بحوث

جزيرة سوساك .. جزيرة مهجورة لزمن ضائع في الأدرياتيك

 

بدل رفو المزوري

جزيرة سوساك\ بحر الادرياتيك

سوساك هي جزيرة يسمونها "جوهرة الأدرياتيك"، فيها يكمن حب المغامرة لفن التصوير والسينما وللصحفيين الفضوليين لمعرفة أسرار هذه الجزيرة. ولكن بالرغم من ذلك فهي تعد جزيرة مجهولة لأن هناك الكثير مما لا يعرفه زوار الجزيرة .

تقع جزيرة سوساك على الشواطئ الشمالية للأدرياتيك وحجمها 3,75 هكتار، وأعلى ارتفاع لها هو 98 م فوق مستوى سطح البحر تختلف سوساك اختلافاً كلياً عن الجزر الكرواتية لأنها الجزيرة الرملية الوحيدة في كرواتيا تؤكد البحوث العلمية بأنه في عام 1903 م جُرفت الرمال من ايطاليا إلى هذه الجزيرة .الجزيرة طولها 4 كلم وعرضها 1،5 كلم . تم اكتشافها رسمياً عام 844 م في كتاب رسومات البندقية للمؤلف ايفان داكون، و في تاريخ خرائط البحار في أقدم خارطة تسمى (كارتا بيسانا)في القرن الثالث عشر وهناك 4 خرائط لها في القرن 14 وكانت هذه الخرائط للجغرافيين والبحارة من هولندا وايطاليا.

وصل الرومان هذه الجزيرة قبل ميلاد السيد المسيح ب 177 عاماً وبقوا فيها لغاية 476 ميلادية .لقد زرعوا العنب والخضروات والفاكهة فيها وما زالت آثار الرومان موجودة في كنيسة الجزيرة لغاية اليوم . واشهر ما تم العثور عليه هو قبر (فون يوليوس نيكر وزوجته) وقد تم العثور عليه من قبل مؤرخ اسمه (أ.فورتيس).

تقع جزيرة سوساك في الغرب من جزيرة لوشين، ومركزها مدينة مالي لوشين، وهي جزيرة مشهورة وكان لإمبراطورة النمسا إليزابيث (سيسي) قصر فيها وحديقة جميلة و كانت تمضي معظم أوقاتها هناك.

 سر هذه الجزيرة يكمن في تأثيرها الكبير على كثير من البلدان والإمبراطوريات، بالرغم من ضآلة مساحتها. مازال أهل الجزيرة الباقون فيها يحتفظون بالعادات والتقاليد الكرواتية والعودة للجذور وكذلك عودة الأمريكيين ذوي الجذور الكرواتية إليها.كان تعداد الجزيرة في بداية الخمسينيات يبلغ أكثر من 2000 شخص، وبعد النصف الثاني من الخمسينيات تم إقفال معمل الخمور ومعمل الأسماك، وهذا ما أدى إلى هجرة أهالي الجزيرة إلى أمريكا وهناك يعرفون العالم عبر الانترنت والنوادي على جزيرتهم المهجورة. وهم يعودون كل صيف إليها الجزيرة لملاقاة ذويهم ولتواصل الأحفاد مع الأجداد.لقد باع الكثير من الأمريكيين بيوتهم التي لا تقدر بثمن إلى النمساويين والسلوفينيين والايطاليين. أما اليوم فلا يبلغ عدد سكان الجزيرة سوى 200 نسمة.

مؤخرا عاد إلى الجزيرة زوجان من الأمريكيين السوساكيين الأصل كي يحتفلوا بيوبيلهم الذهبي في الجزيرة ، والزوجة مقعدة. وفي مركز الجزيرة هناك مطعم للبيتزا لصاحبه عثمان العثماني . حدثنا عن الجزيرة وعن أصله المتحدر من دولة مقدونيا. وهو في هذه الجزيرة منذ ما يقارب 23 عاماً .وفي الشتاء يرجع إلى وطنه مقدونيا ويرجع صيفاً موسم السياح ويقول بأنه يحب كل الأقوام والجنسيات ماعدا الأمريكيين لأنهم لا يأكلون عنده البيتزا ويأكلون عند ذويهم وكذلك يعمل حلويات الشرق و بورك بالجبن ...فرح كثيراً بلقائي معه وزرته تكراراً وأخبرته باني سانشر صورته في مجلة كوردية حينها قال سأعلقها في المطعم. وكذلك بالقرب من مطعمه هناك نادي يجتمع فيه السوساكيين وعلى جدرانه صور جزيرة سوساك لقرن منصرم معلقة على جدران النادي والتقطت صورة لساحل الجزيرة قبل 100 عام وكانت الصور تبرز صور الجزيرة من جميع النواحي وقبل هجرة أبنائها الجماعية،

ذكريات النمساويين مع سوساك تعود لمعالجة أمراض الكآبة الحادة. ويفد إليها الكثير من الايطاليين بقواربهم الخاصة منذ زمن بعيد .في مقبرة الجزيرة هناك الكثير من شواهد القبور بأسماء ايطالية .

أشياء كثيرة تجذبك إلى هذه الجزيرة ومنها عدم وجود سيارة واحدة فيها بل فيها تراكتور قديم لحمل أمتعة المسافرين إلى أماكن سكنهم وكذلك لحمل مواد البناء والإنشاءات التي يأتي بها أهالي الجزيرة بالقوارب من جزيرة مالي لوشين. ونلحظ عدم وجود الشرطة ولا مخفر لان الناس هنا تعيش بأمان واستقرار. وفي حالات الضرورة يتم الاستنجاد بالبوليس النهري. هناك مكتب بريد صغير يربط الجزيرة بالعالم الخارجي، بالرغم من أن كل القادمين إلى الجزيرة، على ضوء لقاءاتي معهم ،يبحثون عن الزمن الضائع و يودون عدم التواصل مع العالم الآخر وقضاء زمن في جزيرة مهجورة وربما منسية في التاريخ الحديث، زمن بعيد عن ضجيج المدينة والهواء الفاسد والعولمة.و لم أجد متسولاً أو متسولة في بقعة للسياح ولكني وجدت متسولة من طارز خاص في مطعم عثمان العثماني وهي تشرب الكحول؛ ومن يتصدق لها عليه أن يذهب إليها ويعطيها النقود ومن دون كلمة شكر منها،صدق من قال(عش رجبا ترى عجباً).

التقيت في هذه الجزيرة بناس من جنسيات مختلفة وذي مواهب ومعظمهم كانوا من الفنانين التشكيليين والمسرحيين والأدباء. وكل منا كان يطرح قضية أدبه وشعبه. وقد تمكنت أن اعلم البعض منهم بعضاً من مفرادت لغتي. وحدثتهم عن شعبي الجبلي وعادات وتقاليد وفنون بلادي.على ساحل الادرياتيك التقيت بفنان ايطالي قرر أن يعيش على الشاطئ وأقام له مرسماً هناك وهو الفنان كريستيان تونيتو، درس الفنونن الرسم والتصميم، في البندقية. وحين سألته ما الذي يربط عالمه ودراسته للفن بمرسم على شاطئ الادرياتيك أجابني: الآن في وطنه لا عمل وسكن لي، وقد بنيت هذا المرسم على الساحل لأنه صار وطناً لي. وهذا هو حلمي. وأردف قائلاً: كانت زيارتي الأولى لهذه الجزيرة قبل 15 عاماً. وقال لي: لا تنس بأن الجزيرة قبل 500 عام كانت تعود لايطاليا. وقلت له ممزحا: وهل تريد أنت أيضا أن يرجع الفرع إلى الأصل. وضحكنا معاُ على شاطئ فارغ من السياح. وكان برفقته أيضا المشرفة على مهرجان سوساك ايرينا فالكوفيج .

الجزيرة محاطة بجميع الجهات بالسواحل الرملية ،ماعدا ساحل ملئ بالصخور الضخمة. وقد حاولت أمواج البحار العاتية أن تجعل منها مغاراتً وكهوفاً. وهناك أجمل الحجارة الكريستالية. ونادراً من يذهب هناك من السياح لصعوبة الطريق .ولكن، من اجل أن أمتع عيني وبعض لقطات غامرت وتمكنت من الوصول. وحاولت أن اجلب احجاراً كريستالية لأصدقاء أعزاء ومنهم إسماعيل طاهر وعبدالكريم الزيباري وجلال الزنكابادي وآخرون ولمجلة الصوت الآخر من روائع صخور الساحل الادرياتيكي.

التقيت بأهالي جزيرة سوساك الطيبين. ودهشوا بوجود أول كوردي عراقي على ارض جزيرتهم وقالوا لي بأن هذا سيبقىفي تاريخ الجزيرة المنسية .وحضرت احتفالاً راقصاً لهم وهذا ما أفرحهم جماً.

جزيرة سوساك ...تاريخ كبير لجزيرة وطأتها كل حضارات العالم العريقة ولكنها ظلت مهجورة ومنسية مثل قريتي (الشيخ حسن)التاريخية وأهلها الطيبين الذين ظلوا منسيين في كوردستان.

بيوت جزيرة سوساك مختلفة الطراز.فأول البيوت بني من قصب البردي ومن ، سرقاب. وتنقسم إلى جزأين،الجزء الأول من البيوت شيد قرب الميناء الذي يأوي قوارب الصيادين ويخوت السياح. وقد تم بناء هذه البيوت في زمن الإمبراطورية النمساوية من قبل النمساويين والهنكاريين. والجزء الثاني ،وهو القديم، فهو لبيوت شيدت على قمة جبل صغير بالقرب من كنيسة الجزيرة ، و قد شيدت من حجارة ويقول البعض بأنها من صخور البحر الادرياتيكي. أما أبواب وشبابيك المدينة فقد تم صنعها من 3 أنواع: منها قصب البردي الذي يتكاثر بصورة عجيبة في الجزيرة حتى تصورت أني في أهوار العراق .و هناك طرق تؤدي من الساحل إلى بيوت الجبل عن طريق قصب البردي ونتيجة الإمطار الشديدة غدت عميقة ومخيفة . ولكن هناك طرق أخرى أيضا هي السلالم الحجرية التاريخية والتي بنيت عام 1906م .وكذلك هناك الأبواب الخشبية وهي من الطراز القديم و تعود إلى مئات السنين وهذا بحد ذاته كان سبباً بأن تحتفظ الجزيرة بأصالتها . أما النوع الأخير فهي الأبواب الحديثة وكذلك الحال بالنسبة للشبابيك. أزقة الجزيرة ضيقة للغاية وذكرتني بأزقة مدينتي الموصل التاريخية في (المشاهدة والشيخ فتحي والميدان)ولكن الفرق بين الاثنين ،الجزيرة احتفظت بأصالتها وحضارتها بالرغم من هجرة أبنائها لها وأما الموصل فغزتهم العولمة وهدموا هذه الحضارة العريقة واستبدلوها بالحداثة.

في القرن الثالث عشر من تاريخ الجزيرة،سرق اللصوص وقراصنة البحار كنوز الكنيسة.واليوم يمكن مشاهدة مخطوطات يدوية تعود لعام 1081 في الفاتيكان قد كتبت في جزيرة سوساك.وفي عام 1917 حين كانت الجزيرة تعود لسيطرة الإمبراطورية النمساوية أخذت أجراس الكنيسة الكبيرة للاستفادة منها في عمل الأسلحة.

في زيارة إلى أعلى فنار الجزيرة التقيت السيد انتي بوديا الذي يعمل حارساً للفنار منذ 28عاماً فأخبرني قائلاً: تم بناء هذا الفنار عام 1881م وكان يسمى فاروس سانسيكو واليوم يسمى فنار سوساك. عملي هو نقطة الوصل بين 6 جزر تقع في وسط الادرياتيك. ولكل جزيرة ضوء خاص وكذلك لرؤية السفن الفنار ليلاً. صعدت معه قمة بناية الفنار كي نرى البحر والجزيرة كلها. أنت أول كوردي أقابله في حياتي وأنا سعيد . ودعته بهذه الكلمات وهو يرددها.

في ميناء الجزيرة و بطريق المصادفة التقيت بالشاعرة النمساوية المبدعة بربارا كاتز والتي سبق أن ترجمت إعمالها إلى العربية والكوردية. دهشت لرؤيتي في جزيرة كرواتية وهي مجهولة للأوربيين .حدثتني عن أعمالها وقرأت لي إحدى قصائدها ،فترجمتها لها فورا، وهي بعنوان "زمن للإهداء" .تقول فيها :

معك في مدينة هادئة\كل البيوت تخصنا\السلالم الحجرية\ساحة الكنيسة\والهدوء بين أصوات الطيور.معك في بيت قديم\الشهيق في مسامات الحيطان\الخشب ينسلخ عن جلده\وريح بين الشبابيك وكل هذا يخصنا.

مازالت المرأة السوساكية تحتفظ بحياة الأصالة والاحتفاظ بالعادات والتقاليد الفولكلورية والملابس الكرواتية القديمة. ومازالت تجر الماء وتحمله من منابع الآبار للغسيل وسقي النباتات. وبالنسبة لمياه الشرب فهم يعتمدون على مياه الأمطار،وهذا ما يجعلهم يقتصدون ماء الشرب .

 وبالقرب من الكنيسة ،ثمّة (غاليري) زرته والتقيت بالسيدة لادا سيكا التي عرضت لي الأعمال اليدوية لأهالي الجزيرة وروت لي جزءًا من تاريخ الجزيرة. و أخبرتني أنهم في العام القادم سيقيمون مهرجاناً كبيراً ثقافياً عالمياً يحضره كبار الفنانين والأدباء العالميين .ووجهت لي الدعوة لحضور المهرجان واقترحت أن تخصص لي أمسية شعرية باللغتين الكوردية والألمانية . رأيت في هذه السيدة القادمة من برشلونة كل الحب والاحترام لفن إنساني جميل. وقالت لي إن الفن والأدب لا يحتاجان إلى جواز سفر ، وهما يطرقان أبواب العالم كله كطرقكم من كوردستان والنمسا لأبواب سوساك.

لقد كانت سوساك حاضرة بقوة في أحد الأفلام السينمائية الأوربية وهو فيلم قصير. صورت المشاهد كلها في هذا القصر القديم المطل على البحر.

على السلالم الحجرية في طريق عودتي إلى سكني في الجزء الجبلي، التقيت بقس الكنيسة وقدمت له نفسي .تحدث معي بلغة ألمانية جميلة لأنه كان في ألمانيا أيضا. القس توميسلاف قال لي إنه يتابع أخبار العراق بصورة عامة والكورد بصورة خاصة. ويتمنى السلام والأمان لأهل العراق بكل أطيافه وألوانه .فالعراق يعد مهداً لكل حضارات العالم والإنسانية .وبعدها شرح لي معنى اسمه، فأول ملك كرواتي كان يحمل اسم توميسلاف. وأعرب عن سروره بلقاء زائر كوردي عراقي لأرضهم ، وقال انقل سلامي واحترامي لكل العراقيين المحبين للسلام.

سوساك شبه حلم في واقع. ومن يزر هذه الجزيرة المنسية والمهجورة ليس بوسعه أن ينساها بسهولة لأنها تترك انطباعاً جميلا من الصعب نسيانه .هذا ما شعرت به وأنا أحمل حقيبتي الظهرية المليئة بالأحجار الكريستالية للعودة إلى وطني الثاني النمسا، ومنها إلى الوطن الأم الذي ينتظرني كوردستان.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org