|
بحوث بعض المهارات الفردية في القوش
نبيل يونس دمان لا يستطيع احد تحديد زمن سكن عوائل من البلدة في الموصل، اذ ربما العملية متواصلة في التاريخ، فتارة منها وتارة اليها، حسب الظروف الاقتصادية والامنية السائدة، على اية حال نتحدث قليلاً عن الفترة التي سبقت احداث الشواف في الموصل سنة 1959 وما اعقبها من موجة اغتيالات عنيفة، ادت بالكثير من الاهالي للرجوع الى القوش او الهجرة الى بغداد خصوصا بعد استشهاد الشاب جميل الياس خوشو. قبل ذلك كان عدد من اولاد تلك الاسر، يتحدون الاخرين في الصعود الى اعلى نقطة في جسر نينوى الحديدي الذي يربط محلة الفيصلية بالبلدية، فوق تلك الاعمدة يؤدون بعض التمارين البهلوانية حتى يختل توازنهم، فيقذفون باجسادهم كالأسهم في خضم نهر دجلة، وبعد قليل تلمع اجسادهم فوق مياهه الصاخبة، يؤكد شهود عيان بانه نادراً ما غلبهم احد في تلك التمارين الخطرة، ومن الثابت في تلك الفترة غرق عدد من الصبية كل صيف، بسبب خطورة السباحة في بعض الاماكن التي يدور الماء فيها دائريا وبقوة فمن قاده حظه العاثر اليها اصبح في عداد الغرقى. من الاسماء التي تحضرني في المهارة والجرأة: اسطيفان( تيفو) متي ككا: في عام 1967 كان مهندس باكستاني الجنسية ومعه مقاول من بلدة عقرة مكلفين بنصب اعمدة الكهرباء في ازقة القوش ولاول مرة في تأريخها، عمل معهم عدد من عمال البلدة، في تلك المهمة يتم انجاز حفرة بعمق محدد، ثم يأتى بعمود فولاذي طويل، ذو قاعدة كونكريتية ثقيلة، وباستخدام حبال متينة وطويلة وفي ثلاثة اتجاهات او اكثر، يسحبون العمود الى الحفرة المهيئة ثم يردم بشكل جيد ومحكم، عندها تبدأ مهمة العامل( تيفو) حيث يتسلق العمود بمهارة فائقة لتمرير عدد من الاسلاك( في حدود ثلاثة او اربعة) حول بكرات مثبتة مسبقاً، وهكذا في ظرف عدة اشهر انجز تيفو كامل المهمة. ادور حنا شهارا( تيكا): في بداية الستينات كان يجيد بعض الاعمال السريعة والخفيفة التي تجلب انتباهنا، منها لعبة( حجي بريق) التي كانت عبارة عن قلة ماء فارغة( شربة) لها غطاء اسطواني. يضع عملة نقدية فوق الغطاء وبضربة سريعة وفنية، يبتعد الغطاء، فيما تسقط العملة في داخل القلة، فاذا اخطأ( نادرا ما كان يخطأ) يدفع لك بقدر العملة خمس مرات مثلاً. في بعض الاحيان كان يوهم بعضنا بإدخال ابرة خياطة في جبهته، ليخرجها من الجهة الخلفية لرأسه، كان يعمل ذلك بخفة متناهية، شادا عصابة حول رأسه وكأنه من السحرة( خرشدار). في الفترة الاولى لثورة تموز كان يقف على علبتين معدنيتين( زبيدة او الراعي مثلا) مربوطتين باسفل حذائه ويمشي في الشوارع المبلطة حديثا، بعد ان يرتدي كيس من اكياس السمنت، تتبعه مجموعة من الصبية يرتدون الزي نفسه ولهم قبعات ورقية موحدة وكانهم فصيل عسكري، كانوا يجمعون اكياس السمنت الفارغة من بيدر بيت عربو( الكراج الحالي) الواقع تحت قصر بيت الياس بولا التي كانت فيها مواد تبليط الشوارع العائدة الى مقاول موصلي اسمه مصباح من بيت الاغا، كان ادور في تلك الهيئة يبدو فارعا في الطول يتعجب المارة من فكرته تلك، بعد عشرات السنين وفي احد السيركات شاهدت فتية من بلجيكا وهم قد اطالوا ارجلهم بافكار مماثلة ليزداد طولهم نحو ثلاثة امتار. جميل بطرس قيا: في فترة الستينات ايضاً كان جميل يسبق جميع الصبية في القفز فوق نار عيد الصليب( شيرا دصليوا) عند خزان الماء لسنوات متتالية، غير مكترث بوقوع فردة حذائه في النار، او تحمله لسعات لهيبها المنبعث، بعد ان يطلق قسيس البلدة الشرارة الاولى فيها، كان ذلك منظرا خلاباً يجذب المئات من اهالي البلدة ومن كلا الجنسين، في الاسبوع الثاني من ايلول كل عام. صباح هرمز شميكا: كان يقف عند مسطح( خبرا) ماء محلة اودو، او في مرتفع( شويثد كناوه) فيقذف غطاء علبة الدهن المستدير بقوة عضلية وبفن متقن ليقطع مسافات، متمايلاً ومتماوجاً مع تيارات الهواء ليصل مسافات نحسده عليها فلا احد يسبقه فيها، احيانا كانت تسقط في وسط( قصيله) بيت دمان او تتجاوزه! ومعلوم ان شقيقه الاكبر حميد( حمو) كان رامي رمح متفوق في الرياضة المدرسية. امجد جرجيس خندي: وعلى نفس طريقة صباح شميكا، ولكن باستخدام احجار مسطحة ينتقيها بعناية وربما يحتفظ بالعديد منها في جيوبه، وفي الوقت المناسب يرميها لتصل مسافات طويلة وسط اعجابنا. اذا لم تخني ذاكرتي رأيته بعيني وانا واقف على سطح بيت عبدالاحد عوديش، رمى حجرا من ارض( بيدر) بيت صادق بلو الذي بني فوقها ظلما مقر حزب البعث البائد، اطلق امجد صخرته المختارة بعناية، وكادت تصيب ميخا ابن البيت لولا تنحيه جانباً. سعيد بيبو كولا: كان يمتطي حمارا او حصانا او بغلا، دون واقي ظهر( بردع) ويقوده ليجري بسرعة ويقوم باجراء تمارين فوقه، احيانا يدور دورة كاملة حول بطن المطي، في بعص الاحيان يسقطه ارضا فينهض ويركض خلفه ليعاود الصعود على متنه، وهكذا. يروى والعهدة للرواة بان حنا بيبي كوزا كان يمتلك ذات اللياقة في الفروسية ان لم يكن اكثر، فلكل جيل هناك افراد يبرزون في مجال من المجالات او اكثر. حبيب كجوجا: في نهاية الاربعينات من القرن الماضي كان مسجونا في احد سجون الموصل، بعد مدة من مكوثه ولتكرار سجنه، فقد خطرت على باله فكرة فتح نفق تحت السجن. في غفلة من السجانين انكب يعمل بسرعة يعاونه بعض اقرب السجناء اليه واكثرهم حزماً، لاشهر تكللت عمليته بالنجاح فهرب الى خارج المعتقل ومعه مجموعة من السجناء، علما بان تلك العملية المجهدة والخطرة، نادرة النجاح في سجون العراق. سليمان( سلو) يونس ختي: حصل بينه وبين احد الفرسان( جتا) خلاف في سوق البلدة، فرفع ذلك الشخص سلاح كلاشنكوف الى الاعلى، وضرب به سليمان الذي تقبل الضربة في كفه، مما ادى الى انكسار اخمص البندقية الآلية، وسط ذهول شهود عيان على الحادث، كان ذلك في حدود سنة 1969. شمعون ميخا الصفار: كان بارعا منذ صغره في خفة جسمه وحركته اضافة الى تفوقه على غيره في اصطياد عدد اكبر من الطيور باستخدام المصيادة اليدوية( جطل). اما انواع الصيد الاخرى فعرف الكثيرين بقدرتم وفنهم في الصيد خصوصا خالد متي جما الذي كان احيانا يكمن في وادي( نيرد ايوي) العميق ليصطاد الوعول الجبلية، اضافة الى المعلم صادق جهوري وميخا يوسف كرستو( كزيرايا). سعيد( يعّا) اوراها دمان: كان في نهاية الاربعينات يضع عدد من اثمار الباقلاء الجافة بين اسنانه ويكسرها جميعها، اما ابن عمه الاخر سليمان اسحق( جد جميل رئيس) فكانت اسنانه قوية ايضاً، تروي حبي يوسف مدالو( تولد 1922) كيف تجمع الناس شرق البلدة ليشاهوا سليمان ينزل الى احدى الابار ومعه زير( تلما) وبعد فترة صعد من اسفل البئر الى اعلاها وهو ممسك بقوة اسنانه زير الماء، فصفق الحاضرون له. ياقو ميخا برنو( 1885- 1956) : كان في كل عيد الدنح( بي دنخِه) الذي يصادف اواسط الشتاء في البلدة( شهر كانون الثاني) ينزل ويسبح في عين ماء محلة قاشا، ثم يخرج وجسمه يرتجف من البرد ليقول لمن يشاهده بانه فعل ذلك تيمناً بذكرى عماد المسيح له المجد. بكو ابونا: عمل في بريد تلكيف لاكثر من عشرين عاما كان يشتهر بل ويتفوق في قوة بديهته وروح الفكاهة التي تلازمه. يروى ان امراة من بلدة تلكيف اوعدته بهدية محترمة حال ابلاغها بوصول برقية تبشر ببكر لولدها في اميركا، وهكذا في يوم ممطر قطع المسافة الى بيتها في الطرف الاخر بسرعة وعلى امل الحصول على الهدية الموعودة. طرق الباب بشدة ولم يرد احد عليه وصاح باعلى صوته " يا امراة البرقية وصلت وفيها البشرى" عندها اخرجت المراة رأسها من كوة في الطابق الاعلى وصاحت وهي تضرب راسها نادبة قائلة" يا حظّي ان ولادته غير كاملة" فاجابها" ماذا تريدين، هل اذهب واكمله!! " مدركاً انها تتهرب من نقده، وابتعد عن البيت نحو دائرة البريد خائباً، متعباً، وغاضبا. بهجت عيسى ملو: كان يعمل سائقا في مشروع عمادية- بالندة- قادرية صيف عام 1978. في باب كلي بالندة يجري احد روافد الزاب المسمى محليا( ريشين) بسرعة كبيرة وتبلغ درجة حرارته في اوج الصيف قرابة الصفر المئوي، لذلك ليس من السهل السباحة فيه، وفي بعض الاماكن لا تقوى قدما الانسان على حمله من شدة التيار. هناك في ذلك المجرى القريب من قرية سوري( سيريا) والعريض نسبيا كان احد معاوني سواق ماكنة التحميل( الشوفل) نوع كوماتسو S- 65 زنجيل يتدرب على تلك الماكنة واسمه سيف الملوك من عشيرة الريكاني ويسكن على مقربة من المشروع. في غياب مؤقت لسائق الماكنة صعد سيف الملوك فوقها، واقترب من حافة ريشين بغية دفع بعض المواد الغرينية النظيفة وتجميعها لغرض نقلها في قلابات حمل نوع اسكانيا 111 ومارسيدس( نوع اقجم او إلبي) وفيما هو على تلك الضفة وبعض زنجيل الشوفل يمس الماء حرك عتلة التروسات( الكير) باتجاه خاطئ وضغط بقوة على دعاسة الوقود مما ادى الى انحدار الشوفل بسرعة الى عرض المجرى، ولم ير سيف الملوك نفسه الا مغمورا في الماء المثلج فترك الماكنة حالا ونجا بنفسه فيما توارى الشفل عن الانظار. جاء يبلغ ادارة المشروع بفقدان الشفل حقق معه المهندس عمر بادي وانا اسمع ما يدور من حديث وكنت متمكن قليلا من اللغة الكردية فرايت استاذ عمر يضحك بشدة فقلت ما الامر اجاب بان سيف الملوك يقول ليس فقط الشفل الذي اختفى بل حذائي( سيدا بيلافيمن جي...) اختفى مع الشفل ايضا. بقينا اياما نحاول العثور عليه لكن دون نتيجة، في تلك المنطقة الذي كما قلنا يعرض النهر، جئنا بعوامات من اطارات المكائن الكبيرة وربطنا فوقها شبكة من الالواح الخشبية التي صنعها نجاروا المشروع وتعاون الجميع من ضلاعين وسباحين ، وقد لعب اللحام الموصلي( محمد) دورا متميزا والرجل بطبيعته مبتكر ومحبوب من هيئة المشروع، فكانت الشواخص التي يلحمها ببعضها ويغير نهاياتها التي تمس اعماق الماء، كان السباحون المعروفين في المنطقة والذين قضوا حياتهم بجانب ذلك النهر المتمرد يعتلون ذلك المركب الخشبي المصنوع وايديهم تمسك بالشواخص ويمضوا ساعات دون العثور على الشفل وكأن قوة انتشلته واخفته الى الابد. في الايام التالية اقبل مدير طرق دهوك الاستاذ عادل صديق( تركماني من كركوك) ومعه معاونه الشيخ مأمون نور محمد البرفكاني، ولكن كل الجهود باءت بالفشل، وصار للمنشاة العامة للطرق والجسور التي مقرها في كركوك علم بالموضوع حيث ظل مديرها الاستاذ عبد المجيد خضر( من اهالي الموصل، خطفته الطائرات السمتية الايرانية لاحقا من مشاريع شرق البصرة) يتابع الموضوع عن طريق البرقيات والتلفونات مع بدالة طرق دهوك. واخيراً عثر عليه في منتصف ذلك النهر، تسمر الباحثون في اماكنهم ومدد محمد اللحام شاخصا طويلا ظل في تماس دائم مع الشفل وربطت اطراف الكلك باحبال على الشاطئ. واجهت ادارة المشروع مهمة اخيرة وشاقة، وهي كيف يتم ربط نهاية زنجيل( Hook) باي جزء متين من الشفل لتحريكه، هنا تطوع العامل الشجاع بهجت عيسى ملو وظهر انه سباحا يفوق سباحي المنطقة بدليل تردد الجميع من تنفيذ المهمة. وخاصة في النزول الى اعماق ذلك الماء الرهيب ببرودته وسرعته، وبعد عدة محاولات كان يتخللها صعوده للتنفس وهو يرتعش وجسمه قد تغير لونه الى لون ازرق، كنت واقفا وشعرت بمسؤوليه نحوه، فتقربت منه لاقول، لا تخاطر بنفسك يا عزيزي، لكنه ابتسم لي قائلا: لا تهتم يا استاذ ساحاول مرة اخرى وهكذا نجحت احدى محاولاته في ربط راس( Hook) بجزء متين من الماكنة، وجلب بلدوزر ثقيل وجديد وفوقه سائق متمرس، واخيرا ربطت السلسلة الممتدة من الشفل الغارق الى روتر البلدوزر على ضفة النهر وتحرك البلدوزر بتأني ولكن السائق لاحظ خفة الجسم المسحوب فاندفع بسهولة الى الامام وبعد قطعه عدة امتار ظهر الشفل الغارق لايام والجاثم في عمق نهر ريشين وسط فرح وتهلل العمال. سحبناه الى ورشة التصليح غيرنا الزيوت والمصافي( الفلترات) فقط ثم شغله طاقم المشروع الميكانيكي ، وكان اكثر المحيطين فرحا هو سيف الملوك! هكذا بهمة عمال مشروع بالندة نجحت مهمة صعبة، وكوفئ العمال الذين بذلوا الجهود المتميزة، وعلى رأسهم بهجت عيسى ملو.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |