سند دون ان يكون هناك تبادل فعلي حقيقي للسلع او المنافع مصحوباً بالكذب او الخداع وصورية العقود والتأمر ونحو ذلك مما هو من مساوء التعامل بالسوق الرأسمالية.
 
استغلت البنوك اقتصاد العرض والطلب المتأتي من ذلك ( ويقول البعض انها استغلت تضارب المصالح ) لتنمو اكثر، وتبرم صفقات دمج ضخمة متنامية الارباح وتعرض اسهمها في الاسواق بشكل مربح جداً. إبطال ذلك القانون اتاح للبنوك التي تقدم خدمات مصرفية للافراد مثل "ستي غروب" وغيره دخول سوق المشتقات الائتمانية المربحة ( التي تضمنت امكانية الاستثمار في اسهم مدعومة بقروض سكنية والقروض المدعومة بأصول، التي تشكل خليطاً من قروض مختلفة، وهي من المسببات الاساسية للازمة الحالية ) . واصبح الوكلاء الاستثماريون انفسهم من مدخني السيجار، ويلبسون افخر الملابس وباتوا نماذج تجسد الثراء يتم تخليدها في الكثير من الكتب والافلام في تلك الحقبة. انتشار التداول بالسندات والى ذلك العقد زاد من ثرائهم ( وثراء مديري الشركات الذين كانوا يعملون لمصلحتهم ) مما صعب في الوقت نفسه تحديد القيمة الحقيقية للصفقات. معظم الناس يجمعون الان على ان النزعتين مجتمعتين شكلتا خليطاً مؤذياً. يقول جوزيف ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل : " من خلال السماح للبنوك التجارية بدخول هذا المضمار الاكثر خطورة، وتشجيع توزيع السندات المالية كبدل اتعاب، اصبح هناك تركيز قصير الامد على جني الارباح بسرعة، مما خلق ثقافة قائمة على المقامرة ".
 
طبعاً كان الاقتصاد قد تغير عام 2001 ، مما صعب جني الارباح، لكن بفضل تدني معدلات الفائدة (بنك الاحتياطي الفدرالي خفض معدل الفائدة الى 1 بالمائة عام 2003 في حقبة غرينسبان) ، بقيت القروض سهلة المنال. تدني معدلات الفائدة ادى ايضا الى ازدهار سوق المشتقات المالية القائمة على القروض، أي الاوراق المالية التي تشكل مزيجاً من القروض والتي تسببت بالازمة الحالية، فيما كان يبحث المصرفيون عن وسائل لزيادة ارباحهم في حقبة الفوائد المتدنية. بين عام 2000 وفترة الذروة الصيف الماضي، ارتفعت قيمة سوق المشتقات المالية القائمة على القروض المتخلفة، وهو نوع المشتقات المالية الاساسي، من 100 مليار دولار الى 62 ترليون دولار. وفي حين عبر العقلاء أمثال وارن بافيت ( الذي وصف هذه المشتقات بأنها "اسلحة دمار شامل مالية") والمؤسسات مثل ( بانك فور انترناشونال سيتلمانتت ) عن قلقهم، اصر اخرون مثل غرينسبان على انها تلعب دوراً مهما في الحد من المخاطر من خلال توزيع المخاطرة.
 
وهكذا قدمت البنوك الامريكية للمواطنين قروضاً بزيادة ربوية تتضاعف مع طول المدة مع غض الطرف عن الضمانات التي يقدمها المقترض او الحد الائتماني المسموح به للفرد لشراء منازل ونشطت شركات العقار في تسوييق المنازل لمحدودي الدخل مما نتج عنه ارتفاع اسعار العقار، ولم تكن البنوك وشركات العقار بأذكى من محدودي الدخل الذين استغلوا فرصة ارتفاع عقاراتهم بأكثر من قيمة شرائهم لها، ليحصلوا من البنوك على قروض ربوية كبيرة بضمان منازلهم التي لم يسدد ثمنها والتي ارتفع سعرها بشكل مبالغ فيه نتيجة للمضاربات، وقدمت المنازل رهنا لتلك القروض.
 
 
ومن هنا وجد في الرهون العقارية محركاً رئيساً في الاقتصاد الامريكي نظراً لانه كان يتم اعادة تمويل المقترض كلما ارتفعت قيمة عقاره مما شجع على استمرار الانفاق الاستهلاكي وبالتالي استمرار النمو في الاقتصاد الامريكي وما لم يتم التنبه اليه من قبل الادارة الاقتصادية هو ان هذه الطفرة لم تكن نتاج اقتصاد حقيقي لانها كانت قائمة على سلسلة من الديون المتضخمة التي لم يكن لها اي ناتج في الاقتصاد الفعلي فهي عبارة عن اوراق من السندات والمشتقات يتم تبادلها والتضارب عليها في البورصات وعندما عجز المقترضون عن السداد استشعرت البنوك وشركات العقار بمقدار الكارثة الحقيقية مما جعلها تعمد الى وسائل تفاقم الازمة وذلك عندما قامت ببيع ديون المواطنين على شكل سندات لمستثمرين عالميين بضمان المنازل كما حولت الرهون العقارية الى سندات اصطلح على تسميتها بـ ( عملية التوريق ) وتم بيعها وعندما تفاقمت المشكلة لجـأ الكثيـر من المستثمرين الى شركات التأمين التي وجـدت في الازمـة فرصة للربـح حيـث يمكنهـا فـي حالـة امتناع محدودي الدخل عن السداد ان تتملك مساكنهم وبدءت شركات التأمين تأخـذ اقساط التأميـن على السنـدات من المستثمرين العالميين وكـل ذلك كـان يجـري بخـداع كبيـر لهؤلاء المستثمرين من خلال اخفاء الحقائق عن طبيعة موقف هذه السندات.
 
لقد عجز اصحاب المنازل من محدودي الدخل عن تسديد الاقساط والزيادة الربوية المصاحبة لها مما أضطر الشركات والبنوك من بيع المنازل موضوع القرض او النزاع وهكذا ادى هذا الاجراء الى هبوط اسعار العقارات مما جعلها غير قادرة على تغطية ديون الشركات العقارية ولا البنوك ولا شركات التأمين وعندما طالب المستثمرون الدوليون هذه الشركات والبنوك والمؤسسات المالية بحقوقهم تبيـن لهم افلاسهـا وهكذا سقطت شركـات ومؤسسات مالية كبـرى في فـخ الافـلاس مثـل ( فاني ماي ) و ( فريدي ماك ) و ( مصرف ليمان براذرز ) والذي سجل بأفلاسه اكبر عملية افلاس في تاريخ الولايات المتحدة الامريكية) وسيطرت الحكومة الامريكية على 80 % من شركة التأمين "اي اي جي" مقابل قرض بقيمة 85 مليار دولار لدعم سيولة الشركة، وبعدها انهار بنك الاقراض العقاري "واشنطن ميوتشوال" الذي تم بيعه الى بنك "جي بي مورغان" بعد ان سيطرت المؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع وهي مؤسسة حكومية تقدم خدمة التأمين على ودائع عملاء البنوك والمؤسسات المالية في الولايات المتحدة الامريكية، ولم تقف تداعيات الازمة عند حدود امريكا بل تخطت المحيط لتصيب بلهبها معظم دول العالم المرتبط باقتصاد امريكا.
 
ان مشكلة الرأسمالية لم تعد فقط في امتلاك البنوك للسيولة اللازمة بل ايضا في النظام الانكلو سكسوني برمته فالتفكير الاقتصادي الذي راج وعلى مدى اربعين عاماً الماضية هي ان الاسواق قادرة على ضبط ايقاعها وان الفكرة القائلة ان ما هو لمصلحة وول ستريت هو ايضا لمصلحة الشعب لم تعد قادرة على الصمود في مواجهة هذه التداعيات ومن هنا اصبح تأثير الايدلوجية الرأسمالية التقليدية والتي اسس لها ريغان و تاتشر في مهب الريح ودخلنا عصراً جديداً يدعوا الى اعتماد قوانين جديدة واصلاح النظام المالي وسمعنا اصواتاً ترتفع باقامة منتدى عالمي لاعادة النظر في الرأسمالية كما عبر عنها ( ساركوزي ) حين اعلن ان شرعية تدخل القوى العامة في عمل النظام المالي لم تعد موضع نقاش بل ان وزير المالية الالماني ( بير شتاينبروك ) ذهب الى ان الازمة ستؤدي الى نهاية امريكا كقوة مالية عظمى وقالت المستشارة الالمانية ( انجلا ميركل ) قبل بضع سنوات كان من الشائع القول ان الحكومات ستزداد ضعفاً مع انتشار العولمة لكن رأي كان مخالفاً وقالت ان الامريكيين والبريطانيين هم الذين رفضوا اقرار المزيد من القوانين المالية خلال قمة الدول الصناعية الكبرى الثمانية.
 
 
ومن خلال كل ما تقدم نستطيع ان نلخص الاسباب الرئيسة في الازمة الحالية بالاتي:
 
اولاً: تفشي الربا.
ثانياً: المضاربات الوهمية والصفقات الصورية.
ثالثاً: بيع الديون.
 
 
 
المعالجة الحالية
 
عمدت الادارة الامريكية وكذلك الادارات الرأسمالية عموماً لمعالجة الازمة المالية الى الادوات الاتية :
1.     تخفيض سعر الفائدة.
2.     ضخ السيولة في البنوك.
3.     شراء الأصول أو عمليات التأميم الجزئي أو الكلي.
4.     ضمان الودائع بنسب محددة قانونياً.
 
ان اعـادة النظـر في الادوات المتقدمة تدلنـا على انهـا اجـراءات مؤقتـه الهـدف منها اشاعة جـو مـن الثقـة لـدى الجمهور وتوسيع دائـرة الانفـاق على الاستهلاك حتى لا يقـع الاقتصـاد في عملية ركـود.
 
ان تصور المشكلة هي مجرد شحة في السيولة تصور لا يخلوا من التبسيط والسطحية اذا قدمنا حسن الضن ذلك لان المشكلة لم تعد شحة السيولة اللازمة بقدر ما هي اختلالات هيكلية في النظام الرأسمالي الانجلو سكسوني نفسه فعندما يزول تأثير ( ايدلوجيا ريغان وتاتشر ) امام اعيننا فاننا ندخل عصراً جديداً تكثر فيه القوانين الصارمة وتقل فيه المضاربة ويزداد التدخل الحكومي في الاسواق.
 
ان العشرين عاماً الماضية مهدت لحقبة وصلت فيها ديون البنوك الى نسبة قياسية بلغت 33 / الى 1 في بنك ( مورغان ) و 28 / الى 1 في ( غولدمان ساكس ) و ( ميرلي لينش ) وهكذا في بقية البنوك الأمريكية.
 
ان ضخ السيولة سواء من خلال شراء الاصول او قانون مضخة الرواج لوحده ليس كافياً علماً ان هذا الاجراء بحد ذاته يعد مشكلة لان هذا الضخ سيتم بواحد من الطرق الاتية:
 
 
1.     طبع النقد والتمويل بالعجز
وهذا معناه زيادة التضخم وفقدان المجتمع لقيمة ثرواته الحقيقية نتيجة لتأكل القيمة من خلال التضخم.
 
 
 
2.     الاحتياطي الحكومي
يجب علينا ان نضع دائماً حقيقة مهمة وهي ان هذا الاحتياطي ليس لا نهائياً وبما انه نهائي ومحدود فأننا سنصل في مرحلة ما الى عجز الدول عن تمويل نفسها باعتباره ناتجاً موضوعياً عن عجز المؤسسات المالية.
 
اننا حتى الان لم نر من المشكلة الا رأس جبل الجليد وليس بمقدور اي خبير اقتصادي اياً كان مستواه ان يدعي وبيقينيه معرفة حجم الاموال التي اهدرت ولا مقدار المشكلة واتجاه بوصلتها.
 
يضاف الى ما تقدم ان الاموال التي تم ضخها بالقياس الى حجم القروض وانخفاضها وانخفاض ضماناتها والاموال التي ذهبت الى الاشخاص على شكل ارقام كبيرة كل ذلك يؤشر ان مبلغ 750 مليار دولار لا يشكل رقماً ذو اهمية لحجم المشكلة خصوصاً اذا علمنا ان مشكلة الرهن العقاري لوحده تقريباً بقيمة 10 تريليون وان الاقراض قد تم باكثر من ضعفي الناتج القومي الامريكي وان حجم سوق المشتقات المالية بين عام 2000 والى الصيف الماضي قد ارتفع من 100 مليار الى 62 تريليون دولار.
 
ان نظريـة عجز الـدول في مرحلة ما ليست مستحيلة بل واقع الحال يدعمها كما هو حاصل اليـوم فـي ( ايسلندا ) .
 
وفي تصوري انه في المحصلة النهائية ستضطر امريكا للخروج من نظام الرأسمالية (الانجلو سكسوني) الى نظام مالي اكثر عقلانية واقرب الى المذهب الاجتماعي منه الى الرأسمالية التقليدية واقتصاد السوق.
 
ان ضخ السيولة يهدف الى ابتلاع الادوات المسمومة والملوثة التي ابتدعتها الرأسمالية وفي اعتقادي انها لن تكون قادرة على ابتلاعها وانها في النهاية ستصل الى مرحلة العجز عن ضخ السائل النقدي باعتبار ان الاحتياطيات محدودة ونهائية.
 
 
3.     الاستدانة
ويلاحظ انه في ضل اقتصاد معولم ومع انعدام الثقة وعدم اليقينية لن تجد الدول من يقرضها واذا ما وجدت فأن ذلك سيتم في نطاق محدود جداً ولمرة واحدة.
 
 
4.     التمويل من خلال فرض الضرائب
ان هذا النوع من التمويل يكون ناجحاً في الاحوال التي يكون فيها الاقتصاد مزدهراً اما في ضل اقتصاد قد دخل مرحلة الركود فأننا لن نجد شريحة واسعة من الناس قادرة على تحمل العبء الضريبي.
 
وباعادة النظر فيما تقدم سنجد ان المعالجات التي تم تقديمها هي معالجات تتسم بالانية والمعالجات المؤقته وقد تنجح في وضع حلول مؤقته وبالتالي فأن هذا يعني تأجيل المشكلة وليس حلها وستعود تتفجر من جديد وبشكل اعنف على انه يجب ملاحظة ان ما يحصل في الاقتصاد (الانجلو سكسوني) هو يشبه الى حداً ما مريضاً مصاباً بالنزيف الدموي والذي يتم معالجته من خلال ضخ الدم مع استمرار النزيف فما لم يتم الوصول الى ايقاف النزيف فمعنى ذلك ان الجهاز البايولوجي سيصل الى مرحلة التلف.
 
 
 
أهم نتائج الازمة الحالية
 
ليس بمقدوري ولا بمقدور الكثير من الشامتين بازمات الرأسمالية ان يدعي رؤية انهيار سريع في مرحلة مبكرة ولا ان يتراقص على اشلائها قريباً ولكن بات من المؤكد ان هناك نتائج على غاية كبيرة من الاهمية نستطيع تلخيصها بالاتي:
 
 
1.  نهاية عصر العولمة الاقتصادية.
 
ان هذه الازمة قد اشرت وبصورة مطلقة هشاشة ايدلوجيا العولمة الاقتصادية التي قادت العالم وخلال العقديين الماضيين باعتبارها قدراً مفروضاً على الدول والشعوب حيث ان فكرة الدولة القومية او السيدة قد عادت وبسرعة اثر ظهور الازمة مباشرة وراحت تصريحات عدد كبير من اقطاب الرأسمالية تكيل النقد اللاذع للسياسات المالية والنقدية التي اتبعتها الادارات الامريكية ولعل في الطليعة من هؤلاء ( الرئيس ساركوزي رئيس فرنسا وجورج براون رئيس الوزراء البرطاني وبوتن رئيس وزارء روسيا وانجلا ماركل المستشارة الالمانية ) وهكذا تحول هؤلاء وغيرهم بين عشية وضحاها الى الاهتمام الاكبر باقتصادات دولهم وهذا امر منطقي بل و واجب لان الدول تنظر الى مصالحها ومصالح شعوبها اولا وقبل كل شيء.
 
لقد اثبتت الازمة الحالية هشاشة فكرة العولمة الاقتصادية التي تقودها الرأسمالية الانجلو سكسونية والتي حاولت التقليص من فكرة الدولة القومية او السيدة في رعاية مصالح شعوبها على اساس فلسفتها في قيادة المجتمع وفق الترتيب المعياري لاولوياتها وليس على اساس اولويات العولمة الاقتصادية التي استفادت منها الاقتصادات الثلاث الكبرى دون غيرها.
 
 
2.  نهاية الرأسمالية الانجلو سكسونية
 
اشرت هذه الازمة ما سبق وان تحدثنا عنه وفي اكثر من مناسبة من ان هناك اختلالات هيكلية وبنيوية في الرأسمالية الانجلو سكسونية والتي سادت خلال العقود الثلاث الماضية وان المقولة التي تذهب الى ان السوق قادر على تصحيح نفسه وانه يتمتع بكفاءة بانفراده في قيادة كافة الفعاليات الاقتصادية وتوزيع الموارد على مختلف القطاعات بكفاءة دونما تدخل من الدول قد ثبت ان هذه المقولات غير دقيقة وتفتقر الى اليقينية.
 
ان فلسفة النظام الرأسمالي في امريكا وبريطانيا قد عمدت في معالجة الازمة الحالية الى اجراءات تعد في الادبيات الاقتصادية قمة تطبيقات الاشتراكية وقد تمثلت بعض هذه الاجراءات في التأميم الكلي او الجزئي لبعض المؤسسات المالية في امريكا وبريطانيا وهكذا لم تعد قوانين السوق بانفرادها قادرة على العمل بكفاءة مما اسس لتدخل واسع للدولة.
 
لقد ظهر بوش واحداً وعشرين مرة على الشعب الامريكي خلال ثلاثين يوماً محاولاً التلاعب بالالفاظ من خلال تضليل واضح ومكشوف لان يصف هذه الاجراءات بالمؤقته وان يسمي عمليات التأميم المختلفة بشـراء الاصول بـدلاً من التأميـم وايـاً كانت المصطلحات التي استعملها بوش فانـه
من الواضح ان هذه الاجراءات قد اسست لحقيقتين جوهريتين تتعلقان بالاختلالات الهيكلية احدهما: تدخل واسع للدولة في السوق وفي واحد من القطاعات القيادية وهي السياسة النقدية والمالية.
 
ثانيهما: ان قوانين السوق بانفرادها ليست قادرة على قيادة الفعاليات الاقتصادية وتوزيع الموارد على مختلف القطاعات كما انها غير قادرة على تصحيح نفسها من دون توجيه ارادي ورسم ممنهج عند مستوى من مستويات الاقتصاد.
 
 
3.  فقدان التفوق الامريكي
 
لقد اعتمدت امريكا والادارات المتعاقبة بعد الحرب الكونية الثانية على تفوقها في جانبين مهميين هما تفوقها الهائل والكبير في مجال تكنلوجيا الحرب ومما عزز هذا الشعور بالتفوق ما حققته من انجازات عسكرية كبيرة في الحرب الكونية الثانية وما تلاه من انتصارات على الشيوعية في الحرب الباردة وكانت حروبها في العقد الاخير في العراق وافغانستان ما يعزز هذا الشعور بالتفوق مما جعل كثيراً من الدول تخشى الاصطدام مع هذا الوحش الذي يسحق بماكنته كل شيء يقف امامه وثانيهما ان امريكا كانت تمثل قوة اقتصادية هائلة قادرة من خلالها افقار دول واغناء دول اخرى وقد استثمرت الادارات الامريكية المتعاقبة هذه الكتلة الاقتصادية الهائلة بطريقة متوحشة في كثير من الاحيان شأنها شأن اي امبراطورية اعتقدت وبغطرسة نهاية التاريخ وانه قد توقف عندها وهذا التصور مخالف لمنطق الاشياء وقوانين التاريخ وصيرورته.
 
لقد مكنت هذه الكتلة الاقتصادية الهائلة في امريكا الادارات المتعاقبة في قيادة ثورات اربعة وبكفاءة عالية وهي:
1.     ثورة الانتقال.
2.     ثورة الاتصال.
3.     ثورة الطاقة.
4.     ثورة المعلومات.
 
ان الثورات الاربعة ماكان لامريكا القدرة على قيادتها لولا تلك الكتلة الاقتصادية الهائلة القادرة على تمويل هذه الثورات وصنع البيئة والمناخ القادرين على المبادرة والاختراع والابداع.
 
ان قيادة الثورات الاربعة افصحت عن قدرة امريكا في قيادة التحولات الداخلية العميقة للولايات المتحدة نفسها وهذا امر يجب ان نشدد عليه لدى التحليل النهائي لانه سيكون حاسماً في نتائجه.
 
ان اعادة النظر في الازمة الحالية والمعالجات التي تمت يفصحان عن حقيقة مهمة وهي ان امريكا قد فقدت تفوقها الاقتصادي وهذا ما ترشد اليه الارقام المذهلة من الكتلة النقدية التي تبخرت في لحظة واحدة وهذا سيجعلها غير قادرة على قيادة التحولات الداخلية العميقة التي تؤهلها لقيادة ثورة جديدة مثلاً تكنلوجيا الطاقة المتجددة.. مثلما قادت تكنلوجيا المعلومات او ثورة المعلومات وهكذا لن تستطيع امريكا السيطرة على الجيل القادم من الصناعة للاسباب التي تقدمت ولفقدان المنافسة ولسيطرت الحكومات المترهلة.
 
يضاف الى ما تقدم ان اي نظام اقتصادي جديد لن تكون امريكا هي المتفرد في قيادته اذ ان كل المؤشرات الاقتصادية تؤكد ان ( اليورو ) سيبقى ولفترة طويلة يقع في الطليعة من العملات الرئيسة متقدماً على الدولار وان الاتحاد الاوربي سيبقى يغرد بعيداً عن السياسات الامريكية.
 
ويلاحظ ان هناك اقتصادات صاعدة تمتلك كثيراً من قواعد اللعبة مثل الصين والهند وغيرهما ولنا ان نتصور حجم مشكلة الاقتصاد الامريكي اذا علمنا ان استثمارات الصين في الولايات المتحدة فقط تزيد على اثنين ونصف تريليون منها تريليون ونصف في ( اذونات الحكومة الامريكية ) مما يعني ان جزءاً كبيراً من الاقتصاد الامريكي مرتهن لدى مستثمرون دوليون.
 
ان ما اشره ( كيسنجر ) و ( نشتاين ) في مقاليهما الاخير من ضرورة وجود منضمه على غرار منظمة ( الاوبك ) من قبل الدول الصناعية الكبرى المستهلكة للطاقة هدفها تنسيق الطلب الكلي على الطاقة مبرراً ذلك بان ارتفاع اسعار النفط التي وصلت في حينه 147 دولار بأن هناك انتقالاً كبيراً للثروة من الدول الصناعية الكبرى الى الدول الاقل نمواً يعد صحيحاً من بعض الاوجه ويؤشر في نفس الوقت فقدان امريكا لتفوقها الاقتصادي.
 
وهكذا لم تعد امريكا قادرة على احداث التحولات الداخلية العميقة لتقود ثورة جديدة كما قادت الثورات الاربعة ولعل ما يؤكد هذا ويدعمه هو قراءة خطاب المرشحين الامريكيين ( جون ماكين ) و ( باراك اوباما ) بخصوص الطاقة سيجد ان كليهما يدعوان الى مزيد من التنقيب عن النفط للاستغناء عن نفط الشرق الاوسط حتى بات الشعار ( احظر بئراً ) بدل ( اخترع ) على حد تعبير توماس فريدمان في كتابه الاخير ( مسطح ) .
 
ويلاحظ ان هناك علاقة جدلية بين كلا الكتلتين الكتلة العسكرية والكتلة الاقتصادية ففي مرحلة من المراحل وضفت الادارة الامريكية قيادتها للثورات الاربعة وتفوقها في خدمة تفوقها العسكري كما وضفت قوتها العسكرية في مرحلة تالية لخدمة اغراضها واهدافها الاقتصادية.
 
ان قراءة استراتيجية متأنية ترشدنا الى ان الخيارات الامريكية في الخروج من الازمة الحالية ليست خيارات مرنة وبالتالي قد تلجأ في مرحلة ما الى توضيف الخيار العسكري في انهاء ازمتها الاقتصادية وهذا التصور ليس اعتباطياً أو مستحليلاً فقد دلتنا تجارب التاريخ ان كثيراً من الحروب كانت دوافعها واسبابها دوافع اقتصادية صرفة.
 
وفي كل الاحوال فانه في الوقت الذي تلجأ فيه الادارة الامريكية الى هذا الخيار فأنها ستختار الجغرافيا والوقت الذي تتوفر فيه شروط ثلاث:
أولاً: حرب متعددة الاطراف.
ثانياً: منطقة لها القدرة على تمويل الحرب ذاتياً.
ثالثاً: ان تكون الحرب طويلة نسبياً بمعنى انها لا تقل عن عام.
 
وفي تصوري ان اي حرب مختارة ستكون في منطقة الشرق الاوسط لانها تحقق لامريكا ثلاثة اهداف اساسية:
أولاً: الخروج من الازمة الاقتصادية والعودة الى قيادة العالم.
ثانياً: السيطرة على ما تبقى من منابع النفط .
ثالثاً: ادخال الامة الاسلامية في دوامة الصراعات المجنونة واختراق وحدتها واثارة الفتنة الطائفية وكل هذا يحقق الاهداف الصهيونية في ضمان امن اسرائيل في هذه المرحلة مما يمكنها من السيطرة على مصير شرق البحر الابيض المتوسط الى اندنوسيا ولعل هذا ما عبر عنه ايريل شارون ابان توليه رئاسة الاركان عام 1982 عندما اعلن ان نهاية امن اسرائيل لا ينتهي في محيط جواره الاقليمي بل يتعداه الى ما هو ابعد من باكستان.
 
ان دول الشرق الاوسط التي تمثل دولاً عربية واسلامية يجب عليها ان تكون مستعدة لهذا الخيار وان تكون مستعدة لرفض هكذا مشروع وبقوة والوقوف ضده بحزم لان حرباً من هذا النوع سيكون وقودها الشعوب الاسلامية وثرواتها وخسارة هويتها الاسلامية وتاريخها.
 
 
 
نظرية البديل الثالث المذهب الاجتماعي ( الحل الاسلامي )
 
على مدى الصفحات المتقدمة قد تبين لنا ان النظام الرأسمالي الانجلو سكسوني لم يعد قادراً على قيادة الاقتصاد العالمي وهذا ما افصحت عنه الازمة المالية الحالية والازمات المتعددة التي المت به منذ نشأته من (ادم سمث) والى يوم الناس هذا ولعل هذا يفسر تلك الصيحات التي انطلقت من اوربا على لسان رؤسائها ووزراء ماليتها وكثر من خبراء الاقتصاد والمال بضرورة البحث عن نظام مالي جديد يؤسس لمرحلة ازدهار الاقتصاد وخروجه من نفق الازمات المتعاقبة المتكررة.
 
اننا نعتقد وبيقين ان البديل الحقيقي هو في المذهب الاجتماعي الذي يوازن بين مصلحة الامة والفرد وفي نفس الوقت قادر على ادارة مختلف الفعاليات الاقتصادية بكفاءة من خلال المنافسة البناءة والتوزيع العادل للموارد ورعاية مصالح الدول والشعوب وفق الترتيب المعياري لاولويات كل مجتمع على قاعدة فلسفة الدولة في قيادة المجتمع.
 
ان الاقتصاد الاسلامي يعد واحداً من ابرز الاقتصادات التي اسست لهذا المذهب وصممت له الكثير من القواعد ولا ادعي ان مفكري الاقتصاد الاسلامي هم وحدهم من نظر لهذا المذهب بل شاركهم مفكرون اقتصاديون في التأسيس له ويقع في الطليعة منهم ( كينز ) على المستوى الاقتصادي والعميد ( دوجي ) على المستوى القانوني في نظريته التضامن الاجتماعي والمركز القانوني للفرد.
 
ان مزاوجة معقولـة ومنطقية بين الفكـر الاقتصادي الاسلامـي ومنهـج ( كينز ) الاقتصـادي وفكـر (دوجي ) وبحوثه في الفكر الاجتماعي والمركز القانوني للدولة والافراد يمكن ان يكون قادراً على طرح نفسه بديلاً معقولاً ومنطقياً للنظام الانجلو سكسوني باعتبار ان الرؤى الثلاث المتقدمة تمثل مذهباً اجتماعياً قادراً على صياغة نسق واحد للاقتصاد.
 
وحتى نضع القارئ في صورة اكثر دقة يجب علينا ان نضع المعالجات التي وضعها الفكر الاقتصادي الاسلامي لاسباب الازمة التي سبق وان قدمناها وعلى النحو الاتي:
أولاً: دور الدولة الاقتصادي في الفقه السياسي الاسلامي
 
سنحاول على مدى الصفحات التالية ان نبين دور الدولة في الأنشطة الاقتصادية وفق التصور الذي صممه الاقتصاد السياسي الإسلامي وعلى النحو الاتي:
 
 
1.     مفهوم الدولة
 
أن الفكر الإسلامي على اختلاف مذاهبه مجمع على وجوب وجود سلطة عامة وذلك باستثناء رأي يذهب إلى القول بجواز هذا النصب لا وجوبه، فهي عندهم مبنية على معاملات الناس فان تعادلوا، وتعاونوا، وتناصروا على البر والتقوى استغنوا عن الإمام ومتابعته فان كل واحد من المجتهدين مثل صاحبه في الدين، والإسلام والعلم، والاجتهاد، والناس كأسنان المشط فمن أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله ونحن نعتقد أنه بمتابعة رأي الأصم والفوطي متابعة علمية نجد أنهم لم ينكروا ضرورة السلطة، غاية الأمر أنهم ربطوا بين السلطة والغرض منها فإذا دعت الحاجة إليها كانت واجبة ويتخلف هذا الوجوب إذا زال الغرض الموجب لها، ولعل المعتزلة هم أول من تنبه إلى هذه الحقيقة وتأسيسا على ما تقدم فإن الفكر الإسلامي مجمع على وجوب وجود السلطة المنظمة لعملية المجتمع ومسيرته وان اختلفوا في مدرك هذا الوجوب.
 
ويلاحظ أن أهم ما يميز هذه السلطة في الفكر الإسلامي انه يجب أن تنفرد بكل وسائل القوة، والقهر بكل مظاهرها الاقتصادية أو الدينية، أو العسكرية، أو الفكرية، ومن هنا فقد جعل الشرع الخلافة اسما لمن له الولاية على الأمة وتصريف أمورها على وجه لا يكون فوق يده يد. فلا قيام للدولة ما لم تكن سلطتها لا تقهر أي لا يوجد أمامها في الداخل قوة أقوى منها، او منافسة لها، وهذه القوة التي تتمتع سها سلطة الدولة يجب أن تكون قوة مادية وواقعية، وتخلف هذه القوة، يعني فناء الدولة وزوالها. يقول الماوردي:
(( وأما القاعدة الثانية فهي سلطان قاهر تتألف برهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتكف بسطوته المتغالبة، وتقمع من خوفه النفوس المتضاربة لأن في طباع الناس من حب المغالبة والمنافسة على ما آثروه والقهر لما عاندوه وما لا ينكفون عنه إلا بمانع قوي ورادع ملي )) .
 
ولعل اهم ما يميز السلطة السياسية في الفكر الإسلامي أنه يجب أن تستند إلى إرادة الأمة التي تحكمها، لأن قيام الدولة، أو بتعبير آخر تأسيس السلطة يرتبط برضاء الأفراد، ومن ثم يلزم أن تظفر هذه السلطة باعتراف الأفراد وقبولهم لها، وهذا ما أجمع عليه الفكر الإسلامي في كل اتجاهاته، يستوي في ذلك من قال منهم بالوجوب العقلي، أو الوجوب الشرعي، أو بكليهما طالما أن الوجوب هو على الأمة لأن طريق النصب عند هؤلاء هو اختيار(1) الأمة على اختلاف بينهم فيمن يمثل الأمة.
 
ـــــــــــــــ
(1) ذهب جميع المعتزلة وجميع الخوارج ، وجميع أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث ما عدا البكرية إلى أن طريق نصب الخليفة هو الاختيار والعقد وهذا ما ذهبت إليه الزيدية من الشيعة . بعد إمامة علي والحسن والحسين وذهب قلة من أهل السنة وبعض الظاهرية إلى القول بان أبا بكر تولى الخلافة بنص من الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وذهبت الشيعة إلى القول بالنص لأن الخلافة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة ويتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي تعين بالنص عليه من النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم من المعصوم.
وتأسيساً على ما تقدم يكون الفكر الإسلامي قد استقر في رؤيته للسلطة على أنها قدرة التصرف الحر التي تباشر بحكم سموها مهمة حكم المجتمع عن طريق تطبيق النظام، والقانون، وبصورة مستمرة.
 
ويلاحظ أن الفكرة الأساسية التي سار عليها الشرعيون في بيان مفهوم السلطة السياسية هو أعم من مفهومها في المصطلح الحديث، لأنها تنتظم سياسة الدين والدنيا فهي تعمد بالأساس على ذلك الربط الموضوعي والتلازمي بين الدنيا والدين، والمعبر عنه عندهم، و إذا توخينا الدقة عند بعضهم بنظام الدنيا والدين، وبالتالي فان السلطة السياسية بل الدولة بكامل أنشطتها تجد شرعيتها من خلال تحقيقها لانتظام دنيوي ليس مقصودا لذاته بل لأنه يحقق غايات دينية.
 
ومن خلال العرض المتقدم يتضح لنا أن الدولة ظاهرة سياسية واجتماعية ومادية وقانونية فهي تتألف من كل هذه الأنشطة.
 
وإذا كانت الدولة على هذا الشكل فما هي وظيفتها وما مدى هذه الوظيفة هذا ما نحاول الإجابة عليه على هدى الصفحات التالية.
 
 
2. نظرية الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده
 
لـم يعـرف الفقـه الإسلامي ذلك النـزاع بيـن الحقـوق الـذي عرفـه الفكر القانونى الوضعـي ممـا حـدا ببعضه إلى عدم الاعتراف بالعديد من الحقوق بدعوى تعارضها مع حقـوق أخـرى محمية، ذلك لأن الإسـلام يرسم لكـل حـق حـدوداً معينة لا يمكن تجاوزهـا وهـو فى تقريره للحقوق أو رفضـه لا ينطلـق مـن النظريـة الفرديـة التـي تجعـل الفـرد فـي مركـز قانونـي أعلـى مـن المجتمـع، أو المغالاة في الاتجـاه الجماعي الـذي يجعل من الإنسـان مجرد آلـة في عمليات المجتمـع وانما يقيم الموازنة بين الحقوق الفردية وبين الحقوق الجماعية ذلك، لأن مفهوم الحق في الفقه الاسلامـي عمومـاً يرتبـط بمفهـوم الواجـب، ففـي الوقـت الـذي يعطي الحـق لصاحبـه فرصـة التمتـع به يلزم الآخريـن حكامـاً كانـوا أو أفـراد واجـب تمكيـن الفـرد مـن ممارسـة هـذا الحـق وعـدم الحيلولـة بينـه وبيـن التمتع بـه شريطة ان لا يخرج في ممارسته على حدود المشروعية لهـذا الحـق أو بمعنـى آخـر أن الحـق فـي الوقـت الـذي يمكـن صاحبـه مـن التمتع بـه يغـل يـد السلطـة وكذلك الأفـراد من التدخـل فـي شؤونـه ويلزمـه بعـدم التعـدي علـى الآخريـن وهـو يمـارس حقـه.
 
ويلاحظ أن الشريعة الإسلامية اذ منحت الفرد حقوقه الشخصية والتي تدور بالجملة حول الحرية والعصمة والملكيه فإنها لم تمنحه هذه الحقوق وبصورة مطلقة من أي قيد. ذلك لأن الحق مرتبط بالمسؤولية ومدى تمثل الفرد لها يدل على ذلك ويرشد اليه النصوص الكثيرة التي تفيد أن الإنسان إنما يتحمل عبء  أفعاله خيرة كانت أم شريرة صغيرة أم كبيرة مثل قوله تعالى: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) وقوله تعالى: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) ولعل مسؤولية الفرد تبدو أكثر تفصيلا في قوله (عليه الصلاة والسلام) : ( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عـن رعيتـه فالأمير الـذي على الناس راع وهـو مسؤول عن رعيتـه والرجل راع علـى أهل بيته وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولدها وهي مسؤولة عنهم والعبـد راع علـى مـال سيـده وهـو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكـم مسـؤول عن رعيته ) يقول النووي: ( الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره ففيه أن كل من كان تحت نظره شئ، فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته ) .
 
ومن هنا يتحدد نظر الاسلام إلى الفرد على انه كائن حر مسؤول مستقل لكن استقلاله هذا ليس مطلقا بل هو مقيد في ممارسته حقوقه ضمن الدائرة التي تحقق مصالح المجتمع ولا تصطدم مع حقوق الجماعة، وذلك اعمالا للقاعدة العامة التي قررها قوله تعالى: (  وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) فهذه القاعدة تقوم عليها الأحكام التشريعية بجميع احكامها، وقد طبقها الفقهاء على الأحكام الدنيوية من عقود وتبرعات وذلك في الاحوال التي ينصرف فيها الباعث الفردي غير المشروع الى إنشاء تصرف من التصرفات كالحيل والذرائع ونحوهما فقد اتفقوا على انه لا يجوز التعاون على الاثم والعدوان بإطلاقه ومن ثم أبطلوا التصرفات التي انحرف بها أصحابها عن المقاصد المعتبرة التي يرمي اليها الشارع الحكيم وذلك تحت غطاء من المشروعية الظاهرة، لانهم رأوا في هذه التصرفات تعاونا على الاثم والعدوان فهذا القيد في الحقيقة يرد على كافة الحقوق واعتماد هذا الاصل لم يختلف فيه الفقهاء وانما اختلفوا فيما وراء ذلك في بحثهم عن المناط الذي يتحقق فيه التعاون على البر والتقوى أو ذلك الذي يتحقق فيه خروج على مقاصد الشريعة او التحايل والتذرع.
 
وفي الحقيقة فان هذه القاعدة بوجهيها الايجابي والسلبي الذي يفيد الامتناع عن العدوان توجب على الفرد باعتباره واحداً من افراد الهيئة الاجتماعية ان يكون مرتبطاً بالجماعة ارتباط بر وتعـاون وذلك تحقيقاً للخير المشترك والصالح العام وفي أن الوقت تلزمه سلبيا بضرورة تجنب الإثم والفساد والاضرار.
 
وهكذا تحدد الشريعة الاسلامية وذلك من خلال العديد من النصوص مسؤولية الفرد قبل الهيئة الاجتماعية، وذلك من خلال إلزامه برعاية مصالحها  تماما كما هو مكلف بتحصيل مصالحه الشخصية والذاتية فمن حق الجماعة على الفرد أن لا يتعدى على مصالحها معتمدا على الحقوق الممنوحة له وتحت ستارها، بل إن الشريعة تعطي للهيئة الاجتماعية سلطة رقابية على الفرد وهو يمارس حقوقه وذلك للحد من حق الفرد حين يتجاوز في ممارسة حقه يدل على ذلك قوله (عليه الصلاة والسلام) : (( مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا من نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وان أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )) .
 
ووجه الدلالة في هذا النص أن أولئك الذين أرادوا أن يخرقوا السفينة إنما أرادوا التصرف في خالص ملكهم بدلالة قولهم: (( لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا )) ولكن لما كان تصرفهم بالنتيجة يؤول إلى إلحاق الضرر بالجماعة فإنه أوجب على الجماعة ضرورة منعهم من هذا التصرف وقاية للجماعة وحماية لها ومن غير نظر إلى الباعث على التصرف حتى ولو كان مشروعاً.
 
وهكذا في كل الأحوال التي تصطدم فيها مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة فانه يضحي بالأولى لحساب الثانية كما هو مقرر في الشريعة الإسلامية وذلك، لأن ما يلحق الفرد من الضرر بالإمكان جبره بوسائل عدة مثل التعويض على أن حماية المصلحة العامة هو في محصلته النهائية حماية للمصلحة الفردية لأنها واردة ضمنا في مصلحة الجماعة يدل على ذلك قوله (عليه الصلاة والسلام) ((نجوا ونجوا جميعا)) والذي يؤكد هذا تحريم الشارع للاحتكار وذلك في الأوقات التي يحتاجها الناس وتدفعهم إليها الضرورة، وتحريم تلقي السلع ونهيه بيع الحاضر للبادي، واتفاق الفقهاء على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة، وجواز نزع الملكية الخاصة في ظروف معينة إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك مما رضي أهله ومالا يرضى، كما أوجب الشارع التسعيرة الجبرية وذلك في السلع التي يحتاجها الناس إذا ارتفع اسعارها ارتفاعأ فاحشا وهذه الإجراءات كلها داخلة في صميم تحديد حق الملكية حماية للمصلحة العامة.
 
واذا كانت الشريعة الإسلامية تذهب إل ترجيح حق الجماعة على حق الفرد في حالة التعارض فإن السنة قد جاءت بما يؤكد نفي السلطة المطلقة للحق(1) وذلك في أوقات الحاجة والضرورة، فقد روي عن أبي سعيد الخدري قال : (( بينما نحن مع النبي (صلى الله عليه وسلم) اذ جاء رجل على راحلة له قال : فجعل بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل )) ومن هنا فان الحديث يفيد أن في المال حقا آخراً سوى الزكاة ومشروعية الزكاة والإقراض، والعارية، والمنيحة، وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى أو جميعه جار على أصل مكارم الأخلاق وهو لا يقتضي استبداداً وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرراً إلا بمقدار ما يلحق الجميع، أو أقل، ولا يكون موقعاً على نفسه ضرراً ناجزاً وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئاً واحـداً . وقد تضافرت النصوص التي تقرر المعنى الاجتماعي للحق وفـي نفس الوقت تقيد حق المالك بعدم الاستبداد في حقه وقت الحاجة وهي تعبر عن دلك المعنى الاجتماعي تارة بالأخوة باعتبارها ثمرة من ثمار الإيمان، وأخرى بالبنيان المرصوص، وثالثة بالجسد الواحد وذلك مثل قوله (عليه الصلاة والسلام) : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا )) وقوله (عليه الصلاة والسلام) : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )) وقوله (عليه الصلاة والسلام) : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) فهذه الأحاديث وغيرها صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه، وهي فوق إفادتها أن الحب ثمرة الإيمان وبالتالي نفي الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه فإنها توجب على المؤمن أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر ولم يذكره النبي (صلى الله عليه وسلم)، لأن حب الشيء مستلزم يغض نقيضه فترك التنصيص عليه اكتفاء، ولعل في حديث الأشعريين ما يجعل من الحق مفهوما ينفي عنه صفة الاستبداد والتسلط المطلق يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم )) يقول الشاطبي في تصوير هذه التسوية والاشتراك: (( إن مسقط الحق هنا قد رأى غيره مثل نفسه وكأنه أخوه، أو ابنه، أو قريبه، أو يتيمه، أو غير ذلك عن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتمديد فهو على ذلك واحد منهم فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره عن هو مثله بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون )) .
 
 
 
ــــــــــــــ
(1) عرف بعض الفقهاء المحدثين التعسف بأنه: استعمال الانسان حقه على وجه غير مشروع والمراد بالوجه غير المشروع انه التصرف غير المعتاد شرعا وقد تعرض هدا التعريف للنقد مما حدا ببعضهم إلى تعريفه بأنه مناقضة قصد الشارع في تصرف مأذون فيه شرعا بحسب الأصل.
وتأسيساً على ما تقدم يتضح لنا انه ليس هناك حق فردي مطلق وبالتالي فان التفريق بين حق الله وحق العبد إنما هي تفرقة ابتدعتها الفقه الإسلامي ويهدف منها بيان أن من حق العبد إسقاط حقه، والإبراء منه، والعفو عنه، وإلا فالحقيقة لا يوجد حق فردي على الخلوص بغير المعنى المتقدم وقد تفطن إلى هذه الحقيقة غير واحد من محققي الأصول يقول القرافي : (( ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى وهو أمره بإيصاله ذلك الحق إلى مستحقه فيوجد حـق لله دون حق العبد، ولا يوجد حـق للعبـد إلا وفيه حق لله تعالى وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط )) وهذا المعنى هو ما صرح به الشاطبي في أكثر من موضع بل أسس تقسيماته على نفي وجود حق فردي على الخلوص ومن هنا قسم الحق إلى ثلاثة أقسام، يقول الشاطبي : (( وليس حكم شرعي بخال عن حق لله تعالى فإن جاء ما ظاهره حق للعبد مجرد كالقصاص فليس كذلك بإطلاق بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية )) وهكذا الشأن في العادات - الحقوق والمعاملات.
 
ومن هنا نخلص إلى نتيجة مؤداها: انه لا وجود لحق مطلق للفرد بل ما من حق له إلا وهو مقيد وهكذا تكون الشريعة الإسلامية قد وازنت بين الفرد والمجتمع ولعل تلك الموازنة بين الحقوق عموما تبرز في أجلى صورها في أن التكاليف لوحظ في فرضها عدم إساءة استعمال الحق، وهذا المنع قد ورد مطلقا على جميع الحقوق فإنه بمقتضى هذا المبدأ لا يجوز للشخص أن يستعمل حقه إذا كان على علم بما يترتب على استعماله من ضرر فاحش يصيب الغير، أو كانت المصلحة التي يرمي إلى تحقيقها من استعمال حقه غير مشروعة، وكانت قليلة الأهمية وهو مبدأ أقره الفقه الإسلامي تطبيقا للحديث الشريف ((لا ضرر ولا ضرار)) وأعمالا للقاعدتين الشرعيتين ( درء المفاسد أولى من جلب المنافع ) ، و ( دفع  أكبر الضررين بالأخف منهما ) ، وبالرغم من أن مبدأ عدم التعسف في استعمال الحق يعتبر المجال الطبيعي له من الناحية العملية هو علاقات الجوار وذلك للآيات والأحاديث الواردة في الحث على الإحسان إلى الجار والنهي عن إنزال الضرر به مثل قوله تعالى: ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ) ولقوله (عليه الصلاة والسلام) : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت )) لكنه قد ورد صراحة في القرآن الكريم في غير الجوار مثل قوله تعالى في معرض الحديث عن الوصية : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) وهذا القيد لا يـرد فقط على حـق الإيصاء بـل يتجاوز الأمر هـذا الحق ليشمل كل المباحات اذ إنه لا يذكـر المباح إلا وهو مقيد بعدم الضرر، فالحقوق الزوجية مثلا مقيدة بعدم المضارة الثابتة في قوله تعالى: ( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) وحقوق الأبناء مقيدة بذلك أيضا لقوله تعالى: ( لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) وهكذا تتقيد الحقوق بعدم الضرر.
 
ومبدأ عام التعسف في استعمال الحق يجد صداه في العديد من الوقائع والتطبيقات التي جرت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعهد الخلفاء الراشدين من ذلك ما روي (( أنه كان لسمرة بن جندب نخل في حائط رجل من الأنصار وكان يدخل عليه وأهله فيؤذيه فشكا ذلك الأنصاري إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال له: بعه، فأبى قال: فاقلعه فأبى، قال: هبه ولك مثلها في الجنة فأبى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أنت مضار اذهب فاقلع نخله )) ولعل من أبرز تطبيقات هذا المبدأ فى عصر الخلفاء الراشدين هي تلك القصة التي وقعت على عهد عمر في والتي تتلخص في أن رجلا أراد أن يمرر خليجا من ارض جاره فأبى الجار فكلم فيه عمر بن الخطاب الذي أمر بدوره الرجل أن يخلي سبيله فقال : لا والله . فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تسقي أولاً وأخراً وهو لا يضرك ؟ فقال الرجل: لا، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك وأمر أن يمر به.
 
وعلى الرغم من ان مبدأ عدم التعسف في استعمال الحق تدعمه كل هذه الأدلة، وتؤكده الكثير من القواعد الفقهية التي تقضي بأن الشارع لم يجعل الحقوق ذات صبغة فردية وإنما هي تهدف إلى أداء وظيفة اجتماعية إلا أن الفقه الإسلامي لم يجر على نسق واحد في خصوص حق الملكية حيث عرف الفقه الإسلامي اتجاهين في حدود حق المالك في التصرف في ملكه.
 
 
الاتجاه الأول:
 
ذهب الحنابلة والمالكية ومتأخرو الحنفية - وهذا هو الاتجاه الذي ذهب إليه الفقهاء المحدثون بالجملة (1) إلى أن جميع الحقوق يرد عليها قيد عدم الضرر بما في ذلك حق الملكية فقد ورد في المدونة : (( قلت: أرأيت إن كان لي عرصة إلى جانب دور قوم فأردت أن أحدث في تلك العرصة حماماً أو فرنا أو موضعاً لرحى فأبى على الجيران ذلك أيكون لهم أن يمنعوني في قول مالك قال: إن كان يحدث ضرراً على الجيران من الدخان وما أشبهه فلهم أن يمنعوك من ذلك، لأن مالكا قال: يمنع من ضرر جاره فإذا كان هذا ضرراً منع من ذلك. قلت: وكذلك إن كان حداداً فاتخذ فيها كيراً أو اتخذ فيها أفراناً يسبك فيها الذهب والفضة، أو اتخذ فيها أرحية تضر بجدران الجيران، أو حفر فيها آباراً أو كنيفا قرب جدران جيرانه منعته من ذلك ؟ قال : نعم كذلك قال مالك قلت لابن القاسم: أرأيت إن كانت دار الرجل إلى جنب دار قوم ففتح في غرفته كوى، أو أبواباً يشرف منها على دور جيرانه أيمنع من ذلك أم لا ؟ قال مالك: يمنع من ذلك )) .
 
وهذا الذي ذهب إليه المالكية هو ما ذهب إليه الحنابلة حيث قرروا فرض قيود على سلطان المالك وأنه ليس له التصرف في ملكه كما يشاء وإنما هو مقيد في تصرفاته بأن لا يلحق الضرر بالغير، فليس للمالك أن يبني في داره حاماً أو يحفر بئراً إلى جنب حائط جاره وان كان في حده طالما أن ذلك يضر بالغير.
 
وقد أسس هذا الفريق رأيه على قوله (عليه الصلاة والسلام): (( لا ضرر ولا ضرار )) والى هذا الحديث استند متأخرو الحنفية في تقييدهم لسلطات الجار بعدم الضرر إضافة إلى الوازع الديني الذي يحمل الفرد على الإحسان إلى الجار قد ضعف مما يجب معه فرض قيد عدم التعسف في استعمال الحق.
 
ــــــ
(1) ذهب الفقهاء المحدثون بالجملة إلى أن الملكية حق لصاحبها إلا أن لها وظيفة اجتماعية تبدو في صورة أعباء وتكاليف تفرض على المالك ضمانا للمصلحة العامة.
ويرى هؤلاء الفقهاء أن الملكية ذات طبيعة مزدوجة فردية واجتماعية فهي ليست ذات طبيعة فردية مطلقة أو ذات وظيفة اجتماعية خالصة فالقول بإنكار حرية التملك لا يضارعه في البطلان إلا الاتجاه نحو تقديس الملكية الشخصية إلى الحد الذي يحرم مسها لأي سبب من الأسباب حتى لو كان ذلك السبب ينبع من مصلحة المجتمع، فحرية التملك في الإسلام تبقى أمرا ضرورياً ونافعاً وواحداً من بديهياته الفكرية والعملية حتى تصطدم بالحق وبالخير فإذا اصطدمت بحق الغير وخير المجتمع توقفت وأمكن الحد منها.
الاتجاه الثاني
 
ويقول به الحنفية والشافعية والظاهرية والزيدية حيث ذهبوا إلى أن للمالك أن يتصرف في خالص ملكه يشاء دون أن يرد على حقه في التصرف في ملكه قيد عدم إلحاق الضرر بالغير، ويلاحظ أن أصحاب هذا الاتجاه وان اتفقوا على ما تقدم إلا أن لكل فريق تفصيلات في مذهبه.
 
 
 
الخلاصة
 
وفي الحقيقة فإنه بعد هذا العرض يمكننا القول دون أن نخرج على الحقائق الموضوعية، أو نفتات على المنطق أن أحداً من الفقهاء لم يقل بحرية المالك في التصرف في ملكه بصورة مطلقة، أو بتعبير أدق إنهم لم يقولوا بحق فردي مطلق من كل قيد وان اختلاف وجهات النظر بين الشرعيين ليس في تقييد حق المالك في التصرف في ملكه وإنما هو اختلاف في معايير الضرر أو التعدي فإذا صح لنا أن ننظر فيما تقدم نجد أن بعض هؤلاء الفقهاء قد منعوا لازم التعسف وذلك حين قرروا أن من يفتح نافذة على جاره يلزم أن لا يطلع على العورات كما ذهب الظاهرية ومما لا شك فيه أن هذا القيد يرد على حق المالك والذي يدعم أن الخلاف بين الشرعيين مرده خلاف في المعايير أن الحنفية قد قيدوا حق المالك بالضرر الفاحش، والشافعية قد قيدوه بأن يكون التصرف معقولاً أو معتاداً، ونفس الأمر يسري على الامامية الزيدية حيث استثنوا مضار الجوار بين الملاك المتقاسمين والاستثناء قيد بدون أدنى شك، ونفس الأمر يسري على قول الإمام أبي حنيفة حيث ذهب إلى أن حق المالك مقيد ديانة وذلك في وقت كان للوازع الديني أثره في ضبط سلوك الأفراد فلما ضعف هذا الوازع وخربت الذمم ذهب متأخرو الحنفية إلى تقييده تحقيقاً للمصلحة على أن الفقهاء جميعهم يفترضون في التصرف الذي يقوم به المالك أن يكون مشروعاً ومما لا شك فيه أن المشروعية قيد يرد على كافة الحقوق ومما تقدم نخلص إلى أنه ليس هناك حق مطلق خال من أي قيد وان اختلفوا فيما بينهم في حدود هذه القيود ضيقاً أو اتساعاً وأنه ما من حق فردي إلا وهو مشوب بحق لله تعالى، وتأسيساً على هذه النتيجة ترتب عليها حقيقة أخرى وهي أنه لما كانت الدولة بأجهزتها ومؤسساتها ممثلة للهيئة الاجتماعية ومنفذة للقانون الشرعي ولما كان حق الله تعالى منوط بها في تحصيله وتحقيقه والمطالبة به واستيفائه كما ذهب إلى ذلك الشرعيون جميعـاً(1) فـأن للدولة سلطانـاً في رسم حـدود الحـق الفردي، ونطاقـه، والمجال الـذي يعمـل فيـه،
 
ـــــــــــ
(1) رتب الفقهاء على تقسيم الحقوق إلى حق لله وحق للعبد عده آثار وهي كالاتي:
1. الإسقاط: كل ما كان من حقوق الله ليس للعبد إسقاطه وفى جميع الأحوال التي يكون فيها الحق دائراً بين الله والعبد لا يجوز للعبد إسقاط حقه إذا ترتب عليه إسقاط حق الله وهناك من الحقوق ما تقرر لمصلحة الأفراد ومؤدى هذا أن يكون من حق الأفراد، ومع هذا ليس للعبد إسقاطه ولو كان برضائه لم يؤثر هذا الرضا شيئاً بل يعتبر باطلاً كتحريم عقود الربا صونا للاموال.
2. الإرث: الحقوق التي لا تقبل الانتقال من المورث إلى الوارث هي حقوق الله أو المغلب فيه حق الله أما بقية الحقوق فمنها ما يقبل الانتقال ومنها ما لا يقبله.
3. تحريك الدعوى: حقوق الله الخالصة وتلك التي يغلب فيها حق الله يجوز لكل مسلم عدل رفع الدعوى فيها. اما حقوق العبد أو الغالب فيها حق العبد فيتوقف تحريك الدعوى فيه على صاحب الحق نفسه.
4. الملاحقة: ملاحقة الاعتداء الواقع على الحقوق يختلف تبعاً لاختلاف الحقوق وكونها حقاً لله أو للعبد فاذا كان الحق لله فان كان من باب الأمر بالمعروف فانه يجب على المحتسب أن يقوم بالملاحقة من تلقاء نفسه.  =
واقامة التوازن بين مختلف الحقوق والمصالح وذلك في الجزء المتعلق به حق الله باعتبار أن صاحب الحق الخاص ليس مختصاً به اختصاصاً كاملاً بل إن تصرفه مشروط بسلامة الغير من ضرر ينشأ عن استعمال هذا الحق أولاً، ولأن الله كما جعل فيه مصلحة فردية جعل فيه مصلحة اجتماعية لصالح الجماعة، لأنه من ثروة الأمة التي تعتمد عليها ثانياً ولهذا نهى الشخص عن إتلاف ماله وتبذيره لأنه إن لم يصبه بالخسارة أصاب الجماعة، ولأن الله جعل فيه نصيباً معلوماً للجماعة ويلاحظ أن تدخل الدولة في رسم الحقوق يجب أن يكون ضمن الحدود المرسومة لولي الأمر من سلطات تقديرية وهي سلطة مرسومة في الشريعة الإسلامية بتحقيق العدل والإحسان، وتحصيل مصالح الناس في المعاش والمعاد.
 
إن هذه البديهية على الرغم من أنها تبدو بسيطة إلا أنها تشكل المحور الأساسي في الجهاز التحليلي في الفقه الاسلامي عموماً والفقه الاقتصادي على وجه الخصوص، ذلك إذا ما أردنا تبني معرفة اقتصادية واقعية قادرة على الصمود وتحقيق مجتمع الكفاية الاقتصادية في ظل عمليات اقتصادية معقدة.
 
 
3. الدولة ونظرية الاستخلاف وأثرها في الاقتصاد السياسي الاسلامي
 
للاستخلاف أشكال مختلفة نحاول عرضها والقاء الضوء عليها وبيان أثرها على دور الدولة في العملية الاقتصادية وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر حول أشكال الاستخلاف إلا أنه يمكننا حصرها في ثلاثة أنوع:
 
 
أولاً: الاستخلاف الفردي
 
ويقصد به اختصاص الفرد ببعض المال، أو الموارد واستئثارها بإدارة عملياتها الإنتاجية، ومباشر كافة التصرفات كما أنه يستأثر بعوائد ذلك المال أو الموارد وكل ذلك إنما يتم بإذن الشارع وفق ضوابط الاستخلاف المقررة، وذلك لأن الملك عند الفقهاء معرف بأنه اختصاص يمنحه الشارع للفرد، فقد عرفه الكمال بن الهمام بأنه ( قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرف ) وعرفه بعضهم بأنه ( الاختصاص الحاجز وأنه حكم الاستيلاء لأنه به يثبت لا غير، لان المملوك لا يملك لأن اجتمـاع الملكين في محل واحـد محال، فلابـد وأن يكون المحل الذي يثبت فيه الملك خالياً عن الملك، والخالي عن الملك هو المبـاح والمثبت للمال المباح الاستيلاء لا غير ) وعرفه ابن السبكي ( بأنه حكم شرعي يقدر في عين أو منفعة يقتضي تمكن من ينسب إليه من انتفاعه والعوض عنه
 
 
ــــــــــــــــــــــــــــ
= أما في حالة النهي عن المنكر فأن الملاحقة تختلف تبعاً لاختلاف موضوع الحق فإن كان موضوعه يتعلق بالعبادات فأن مهمة المحتسب قاصرة على الإنكار في الأحوال العادية اما فى الأحوال التي يكون فيها مرتكب المخالفة معانداً فإنه يقوم بتأديبه.
وان كان موضوع الحق يتعلق بالمحظورات فان المحتسب يتصدى لها بالإنكار أما ما يتعلق بالمعاملات فأن كانت من المعاملات المحظورة فأن على المحتسب ملاحقتها وان كانت برضاء المتعاقدين. أما بالنسبة لحقوق الأفراد فإما أن يكون خاصاً أو عاماً فان كان خاصاً فان الملاحقة تتوقف على استعداء صاحب الحق وان كان عاماً فانه يجب على المحتسب ملاحقته دون حاجة إلى مطالبة احد. واما إن كان نهيا عن منكر فلا اعتراض للمحتسب إلا في حالة الاستعداء.
من حيث هو كـذلك ) وعرفه القرافي بأنه ( حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكـن من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك ) وذهب صاحب تهذيب الفروق إلى تعريفه بانه ( إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بذلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنهما من حيث هي كذلك ) (1) .
 
ويلاحظ أن هذه التعاريف على الرغم من تغايرها واختلافها في المبنى إلا أنها متفقة من حيث المعنى والغايات التي تسعى إليها، وتلك الغايات تتحد بأن الملكية هي العلاقة التي أقرها الشارع بين الإنسان والمال الذي جعله مختصاً بها. بحيث باسطاعته أن ينفع في ملكيته بالوسائل والطرق كافة شريطة أن تكون في الحدود التي رسمها الشارع، وهذا واضح من تعريفات الشرعيين للملك إذ الكل متفق على تعريفه بأنه حكم شرعي سواء منهم من صرح بالحكم أم صرح بغيره كالإباحة أو الاختصاص إذ مرد هذا كله إلى الحكم، وهذا يعني أن مكنة المالك في التصرف في ملكه إنما تتم بسلطان من الشارع وذلك عندما يرتبه الشارع على السبب الشرعي فمستند الاستخلافه الفردي هو الحكم الشرعي وليس طبيعة الإنسان أو عقله كما أنه ليس توظيف المجتمع ولا إرادته ( لأن ما هو حق للعبد إنما يثبت كونه حقاً له بإثبات الشرع له ذلك لا لكونه مستحقاً ذلك بحكم الأصل ) .
 
ومن هنا فأن حق الفرد في التملك منبثق عن تخصيص الله بهذه الملكية بسبب مشروع وليس موظفاً من قبل الجماعة وهي المالك الحقيقي، لأن المالك احرز ملكيته من الله وبتخصيص من التشريع الإلهي نفسه واعتراف الشـارع بهذا الحق للفرد يعد من الأمور المعلومة من الديـن بالضرورة، وقـد قامـت نصـوص الشريعة الإسلامية وأنظمتها المختلفة على تحقيقه وتقريره بيد ان هذا الحق ليس حقاً مطلقاً يقوم على الاستبداد ذلك لأن للملكية وظيفة مزدوجة في واحد من وجهيها أنها وظيفة قبل الفرد وفي وجهها الآخر لها وظيفة قبل الجماعة وقد سبق وأن بينا هذا المعنى في الأساس الأول من أن الحق الفردي عموماً وحق الملكية خصوصاً وهو حق شخصي له طبيعة مزدوجة ويتجلى الاتجاه الجماعي لهذا النمط من الاستخلاف الفردي في أن الشارع قد احاطه بمجموعة من الأعباء والتكاليف والقيود ولعل في مقدمة هذه القيود انه ألزم المالك في التصرف بملكه في الحدود المشروعة التي رسمها الشارع، فحرم الشارع على المالك اكتناز المال بقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ومرد هذا التحريم أن في الامتناع عن إنفاق المال في الطرق المشروعة فيه تعطيل لاستثمار الأموال وفي تعطيله عن الاستثمـار تعسف في استعمـال الملكية أمـا استثمارها ففيه مرضاة للشارع بتنفيذ أوامره فحبس المال عن التداول واهمال المال بعدم توظيفه واكتنازه يعد تضييعاً للمال وهو منهي عنه بالنص ومن هذه القيود تحريم الشارع للاسراف والتبذير في الإنفاق لمناقضة هذا التصرف لقصد الشارع وحث المالك على الاعتدال في كل شي، كما حرم الشارع أكل أموال الناس بالباطل وحرم المعاملات الربوية كما أجـاز الحجر على السفيه منعاً لتضرر المصلحـة
 
ــــــــــــــــــــــــ
(1) وقـد عرفت الملكيـة بتعاريف كثيرة لا تكاد تخرج بالجملـه عما أسلفنـاه، فقـد عرفـه محمد يوسف موسى بانـه: (( حيازة الشيء متى كان الحائز له قادرا وحده على التصرف فيها والانتفاع به عنـد عدم المانع الشرعي )) ، وعرفه الشيخ بدران ابو العينين بانه: (( علاقه شرعية بين الإنسان والشيء تجعلها مختصاً به اختصاصاً يمنع غيره عنها بحيث يمكنه التصرف فيها عند تحقق اهليتها للتصرف بكل الطرق الشائعة شرعاً وفي الحدود التي بينها الشرع )) وقيل (( اخصاص بالشيء يمنع الغير عنه ويمكن صاحبه من التصرف فيه ابتداء إلا لمانع )) . وقيل انه (( اختصاص الإنسان بالشيء على وجه يمنع الغير منه ويمكن صاحبه من التصرف فيه ابتداء إلا لمانع شرعي يمنع ذلك )) المدخل للفقه الإسلامي، أحمد عيسوي وقيل (( الملك التام من شأنه أن يتصرف به المالك تصرفاً مطلقاً فيما يملكه عيناً ومنفعه واسغلالً فينتفع بالعين المملوكة وبغلتها وثمارها وانتاجها ويتصرف فى عينها بجميع التصرفات الجائزة )) .
العامة بتعطيل الوظيفة الاجتماعية للملكية وذلك لأن من وظائف المال الفردي بالإضافة إلى إنفاقـه في وجوه الخير والصالح العام وظيفة تثميره وتنميته وهذا يعتبر ضرباً من ضروب صيانة الأموال والمحافظة عليها، ويقول الزمخشري: (( إنهم - أي السفهاء - المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولابد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها )) ويقرر ابن العربي هذا المعنى بوضوح إذ يقول (( لأن الأموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد ومن ملك إلى ملك وهذا كقوله تعالى: ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) معناه: لا يقتل بعضكم بعضاً، فبقتل القاتل يكون قتل نفسه وكذلك إذا أعطى المال سفيهاً فأفسده رجع النقصان إلى الكل )) ومن هذه التكاليف أنه أوجب على المال وظائف مالية منها ما هو مقدر محدد كالزكاة ومنها ما هو خاضع لظروف المجتمع الاستثنائية فيما سوى ذلك المقدار المرسوم.
 
ويلاحظ هنا أن استخلاف الشركات الفردية أو بتعبير أكثر دقة شركات القطاع الخاص سواء كانت تلك الشركات شركات مضاربة أو مزارعة أو مساقاة، صناعية كانت أو تجارية أو زراعية واقعة ضمن هذا النوع من الاستخلاف الفردي ولا يغير من طبيعتها أن المكونين لها أكثر من واحد، لأن صفة الفردية لم يزل ملازماً لها، غاية الأمر أن شكلها الفردي من حيث إدارتها وذمتها المالية قد طرأ عليه نوع من التغيير. أما المضمون الفردي فلم يتغير منه شيء لأن العوائد ترجع إلى الأفراد بنسبة أسهمهم في تلك الشركات وكذلك تتحمل ذممهم الديون والالتزامات في أموال الشركة وذمتها باعتبارها ذمة مالية واحدة تمثل كافة الشركاء، على أن الأمر الأكثر أهمية الذي يحدد طبيعة هذا الاستخلاف أن الغايات التي تسعى إليها مثل هذه الشركات غايات تتصف بالفردية ومن ثم فإن ما يرد على الملكية الفردية من قيود يرد على ملكية الشركات كذلك باعتبارها تمثل نشاطأ فردياً.
 
 
ثانياً: الاستخلاف الاجتماعي
 
ويراد بهذا النوع من الاستخلاف هو ذلك النوع من الموارد التي أذن الشارع للجماعة بالاشتراك في منافعها، والأعيان التي تتحقق فيها الملكية العامة هي الأعيان التي نص الشارع على أنها للجماعة مشتركة فيما بينهم، وحجب عن الأفراد حيازتها واستئثار فرد واحد بها - والموارد التي لا تقبل الحيازة الفردية والتي تكون موضوعاً للاستخلاف الاجتماعي يمكن حصرها في أربعة أنوع:
 
 
1. الاموال التي تكون غلتها اكثر من الجهد البشري المبذول فى انتاجها
 
فإن هذا النمط من الموارد لا يتكافأ فيه العمل مع حجم العائدات المترتبة عليه وبالتالي فإن ملكيته للفرد يعرض الأمة للفاقة والضعف وذلك بحرمانها من مورد من مواردها المهمة، ويؤدى إلى ثراء مفرط لا يتناسب مع حجم جهده المبذول مما يؤذن بظهور طبقة على حساب الجماعة والأمة ثرية بصرخة الولادة، وما ينشأ عن ذلك من سوء توزيع الثروات والموارد، ويمثل هذا النوع من الموارد المعادن سواء كانت هذه المعادن ظاهرة وهي التي يتوصل إليها من غير مؤنة ينتابها الناس وذلك مثل الكبريت والنفط والبرام والكحل والياقوت ونحوها، وسواء كانت المعادن باطنة وهي التي لا يوصل لها إلا بالعمل والمؤنة، وبذل الجهد، والمعالجة وذلك مثل الذهب والفضة والفيروز والحديد والنحاس وان كانت المعادن على أحد الأقوال في الفقه الإسلامي هي ملك للدولة، لأن كل الناس فيها شرع وقد ذهب الفقهاء إلى أن هذه المعادن لا يجوز إقطاعها لأحد من الناس ولا احتجازها دون المسلمين، لأن في مثل هذه الإجراءات ضرراً على الأمة وتضييقاً عليها ولأن هذا النوع من الموارد مما تعلقت به مصلحة الأمة العامة فلم يجز أن يختص به واحد بانفراده وقد استدلوا لهذا الذي ذهبوا إليه بما روي عن حمال المأربي قال: استقطعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) معدن الملح بمأرب فأقطعنيه فقيل: يا رسول الله إنه بمنزلة الماء العد - يعني أنه لا ينقطع - فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : فلا إذن .
 
فقد دل هذه الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما أقطع حمالأ المأربي الملح الذي بمأرب ثم ارتجعه منه انه إنما أقطعه أرضأ مواتأ يحييها ويعمرها فلما تبين للنبي أنها معدن ملح لا ينقطع مثل ماء العيون والآبار ارتجعه منه، لأن سنة رسول (صلى الله عليه وسلم) في الكلأ والماء والنار أن الناس جميعاً فيه شركاء فلم يشأ أن يجعله لرجل واحد يحوز، دون الناس، يقول الشافعي ( كل عين ظاهرة كنفط أو قار أو كبريت أو مومياء أو حجارة ظاهرة في عين ملك لأحد، فليس لأحد أن يحتجزها دون غيره، ولا لسلطان أن يمنحها لنفسه، ولا لخاص من الناس لأن هذا كله ظاهر كالماء والكلأ ) .
 
 
2. الاموال والموارد التي تكون مرصودة للمنافع العامة
 
وهي تلك التي لا ينتفع بها أحد بعينه بل ينتفع بها عموم الناس وفي حالة كونها موضوعاً للاستخلاف الفردي لا تحقق أغراضها وأهدافها وهذا النوع يشمل الطرق العامة، والمساجد، والأنهار، والمدارس، والساحات العامة وغيرها، ومرد صعوبة كون هذا النمط من الأموال موضوعاً للاستخلاف الفردي يرجع إما لتعذر ملكيتها وحيازتها من قبل الأفراد وذلك لطبيعة تكوينها مثل الأنهار، أو أن طبيعتها قابل للحيازة الفردية من حيث هو كذلك ولكن تعلق مصالح الجماعة بها يجعلها تنتظم في سلك الاستخلاف الاجتماعي، وهكذا يدخل في عموم هذا الاستخلاف الأموال المحبوسة على النفع العام مثل الطرق العامة والمياه والأنهار والأسواق العامة والقناطر، فالمسلمون شركاء في المياه والانتفاع بها سواء كانت أنهاراً كبيرة مثل دجلة والنيل والفرات أم كانت وديانأ أم عيونأ طالما أصبحت من مرافق المجتمع، وتعلقت به مصالحه فلهم أن يسقوا منه وليس لأحد أن يحبس الماء عن أحد وكذلك الشأن في الطرقات، والساحات العامة، فللجميع الجلوس والوقوف فيها لغرض الاستراحة والمعاملة ونحوهما بشرط أن لا يضيق على المارة وأن لا يضر بأحد.
 
 
3. الاموال والمواود التي تؤول من ملكية الافراد إلى ملك الدولة او تكون للدولة عليها ولاية
 
فإن مثل هذه الأموال تبقى على حكم الملكية العامة للدولة ولا تكون ملكاً خاصاً لأحد وفي الأحوال التي تقتطع منها الدولة جزءً من هذه الأموال لفرد، أو لمجموعة أفراد فإنها بذلك إنما تملكهم المنفعة لا الرقبة ويدخل في عموم هذا النوع الأراضي التي فتحت عنوة مثل أرض السواد إذ أبقى عمر بن الخطاب أهلها عليها وضرب الخراج عليهم فإنه ملكهم المنفعة دون الرقبة ونظير هذا الأوقاف الخيرية واقطاعية الدولة ونحوها.
 
 
 
4. أموال بيت المال
 
والمقصود بهذا كل مال استحقه المسلمون ولم يتعين مالكه، فهو من حقوق بيت المال فإذا قبض صار بالقبض مضافأ إلى حقوق بيت المال فيدخل في هذا الفيء والخراج والجزية ومال من لاوارث له، ويلاحظ أن المراد ببيت المال الجهة لا المكان كما نص على ذلك الفقهاء وهذا له دلالة قوية وهو أن الفقه الإسلامي قد عرف مصطلح الشخصية المعنوية والذمة المالية المستقلة عن الأفراد المكونين لهيأة ما سواء كانت شركة اقتصادية، أو هيأة اجتماعية، أو مؤسسة سياسية قبل أن يعرفها الفكر الوضعي بقرون.
 
وفي الحقيقة فإنه يجب أن نشير إلى أنه قد ذهب غير واحد من كتاب الفقه الاقتصادي إلى اعتبار هذا النوع من الأموال أصلأ برأسه وقد علل هذا الاتجاه رأيه بأن هناك فارقاً بين الأموال موضوع استخلاف بيت المال وبين الاستخلاف الاجتماعي وذلك من وجهين:
 
أحدهما: إن الأموال موضوع الاستخلاف الاجتماعي ليس للدولة أن تعطي أصله لأحد وان كان من حقها أن تبيح للناس الانتفاع به بناء على تدبير منها يمكنهم جميعاً من هذا الانتفاع، فليس لها أن تتصرف فيه تصرفاً يخرجها عن ملكية الجماعة وذلك مثل الساحات العامة، وهذا بخلاف الأموال التي هي موضوع استخلاف بيت المال فإن للدولة الحق في أن تعطيه كله، أو بعضاً منه لافراد معينين، وتمنع الآخرين منه فمن حقها مثلاً أن تنفق أموال الخراج والفيء على الزراع فقط دون غيرهم.
 
وثانيهما: إن للدولة في الأموال موضوع استخلاف بيت المال أن تصرفها حسب مقتضيات المصلحة العامة وأن تملكها من تشاء ذلك لأن حق عامة المسلمين قد تعلق به، فالتدبير يكون فيه للدولة، وذلك لأن الشرع لم يعين الجهة التي تصرف إليها وهذا بخلاف الأموال موضوع الاستخلاف الاجتماعي فهي غير قابلة للتملك الفردي.
 
والواقع فائه على الرغم من أننا نتفق مع هذا الاتجاه فيما أورده من فروق بين كلا النوعين من الاستخلاف إلا إننا نعتقد أن هذا الاختلافه ليس جوهرياً يمس الموضوع والمضمون وما أنيط به هذا النوع من الاستخلاف وانما هو يتعلق بنمط الإدارة فحسب ومن ثم فإن هذا لا يستدعي اعتباره أصلاً برأسه والذي يدعم هذا أن كلا النوعين واقع ضمن إدارة الدولة وتدبيرها، وان كان مدى هذا السلطان يختلف ضيقاً واتساعاً حسب المال موضوع الاستخلاف، يضاف إلى ذلك أن أيلولة تصرف الدولة في كلا النوعين من المال واحد وهو تحقيق الصالح العام ورعايته، والدولة في كلا النوعين أيضاً إنما تتصرف ضمن الحدود المرسومة لها باعتبارها سلطة تنفيذية خاضعة للقانون الشرعي وليست أعلى منه.
 
 
ثالثأ: استخلافه القطاع المختلط
 
هذا النوع من الاستخلاف يراد به دخول الدولة مع مجموعة من الأفراد في تكوين شركات معينة وذلك بأن تساهم معهم في رأس المال وتشترك معهم في إدارة المشروع الاقتصادي، ويكون لها نسبة من الفوائد حسب حجم مساهمتها في المشروع.
 
والحق أن هذا النوع من الاستخلاف لا يمكن تكييفه وبيان مركزه القانوني على أنه نوع من أنوع الاستخلاف الفردي، ومرد هذا أن الدولة في دخولها بمثل هذه المشاريع المختلطة فإنها إنما تبرم العقود لا باسمها بل باسم الأمة باعتبارها ممثلة لها وهي إذ تقدم التسهيلات سواء كانت هذه التسهيلات على شكل مساهمات مالية في أصل رأس المال، أو على شكل قروض أو تسهيلات مصرفية أم كانت هذه التسهيلات تتجلى في صورة استثمار مورد من الموارد، أو حصر الإنتاج، أو التسويق على ذلك المشروع وحجبه عن النشاط الفردي، أو تقييد ذلك النشاط وتضييق ساحة عملياته فإنها إنما تفعل ذلك كله باسم الأمة ورعاية لمصالحها وفي آن الوقت فهي إنما تتصرف بما يخص الأمة من مال أو موارد وبالتالي فإن عوائد المشروع وما يترتب عليه من استثمار إنما يعود على الأمة في ذلك الجزء من المساهمة.
 
وكذلك لا يمكن اعتبار هذا النشاط الاقتصادي للقطاع المختلط نوعاً من أنواع الاستخلاف الاجتماعي، وذلك لأن النشاط الفردي داخل ضمنأ في كل عملياته الاقتصادية سواء في مساهمته في رأس المال، أو إدارة المشروع، أو في العوائد المترتبة على الاستثمار، وهذا ما دفعنا إلى اعتباره شكلاً مستقلاً بذاته، وان مركزه القانوني مركز خاص يختلف عن مركز الاستخلاف الاجتماعي كما أنه يختلف عن مركز الاسخلاف الفردي، وان تكيفه متروك لسلطة الدولة التقديرية حسب ما تقتضيه المصلحة، وما تهدف إليه من استحداث مثل هذا النشاط وذلك لأن الأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها منه هي المحدد الأهم للمركز القانوني لهذا النشاط .
 
 
الدولة ونظرية الاستخلاف
 
إن نظرية الاستخلاف بالشكل الذي قدمناه قد ترتب عليها نتائج على غاية كبيرة من الاهمية نجملها بالآتي:
أولاً: تمكين مختلف الأنشطة من الموارد سواء أكانت هذه الأنشطة قطاعاً خاصاً فردياً، أم قطاعاً مختلطاً، أم قطاعأ عاماً طالما أنه يعمل ضمن المشروعية التي حددها القانون الشرعي، وهذا واجب عليها بقتضى ما لها من سلطان على الأموال موضوع الاستخلاف الاجتماعي، وما لها من سلطة تنظيمية على المال موضوع الاستخلاف الفردي، وهذا الوجوب يدل عليه قوله تعالى: ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) ومفهوم التمكين الوارد في الآية له معنيان، أحدهما: حسي يقصد به أن للانسان مكانأ وقراراً حسياً، والثاني: يتناول وجوده العقلي وهو أنه مخلوق موهوب بالملكة وهذا يتضمن مواهب التسلط والتصرف فيها وكلا المعنيين هما مفهوم اللغة ومراد من الآية ؟ ذلك لأن التمكين في اللغة هو السلطان والقدرة على التصرف والمكان والقرار، يقال: مكنته: جعلت له عليه سلطاناً وقدرة والذي يدل على أن كلا المعنيين مراد من الآية هو ربط المعيشة بالتمكين أي هيأنا لكم فيها أسباب المعيشة يقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى: ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ ) : ( جعلنا لكم فيها مكانأ وقراراً أو مكناكم فيها واقدرناكم على التصرف فيها ) وهكذا فإن مفهوم التمكين يصبح إعطاء ما يصح به الفعل مع رفع المنع، لأن الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى آلة والى دلالة وسبب، ويحتاج إلى ارتفاع المنع. فالتمكين عبارة عن جميع ذلك، والجعل إيجاد ما به يكون الشيء على خلاف ما كان عليه.
 
وترتيباً على هذا فإن على الدولة واجب تنفيذ مشيئة الله تعالى في الحكم الشرعي والكوني وذلك بأن تمكن الإنسان من الاستقرار الحسي وأن تمكنه من السيطرة والهيمنة على الطبيعة باعتبار أن العالم موضوع الإنسان ونطاقه، وهنا يتجلى دور الدولة بأن تتيح للمواهب أن تفصح عن نفسها في صورة الفعل المبدع ذلك لأن الإنسان مخلوق موهوب بالملكة فعلى الدولة أن تفسح آفاقاً واسعة في مختلف الأنشطة وذلك بما ينسجم وطبيعة الدولة والأهداف التي تسعى إليها في الفكر الإسلامي والتي تقوم على أساس مهم وهو مبدأ تكافؤ الفرص للجميع وأن تقمع الدولة كل الأساليب والوسائل غير المشروعة والمدفوعة برغبات أنانية إذا ما حاولت إفساد ذلك المبدأ العادل واساءة استعمال هذا التمكين. ويلاحظ أن هذا التمكين هو تمكين ارادي موجه نحو عمارة الارض وذلك باستثارة كل الطاقات وتوظيفها للحصول على أكبر خير ممكن من استثمار الموارد، وبناء أفضل ما يستطاع من الحضارة، ولعل هذا بعض دلالة الآية المتقدمة وتعبيرها عن ذلك بالجعل الذي هو إيجاد ما به يكون الشيء على خلاف ما كان عليه.
 
ثانياً: إن واجب الدولة إقامة التوازن بين مختلف المصالح المتعارضة التي قد تنشأ عن ممارسة الأنشطة الاقتصادية فردية كانت أو اجتماعية وذلك بتنظيم الحقوق المتعارضة ونطاقها والمجال الذي تعمل فيه وهذا يستدعي قوة إشراف من الدولة مع ملاحظة أن قواعد الشريعة العامة تقتضي أنه في كل الأحوال التي تصطدم فيه المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة ولا يمكن الجمع بينهما فإنه يضحى بالمصلحة الخاصة وذلك إعمالاً للقواعد الفقهية التي تذهب إلى أنه يختار أهون الشرين وقاعدة الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، وعلى هذا فليس للدولة باعتبارها تقود الاستخلاف الاجتماعي بأن تعتدي على الملكية الخاصة وذلك بجعلها ملكية عامة إلا في حدود ما تقتضيه المصلحة العامة وذلك لأن حقها ليس بأقوى من حق الفرد لان كلاهما - الفرد والدولة - يأخذان حقهما من القانون الشرعي باعتبار، منحة الحكم ومن ثم ليس للدولة أن تسلب حقاً تعسفاً وظلماً، كما أنه ليس للفرد أياً كان أن يمتلك ما هو ملك للجماعة إلا إذا خرجت الدولة عن ذلك، وذلك بالاستغناء عنه فإنه يجوز تملكه في هذه الحالة بعوض دون أن يكون في ذلك إضاعة لاموال الدولة.
 
ثالثاً: إن الدولة في إدارتها للأموال موضوع الاستخلاف الاجتماعي إنما تعمل في الحدود التي رسمها الشارع باعتبارها سلطة تنفيذية ويجب أن يكون عملها منوطاً بالمصلحة العامة ؟ ذلك لأن الملكية الفردية ( ليست وحدها مقيدة بحقوق الله فالملكية الجماعية في الإسلام تخضع لنفس الحدود والقيود بسبب وجوب تخصيص المال العام للانفاق على أغراض معينة حددتها الشريعة الإسلامية صراحة وتفصيلأ ونتيجة لوجود الواجبات العامة الي تفرضها الشريعة على الجماعة والتي تسمى فروض الكفاية. وهذه التكاليف التي تقع على عاتق الجماعة تجعل ملكيتها محدودة ومقيدة من حيث أهدافها ومن حيث الانتفاع بها واستعمالها ) .
 
رابعاً: إن على الدولة واجب المحافظة على الأموال سواء كانت هذه الأموال هي موضوع الاستخلاف الفردي أو تلك الأموال الواقعة في حدود إدارتها وتحت سلطانها المباشر وهذه المحافظة لها وجهان:
أحدهما: سلبي، وهو عدم تضييعه والاعتداء عليه بالإتلاف ونحوه، وعدم إساءة استخدامه وهذا واضح في الأموال التي تخص الفرد وذلك لورود النصوص الدالة على ذلك مثل قوله (عليه الصلاة والسلام) : ( إن الله يسخط لكم قيل وقال وكثرة السؤال واضاعة المال ) فحجر الله تعالى على عبده في تضييع ماله الذي هو عونه على أمر دينه ودنياه وآخرته ولو رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك لم يؤثر رضاه، وكذلك حجر الله على الإنسان الذي يلقي ماله في البحر وأن يضيعه من غير مصلحته ولا تأثير لرضا المالك في ذلك، لأن المال وان كان فيه حق للعبد إلا أن حق الله هو المغلب، لأن فيه مقصداً اساسياً من مقاصد الشريعة فإذا ما أسقط الفرد حقه فإن هذا يستتبعه بالضرورة إسقاط حق لله غالب وهذا لا يجوز، و تأسيسأ على هذا شرع الاسلام جهاز ضمان المتلفات وذلك بإلزام المتلف ضمان ما أتلف بالمثل ان كان مثلياً وبالقيمة إن كان قيمياً.
 
واذا كان الفقه الإسلامي قد عالج موضوع الضمان واشترط فيه أن يكون المضمون مالاً متقوماً في ذاته، وأن توجد المماثلة بينه وبين المال الذي يعطي بدلاً عنه، وبالتالي اشترط في الضمان شرطين أساسيين وهما التقوم ومعياره الانتفاع والإحراز، فإن هذا النظر الفقهي يثير مشكلاً على غاية كبيرة من الأهمية وهو في حالة اعتداء الأفراد على الأموال العامة التي يمكن الانتفاع بها ولكن لن يتحقق فيها شرط الإحراز وذلك مثل الأموال المباحة فلو حصل الاعتداء عليها هل يضمن الفرد بتعديه ؟
 
وللإجابة على هذا نقول:
إن نصوص الفقهاء القدامى وعباراتهم تشير إلى عدم تضمينه، وهذا النظر معلل عندهم بأكثر من تعليل مثل عدم الإحراز، أو عدم وجود معايير دقيقة يمكن الاحتكام إليها في تقييم التآلف في مثل هذا النوع من الأموال، ولكن بالجملة فإن الفقهاء قد أجمعوا على أن الاعتداء على مثل هذه المرافق محرم وإن فاعله قد اجترح إثماً وارتكب خطاً، ولعل هذا هو السبب أو واحد من الأسباب التي دعت الفقهاء إلى عدم القوؤل بضمان المتلف من هذا النوع وذلك لأنه بات من المقررات الفقهية أن الدولة من حقها بل ومن واجبها ايقاع العقوبات التعزيرية على كل فعل محرم ويترك لها تقدير الفعل الجرمي، ومقدار المخالفة حسب ظروف الجاني، وطبيعة الفعل، وظروف الواقعة، وتكييفها، ومما لاشك فيه أن من جملة العقوبات التعزيرية هي عقوبة الغرامة المالية وهي نوع من الضمان وان كانت الغاية منها هي العقوبة أولأ وبالذات.
 
وثانيهما: إيجابي، وهو استثمارها للأموال وتوظيفها وذلك لأن في حجبها عن الاسثمار إضاعة لها وهذا أيضاً يشمل مختلف الأنشطة الاقتصادية فردية كانت، أم اجتماعية، أم مختلطة، لأن تعطيل الاستثمار إضاعة لفرصة التوظيف والحصول على الفوائد التي تعود بالخير على الأمة، وهذا ما دفع الشرع الحكيم إلى تحريم الاكتناز والحجر على السفيه. والدولة في ذلك شأنها شأن الفرد مخاطبة بالحكم الشرعي الذي يوجب استعمار الأرض وتثمير الموارد يضاف إلى ذلك أن الدولة مدفوعة لاستثمار مواردها لانها ملزمة شرعاً بسد الحاجات، وبلوغ حد الكفاية وهذا يضيف عليها عبئاً مالياً يفرض عليها باستمرار أن تطور من استغلال الموارد الموجودة وأن تعمل على إيجاد موارد جديدة حتى تتمكن من الإنفاق على مختلف الأنشطة العملية.
 
خامسأ: إن للدولة حقأ بمقتضى سلطتها التقديرية التي منحها الشارع لها باعتبارها ممثلة للأمـة، أن تطور من مفهوم الأموال محل الاستخلاف الاجتماعي ؟ ذلك لأن الأموال التي سبق الإشارة إليها لم ترد حصرا فيها بل هي نتيجة استقراء للنصوص الواردة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مثل قوله : ( الناس شركاء فى ثلاث ) وما كان عليه العمل في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وما دلت عليه الوقائع والحوادث على عهد الخلفاء الراشدين من أنهم قاموا بفرض الحمى على بعض الأراضي، وهذه الضروريات لم ترد على سبيل التوقيف من الشارع بل إن للعصر وظروفه وشروط الواقع وخياراته ما يحدد للدولة طريقة تطبيق هذا المبدأ وحدود استعماله والمجال الذي يعمل فيه حسب مقتضيات العصر وضروراته، وهذا المبدأ هو ما اصطلح على تسميه بمبدأ تأميم الموارد العامة، وهكذا يمكن أن يقاس على الأموال موضوع (( الاستخلاف الاجتماعي ما كان مثلها ضرورياً للمجتمع فلا يترك للنشاط الفردي وذلك كلما كان هذا النشاط ينشأ عنه استغلال لحاجة الجمهور بل يجب أن تشرف عليه الدولة استثماراً وتوزيعاً وهذا الذي ذهبنا إليه يمثل اتجاهاً قوياً في الاقتصاد الإسلامي الحديث )) والذي يدل على صحته ما يلي:
 
أولاً: ما روي أن اعرابياً أتى عمر (رضي الله عنه) فقال : يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عنها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام علام تحميها ؟ فأطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك. فقال عمر: المال مال الله والعباد عباد الله والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت شبراً من الأرض في شبر ) . ومثله ما روي عن عمر وهو يوصي هنباً وكان قد استعمله على الحمى وقد جاء فيها: ( وايم الله إنهم ليرون ان قد ظلمتهم إنها لبلادهم ومياههم قاتلوا عليها في الجاهلية واسلموا عليها في الإسلام والذي نفسي بيده لولا المال الذي احمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً ) ووجه الاستدلال بهذين النصين أن الدافع للحمى والموجب له إنما هو مصالح الناس وتحصيل حاجاتهم فهو معلل بالمصلحة العامة بدلالة قسم عمر أنه لولا مصلحة المسلمين لما حمى شبراً في شبر إذ المراد بقوله في سبيل الله الصالح العام والتعليل في إعطاء هذا الحق للدولة بالمصلحة العامة هو صريح ما ذهب إليه أئمة المذاهب. يقول الشافعي:
 إن حمى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيه صلاح لعامة المسلمين إذ أن الخيل المعدة لسبيل الله وما فضل من سهمي: أهل الصدقة، وما فضل من النعم التي تؤخذ من أهل الجزية ترعى فيه. فأما الخيل فقوة لجميع المسلمين. أما نعم الجزية فقوة لأهل الفيء من المسلمين وملك سبيل الخير أنها لأهل الفيء المجاهدين واما الإبل التي تفضل عن سهمان أهل الصدقة فلا يبقى مسلم إلا عليه صلاح في دينه وفي نفسه ومن يلزمه أمره من قريب أو عامة من مستحقي المسلمين وبمثل هذا عبر غير واحد من الفقهاء واذا كان الحمى في الإسلام إنما يتم لاقتضاء مصلحة المسلمين ذلك، فإن ما تتوقف عليه مصلحتهم من الموارد يمكن أن يخضع لذات المبدأ فتؤممه الدولة لمصلحة المجتمع.
 
ثانياً: امتناع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عن تقسيم أرض السواد واتجاهه نحو تأميم هذا المورد العام وضمه للاستخلاف الاجتماعي وتعليله ذلك بالمصلحة العامة، فقد جاءت الروايات لتبين أن عمر أراد أن يقسم الارض بين المسلمين فقال له معاذ: والله إذن ليكونن ما تكره إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة ثـم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسداً وهم لا يجدون شيئأ فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم فلم يزل عمر يكلم الناس في هذا الأمر حتى صار إلى هذا الرأي وقد كان في كل حجاجه مع المصحابة الذين عارضوه يؤكد أنه إذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فكيف تتمكن الدولة من إدارة دفتها في سد نفقات الدفاع الخارجي وفي سد حاجات المعوزين والعاجزين عن العمل، وكيف يمكن للأجيال المقبلة مواجهة ما يعترضها من أزمات، أو على حد تعبير عمر نفسه (( لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي (صلى الله عليه وسلم) خيبر )) فلم يزل عمر بن الخطاب يصرح بأنه قد عارض عنده حسن النظر لآخر المسلمين قسمتها على الغانمين فيما يتعلق بالأرض خاصة، فوقفها على المسلمين وضرب عليها الخرج الذي يجمع مصلحتهم فتأول قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ) وفي هذا دلالة واضحة على ان المصلحة العامة هي المصلحة الأولى بالاعتبار والأجدر بالرعاية وعندما تتعلق بمرفق من المرافق فيجب أن تجعله الدولة بيدها ولا يصح لها أن تتركه بيد الأفراد.
 
 
ثالثاً: إن قصر الاستخلاف الاجتماعي على تلك الموارد التي تشكل موضوعه وحصره بما جاءت النصوص بآحادها فقط لا ينسجم مع التشريع ولا يحقق الغايات التي يسعى إليها في إقامة التوازن بين مختلف المصالح المتعارضة وبناء مجتمع تضامني، كما لا ينسجم مع مبدأ تقديم المصلحة العامة، ومما يدعم هذا الاتجاه ويقويه أن الفقه الإسلامي أجاز نزع الملكية الخاصة وذلك في حالة احتياج المسجد إليها، واذا اقتضت الضرورة توسعة الطرق العامة نزع ملكية أرض للأفراد مجاورة للطريق العام وفي حالة امتناع المالك تنزع جبراً عليه، واذا جاز نزع الملكية لغرض توسعـة الطريـق العـام أو توسعـة المسجـد فجـواز نـزع هـذه الملكيـة أو تقييدهـا في المصالح الأكثر أهمية والتي يكون أثرهـا علـى الأمة أكبر من الناحية الاقتصادية أولى بالاعتبار وأحق وقواعد الشريعة الإسلامية لا تأبى هذا الاتجاه ولا تتعارض معه بل على العكس فحيثما وجدت المصالح العامة فثم حكم الله وشرعه يقول العز بن عبد السلام: ( المصالح العامة كالضرورة الخاصة ولو دعـت ضرورة واحـدا إلى غصب أموال الناس لجـاز له ذلك بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجـوع، أو حـر أو برد واذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة فمـا الظـن بإحيـاء النفـوس بـل إقامـة هؤلاء ارجح من دفع الضرورة عن واحد ) وهكـذا ومن خـلال مـا تقـدم يتضـح لنـا أنـه إذا دعـت الحاجـة أو اقتضـت الضرورة تأميم مورد من المـوارد واضافتـه إلـى الاستخـلاف الاجتماعـي فإنه يجب على الدولـة القيـام بـه باعتبارهـا ممثلـة للأمـة وحاميـة للصالـح العـام ومنفـذة للقانـون الشرعـي.
 
 
4. مفهوم الحرية الأقتصادية
 
بادئ ذي بدء يجدر بنا أن نشير إلى أن مفهوم الحرية الاقتصادية في الفكر الإسلامي كان مفهومأ عميقأ قد صنع رأيأ عامأ على كل مستويات الدراسات الشرعية سواء على مستوى التفسير، أو شراح الحديث ، أو منظري المدارس الفقهية لدرجة جعلت بعض الكتاب المسلمين يصلون إلى حد الإسراف والمبالغة في الدفاع عن الحرية الاقتصادية حتى بدا أن هذه الحرية باتت تهدد النظام الاقتصادي الإسلامي وتعصف به وذلك من خلال مواقف بعضهم القائلة بمنع المحتسب من التدخل في تحديد الأسعار حتى في الحالات الاحتكارية وأن للمالك الحق في التصرف في ملكه تصرفا مطلقا، وأنه لا معنى للملك التام سوى هذا.
 
والحقيقة فإنه قد عمد غير واحد من كتاب الفقه الإسلامي في تحليل مبدأ الحرية في الإسلام إلى بيان حرص الفقهاء على حرية الشخص الحقوقية للفرد الإنساني باعتبار أن الفرد وحدة مستقلة مرتبطة بالله ارتباطأ مباشرا، وباعتباره مخلوقا وعبدا له دون غيره، ومن هذا فإن أقوال الفقهاء كانت دائمأ تدور على حماية حرية الفرد الإنساني في الجانب الحقوقي، وحماية ملكيته وتصرفه بنفسه وبما يملك ، ومن ثم فإن الفرد في الإسلام هو المقصود بالرعاية والاهتمام وليس المجتمع ، ولا الجماعة ء ولا الأمة ، فليست أي جماعة ، أو أمة بمسؤولة أمام الله تعالى بصفتها الجماعية بل إن كل فرد مسؤول أمام الله بصفته الفردية وعلى هذه المسؤولية الفردية وحدها يتوقف فلاح الإنسان وقيمته.
 
وبنـاء على هذا فإن المجتمع في نهاية المطاف هو الذي يخدم الفرد، وليس الفرد هو الذي يخدم الجماعـة، فالمقصود الأصلـي من الحياة الاجتماعية ليـس المجتمع ورفاهيته وسعادته بـل المقصود الأساسي هو رفاهية الأفـراد وسعادتهم. فالمقياس الحقيقي لصلاحية نظام الجماعة واعتباره صالحاً أو غير صالح هو إلى أي حد يساعد أفراده وينمي مواهبهم، ويرتقي بكفاءتهم الذاتية ومستـوى إنجازهم ومن ثـم فـأن الاسلام لا يرسم صـورة للتنظيـم الاجتماعـي، أو مشروعـاً للفـلاح الاجتماعى وذلك من خـلال جعـل الفـرد مشـدوداً شـداً محكماً بنظام الجماعـة ليصبح الفرد فى النهاية مجرد رقم فى هذا التنظيم الاجتماعى، أو آلة صماء فى جيش المقهورين يحرك أزرارها الزعمـاء، ومن هنـا يصبح الإنسان ليس بحاجه ماسـه إلى الحريـه الاقتصادية أو بتعبيـر أخـر حريـة المعاش، لأن من لم يكن حرأ فى معاشه لا حرية له أصلاً، ويلعب نظام السوق وآليته الدور البارز و الأساس في الاقتصاد الإسلامى.
 
ولعـل هذا التحليل النظرى للحربه يجد أسسه في أن المسؤولية الفرديه مقرره فى الإسلام على نحو صريح وبآيات مكرره تحيط بأنواع المسؤولية من جميع الوجوه، فلا يحاسب إنسان بذنب إنسان ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ولا يحاسب الإنسان بغير عمله ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ  ) وربما كانت هذه الآراء النظرية ترجع والى حد ما إلى تلك التقاليد الاجتماعية التي كانت تقدم ضمانات اجتماعية كبيرة لحريـة الافراد الاقصاديه حتى في الأوقات التى ضاقت فيها الحرية السياسية، وقـد كانت البحوث الفقهية المدرسية ضمانأ قانونيا لحريه الأفراد الاقتصادية ، وكذلك كان القضاء باعتبار أنه كان يعتمد والى حد ما على الفقه الإسلامي خصوصاً في مذاهبه المعروفة.
 
والواقع أن حق الحرية الاقتصادية للأفراد، وصيانه نشاطهم الاقتصادي قد تقرر في العديد من النصوص ولعـل فى مقدمتها حديـث النبى (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع والذى جـاء فيـه ( إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) ومن هنا ركز الإسلام في مراحله الأولى والمبكرة على حماية هذه الحرية وضمانها بكل تشريعاته التي أبقت هذه الحرية مصانة من العبث والتعدي، وذلك من خلال تحريم السرقة والاختلاس، والاعتداء على ملك الغير، وغصبه، أو إتلافه، وأوجبت في كل ذلك العقوبات في حال المسؤولية العمدية، وضمان المتلفات وتعويضها في حال المسؤولية التقصيرية، وربما كان في رفض الرسول (صلى الله عليه وسلم) ان يسعر على الناس حوائجهم -عندما غلت الأسعار على عهده مبررا ذلك بعدم انسجام التسعيرة الجبرية مع مبدأ العدالة الذي يقضي بان يبيع البائع سلعته بالسعر الذي يصل إليه التعامل في السوق الحر- ما يؤكد مقدار اهتمام الإسلام بالحرية الاقتصادية، والحفاظ عليها، إذ ورد عن أنس أنه قال: غلا السعر على عهد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: يا رسول الله سعر لنا فقال: ( إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق واني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة ولا مال ) .
 
وهكذا تأسست الحرية الاقتصادية في الفكر الاقتصادي الإسلامي على تأريخ طويل وعبر قرون طويلة من الممارسة، وكانت مقوماتها الفكرية الأساسية مرتبطة بأصل العقيدة نفسها التي اعترفت بحرية التملك، وذلك في إطار نظرية الاستخلاف وبحق المالك في التصرف في ملكه والاحتفاظ به بحيث يتمكن من الانتفاع به بكل الطرق السائغة له شرعأ، وفي الحدود التي رسمها الشارع فـ((الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئأ منها بغير طيبة أنفسهم إلا في المواقع التي تلزمهم )).
 
والحقيقة فإنه مع إيماننا العميق بالحرية الاقتصادية وأنها ترتكز في مقوماتها الفكرية إلى أصل العقيدة الإسلامية فإننا لا نعتقد وليس بإمكاننا أن نعتقد سلامة التحليل الذي تبناه بعض الكتاب المسلمين في اعتبار الفرد هو الغاية نعم نعتقد أن الفرد غاية لا باعتبار فرديته لكنه غاية باعتباره لبنة في البناء التكويني الاجتماعي، ويشكل وحدة من عناصره الفعالة ، ومن ثم فليس المجتمع هو الذي ينبغي له في النهاية أن يكون خادمأ للفرد، أما الاحتجاج بمسئوليته باعتبار فرديته أمام الله فهو ما ينسجم مع قاعدة التكليف وهذا ما نقول به ونعمل بموجبه ولكن هذا  لا يعفي الفرد من مسئوليته وممارسة نشاطه بما يخدم المجتمع ويحقق غاياته ، لأن من تمام المسؤولية الفردية، هو تكافل الأمة في المسؤولية العامة ، لأن الأمة قد تصاب جميعأ بضرر جناه عليها بعض أبناثها فمن واجب كل فرد أن يدفع الشر عن نفسه وعن غيره، ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة ) وعلى كـل فرد أن يبذل في دفع الشر جهد ما يستطيع ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) ولعـل في تقييد الحق الفردي عموما والحرية الاقتصادية واحدة منها بأن تعمل في إطار المشروعية وما رسمه الشارع له دلالة قوية في أن الشارع قد جعل هذا الحق خادما للمجتمع ويسعى إلى تحقيق غاياته، وفي حديث السفينة الذي ذكره النبي (صلى الله عليه وسلم) ما يؤكد هذه المسؤولية، وشركة الأمة العامة فيها والذي فيه ( مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وصار بعضهم في أعلاها فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاهـا فتـأذوا به، فأخـذ فأسـا فجعـل ينقر أسفل السفينـة فأتوه فقالوا: مالك؟.. قال: تأذيتم بي، ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه نجوا ونجوا أنفسهم وان تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم ) فواضح أن الذي أراد خرق السفينة إنما كان يتصرف في خالص حقه وملكه بدلالة قوله ( استهموا سفينة ) أي: اقترعوها فأخذ كل واحد منهم نصيبه من السفينة، وهكذا تحددت حرية الفود ضمن الإطار الذي يحقق مصلحة الجماعة، ويتطابق مع غاياتها وأهدافها.
 
ومن هنا فإن تعاريف الفقهاء للملك قد جاءت لتؤكد هذا المعنى وتدعمه، إذ جاء تعريفه عندهم بأنه تمكن الإنسان شرعا بنفسه، أو نيابة عنه من الانتفاع بالعين، ومن أخذ العوض، أو من تمكنه من الانتفاع خاصة، فهذا التعريف يبين أن الملك هو التمكن من الانتفاع وهذا إنما يتم بسلطان من الشارع، فالملك في حقيقته وجوهره هو منحة الشارع الذي أعطى الإنسان الملك بترتيبه على السبب الشرعي، فهو حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العوض عنه وتعريفات الفقهاء وان اختلفت في المبنى إلا إنها متحدة في المعنى وفي تأكيد أن الإنسان مستخلف فيما يملك وهذا يؤكد ما سبق وأن قررناه من أنه ليس هناك حق مطلق في الفقه الإسلامي بل ما من حق إلا وهو مقيد بأعباء وتكاليف وقيود ترد عليه لعل في مقدمتها أنه يجب أن يعمل ضمن الحدود المرسومة له شرعا، ومن هنا فإن عبارات الفقهاء ومنطقهم قد سار على وتيرة واحدة ومتصاعدة في أنه متى اصطدم الحق الفردي مع الخير العام أو الصالح العام فإنه يضحى بالمصلحة الفردية في مقابل الصالح العام، فجاءت القواعد الفقهية العامة بمثل قولهم: يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام والتي من فروعها قطع يد السارق لتأمين الناس على أموالهم، ويهدم الجدار الآيل للسقوط في الطريق العام، ويحجر على المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس ويباع مال المدين جبرا عنه إذا امتنع عن بيعه وأداء دينه، وتسعير أثمان الحاجيات إذا غلى أربابها في أثمانها، ويباع الطعام جبرا على مالكه إذا احتكر واحتاج الناس إليه وامتنع من بيعه، ويمنع اتخاذ حانوت حداد بين تجار الأقمشة بل إن الواجب الكفائي و إلزام الأمة مجتمعة بالقيام به على سبيل الإنابة. إنما المنظور فيه هو خدمة الأمة والمجموع والمجتمع، وهكذا فإن الناظر في كتب الفقه يجد أن بينها قاسما مشتركا يجمعها وهو الحفاظ على الحرية الاقتصادية ، والعمل على رعايتها، وتهيئة الظروف الملائمة لتعميقها، ومنع التجاوز في استعمالها، ومتابعة العناصر الاحتكارية في السوق..
 
 
والواقع فإني لست قادرا على تصور أسبقية الفرد على المجتمع بالنظر إليها من زاوية واحدة هي زاوية المسؤولية بل على العكس من ذلك نجد أن زاوية المسؤولية الفردية التي قررتها نصوص الشريعة كان الهدف الأساس منها هو رسم صورة واقعية للحق الفردي، ونطاقه، والمجال الذي يعمل فيه بما لا يصطدم وحق الجماعة أو المجتمع أو المجموع، ومن ثم فإنه ليس هناك مجال للقول بأسبقية الفرد على المجتمع وكذلك العكس، والذي يدفعني إلى هذا أن ما سبق وقررناه يأبى هذا ويرفضه، ذلك لأن فكرة الحق في الفكر الإسلامي قد قامت على أساس ثابت ومرسوم وهو أنه منحة الشارع، ومن ثم فإنه ليس الفرد خادما للمجتمع وليس المجتمع خادما للفرد بل الكل يعمل في إطار المشروعية، ويسعى إلى إقامة التوازن، ولعل هذا واحد من ميزات الفقه الإسلامي وحيويته، وهكذا يكون الفقه الإسلامي قد زاوج بين قاعدتين على غاية كبيرة من الأهمية بين قاعدة الفرد والاهتمام بمواهبه وخلق روح المبادأة عنده وتطوير كفاءاته وطاقاته، وتطوير أدائه، واعتماده كأساس للتنمية، وبين قاعدة مصالح الأمة، وتقرير حقها في كسب الفرد، ووجوب التكافل بين أفراد الأمة، وأن تكون غايات الفرد منسجمة مع الغايات التي رسمتها الشريعة الإسلامية، وبهذا يتحقق التوازن الفعال والمنضبط بين مختلف المصالح الاجتماعية والفردية.
 
ولما كان الحق الفردي والحرية الاقتصادية الفردية واحدة منها مقيدة بضوابط مرسومة شرعا وهي تسعى إلى تحقيق التوازن الاجتماعي فإن هذا يعطي للدولة باعتبارها ممثلة الأمة وراعية تطبيق الحكم الشرعي الحق في تحديد هذه المهمة تحصيلا وانفاقأ أي إنتاجا وإدارة توزيعا واستهلاكا وتأسيسا على كل ما قدمنا فإن القيود التي وردت على الحرية الاقتصادية كانت في حقيقتها وجوهرها تستهدف كفالة حق الدولة في التدخل.
 
إما لمراقبة النشاط الاقتصادي للأفراد، أو لتنظيمه ، أو لمباشرة بعض أوجه النشاط التي يعجز عنها الأفراد أو يسيئون استغلالها، ولعل مظاهر هذه الرقابة هي في آن الوقت تعد السند الشرعي لتدخل الدولة.
 
 
5. الرقابة على الانشطة الاقتصادية ومدى سلطان الدولة فيه
 
ان دور الدولة المباشر في السوق الاقتصادية، وذلك من خلال مشاريع القطاع العام الذي تتبناه الدولة سواء أكان ذلك على مستوى الصناعات الاستخراجية، أو على مستوى الزراعة، أو بتعبير أكثر دقة واجب الدولة في تنمية الموارد الاقتصادية زراعية كانت أو صناعية، واضح من خلال ملكيتها للمعادن الهامة والضرورية ومن خلال سيطرتها على القطاع العام الحمى واقطاعية الدولة واحياء الموات ومن خلال سلطتها في تأميم المرافق العامة عندما تقتضيه ضرورة او تستدعيه حاجة كما حدث على عهد عمر بن الخطاب عندما امتنع عن توزيع سواد العراق في واقعة تأميم مشهورة هذا ما يتعلق في دور الدولة في استثماراتها المباشرة وهناك دور مهم اخر يتمثل ذلك في استثمارات الافراد ودور الدولة في رقابته وأثر ذلك على فعالية السوق وآليته في التعامل، وهذا الجانب يتمثل فيما تقوم فيه الدولة من رقابة وإشراف على حركة السوق، والمعاملات، والنشاط الاقتصادي بوجه عام.
 
والحقيقة فان وظيفة الدولة الرقابية في الاقتصاد الإسلامي تجد مبررها في ذلك النوع من التوجيه الارادي لقوانين المعاملة الاقتصادية، ولقوانين النشاط الاقتصادي بمعنى أن الفكر الاقتصادي الإسلامي لا يفترض أن الوحدات الاقتصادية ستتوجه وبسذاجة وعفوية تدفعها في ذلك يد خفية نحو التوازن الاقتصادي، وتحقيق الأهداف دون توجيه إرادي مخطط ومرسوم ، وفي أن الوقت على غاية كبيرة من الدقة في الرقابة والإشراف، ذلك لأن هذه المصلحة من الصعوبة بمكان إثبات صدقها، أو البرهنة عليها، لأنها قد تأسست على مقدمات خاطئة وغير واقعية، لأنها تفترض عدم وجود التناقض بين مختلف الفعاليات الاقتصادية الفردية والجماعية أو بتعبير آخر تفترض عدم اختلاف الخاص والعام، وهو افتراض خاطئ بحد ذاته...
 
وهكذا تكون الرقابة بمفهومها العام هي عبارة عن عملية متابعة دائمة ومستمرة تقوم بها الإدارة بنفسها، أو بتكليف غيرها للتأكد من أن ما يجري عليه العمل داخل الوحدة الإدارية، أو الاقتصادية يتم وفقا للشريعة الإسلامية وقواعدها، ومطابقا للخطط الموضوعة، والسياسات المرسومة، والبرامج المعدة وضمن الحدود المعمول بها لتحقيق أهداف معينة أرادتها الشريعة وقصدتها لتحقيق مفهوم خلافة الإنسان في الأرض....
 
والرقابـة بهذا المفهوم عملية دائمة تبدأ مع كل عمل وتستمر معه لا تتوقف ولا تنتهي، فهـي ليسـت عمليـة متخصصة تقوم بها أجهـزة متفرقة لهـا وتنفرد بها فحسب بـل قد تكون داخليـة في نطاق السلطة التنفيذية نفسها المخولة بفرض التوجيه والإرشاد، وهي بهذا المفهوم عملية تقوم بها جميع المستويات الإداريـة، ولا تقتصر على الإدارة العليا تطبيقـاً لقوله (صلى الله عليه وسلم) ( كلكم رع وكلكم مسؤول عن رعيته ) وان كان جهاز الحسبة واحدا من المستويات الإدارية القوية الذي يلعب دورا مهما وبارزا على المستوى الاقتصادي باعتباره جهاز الرقابة المتخصص بمتابعة النشاط الاقتصادي، او إذا توخينا الدقة فإن وظيفته هي رقابة السوق.
 
وقد تكون الرقابة خارج نطاق السلطة التنفيذية فلا تقع في مستوى من مستويات الإدارة وهي بهذا المفهوم تكون نمطا من أغاط الرقابة الشعبية، أو شكـلاً من أشكالها وذلك عندما يقوم الفرد متطوعا بالحسبة باعتباره واحدا من أفراد الهيئة الاجتماعية المكلفة شرعا بتغيير المنكر، والملزمة شرعاً بالتعاون في أداء الواجب إلا أن هذه الرقابة الشعبية لا تمارس في رقابة الجهاز الإداري للدولة من القمة إلى القاعدة فحسب وانما تمارس الرقابة على النشاط الفردي الخاص في المعاملات الاقتصادية، ومقدار انسجامه في تحقيق التوازن الاجتماعي وتناغمه مع الأهداف المرسومة .
 
ومن هنا تكون الغايات التي تسعى إليها هذه الوظيفة هي تحسين مستوى الكفاءة في إنجاز الأهداف الاقتصادية للدولة، وفي آن الوقت تجد مبررها في أن التوازن المنضبط والفعال على المستوى الاجتماعي والسياسي من غير الممكن تحقيقه إلا إذا كان مستنداً إلى قاعدة اقتصادية قوية، لأن تحقيق الأهداف لا يتم إلا في مستوى عال من النشاط الاقتصادي.
 
ولما كانت قوانين النشاط الاقتصادي كثيرة، ومتداخلة في آن الوقت، إذ أنها تقع في مستوى من مستويات القوانين الاجتماعية، أو السياسية، أو الأخلاقية، أو القانونية، أو النفسية، أو الفكرية، لأن منها ما يتعلق بحرية التعبير أو الرأي، أو الحرية عموما على المستوى السياسي، ومنها ما يتعلق برئاسة الأسرة على المستوى الاجتماعي وبوجود الإنسان والغايات التي يسعى إليها على المستوى الفكري، وبالحلال والحرام في المعاملات على المستوى القانوني وبالأمانة والصدق والإخلاص على المستوى الأخلاقي وبالرغبة بالاستثمار والادخار على المستوى النفسي فإنه من غير الممكن أن نبحث هذه القوانين بأسرها لانها مجال بحوث ودراسات اخرى.
 
ثانياً: القوانين العاملة في النظرية العامة للاقتصاد الاسلامي
 
لما كان هدف هذا العنوان دراسة القوانين العاملة للاقتصاد الإسلامي المنظمة لعملية تدخل الدولة في هذا الاقتصاد حيث استطاعت هذه الدراسة أن تصل إلى عديد من النتائج ولما كان اكتشاف قوانين منظمة لتدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية هو الأكثر أهمية باعتباره هو المحدد لمجال هذه الوظيفة ونطاقها وحدودها، فإننا سنحيل في قراءة النتائج الفرعية إلى كتابنا الدولة ووضيفتها الاقتصادية في الفقه السياسي الاسلامي في كل موضوع من موضوعاته إذ أن لنا فيه نتائج مهمة وسنكتفي بالتركيز على ثلاثة قوانين عاملة استطاع هذا الكتاب اكتشافها وإثباتها مما يمكن القول معه أنه يشكل أساس بناء نظري كامل في هذا الإطار.
 
 
1. القانون الأول: التوجيه الإرادي
 
يفترض هذا القانون أن العمليات الاقتصادية من غير الممكن لها أن تسير بتلقائية ساذجة تدفعها إلى ذلك يد خفية أو يحكمها قانون طبيعي يشبه قوانين النظام البيولوجي الذي يتصف في العادة بالجبرية ومن ثم فإن النظام الاقتصادي الإسلامي لا يصور فيه الاقتصاد بصفته نظاما تعاونيا تؤدي فيه القوانين الاقتصادية مهمة تحويل سعي الأفراد إلى تحقيق مصالحهم بتلقائية غبية أو جبرية لها حكم الضرورة.
 
ومن ثم فإن العمليات الاقتصادية يجب أن تناط بجهة قادرة على توجيه هذه العمليات لتحقيق أهدافها الاجتماعية. ومن هنا غاير النظام الاقتصادي الإسلامي الرأسمالية التي تقول بالتلقائية وخالف النظريات الاجتماعية الذاهبة إلى جبرية قوانينها العاملة مثل قاعدة: التضامن الاجتماعي التي قال بها ( دوجي ) وقاعدة التركيب العضوي التي نادي بها كونت ولعل هذا القانون وجد أسسه المنشأة له من خلال موضوع الإنتاج وهدفه ومفهوم الحاجة ووسائل سدها والبلوغ بها إلى حد الكفاية وكذلك يجد أسسه في أن الحق وحق الملكية على وجه الخصوص منظور إليه أنه محمل بأعباء وتكاليف اجتماعية ومقيد بأن يتناغم وينسجم مع الغايات والأهداف التي تسعى إليها الشريعة الإسلامية.
 
وهذا التوجيه الإرادي نجده واضحا من خلال تدخل الدولة في فرض التسعيرة الجبرية عند الحاجة وفي مكافحة الاحتكار والأنشطة المعوقة لقوانين السوق.
 
ان هذه الازمة الاخيرة والتي كان واحداً من اسبابها الرئيسة المضاربات الوهمية والصورية وطرق الاحتيال والنصب قد اثبتت ان ما قدمته الشريعة الاسلامية من مبادئ متمثلة في تحريم النجش وبيع الانسان ما ليس عنده وبيع الغرر الذي تندرج تحته صور كثيرة مثل بيع المجهول وبيع ما لا يملك وبيع ما لا يقدر على تسليمه وغيره هو الضمان الحقيقي لعدم حدوث مثل هذه الكوارث والازمات ولعل ما ذهبت اليه الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية وهي اعلى هيئة رسمية في فرنسا منوط بها مراقبة نشاطات البنوك والذي يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية واشتراط التقابض في اجل محدد بثلاثة ايام لا اكثر من ابرام العقد يفصح عن قدرة الاقتصاد الاسلامي و واقعيته.
 
 
ويمكن القول بأن هذا القانون يتصف بالمرونة إذ هو يختلف ضيقا واتساعا مع طبيعة الظروف ونمو موارد المجتمع وتطورها وطبيعة الظروف المحيطة بالعمليات الاقتصادية . وفي كل هذا نحيل إلى كتابنا الدولة و وضيفتها الاقتصادية في الفقه السياسي الاسلامي.
 
 
2.     القانون الثاني: الرسم المنهاجي
 
يمتاز الاقتصاد الإسلامي بأنه مرسوم منهاجياً بمعنى أن القوانين الاقتصادية فيه لا تسير بعفوية من حيث توزيع الموارد أو من حيث ممارسة الحقوق وبالتالي فإن حق الدولة ليس بأعلى من حق الفرد والعكس صحيح.
 
ولعل هذا القانون يتجلى بوضوح في أكثر من موقع في هذا الكتاب حين يناقش موضوع الحق من حيث مفهومه ونطاقه والمجال الذي يعمل فيه ومصدر الحق ومنشؤه وأنه منحة الحكم الشرعي يستوي في ذلك الفرد والأمة والدولة وأنه لا وجود لحق فردي مطلق . وكذلك حين يناقش مفهوم الدولة ووجود السلطة السياسية والطبيعة القانونية لعقد البيعة وأن ظهور سلطة سياسية إنما هو قائم ومؤسس على نظرية العقد السياسي وكذلك حين يناقش مقر السيادة وأن السيادة للشريعة الإسلامية في ظل مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي وأنها دولة قانونية أو حكومة قانونية نوموقراطية وان السلطة الحاكمة فيها مستمدة من الأمة فهو مستناب عنها في تنفيذ الحكم الشرعي.
 
ومن ثم فإن وظاثف الدولة والوظيفة الاقتصادية منها على وجه الخصوص مرسومة منهاجيا في الاقتصاد الإسلامي.
 
وكذلك حين يناقش وظيفة الدولة الزراعية من حيث إحياء الموات واشتراطه إذنية الدولة ومن حيث إقطاعية الدولة والحمى باعتباره يتمثل فيه دور الدولة في القطاع العام الزراعي وفي تنظيمه للموارد المائية من حيث عمارتها والإنفاق عليها.
 
وكذلك حين يناقش وظيفة الدولة في الصناعات الاستخراجية إذ يرسم وبصورة منهجية ملكية المعدن وطرق استثماره ويقيم لذلك معايير دقيقة
 
ويتجلى الرسم المنهاجي في تقييد المباح وذلك بمكافحة الوسيط الانتهازي وبرسم موضوع الإنتاج وترتيب الحاجات بطريقة معيارية ورسم مفهوم الكفاية ورسم وسائل سد الحاجة.
 
ان واحدة من اهم فصول هذه الازمة التي بينا اسبابها فيما تقدم هي قيام البنوك بتوريق الرهون العقارية وكل القروض المتعثرة حيث قامت البنوك بعرض بيع خداعي لهذه الرهون شبه الممتازة في صورة سندات الى مؤسسات مالية مثل ( فريدي ماك ) و ( فاني ماي ) ومن ثم قامت الاخيرة بوضعها في مجمعات من الرهون العقارية وبيعها الى صناديق استثمارية وكذلك الى عامة الجمهور معتبرة اياها استثمارات رفيعة الدرجة تتميز بحد ادنى من المخاطر وهذه هي الافة التي كانت سبباً في تفاقم الازمة الاخيرة اذ لم تكن الحركة النشطة للاقتصاد الامريكي في الفترة الاخيـرة الا سلسلـة من الديـون المتضخمة التي لم يكن لها اي ناتـج في الاقتصاد الفعلي حيث كانت عبارة عن اوراق من السنـدات والمشتقات والخيـارات يتـم تبادلهـا والمضاربـة عليهـا فـي السوق الثانويـة وهذه الانشطة تعـرف في الفقه الاسلامي ببيـع الديون وهـو ممنوع شرعاً الا بضوابط تمنـع الزيـادة الربويـة والعمليـات الصورية ويعرف اقتصادياً بالتوريـق ويقصد بـه تحويـل القـروض وادوات الديـون غيـر السائلـة الـى اوراق مالية قابلة للتـداول في اسواق المال وجميع هـذه الانشطـة المتقدمـة ممنوعـة شرعـاً وتأسيسـاً على هـذا يتبيـن لنـا ان الاقتصـاد الاسلامـي هـو الاقتصـاد الامثـل للبشرية لانـه يحـدد بعنايـة ودقـة الحـدود التـي يعمـل فيهـا الفـرد وبطريقـة مرسومـة منهاجيـاً.
 
 
3.     القانون الثالث: التلقائية المستهدفة موضوعياً
 
يفترض هذا القانون أن هناك قوانين في السوق قادرة على قيادة العمليات الاقتصادية إذا ما توفرت لها شروط المنافسة المتكافئة، ومن ثم فإن تدخل الدولة ربما كان مفسدا لهذه القوانين أكثر مما يفيد العملية الاقتصادية.
 
وتأسيساً على هذا عمد الاقتصاد الإسلامي من خلال الدولة على تهيئة الظروف المناسبة للمنافسة المتكافئة، ومن ثم أراد لطرفي العملية الاقتصادية أن يتصرفا بعفوية دون تدخل من عوامل أخرى للتأثير على هذا الطرف أو ذاك.
 
ومن هنا أشر الفقه الإسلامي الحالات التي تعيق حرية التنافس وتمنع من التصرف بتلقائية بالتأثير على خيارات الفرد بالتغفيل والتدليس أو بالسمسرة والوساطة .
 
ويتجلى هـذا في حجب الوسيـط الانتهازي وتحريـم حجـب المعلومـات عـن أحـد طرفـي العمليـة الاقتصادية وإيجاب توفير الدولة للمعلومات التي تزيل الجهالة لذلك حرم تلقي السلع والنجش وأباح لمن تعاقد مع الجهالة حق فسخ العقد لعدم توفر المعلومات أو تزييفها فشرع خيار العيب وخيار الغبن وفي كل ذلك كان لنا نتائج مهمة.
 
وبالجملة فإننا نعتقد أن هذه القوانين الثلاثة توصل إلى نتيجة مفادها أننا لا نرى سببا واضحا يدعو الدولة إلى تبني سياسة تشتمل على القسم الأعظم من الحياة الاقتصادية للجماعة فلا مصلحة للدولة في أن تتكفل بسياسة واسعة على مستوى النشاط الاقتصادي ذلك لأن الدولة متى ما تمكنت من تحديد الحجم الإجمالي للموارد المخصصة لزيادة هذه الوسائل والمعدل الأصلي للمكافحة الممنوحة فإنها تكون قد قامت بكل ما هو ضروري.
 
وهكذا أثبتت هذا الدراسة من خلال قوانينها العاملة التي قررتها وبرهنت على صلاحيتها، أن الشريعة الإسلامية قد توصلت إلى نتائج من الكفاءة والقدرة ما جعلها تتميز على كل الأنظمة الاقتصادية إذ غاية ما وصل إليه الاقتصاد الحديث هو قوله بالتدخل المحدود للدولة وفق المعايير التي قدمناها.
 
 
 
 
 
ثالثاً: الاساس النظري للاستهلاك والادخار والاكتناز في الاقتصاد الاسلامي
 
إن أهم ما يميز الاقتصاد الاسلامي انه وضع معياراً على غاية من الدقة فيما يخص واحدا من أهم وأبرز الأنشطة الاقتصادية، وهو الاستهلاك، فإذا كان الاقتصاد التقليدي منذ آدم سميث وحتى وقت قريب ظل ينظر إلى أن التقتير الشديد ينمي الرأسمال، وأن الشخص المقتصد محسن عام، وأن تزايد الثروة متعلق بزيادة الإنتاج، وان الادخار يغني، والإنفاق يفقر الجماعة والفرد في نفس الوقت، وان الحب الفعلي للنقود هو على الصعيد الاقتصادي مصدر كل خير، فهو لا يغني المدخر فحسب، بل أيضا يرفع الأجور، ويؤمن العمل للعاطلين، ويسطر حسناته في كل مكان، وظل هذا الزعم يتجدد بحيث أصبح التشكيك فيه تدنيسا للحرمات، وانتهاكا للمقدسات، وقد قبل الفكر الاقتصادي هذا الزعم مضطراً بعد معارضة شديدة شنها مالتوس وغيره مدفوعين إلى ذلك بعدم قدرتهم على دحض نظرية صندوق الأجور، وان كانت هذه النظرية قد فقدت بريقها وحظوتها اليوم، فإن الاقتصاد الحديث يذهب إلى نقض هذه المبادئ، ويرى عدم صوابها من الناحية المطلقة، بـل وجـد أن اتجـاه المجتمعات المعاصـرة اتجاهـا دائماً نحو البطالـة يعـزى إلــى نقـص الاستهلاك أي: إلى عادات اجتماعية، والى توزيع للثروة يتجليان في ضعف الميل إلى الاستهلاك بل يجد جانب من الاقتصاد الحديث تفسيره للأزمات الدورية في النقص المتزايد في الاستهلاك(1).
 
وبيان ذلك أن هدف الإنتاج هو تقديم البضائع، والخدمات للمستهلكين، وأن العملية تنهج سيراً متصلا منذ البدء بتحويل المادة الأولية حتى استهلاكها، وبما أن منفعة الرأسمال الوحيدة هي إنتاج هذه البضائع والخدمات فإن كمية الرأسمال المستخدم الإجمالي تتحول بالضرورة بتحول الكمية الإجمالية للبضائع، والخدمات المستهلكة في كل وقت، ولكن الادخار يزيل كتلة الرأسمال الموجود في إنقاصه كمية البضائع والخدمات المستهلكة مما يؤدي لا محالة إلى تراكم أعظم من الكمية اللازم استخدامها، ويتجلى الفرق وبوضوح في الفيض العام للإنتاج،  أو بتعبير أكثر دقة إلى ادخار كميات أعظم من قيمة الرأسمال المطلوب.
 
والواقع فإن النظر فيما قدمناه على كلا الاتجاهين ينطوي على قسط كبير من الحقيقة، ولكن من الواضح أنها صحيحة فقط ضمن بعض الحدود، ذلك لأن الادخار إذا بلغ غاية الإفراط يزيل الباعث على الإنتاج بالضرورة، كما أنه يعد من الحماقة بمكان أن نولي أهمية شديدة وكبيرة لنمو الاستهـلاك وذلك في عصـر لا يـزال المجتمع ينتظر فيـه الكثيـر من المنافـع الاجتماعية من زيـادة التوظيف والاستثمار بهـدف عمـارة الأرض وبنائها، والقيـام بواجـب الاستخلاف، والتناغـم مع قوانينه.
 
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عرف الفكر الاقتصادي نظريات عديدة في تفسير الدورة الاقتصادية منها:
1.      نظرية التجديد: وترجع الدورة إلى تتابع التجديدات الغنية العامة في الاقتصاد مثل السكك الحديد والكهرباء والسيارات وهذا ما ذهب إليه جوزيف شوميتر، والفن هتنسين.
2.      النظرية النقدية: وترجع الدورة إلى التوسع والتضييق في خلق النقود الكتابية ومنح الائتمان وهذا ما ذهب إليه هاوترى، وملتون فريدمان.
3.      نظرية نقص الاستهلاك: وتذهب إلى أن جزء كبيرا من الدخل إنما يذهب إلى الطبقات الفتية في المجتمع التي تتميز بكبر ميلها الحدي إلى الادخار بالمقارنة بالطبقات الفقيرة التي يقل عندها هذا الميل، وهذا ما ذهب إليه مالتس وسيموندي، وهوبسون وسويزي.
4.      نظرية زيادة الاستثمار:وترى سبب الكساد في زيادة الاستثمار، وليس في نقصه وهذا ما ذهب إليه، فون ميزس، وفون هايك. وهناك نظريات أخرى.
إن النقطتين المتطرفتين وهما اعتبار الادخار فضيلة، والأخرى التي تعتبر الاستهلاك ضرورة، وأن الادخار يزيل الباعث على الإنتاج هما واضحتان غاية في الوضوح، وهناك بالضرورة نقطة متوسطة حتى لو كانت وسائل الاقتصاد السياسي لا تسمح بتعيينها تلك النقطة الوسط هي ما جاء الاقتصاد الإسلامي بها، وهي ما عبر عنها القرآن الكريم بالوسطية في قوله تعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَا ) (1) وقد تقررت في جانبها الاقتصادي في العديد من النصوص مثل قوله تعالىَ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (2) وقوله تعالى: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ  ) (3) وقوله تعالى: ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) (4) وهكذا وجد الاقتصاد الإسلامي أن سياسة الاستهلاك، وسياسة الاستثمار لا تزيحان أبداً بعضهما بعضا، لأنه ليس هناك ما يمنع من زيادة الاستثمار بل هذا مطلوب على سبيل الوجوب بمقتضى الحكم الشرعي، وقوانين الاستخلاف، وفي آن الوقت يقنن الاستهلاك، ويعمل على ترشيده، بحيث يبقى في مستوى من مستويات الوسطية (5) المعبر عنه في الفقـه الإسلامي بمستوى التوسط، والقناعة كما عبر عنه الظاهرية، لأنهم يفترضون الوسطية في الإنفاق الحلال والمباح كما أنهم يفترضون هذا المستوى في الإنفاق الـذي هو قربـة يتقرب بها إلـى الله باعتباره طاعة، أو بمستوى أعلى من الوسـط فيما نعتقد عند جمهور الفقهاء، نظراً، لأن الإنفـاق فـي المباحات جائز عندهم دون تقيد بمستوى الوسطية، ودون النظر إلى تناسب الإنفاق مع مستـوى دخـل الفـرد وكونـه مما يليـق بحاله أم لا عند بعضهم، وكذلك لا يتقيد الإنفاق في القـرب والطاعـات بمستـوى التوسط والقناعـة، ومما لا شـك فيـه فـأن دائـرة المباحات، ودائـرة الطاعات دائـرة واسعـة يمكن من خلالها ملاحظة نسبة نمو أعلى من الوسط بكثيـر نحـو الميـل إلـى الاستهلاك.
 
على أننا نعتقد أنه من الناحية النظرية البحتة، أن الاقتصاد الإسلامي، والغايات التي يسعى إليها، وهي عمارة الأرض، والقيام بواجب الاستخلاف، سيؤدي بالضرورة إلى نمو مطرد في الاستهلاك، لكنه استهلاك من نمط أخر، إنه استهلاك لبناء استثمار جديد للموارد، واستغلال للطبيعة، بمعنى أنه ليس استهلاكا شخصيا مباشرا بل استهلاك داخل في استثمار جديد، ومن هنا نعتقد أن الاقتصاد الإسلامي قـد تجاوز فيضان الإنتاج بواسطة رفع الاستهلاك في نفس الوقت ليس فقط إلى المستوى
 
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة: 143.
(2) سورة الفرقان : 67، والمراد بالقتر والتقتير، والإقتار: التضييق الذي هو نقيض الإسراف ومجاوزة الحد في النفقة، والقوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما، ونظير القوام من القوامة الاستواء، وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الشيء بمعنى ما تقام به الشيء بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها، ولا ينقص.
(3) سورة الأعراف :31، والمراد بهذه الآية أن الله قد أحل الأكل والشرب في كافة الأحوال والأوقات إلا ما خصه الدليل ما لم يكن سرفا، أو نحيلة . أما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوع وأسكن الظمأ فمندوب إليه عقلا وشرعا، وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة فقيل حرام وقيل مكروه وصحح ابن العربي الأخير.
(4) سورة الإسراء: 29.
(5) يقـول الشنقيطي: في تعقيبه على قوله تعالى: (مما رزقناهم ينفقون) عبر في هذه الآية بمن التبعيضية الدالــة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لأكله، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه،  ولكنـه يبين في مواضع أخرى إن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة، وسد الخلة التي لا بد منها وذلك لقوله تعالى: ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهـب الجمهور، وقال بعض العلماء: العفو نقيض الجهد وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع فقد نهى الله عن البخل بقوله ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) نهاه عن البخل، ويقول : ( ولا تبسطها كل البسط ) و نهاه عن الإسراف فتعين الوسط بين الأمرين كما بينه بقوله : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير، وبين البخل والاقتصاد، فالمنع في محل الإعطاء مذموم والإعطاء في محل المنع مذموم.
الذي يقابل الاستثمار المتزايد، بل أيضا إلى مستوى أعلى منه، وذلك من خلال نمط استهلاكي آخر تفرضه ضرورة الاستثمارات الجديدة وما يتطلبه من حاجة إلى سلع وخدمات متجددة.
 
وتأسيساً على ما تقدم فإننا لا نرى سبباً واضحاً يدعو الدولة إلى تبني سياسة تشتمل على القسم الأعظم من الحياة الاقتصادية للجماعة، فلا مصلحة للدولة في أن تتكفل بسياسة واسعة على مستوى الاستهلاك، ذلك لأن الدولة متى ما تمكنت من تحديد الحجم الإجمالي للموارد المخصصة لزيادة هذه الوسائل. والمعدل الأصلي للمكافحة الممنوحة فإنها تكون قد قامت بكل ما هو ضروري، وهكـذا فإن الاقتصاد الإسلامي لا يجد في الادخار أنه فضيلة مطلقة على المستوى الاقتصادي وهـذا يصدق على الادخار بمعناه البسيط وهو الادخار الذي يكون على شكل سائل نقدي، بل هذا الشكل من الادخار غير مرغوب فيه، ويصطدم مع المنهج الإسلامي أو هو ليس من باب الفضل على أقل تقدير كما يقتضيه قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَـزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِـزُونَ ) (1) بل نعتقد أن الادخار في هذا المعنى يفقد دافعه الموجد له ذلك لأن الاقتصاد الإسلامي يغاير الاقتصاد الحر من حيث تحريمه للفوائد الربوية، ومن ثم يكون الاكتناز بهذا المعنى إهدارا لقيمة الثروة بمرور الوقت ونقصاناً لقدرتها الشرائية من جهة، ومن جهة أخـرى فـأن رأس المـال المكتنز ستـرد عليه فرضية الزكـاة التي قــد تأتي على أصله مـا يجعل الشخص الذي يتخذ قراراً بالادخار يتخذ في نفس الوقت قرارا بالاستثمار، وهكذا فإن عملية اقتطاع جزء من الدخل وحجبه عن التداول سواء لوضعه في المصارف أو اكتنازه في أقبية القصور وذلك بانتظار المقترضيـن فـي الجانب الآخـر أمـر مذموم ورد النـص بالنهي عنه وهـو في هذا لا يستحق حرماناً من المكافأة باعتباره عنصراً من عناصر الإنتاج بل تقع عليه عقوبة في الاقتصاد الإسلامي وهي عقوبة ورود الزكاة عليه التي قد تأتي على أصل رأس المال ، ومرد هذا النظر هو أن المكتنز
 
ــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) سورة التوبة : 34 – 39، ويلاحظ أن ما أثبته في الأصل هو الحد والأدنى المتفق عليه عند جميع المفكرين الإسلاميين. وقد اختلفوا فيما وراء ذلك اختلافا واسعا، ومنذ فترة مبكرة ترجع إلى عصر الصحابة، إذ عرف الفكر الإسلامي اتجاهين في تحديد ماهية الاكتناز الحرام:
الاتجاه الأول :
ويذهب إلى حمل النصوص، والآية منها، على إطلاقها، فلا يرى ادخار شيء أصلا، ويعتقد أن كل مال مجموع يفضل عن القوت، وسداد العيش فهو كنز سواء أديت زكاته، أو لم تؤد، وأن أية الوعيد إنما نزلت في ذلك ،  هذا ما ذهب إليه الأقلون من علماء الصحابة وعلى رأسهم أبو ذر كما وردت عنه أثار كثيرة تدل على ذلك . منها، ما أخرجه البخاري في صحيحة في كتاب الزكاة باب ما أدي زكاته فليس بكنز 7/ 15 2 ونصه : عن زيد بن وهب قال: مررت بالربدة قال فأذا أنا بأبي ذر - فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا ؟.. قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب، فقلت : نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك وكتب إلى عثمان يشكوني الخ...
ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما في رواية الأحنف بن قيس قال : جلست إلى ملا من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال : بشر الكانزين برضف يحمى عليهم في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نفض كتفه ويوضع على نفض كتفه حتى يخرج من ثديه تنزل، ثم ولى فجلس إلى سارية فتبعته وجلست إليه، وأنا لا ادري من هو؟ فقلت له : لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت. قال : أنهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي. قلت : ومن خليلك ؟.. قال النبي (صلى الله عليه وسلم): يا أبا ذر تبصر أحدا ؟.. قال : فنظرت إلى الشمس ما بقى من النهار، وأنا أرى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرسلني في حاجة له قلت : نعم ، قال : ما أحب أن لي مثل احد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاث دنانير. ان هؤلاء لا يعقلون أنما يجمعون الدنيا، ولا والله لا يسألهم دينا ولا استفتيهم عن دين حتى ألقى الله . صحيح البخاري، كتاب الزكاة باب ما أدي زكاته فليس بكنز وصحيح مسلم كتاب الزكاة باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة: ويؤيد ما تقدم ما روي عن الامام علي قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما كثر فهو كنز وان أديت زكاته. =
بسحبه للمال وحجبه عن التداول يكون قد تعسف في استعمال حقه وقد مارس نشاطا اقتصاديا فيه اعتداء على المجتمع وظلم له وذلك لما يشكله هذا النشاط من خطورة على الدورة الاقتصادية لأنه عطل النقود عن أداء دورها كوسيط في التبادل والتداول يقول الغزالي ((من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا أكمل الغرض المقصود به،  وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة، ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي)).
 
 
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الاتجاه الثاني:
ويذهب إلى أن الكنز المذموم هو ما لم تؤد زكاته . أما ما أديت زكاته فليس بكنز مهما بلغ ، وهذا ما ذهب إليه الأكثرون من علماء الصحابة ، وما درج عليه التنظير الفقهي بعدهم ويشهد له ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، ومسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله، واللفظ للبخاري أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بشدقيه، ثم يقول : أنا مالك، أنا كنزك، صحيح البخاري كتابه التفسير باب الذين يكنزون الذهب والفضة : 8/ 243، وصحيح مسلم كتاب الزكاة باب أثم مانع الزكاة / 7/ 72، وموطأ مالك باب ما جاء في الكنز2/126. ويؤيده ما روي أن أعرابيا سئل عبد الله بن عمر عن قوله تعالى: (واللذين يكنزون الذهب والفضة) الآية. قال ابن عمر:من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له ، أنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهرة للأموال . صحيح البخاري باب ما جاء في الكنز/ 2/ 125. وكذلك يؤيده قوله عليه الصلاة والسلام:  ((ليس فيما دون خمسة أوراق صدقة ، ولا فيما دون خمسة ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أواق صدقة ))  صحيح مسلم كتاب الزكاة :7/50. ووجه الاستدلال به إن الكنز المنفي هو المتوعد عليه الموجب لصاحبه النار، لا مطلق الكنز الذي هو اعظم من ذلك ، وإذا تقرر هذا فأن مفهوم الحديث إن ما زاد على خسة أوراق ففيه الصدقة ، ومقتضاه إن كل مال أخرجت منه الصدقة فلا وعيد على صاحبه ، فلا يسمى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزا ذلك ، لأن الله تعالى قد أوجب على لسان رسوله ربع العشر في كل خمسة أوراق ، وكذلك أوجب في كل عشرين مثقالا من الذهب ربع العشر، ولو كان فرضا إخراج جميع المال، وحرام اتخاذه لكانت زكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا الخروج بربع العشر، تماما كما هو الشأن في المال المغصوب الذي هو حرام على الغاضب إمساكه، وفرض عليه إخراجه من يده إلى يد صاحبه ، فالتطهير إنما يكون برده على صاحبه فلو كان ما زاد على أربعة آلاف درهم عند البعض ، أو ما فضل عن قدر حاجته عند البعض الآخر هو المراد بالكنز المحرم الذي ورد الوعيد به لم يكن اللازم لصاحبه هو ربع العشر، بل كان اللازم له هو الخروج من جميعه إلى أهله ، وصرفه فيما يجب عليه صرفه تماما كما هو الشأن في المال المغصوب.
يضاف إلى ما تقدم أنه كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام جمع كبير من الأغنياء، وكان يعدهم النبي من أكابر المؤمنين، وكذلك فقد ندب الشرع إلى إخراج الثلث، أو الأقل في المرض ولو كان جمع المال محرمـاً لكان قـد أمـر المريض أن يتصدق بكل مالـه. هذا وقد حـاول غير واحد من الشرعيين التوفيق بيـن كـلا الاتجاهيـن منهم صاحب الفتح الذي يذهب إلى أن الجمع بين كلام ابـن عمر، وحديث أبي ذر، أن يحمل حديث أبي ذر على مال تحـت يـد الشخص لغيره فلا يجب عليه أن يحبسه عنه، أو يكون لـه لكنه يرجى فضله، وتطلـب عائداتـه كالإمام الأعظم فلا يجب أن يدخر عن المحتاجين من رعيته شيئا، ويحمل حديث ابن عمر على مال يملكه وقد أدى زكاتـه فهو: يجب ان يكون عنده ليصل به قرايته ويستغني به عن مسألة الناس. وقد حاول القرطبي في تفسيره: أن يجمع بين الاتجاهين بقوله (( ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر هذا أن الآية قد نزلت في وقت شدة الحاجة ، وضعف المهاجرين ، وقصر يد الرسول عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم ، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم، منهى عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة ، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت )) وبمثل هذا أو قريب منه حاول غير واحد من المفسرين وشراح الحديث الجمع بين كلا الاتجاهين منهم النيسابوري في تفسيره ومنهم الرازي في تفسيره: والزمخشري في تفسيره. وثمة اختلاف أخر في المراد بمدلول الكنز وما يصدق عليه، فإذا كانت اللغة تفيد ان الكنز هو المال المجموع سواء كان فوق الأرض أو تحتها، لان مادة كنز تفيد مطلق الجمع عند الفقهاء من علماء اللغة. أساس البلاغة للزمخشري: ( كنز )، والقاموس المحيط للفيروز ابادي ( كنز )، والصحاح للجوهري ( كنز ) فأن الفقهاء قد اختلفوا في مدلوله الشرعي =
ويلاحظ أن الاقتصاد الإسلامي لا يفرق في حجب المال عن التداول بين اقتطاع جزء من المال سواء وضعه المقتطع في المصرف أو في أقبيته الخاصة فالكل مذموم ولا يكافأ على احتجازه وحجبه.
 
أما في حالة تعريف الادخار على أنه استثمار لاحق، وأن الاستثمار في حقيقته وجوهره ادخار لكنه نوع أخر فان الاقتصاد الإسلامي هو الذي أراد هذا وتبناه، وذلك إنما يتم باقتطاع جزء من رأس المال بهدف توظيفه في عملية استثمار جديدة، على أننا نسجل ملاحظة مهمة وهي أن النظر في قرارات الادخار ودوافعها النفسية أو الذاتية في الاقتصاد الحديث نجدها لا تتطابق مع البناء التكويني للفرد المسلم.
 
فإذا كان الاقتصاد التقليدي، قد نحا إلى تبسيط قرارات الادخار، والظروف المحيطة بها، فقام بتصويرها على أنها مجرد اختيار بين الاستهلاك الحاضر، والاستهلاك في المستقبل، ومن ثم أبرز فضائل الحرص على المال، فإن الاقتصاد الحديث قد جلب معه جوا من الواقعية في دراسة هذه الظروف فقد اعتبر قرارات الاستهلاك أو الادخار أكثر بكثير من مجرد الاختيار بين الحاضر، والمستقبل ، فالفرد الذي يقرر أن يدخر غالبا ما يكون دافعه إلى ذلك شعور بالتكبر، أو شراهة إلى المال، أو أن يرغب المرء ان يكون له من الثروة ما يكفي لرفع رأسه عاليا، أو لمجرد إرضاء غرائز البخل الموجودة لديه، أو لتكوين احتياطي لمقابلة مصاعب غير منظورة مثل المرض والبطالـة، ومع ذلك فإن الاقتصاد الحديث يعتقد أنه لا يلزم أن تكون كـل هذه الدوافع الشخصية مـن
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى سبعة أقوال هي:
1.      أنه المجموع من المال على كل حال . ووجه هذا القول ما أخرجه البخاري في صحيحة في كتاب الزكاة باب إثم مانع الزكاة، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : يأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط فيها حقها تطؤه بأخفانها وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها تطئه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، قال : ومن حقها أن تحلب على الماء، قال : ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته فيها يعار، فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت ، وبنحو هذا أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الزكاة باب إثم مانع الزكاة
2.      انه المجموع من النقدين، ووجهه أن الكنز إنما يستعمل لغة في النقدين ويعرف تحريم غيره، بالقياس عليه.
3.      أنه الجموع منهما ما لم يكن حلياً: ووجهه أن الحلي مأذون في جمعه واتخاذه زينة دون تعلق حق فيه.
4.      أنه المجموع منهما دفينا، ووجه قوله عليه الصلاة والسلام في الإبل ومن دفن دينارا أو درهما أو تبرا، أو فضة لا يدفعها بعده لغريم، ولا ينفقها في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة.
أنه المجموع منهما ما لم يؤد زكاته: ووجهه ما أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الزكاة باب ما أدي زكاته فليس بكنز وذلك أن أعرابيا سأل ابن عمر عن قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) الاية، فقال من كمزها فلم يؤد زكاتها فويل له إنما كان هذا قبل ان تنزل الزكاة ، فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال.
5.      أنه المجموع منهما ما لم تؤد منه الحقوق : ووجهه ما أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الزكاة باب إثم مانع الزكاة: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ما من صاحب ذهب ولا فضة يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صحائف من نار فاحمي عليها في نار جهنم فكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره كلما بردت أعيدت له يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله، إما الى الجنة، وإما إلى النار، وبنحو هذا قال النبي (عليه الصلاة والسلام) في الإبل، والبقر، والغنم، والكنز، وقد ورد في هذه الأحاديث أن النبي سئل عن حقها، فقال: إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحتها، وحليها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله .
6.     أنه المجموع منهما ما لم ينفق ويهلك في سبيل الله ، ووجهه أن الحقوق أكثر من الأموال ، وليس الزكاة قادرة على الوفاء باحتياجات المساكين فكنز المال دون ذلك ذنب وأثم.
النوع الذي يؤدي إلى تقليل الاستهلاك، فمن الجائز جداً أن يؤدي بعضها إلى زيادة الاستهلاك فقد تدعو الرغبة في الطهور مثلا إلى زيادة في الإنفاق، ويلاحظ أن المنشآت أيضا لها دوافع مشابهة تدفعها إلى إنفاق القليل، أو الكثير.
 
والحق فإنه باستثناء دافع واحد وهو دافع تكوين احتياطي لسد حاجة، أو دفع ضرورة، فإن بقية الدوافع تفصح عن روح أنانية يرفضها الإسلام الذي طلب من معتنقيه أن يكونوا على درجة عالية من الإيثار ونقاء السريرة، وخلوص النية في العمل لغاية أخروية مبرئة من عوامل الأثرة، وتقديس الذات.
 
 
 
رابعاً: سعر الفائدة ( الربا )
 
ان فكرة سعر الفائدة مبنية على اساس نظرة كل نظام اقتصادي لعناصر الانتاج والتوزيع الوظيفي لهذه العناصر وقد اختلفت النظم الاقتصادية لتعريفها وتقسيمها لعناصر الانتاج وما اصطلحوا عليه بالتوزيع الوضيفي او مكافئة عناصر الانتاج ذلك ان النظم الاقتصادية لا تسير على نسق واحد في نظرها الى هذا الموضوع.
 
1. فعناصر الإنتاج في الاقتصاد الرأسمالي أربعة هي العمل وعائده الأجر والطبيعة وعائدها الريع ورأس المال وعائده الفائدة والمنظم وعائده الربح ويتحدد وفق قانون العرض والطلب.
 
2. أما في الاقتصاد الاشتراكي فإن عنصر الإنتاج الأساسي هو العمل وعائده الأجر أو الراتب الذي تحدده السلطات الرسمية بقرار أداري فهي وان كانت تعتمد معيار العرض والطلب في تحديده ألا أنها لا تتقيد بهذا القانون بل هي تتحدد بخطة التنمية الاقتصادية المعتمدة . أما بقية عناصر الإنتاج فهي وان كانت موجودة في العملية الإنتاجية إلا أن عوائدها تنتقل إلى الدولة تتصرف فيها حسب خطة التنمية المعتمدة.
 
أما عناصر الإنتاج في الفقه الاقتصادي الإسلامي فإن نظرته المذهبية لهذه العناصر تختلف عن نظرة الاقتصاد السياسي التقليدي اختلافا جذريا وأساسيا وذلك على الرغم من ذلك التشابه الظاهري بين بعض العناصر التي يتركب منها الإنتاج في كل من الاقتصاديين الإسلامي والغربي وقد عرف الفقه الاقتصادي الإسلامي الحديث ثلاث اتجاهات رئيسية في تحديد وتعريف عناصر الإنتاج.
 
الاتجاه الأول: ويذهب إلى تصنيف عناصر الإنتاج بنفس الطريقة التي نجدها في أي كتاب غربي يبحث في اقتصاديات الوحدات الصغيرة فيقسمها على أنها الطبيعة الأرض والعمل المنظم ورأس المال ويلاحظ أن عنصر رأس المال له مفهوم خاص يختلف عن مفهومه في الاقتصاد الغربي وكذلك تختلف النتائج المترتبة عليه كما أن عنصر العمل في النظرة الإسلامية يتسم بخضوعه لتنظيم معين. ويلاحظ أن التقسيم الكلاسيكي لعوامل الإنتاج قد أثار انتقادات عديدة على مستوى الاقتصاد الحديث لعل في أولها هو اننا إذا حاولنا تحديد ذلك بالبحث في المصدر النهائي لكل جزء من العوامل الإنتاجية فإننا سنثير مسائل تاريخية يصعب معها أن نقرر أي العوامل الإنتاجية كان من صنع الإنسان وأيها لم يكن كذلك كما حو الشأن في الأرض الزراعية الصالحة للزراعة.
وثمة نقطة أخرى وهي أن هذا التقسيم قد جمع في مجموعة واحدة مفردات غير متجانسة فالطبيعة على حسب هذا التقسيم تشمل الأرض وما عليها من موارد الثروة وهذا ما حدا ببعض الاقتصاديين المحدثين إلى دمج الأرض ضمن نطاق رأس المال وربما دمجوا التنظيم في العمل.
 
الاتجاه الثاني: ويذهب إلى عدم اعتبار رأس المال عنصراً من عناصر الإنتاج ومرد هذا الاستبعاد يرجع إلى سبب فني من وجهة نظرهم وهو أن رأس المال يعتبر في حقيقته مالا منتجا أي مالا تم إنتاجه من قبل وليس عنصراً أصيلاً من العناصر التي يتركب منها الإنتاج وربما كانت دوافع بعضهم في إنكار دور رأس المال في عملية الإنتاج هو خوفهم من أن يعتبر عائده هو الربا المحرم.
 
وفي الحقيقة لا يصح أن يحمل تحريم الربا ( الفائدة ) في الإسلام على أنه يستدعي إنكار كون رأس المال عنصرا من عناصر الإنتاج ذلك لأن رأس المال وان كان لا يعد عنصرا أو حداً. من عناصر الإنتاج إلا أنه يعتبر واحدا من أكثر الضرورات الفنية في الاقتصاد الحديث وهي ضرورات اقتضتها ظروف التقدم العلمي في ميادين الإنتاج فرأس المال أن كان في حقيقته عملا سابقا أي مال تم إنجازه خلال فترة سابقة إلا أنه من ناحية أخرى مال مكرس من جديد في الاستخدام لتكوين أموال أخرى ومن هنا يمكن القول إن رأس المال هو عمل متراكم مخزون متضمن في سلعة تستخدم في معرض إنتاج سلعة أخرى.
 
يضاف إلى هذا أن علم الاقتصاد الحديث نفسه يفرض علينا أن نميز بين رأس المال وبين القرض ومن ثم التمييز بين المكافأة التي تستحق لكل منهما ما يقتضيه مفهوم الفائدة عند الكثير من الاقتصاديين مثل ( فيشر ) و ( باتكسن ) و ( هانسن ) إذ أنها معرفة عندهم على أنها النسبة المئوية للفرق في الأسعار الحقيقية للنقود ما بين نقطتين من الزمن أو كما هو معرف عند ( كينز ) بأنه عكس النسبة القائمة بين مبلغ من العملة وما يمكن الحصول عليه إذا تركنا لفترة معينة حرية التصرف بهذا المبلغ لقاء ذمة ومن ثم يكون سعر الفائدة هو السعر الذي تتفق عنده الرغبة في إبقاء الثروة في شكل سائل نقدي.
 
وهكذا فإن مفهوم الفائدة المتقدم ليس له أية علاقة بالالات والمباني أو بالسلع الإنتاجية. فإذا كانت الفائدة هي مكافأة القرض فلا يمكن ان تكون هي نفسها مكافأة رأس المال بل إن حق رأس المال هو حق شخصي على صاحب المادة المصنعة ولا توجد علاقة بين هذه المكافأة وبين الفائدة بل ولا يوجد أي نوع من التشابه بينهما.
 
الاتجاه الثالث: ويذهب إلى أن عناصر الإنتاج اثنان هو العمل ورأس المال ويلاحظ أن هذا الاتجاه على الرغم من ذهابه إلى ثنائية عناصر الإنتاج إلا أنه يجعل من مفهوم رأس المال مفهوماً شاملاً لمعناه المصطلح عليه عند الاقتصاديين وللمورد الطبيعي وهي الثروات التي ليس للإنسان دخل في وجودها كالأرض والحيوان والماء والمعادن والمناجم.
 
والحقيقة فانه على الرغم من اتفاقنا مع هذا الاتجاه بالجملة لأنه أكثر الآراء دقة وأقربها إلى الفقه الإسلامي إلا أننا نختلف معه في ملاحظته أن رأس المال وحده لا يكون له عائد ألا إذا ساهم مع العمل في الغرم. ومرد هذا الاختلاف أن هذا الاتجاه قد استند في تقسيمه إلى إجماع الفقهاء على توزيع الريع وهو الإنتاج بين العمل ورأس المال كما هو في صورة الشركة، ومعلوم أن الشريك يتحمل الغرم حسب نسبته المئوية المتفق عليها بإرادة الشركاء إلا أننا نختلف مع هذا الاتجاه في أنه جعل من حالة واحدة وهي حالة الشركة قاعدة فذهب إلى أن رأس المال لا عائد له إلا إذا تحمل الغرم مع أننا نلحظ أن هناك احوالا عديدة لا يتحمل فيها رأس المال كما هو مفهومه عندهم غرما ولا أي نوع من مخاطر المشروع على الرغم من استفادة صاحب رأس المال من حصيلة الإنتاج، يدل على ذلك ما سطره الفقهاء من أراء في طرق الاستثمار والتوظيف كما هو الشأن في التوظيف عن طريق إقطاعية الدولة وكما هو الحال في إجارة المورد نفسه والحق فان تصور الاقتصاد الإسلامي لعوامل الإنتاج ومردود هذه العناصر من العوائد وبالتالي نظرية القيمة يعد واحداً من أبرز واهم الخصائص التي تميز الاقتصاد الإسلامي عن كلا الاقتصادين الرأسمالي والماركسي الكلاسيكي.
 
ان النظرية الغربية سواءً اكانت اشتراكية ام رأسمالية تذهب الى ان الفائدة هي عائد رأس المال ومكافأته وبالتالي فهي تعتقد ان الكفاية الحدية لانتاج رأس المال النقدي هو الفائدة والذي يعتبر في الاقتصاد الغربي هو المحرك او الداينمو لنظامه الاقتصادي ولعل الاساس النظري الذي استندت اليه انه لما كان رأس المال النقدي متناهي ومحدود فهو لا يشبه السلع الحرة كالماء والهواء فانه لا يمكن له ان يتراكم وينمو الا من خلال مكافأته بالفائدة وفي حالة عدم وجود الفائدة فأننا سنصل الى المعادلة الصفرية بتأكل رأس المال النقدي.
 
ان الاقتصاد الاسلامي لا يذهب في ذات الاتجاه الذي ذهبت اليه النظرية الغربية وذلك لانه يرى ان مقولة ان الكفاية الحدية لانتاج رأس المال النقدي تتطابق دائما وابداً مع سعر الفائدة مقولة تتسم باللا يقينية ولا يدعمها الواقع اذ اننا نرى انه في كثير من الاستثمارات ربما كانت الارباح المعبر عنها بالكفاية الحدية لانتاج رأس المال النقدي اكبر بكثير من معدلات سعر الفائدة كما انه ربما في مشاريع اخرى تكون الارباح اقل من معدلات سعر الفائدة مما يعني ان تطابق سعر الفائدة مع الكفاية الحدية لانتاج رأس المال يتسم بالايقينية.
 
ومع ان الاقتصاد الاسلامي يتفق مع النظرية الغربية في ان رأس المال النقدي متناهي ومحدود الا انه لا يتفق معها في النتائج التي توصلت اليها.. صحيح ان رأس المال النقدي متناهي ومحدود ولا يشبه السلع الحرة مثل الماء والهواء لكننا في الاقتصاد الاسلامي لن نصل الى المعادلة الصفرية لان عائد رأس المال هو الربح وبالتالي فأن تراكم رأس المال سيتم من خلال ما يحققه من ارباح مشروطاً بأن يدخله العمل وهكذا يكون الربح هو الكفاية الحدية لانتاج رأس المال لانه هو المعادل الموضوعي الذي يتسم باليقينية.
 
ويلاحظ ان هناك تشابهاً ظاهرياً وشكلياً بين الربا والربح باعتبار ان كلا منهما زيادة على رأس المال ولكن على الرغم من هذا التشابه الظاهري بينهما فانه يختلف كل منهما عن الاخر لكون كل واحد منهما ناشئ عن معاملة مالية مختلفة قابلة لان تنتج بطبيعتها وخصائصها ربحاً حلالاً مثل البيع والشركة والاجارة او رباً محرماً مثل اخذ الفائدة في حالة الاقراض والاقتراض.
 
ويتفق الفقهاء على ان الربا هي كل زيادة مشروطة على رأس مال الدين دون عوض يقابلها سوى الاجل وهي محرمة بنصوص القرأن الكريم كما في قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) البقرة 275.
 
ومثل قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) فهذه الايات تربط وبوضوح بين الربا والدين وتبين ان الربا هو زيادة على رأس مال الدين.
ان العبرة هي بتوفر خصائص وطبيعة المركز القانوني والشرعي في كل من طرفي العلاقة المالية في الواقع العملي من حيث كونها علاقة دائنية او مديونية ومن هنا يكون الضابط في التفريق بين الربا والربح هو ان أي معاملة كانت اذا نتج عنها وجود مبلغ مالي ثابتاً في ذمة الطرفين ومظمون الرد بمثله مؤجل السداد كان هذا المال ديناً وكان صاحبه دائناً والطرف الاخر مديناً واي زيادة على رأس المال تعد من الربا المحرم اما ان كانت المعاملة لا تشتمل على وجود مبلغ مالي مؤجل السداد وكان الطرف المسؤول عن رد المال اميناً على مال صاحبه من غير ضمان له اذا هلك او خسر وتقاسماً معاً الربح قل او كثر كان صاحب المال شريكاً وكانت العملية شركةً مشروعة وزيادة رأس المال ربحاً حلالاً.
 
لقد اكدت الدراسات الاقتصادية الموضوعية والمحايدة ان نظام الفائدة التي هي سمة الاقتصاد العالمي الان والتي تشكل البنوك عاموده الاساس والفقري تحتوي على مضار رهيبة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً كما انهم يجمعون بأن الفائدة لا تختلف عن الربا لكنه ربا في ابسط مظاهره وصوره ولكن في نفس الوقت مع ايمانهم بمظارها الا انهم يعتقدون انه لا مناص من اللجوء اليها لادارة السياسة المالية للدولة خصوصاً في السياسات النقدية لانها تعد واحدة من الادوات النوعية في رسم السياسات وصنع التوازن بين حالتي الانكماش والتضخم واختلال التوازنات في كمية النقود بين العرض والطلب وتأسيساً على ما تقدم ذهب كثير من الاقتصاديين الغربيين وعلى رأسهم الاقتصادي الكبير (كينز) الى ان الفائدة تعوق النمو الاقتصادي وتعطل حركة الاموال وان التنمية لا تتحقق الا اذا كان سعر الفائدة صفراً او ما يقرب منه مما يعني الغاء الفائدة ولعل هذا هو ما يحققه الفقه الاسلامي ويسعى اليه.
 
 
 
خامساً: ازمة الائتمان العالمية والبنوك الاسلامية
 
لقد ساد تصور عام في النظرية الغربية انه لا اقتصاد بلا بنوك ولا بنوك بلا فائدة وكثير ما قدم النظام الغربي البنوك والبورصات وشركات التأميم وغيرها من المؤسسات العملاقة على انها الانموذج الذي يجب ان يحتذى في جميع انحاء العالم على مختلف ايدلوجياته.
 
ان المتأمل في هذه الازمة يجد ان بداياتها هي في الاقراض والاقتراض بالربا واثقال كاهل الناس بقروض ربوية ذهبت الى سد احتياجات اساسية كالمنازل او غيرها من الكماليات وهكذا كانت سعادة مجلس الاحتياطي الفدرالي والسماسرة وبيوت المال كبيرة لهذه التسهيلات الربوية و وجد الاقتصاد الامريكي فيها محركاً اساسياً لاستمرار النمو لكن جاءت رياح الاعصار بما لا تشتهي سفن الادارة المالية الامريكية وحتى نضع القارئ في صورة ما حدث ويحدث نقول ان عملية الاتجار بالائتمان تتم على مرحلتين:
 
المرحلة الاولى: جمع الاموال من المدخرين بفائدة وتسمى الايداع او الودائع وهذه التسمية غير حقيقية لان هذه الاموال تسجل لدى البنك على انها ايرادات دائنه العميل فيها دائن والبنك فيها مدين فهذه الايرادات تدخل ذمة البنك المدينة ويتملكها ملكية كاملة ويستثمرها البنك لحساب نفسه وربحها او خسارتها له او عليه وحده وليس للعميل الدائن الا رأس ماله وفائدته .
 
 
المرحلة الثانية: هي توزيع الاموال على المحتاجين من اصحاب الاعمال او المستهلكين لبعض السلع فقط وتتم عن طريق الاقراض بفائدة ويلاحظ انها ايضاً عملية مداينة البنك فيها دائن واصحاب الاعمال فيها مدينون وليس للبنك فيه الا رأس مال القرض وفائدته سواءاً ربح صاحب المشروع او خسر ويكسب البنك الفرق بين فائدتي الايداع والاقراض وقد دلت بعض الدراسات لميزانيات البنوك ان معدل ما بين 70 الى 80 بالمائة تتم عن طريق اقراض المال للمحتاجين.
 
ويقوم نظام البنوك على ان سداد المدين لجزء من دينه يخصم اولاً من الفوائد المتراكمة وقد جرت العادة ان المدينين لا يستطيعون الوفاء بديونهم كاملة ويفاجأ المدين انه قد اوفى البنك قيمة الدين كاملاً ولكن الدين باقي على حاله كاملاً بالاضافة الى جزء من الفوائد وهكذا تتحول ذمة المقترض الى مديونية دائمة تمتص جهده وعرقه وتؤدي بمشروعه في النهاية الى كارثة اقتصادية.
 
ان الاقتصاديين يجمعون على ان الوجه الاكمل الذي يحقق افضل النتائج لا بد ان تتم بالتعاون والتوازن بين عنصري الانتاج وهما رأس المال والعمل وفي عالم الاقتصاد اليوم لا يوجد الا نظامين اثنين لادارة العلاقة بينهما.
 
ان يكون صاحب رأس المال دائناً مقابل فائدة ثابته ولا يشارك في ربج او خسارة والمستثمر مديناً وضامناً لارأس المال وهذا النظام لا يحقق العدالة ولا يحقق التوازن بين عنصري التنمية الاقتصادية لانه يحابي رأس المال الذي يزيد دائماً بنسبة مئوية على حساب العمل الذي يربح ويخسر وله مضار فادحة اجتماعياً واقتصادياً واخلاقياً.
 
النظام الثاني ان يكون صاحب المال شريكاً للمستثمر في الربح والخسارة وليس ديناً في ذمته فلا يضمنه الا بتعدً او تقصير وهو نظام المشاركة بكل صورها سواء منها ما يمثل الاستثمارات المباشرة او غير المباشرة مثل التمويل بالمشاركة او مشاركة كاملة او ناقصة او شركات اموال او شركات اشخاص وهذا ما يحقق التوازن بين عنصري رأس المال والعمل ولا يحابي احداً من الاطراف على حساب الاخر ويدفع بالتنمية الى الامام ولا يسمح بظهور جيل من السماسرة والمقامرين والوسطاء الانتهازيون وحاملي الوثائق والرأسماليون بلا مهنة وهذا ما جاء به الاسلام.
 
ان واحدة من اسباب الازمة الحالية هو الاتجار بالائتمان وبيع الديون ان النظام المصرفي التقليدي يحتاج الى حلول جذرية عميقة على حد تعبير الباحثة الايطالية ( لووريتا نابليوني ) ومن هنا تأتي اهمية البنوك الاسلامية باعتبارها بديلاً ممكناً عن النظام المصرفي الغربي فقد اثبت النظام المصرفي الاسلامي قدرة عالية على استخدام كافة وسائل الحداثة صحيح ان بعض ادوات هذه المصارف كانت تشوبها بعض السلبيات وما تزال قاصرة عن بلوغ الاهداف المثالية للنظام الاسلامي.
 
ان فكرة البنوك الاسلامية لا تختلف كثيراً عن البنوك التقليدية باعتبارها وسيطاً بين طرفي المعادلة الاقتصادية وهما وحدة الفائض النقدي التي يمثلها المدخرون ووحدة العجز النقدي التي يمثلها المستثمرون لكنها تختلف مع البنوك التقليدية في الاساس النظري في فلسفتها لرأس المال النقدي وفي نظرتها للنقود فهي تتفق مع النظرية الغريبة في ان النقود وسيلة للتبادل ووعاء للقيمة لكنها تختلف معها في اعتبار النقود اداة او وسيلة يمكن التوصل بها الى عائد مالي بانفرادها بل لا بد ان يدخلها العمل حتى يمكن لها ان تحقق عوائد مالية وتأسيساً على هذا قد جاء تحريم الاتجار بالائتمان.
النتائج
 
 
ساحاول ان اسوق نتائج ما توصل اليه هذا البحث وبايجاز شديد وذلك كالاتي:
 
أولاً: لقد وقع كثير من المحللين في خطأ التسطيح والتبسيط لهذه الازمة حين يقدمونها على انها ازمة مالية فقط. ان توخي الدقة يجعلنا نقرر اننا بأزاء مشكلة اقتصادية حقيقية اطلت بوجهها المالي فقط الا ان لها وجوها اخرى وعلى اي محلل اقتصادي ان لا ينظر بعدسة واحدة او ان يكون حبيس صورة واحدة بل عليه ان يرى بأكثر من عدسة ومن خلال اكثر من صورة عندها سيتوصل الى نتيجة مفادها ان هناك اختلالات بنيوية وهيكلية في النظرية الرأسمالية.
 
ان الازمة معقدة ومركبة قد ادت الى نتيجة مهمة وهي اختلال الدوال الاربعة ( دالة الاستهلاك، دالة الانتاج، دالة الادخار، دالة الاستثمار ) وان هناك علاقات وظيفية جدلية بين محاور اربعة وهي كمية النقود + علاقتها بالدوال الاربعة + التشغيل ( الاستخدام الناقص والاستخدام التام للعمالة ) + الطاقة.
 
ان المعادلة المتقدمة تؤشر لنا حجم المشكلة وتعقيداتها فشحة السيولة أدت وبالضرورة الى تراجع الطلب الكلي على الاستهلاك، وتراجع الطلب على الاستهلاك يؤدي الى انخفاض الانتاج، وانخفاض الانتاج يؤدي الى قلة الطلب على الطاقة اولاً والاستغناء عن العمالة الزائدة ثانياً وكل هذا الذي تقدم يؤدي في دورة جديدة الى تراجع الطلب على الاستهلاك الكلي وبمعدلات اكبر لانخفاض عائدات المؤسسات والافراد والشركات وهكذا دخل الاقتصاد العالمي مرحلة الركود أو في طريقه وبالتالي لم تعد شحة السيولة بانفرادها هي السبب.
 
ثانياً: لقد قلنا ان هذه الازمة ستؤثر على كل الاقتصادات بمستويات مختلفة لانه في ضل اقتصاد معولم لن يكون هناك احد بمنأ عن التأثير ومع ذلك فأننا نعتقد ان اقتصادات الدول العربية والاسلامية وخاصة النفطية منها، اقتصادات جيدة قادرة على مواجهة الازمة اذا لم تركض لاهثة وراء المعالجات الامريكية وهذا هو الخطأ الكبير والفادح التي وقعت فيه دول الخليج خصوصاً لانها تصورت ان افضل وسيلة لمعالجة الازمة هو من خلال ضخ السيولة وبالتالي اعتمدت ذات الادوات والوسائل التي اعتمدتها الادارة الامريكية علماً ان البيئة والمناخ مختلفتين في كلا الاقتصادين.
 
ان دراسة متأنية لحجم الخسائر في الاسواق المالية في منطقة الخليج لوحدها نجدها قد زادت على مئتي مليار دولار وان معدلات خسائر هذه الاسواق قد بلغ في دبي 45 % وفي كل من الدوحة ومسقط والمنامة قد تراوحت بين 22 و 25 % في حين زادت معدلات الخسائر في السعودية والكويت على 16 % . ان نظرة موضوعية لهذه الارقام ترشدنا الى خلل منهجي على مستوى الادارة المالية في هذه الاقتصادات.
 
ان ضخ السيولة على مستوى الدول العربية والاسلامية المنتجة للنفط خطأ بالمطلق لان الاقتصادات الكبرى العالمية قد دخلت مرحلة الركود او في طريقها الى ذلك وتأسيساً على ما تقدم فان احتفاظ هذه الدول بالكتلة النقدية الموجودة لديها هو سبيلها الوحيد لان تربح او تحافظ على اقتصادها على اقل تقدير في المرحلة القادمة بدل ان تصل بعض الدول الى مرحلة العجز باعتباره ناتجاً موضوعياً لعجز المؤسسات المالية خصوصاً وان كل شيء يسير نحو الهبوط في المستقبل القريب وبمعدلات كبيرة وبالتالي فأن من يمتلك السائل النقدي من الدول يكون هو الاكثر قدرة على تنفيذ برامجه وخططه القومية والاكثر ربحاً وان الاستثمار والتوظيف في هذه البلدان هو السبيل الامثل باعتباره بديلاً موضوعياً عن ضخ السيولة وانقاذ افلاس المؤسسات المالية. خصوصاً وان هذه الازمة سببها مجموعة من المقامرين الذين لا يستحقون مكافأتهم بتوسيع دائرة الثروة مرة اخرى عن حساب القوى العاملة المنتجة والداعمة للناتج القومي لاي دولة.
 
ويلاحظ ان اسعار النفط ستصل الى ادنى مستوياتها في الستة اشهر المقبلة لان الطلب الكلي لاستهلاك الطاقة سينخفض وبمعدلات كبيرة وستقل اسعار النفط الى مستوى يترواح بين 30 الى 40 دولار .
 
ثالثاً: نعتقد وبيقين ضرورة اللجوء الى غلق الاسواق المالية في الدول العربية والى اشعار اخر وهذا الاجراء هو افضل بكثير من ضخ السيولة لان موضوع هذا الضخ سيشكل للدول خسارتين الاولى خسارة الكتلة النقدية والثانية خسارة قيمة الاسهم المتداولة والافضل عندما تخير الدول بين خسارتين او خسارة واحدة ان تختار اقلهما ضرراً في معيار الربح والخسارة.
 
وتأسيساً على كل ما تقدم فأننا نعتقد ان نظرية البديل الثالث القائمة على اسس ( المذهب الاجتماعي المتساوق مع الحل الاسلامي ) وفي هذا التوقيت بالذات هي النظرية الاكثر ملائمة وجدوى على المستوى الاقتصادي لانها قادرة من خلال قوانينها العاملة على توجيه الموارد على مختلف القطاعات المستهدفة موضوعياً ضمن فلسفة الدولة في قيادة المجتمع لان اقتصادات السوق قد اثبتت فشلها وفي اكثر من مرة.
 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org