بحوث

الهوية الثقافية للطفل العراقي

 جاسم محمد صالح

 لنكن واقعيين في معرفة (مفهوم الكتابة للأطفال) ... وماذا تعني ؟ ... فالكتابة للأطفال ليست متعة نمارسها ولا هواية نقضي بها وقتنا، بل أنها مسؤولية خطيرة تجاه قطاع كبير من أبنائنا الأطفال، حيث أن الغرب الاستعماري ومن خلال ما يمتلك من وسائل إعلام متقدمة يتفنن في تجميل وتحسين صورته الكالحة وإيصال تجربته الاجتماعية إلى عقلية الطفل العربي كأجمل ما تكون من خلال عرض صورة وسلوك الأبطال الذين هم من نتاج وثقافة المجتمع الغربي المتصارع على المكاسب والمصالح المادية البحتة, وجعل هذا النجاح حلما يرواد كل طفل عربي، فنراه يحاول ان يقلدها في سلوكه وتصرفه ونظرتها إلى الأشياء، وفي النهاية يجد طفلنا العربي نفسه ومن دون ان يدري مقلدا للنماذج الغربية مثل : ( بات مان ) و(كرايندايسر) و(الرجل الحديدي) و(ميكي ماوس) و(تان تان)، يقلدهم في كل شيء، حتى في طريقة الأكل والمشي والتعامل مع الآخرين, وهنا يكن الخطر الرهيب الذي يتلبسونه في وقت مبكر من حياتهم ويصير من الصعب إزالته من أذهانهم ومن طرق تفكيرهم المختلفة حتى ولوبذلنا جهودا استثنائية كبيرة لمحاربة هذه المفاهيم والتصورات الغريبة وإزالتها من أذهانهم .

 الخطأ الذي يعيشه كتاب أدب الطفل في وطننا العربي هوان هؤلاء الكتاب أنفسهم تشبعوا بصورة وطريقة عرض أدب الطفل الغربي، وحاولوا ان يقلدوا ذلك النوع من الأدب تقليدا أعمى غير منتبهين الى انهم وقعوا في الفخ الغربي الذي نُصب لهم وهم أيضا باتوا يُوقعون ألأطفال في ذلك الفخ الذي هم وقعوا فيه, وكانّ هوية الأدب الذي يكتبون به ويقدمونه لأبنائهم الصغار لا تعنيهم، حيث اقتصر جهدهم على الأعم الأغلب على التسلية والإمتاع والفكاهة وقضاء الوقت لمجرد قضاء الوقت، ولم ينتبهوا الى كثير من النقاط من أهمها :

 1- ان طفلنا العربي يقرأ في الوقت الحاضر أدبا كتبه كتاب عرب, ولكن هذا الأدب على العموم خال من الهوية الوطنية والقومية، حيث انه لا توجد أية صلة من قريب ومن بعيد تربطه بهذا الأدب من حيث البيئة والمكان والأحداث والشخوص والمعاني، انا شخصيا اقدر سعي الجيل الأول من كتاب أدب الطفل من أمثال : ( احمد شوقي )، ( كامل الكيلاني )،( علال الفاسي)، ( محمد سعيد العريان )، ( عبد الحميد جودة السحار) ، الذين تأثروا بالأدب الغربي في وقت مبكر، فقلدوه ونقلوه نقلا حرفيا ولربما في أحيان قليلة أضافوا اليه إضافات ضئيلة, وعموما يكاد ينحصر دورهم في النقل المباشر والتعريف والريادة لفن كان أدبنا العربي خاليا منه وفق المقاييس الغربية الحديثة، من حيث التوجه التربوي والبناء الفكري والاجتماعي للطفل مستثنيا في كلامي هذا بعض المفكرين العرب من حاملي لواء الوطنية ومحاربة الاستعمار ومن دعاة التحرر العربي, لكن هؤلاء المفكرين وان كانت نواياهم صادقة ولهم رغبة حقيقية في تنوير عقلية الطفل العربي إلا ان كتاباتهم كانت :

 أولا : قليلة ولا تفي بالغرض المطلوب من الاحتياجات التربوية والثقافية للطفل .

ثانيا : من الناحية الفنية دون المستوى المأمول .

ثالثا : غير متواصلة مع ما سبقها من أطروحات.

رابعا : خلوها والى حدّ ما من منهج فكري واضح يستطيع الطفل ان يفهمه ويتأثر به حاضرا ومستقبلا ويكون له مرجعا سلوكيا

 لهذا فقد كانت جهودهم تضيع سدى أمام الهجمة الأجنبية الشرسة والتي كانت تستهدف تغيير بنية وتوجه وعقلية الطفل العربي بأطر جميلة وسياسة واضحة وعمل متواصل، إضافة الى توفير النص المطبوع بكميات كبيرة ومدعومة, ومعروضة بأسعار بسيطة تجعله في متناول الجميع من دون أي عناء ومشقة وجهد، مما يسّر للطفل الحصول على هذه النماذج فازداد تأثره بها وتأثيرها فيه، وتراجع الكتاب العربي ممن كانوا يحملون توجها وطنيا لبناء الطفل العربي وتربيته تربية صحيحة سلوكا وانتماء لهذا الوطن الغالي .

 ان المتتبع لمسيرة الكتابة للطفل العربي من قبل الجيل الثاني من كتاب أدب الطفل يُصدم بتلك الهوة الكبيرة بين ثقافة وتوجه وانتماء الجيل الأول من الكتاب العرب وبين ما آمن به ويعتقد به كتاب الجيل الثاني ، فالجيل الأول على بساطة تجربته وسذاجتها كان يسعى بصدق وإخلاص الى تربية الطفل العربي وزيادة معرفته بلغته وبتاريخه وبإرثه الحضاري وبالأحداث التاريخية العظيمة التي مرت على وطننا العربي عبر عصوره المختلفة، بينما نرى ان كتاب الجيل الثاني كانوا أكثر ذكاء ومعرفة ومهارة من خلال كثير من التجارب التي قدمت أفكارا للطفل ضمن التوجهات الصائبة والمدروسة، لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه كتاب الجيل الثاني هوأنهم فضلوا الآراء والمعتقدات التي آمنوا بها على كل القيم والمفاهيم التربوية الموروثة والمفترض تقديمها للطفل لإعادة بنائه وتكوينه الفكري والتربوي والمعرفي، وبدؤوا يروجون للأفكار التي آمنوا بها شخصيا، وهي على الأعم الأغلب أفكار شمولية وعامة وبعيدة عن التوجه التربوي المنشود لبناء عقلية وثقافة وتوجه طفلنا العربي ، وهويدخل الألفية الثالثة ضعيفا وهزيلا ولا يمتلك من مقومات الصمود والبقاء والثبات شيئا، فان معظم ما كتبوه للطفل كان مرآة عاكسة الحزبي للفكر الذي يحملونه، حيث حُمل أدب الطفل الذي يكتبونه بأعباء فكرية أمست اكبر من الحجم العقلي للطفل وتقبله لها واكبر من توجهه ومن رغبته وطموحه وما يشعر بحاجة ماسة الى قراءته، والسبب في ذلك إضافة الى التوجه الفكري المسبق لكاتب الأطفال تأثره هوشخصيا بالكم الهائل من التجارب الغربية في مجال الإبداع والعرض والتناول ، مما زاد الهوة وعمقها بين الأدباء وبين الأطفال .

 ان الفكر الغربي ركز في رؤيته لأدب الطفل على انه وسيلة للهووالترويح وقضاء الوقت وفي أفضل ما يكون وبصورة خيالية بعيدة كل البعد عن الواقعية والمنطقية التي تعلمناها نحن في ثقافتنا الاجتماعية والتربوية والتي نطمح لان نغرسها في نفوس أبنائنا الصغار من خلال ما نقدمه له من أحداث وطنية وسير شخصيات مستمدة من واقعنا وتراثنا الذي عشناه ونعيشه، فهي قريبة جدا من واقعنا وتفكيرنا، نعيش أحداثها أولا بأول، شخصيات إنسانية فاضلة من الممكن ان يقتدي بها أطفالنا ويكونون من خلالها بناة للمجتمع والوطن الذي نعيش فيه .

 ان مشروع ترسيخ الهوية الوطنية للطفل العراقي من أهم الضروريات في أدب الطفل العراقي، لان أدبا بلا هوية لا يمكن ان يُعد أدبا حتى ولوامتلك كل المقومات الشكلية والفنية للأدب، لان الهوية في الأدب من الضروريات الملحة وهي التي تعطيه البقاء والديمومة والنجاح، فلورجعنا الى الوراء والقينا نظرة سريعة على أهم الأعمال الأدبية التي خُلدت على مر الأعوام والسنين لوجدنا على الفور انها تلك الأعمال التي عبر فيها الكتاب عن هويات بلدانهم أحداثا وسلوكا وتاريخا وتراثا مثل ذلك كتاب : ألف ليلة وليلة وتغريبة بني هلال وسيرة عنترة بن شداد وسيرة علي الزيبق وسيرة الأميرة ذات الهمة وجابر وجبير، هذا بالنسبة للكبار، أما بالنسبة للصغار فان المسألة تأخذ أهمية اكبر عمقا وأكثر تميزا، فخير لنا ان لا نكتب للطفل من ان نكتب له أدبا خاليا من الهوية، فالأدب الذي أريده للطفل هوذلك الأدب الذي يبنيه بناء إنسانيا مستندا على الشذرات النيرة في تاريخنا عبر آلاف السنين، الأدب الذي يشحن الطفل ويملأه توجها واندفاعا نحوالأفضل ونحوأي فعل إنساني مستمدا تلك النزعة الاندفاعية من الشخوص التي تميزت في مواقفها وفي طرحها وفي انحيازها لثقافتها وتاريخها ولغتها وللتراث الذي تشبع فيه وتعلم منه الشيء الكثير .

 لابد لنا ان نعرف معرفة حقيقة واحدة، هي أن الكتابة للأطفال ليست أمرا سهلا وميسورا, وكان الأمر بمجمله عملية سهلة يقوم بها أي واحد منا ،مجرد أن يجمع في رأسه فكرة ومدخلا ونهاية لتلك الفكرة التي تسمى بقصة الطفل ويقول أنها كتابة للأطفال، يقول ذلك مزهوا وكأنه تمكن بهذه السهولة البسيطة من امتلاك الناصية التي يصعب على الكثيرين اعتلاؤها والوصول إليها .

 إن أدب الطفل حالة متقدمة في فن الكتابة، بل وأكثر الفنون الأدبية صعوبة على الإطلاق، فمن يريد أن يتصدى لهذا النوع من الإبداع عليه أن يكون :

1. ملما بالمفاهيم التربوية التي تعمل على بناء الطفل وترسيخ بنيانه وجعله عضوا فعالا في المجتمع، المفاهيم التي تتناسب وتتلاءم مع مفردات وحياة الطفل في المجتمع الذي يضم في جنباته تلك الشريحة الواسعة من المجتمع وهذا وحده لا يكفي .

2. تربويا بالمستوى النظري والتطبيقي، حتى يتمكن من معرفة آفاق الخارطة اللغوية والعلمية للأطفال، والتي تتناسب حقيقة مع عمرهم ومستواهم الدراسي بل وحتى مع بيئتهم وقيمهم التي تعارفوا عليها في ماضيهم وحاضرهم وربما في المستقبل, لكي تكون كتاباته مقبولة ومفهومة من قبلهم .

3. ممتلكا للمصداقية التي تحببه لدى غالبية الأطفال الذين يتم التعامل معهم من خلال اللغة والمعنى، تحقيقا للتواصل المطلوب، والذي يُعد جسرا آمنا لان ننقل إليهم من خلاله ما نريد من قيم ومفاهيم وأفكار وسلوك تربوي إكمالا وتحقيقا للرسالة الثقافية التي نرتئيها .

4. ممتلكا لناصية الإبداع الممتلئ خيالا وتشويقا وسلاسة وبراعة في الصياغة، ان الموهبة التي يمتلكها أديب الأطفال وحدها تفتح له المجال واسعا لان يكمل رسالته من خلال المتابعة المستمرة لانجازات الآخرين وإبداعاتهم الشتى وفي مختلف المجالات وان يستثمر تلك القدرات المقرونة بالإبداع للاقتراب من عقلية الطفل.

 كثيرون كتبوا للأطفال وكانوا مستسهلين العملية وكانّ ما قلته لا يعنيهم وقدموا نماذج باهتة من القصة والمسرحية والرواية، لكن كثيرا مما كتبوه وقدموه ضاع وتلاشى ولا احد يذكره أبدا وكانوا فاشلين أمام أنفسهم قبل أن يكونوا فاشلين أمام الأطفال، وكثير من هؤلاء كُتبت عنهم دراسات وملئوا الإعلام ضجيجا، مستغلين مواقعهم في صحافة الطفل، ولكنهم أيضا تلاشوا ولم يبق منهم شيء سوى ذكريات ذائبة لأسماء هشة، وفي النتيجة لم يبق من أولئك الذين كتبوا للطفل إلا القلة التي تعد على الأصابع... وهم الذين لا زالوا يواصلون الكتابة للأطفال بشرف وشموخ، فهم الأدباء الذين ستقرأ لهم أجيالنا في الحاضر والمستقبل.  

 لنستفد من الحكايات الشعبية العراقية في بناء أدب تربوي هادف للطفل العراقي، نقدمه إليه لكي يزداد معرفة بهويته الوطنية والقومية، تلك الهوية التي تزيده قوة وإصرارا على تعزيز انتمائه لتربة هذا الوطن، وقد اكد الباحثون ان العراق يمثل حالة متميزة وفريدة في مجال تأليف الحكايات الشعبية الهادفة ، وأنه أغنى بلدان العالم ثراء في الموروث الشعبي، حتى أن هذه الحكايات والقصص التراثية الشعبية العراقية سافرت إلى كل بلدان العالم المختلفة لأهميتها وعمق مدلولها التربوي والثقافي ورصانة مضامينها الإنسانية ودخلت تقريباً في آداب جميع الأمم ، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على المستوى الراقي الذي وصلت إليه الحضارة في العراق في عصورها المختلفة، وإلى يومنا هذا نرى كثيراً من الحكايات الشعبية العراقية القديمة يتداولها المؤلفون والكتاب وإن صبغوها بألوان بلدانهم، إلا أن شكلها ومضمونها بقي على حاله ، فيه رائحة العراق بامتدادات عصوره المختلفة وبتنوع واختلاف أطياف شعبه ألفسيفسائي المتجانس ، وقصص الكاتب الدنمركي (هانز كريستان اندرسن) تدل بوضوح على ذلك، ناهيك عن أن الحكاية الشعبية العراقية والموروث الشعبي العراقي من : (مثل) و(عبارة) و(حادثة) هي الأخرى انتقلت إلى معظم الأقطار العربية وبقيت الجذور العراقية متأصلة فيها ، ومن يقرأ كتاب (الحكايات الشعبية في اللاذقية) لمؤلفه(أحمد بسام ساعي) يرى الجذور العراقية واضحة في معظم حكاياته .

 إن مسألة الاستفادة من الحكاية الشعبية في تربية الطفل وتثقيفه، ليست حديثة العهد، فلقد جرت من قبل بعض المحاولات التي استهدفت هذا المجال ، وأكدت بشكل لا يقبل الشك بأن التراث الشعبي لأية أمة من الأمم ولا سيما أمتنا العربية المجيدة يعد خير مصدر لاستلهام كثيرٍ من الأعمال الأدبية الراقية والهادفة والتي تصلح لأن تكون نماذج تربوية للأطفال كما بين ذلك (دير لاين) في كتابه الحكاية الخرافية ، وذلك راجع لكثير من الاعتبارات منها :

 1- إن التراث الشعبي في العراق أصيل بشكله ومضمونه، وإنه أقرب الأشياء إلى نفس الإنسان ولا سيما الأطفال منهم.

 2- إنه تراث لكثير من الأحداث والحركات والانفعالات إضافة إلى امتلاكه خطاً درامياً لا مثيل له في آداب الأمم الأخرى، خطاً يأسر القلوب ويشدّ الأنفس ويواصل الانجذاب.
 لقد شهدت الساحة الثقافية في العراق في أواخر القرن الماضي محاولات كثيرة وجادة لجمع التراث الشعبي العراقي وتدوينه وربما لإعادة صياغته وتقديمه بشكل أكثر عقلانية وتوافقاً مع عقلية الطفل وقابليته على التقبل والقناعة… ولا سيما أن بعض هذه الحكايات الشعبية إذا شذبت وهذبت تعد دروساً تربوية ذات مدلول ومغزى، يتوافقان كلياً مع متطلبات العصر الذي نعيش فيه، وإن أي عمل من هذه الأعمال يحتاج إلى كثير من الجهد والاهتمام والحذر.

 إن الحكاية الشعبية في نصها الأصلي ربما ((تحتوي على عناصر سيئة وهذه إذا تركت من غير إصلاح وتهذيب وإشراف عليها فربما كانت عاملاً سيئاً في تربية الطفل، لأن المعلومات والحوادث التي تتضمنها هذه القصص تؤثر في تكوين الطفل العقلي والخلقي وفي ذوقه وخياله... وحري بنا أن نمتلك وعياً وحساً فيما يقدم، لأن أية معلومة يتقبلها الطفل من الصعوبة بمكان أن تُزال من ذهنه بسهولة )) (1).
 هنا تكمن أهمية عنصر الحذر الشديد من قبل الآباء والمربين مما يُقدم إلى الطفل من حكايات شعبية غير منقحة ، لأن في ذلك أضراراً كبيرة وخطورة تؤثر بشكل وبآخر في نفسيته وسلوكه ، حيث تقول الدكتورة (الفت حقي) : (( بأن الثقافة التي يعرضها المجتمع على الطفل، يأخذها الناشئ على علاتها، لهذا تكون مهمة العطاء حرجة وخطرة في الوقت نفسه، قد تتدخل أحداث الحكايات وأبطالها تدخلاً سلبياً في سلوكه وتوجهه التربوي في البيت والمدرسة والشارع )) (2) .
 لهذا كله تقع على الأديب القاص مسؤولية تربوية كبيرة في فهم نفسية الأطفال أولاً، ومعرفة الأبعاد التربوية والاجتماعية والخلقية ثانياً، مما يؤدي به إلى فعلٍ متميز في غربلة هذه الحكايات الشعبية واختيار الجيد منها ليقدمها إلى الأطفال بعد أن يصوغها بأسلوب أدبي راقٍ ويحذف منها كل ما هوغير ضروري ، ويضيف إليها من خياله الخلاق أشياء ضرورية إكمالاً للتوجه التربوي المنشود الذي لا بد أن يُقدم للأطفال بشكل تربوي هادف على شرط ان لا يؤثر على الإطار العام للحكاية من حيث التوجه والمعنى والغاية، وهذا المسار أكد عليه الدكتور (عبد العزيز عبد المجيد) حينما قال: ((وإذا كانت قصصنا الشعبية مليئة بالحوادث المزعجة وغير المناسبة، وإذا كانت بعض الأمهات لا يستطعن الآن اختيار المناسب من القصص ليسردنه للطفل وليقرأنه ويساعدنه على قراءته … فإنا لنرجوأن يجيء اليوم الذي تتخلص فيه القصة الشعبية من كل ما بها من عيوب)) (3) .
 وأنا ككاتب للأطفال شكل أدب الطفل محوراً كبيرا في عطائه الأدبي، فقد تحتم عليَّ أن أنهل من تراثنا العراقي الأصيل كل ما هومهم ومفيد ، وأن أقوم بتقديمه للطفل بشكل تربوي مناسب ، فقد كتبت (رواية الخاتم) وهي رواية عن الفتى (لبيب) الذي كان صادقاً وأميناً ومخلصاً في عمله، يحب الناس ويقدم لهم كل ما يحتاجونه بأقل الأسعار ، لأن (لبيب) كان يعتقد بأن حب الناس مهم في هذه الحياة ، لكن سلوكه هذا أغضب التاجر الغريب الجشع الذي لا هم له سوى السحت الحرام والربح الباطل ، هنا حدث صراع بين الخير (لبيب) والشر (التاجر الغريب الجشع والطماع) مما أدى بالتاجر الغريب إلى اختطاف (لبيب) بأسلوب ملتوٍ وسجنه في قبومظلم ومن ثم إجباره على حياكة الغزول الحريرية ليبيعها التاجر الغريب ويربح منها المال الوفير… وصادف قبل الأحداث هذه أن نُظمت مسابقة لاختيار أفضل نساج في المدينة وكانت الجائزة كبيرة من نصيب الفتى ( لبيب) ، لكن الذكاء المفرط لدى (لبيب) دفعه لأن يكتب عنوانه وأنه مسجون على تلك القطعة من القماش ووضعها وسط الغزول مع خاتمه الذي فاز به، مما أرشد الناس إليه فأنقذوه من سجنه وعاقبوا التاجر الجشع على سوء فعلته … هنا كان انتصار الخير على الشر نتيجة حتمية وهي سر ديمومة هذه الحياة.

 هذه الحكاية الشعبية تحببنا إلى الخلق القويم والتضحية ونكران الذات وهذا ما كان عند (لبيب) وتكرهنا إلى الجشع والطمع والبخل وهذا ما كان عند التاجر الغريب… وضمنياً تؤكد لنا روايتي هذه أن الطمع القاتل يؤدّي بصاحبه إلى التهلكة، وهذا ما حدث للتاجر الغريب الذي رغب في الحصول على الجائزة … إضافة إلى أن هذه الحكاية تجلُّ العقل والإبداع وتعتبرهما سلماً للنجاح في هذه الحياة ووسيلة للتخلص من المواقف المحرجة والخطرة، وهذا ما تبين لنا في ذكاء (لبيب)حينما كتب عنوانه وقصة اختطافه كلها على قطعة القماش، حيث أدى عمله الذكي هذا إلى إنقاذه من براثن التاجر الغريب .

 هذه الثيمة أكدت أهمية العقل والذكاء لدى الإنسان … مما تولد حوافز تربوية لامتلاكهما وهذا ما نسعى إلى غرسه في نفوس أطفالنا، إذ يمثلان إكسيراً للنجاح في هذه الحياة ذات المتغيرات والتجاذب … مما يجعل الطفل أكثر قرباً من التعلم، وأكثر حباً لكل ما هوجيد ومبدع… فالمهارة في الحياكة هي ذكاء والذكاء هووسيلة للنجاح وهكذا نستفيد من قصة الخاتم وما جرى للفتى الذكي (لبيب) .
 إن المربي سواءٌ أكان معلماً وأباً وأماً، مطالب باختيار نوعية الحكاية للطفل من حيث صلاحيتها التربوية وتمثيلها للقيم وللمفاهيم التربوية الفاضلة التي تعارف عليها مجتمعنا العراقي، إضافة إلى أنه مطالب أيضاً بالتدخل لتعديل مسار المعلومة والحكاية التي تعرض للطفل بشكل عفوي من خلال أجهزة الإعلام المرئية وتوجيه الطفل بالاتجاه الصحيح من حيث الفهم ومعرفة المغزى والمدلول ، لأنه من الخطورة أن يتعرف الطفل على جوانب سلوكية غير مقبولة ، لأنه سرعان ما يتقبلها على علاتها لضعف الملكة النقدية لديه ولصعوبة التفريق بين الجيد والرديء، فلهذه الحكايات - وخاصة المغرية منها - سحر أخّاذ يمتلك اللب ويخدر التفكير، وبما أننا نريد من أبنائنا أن يكونوا كما نريد فعلينا أن نتعاون جميعاً لترصين بنائهم الفكري والثقافي وحتى الترفيهي، ليكونوا أكثر ثباتا أمام المغريات الهائلة في الأفلام والمسلسلات الغربية، وخاصة الأعمال الروائية التي أُنتجت للطفل ولا بدّ لنا أن نعلم إن الاستفادة من الحكاية الشعبية في انجاز عمل روائي ليست حديثة,إنما جرت محاولات كثيرة في هذا المجال, فالتراث الشعبي لأية امة من الأمم كان ولا يزال يشكل مصدرا لكثير من الأعمال الأدبية الهادفة .

 إن دعوتنا في الاستفادة من التراث الشعبي العراقي في أدب الطفل تنصب تحديدا على محاولة استلهام التراث وتقديمه في عمل أدبي للأطفال، لأهمية هذه المحاولة وخطورتها في الوقت نفسه، فقد جرت محاولات كثيرة لجمع التراث الشعبي وتدوينه وربما لإعادة صياغته وتقديمه للأطفال، وان عملا من مثل هذه الأعمال ليس سهلا ويحتاج الى كثير من الجهد والحذر.

 هنا يكمن عنصر الحذر مما يقدم الى الطفل من حكايات شعبية غير منقحة، فان في ذلك أضرار كبيرة وخطورة تؤثر في نفسية الطفل وسلوكه، ويأتي دور الكاتب المتفهم لنفسية الأطفال والمتعمق في الأفكار التربوية والاجتماعية وغربلة الحكايات الشعبية واختيار الجيد منها ليقدمه للأطفال بعد ان يصوغها بأسلوبه ويحذف منها ما يشاء ويضيف إليها ما يشاء، خدمة للخط التربوي الذي لا بد وان يقدم للطفل سعيا وراء بنائه وتكوينه النفسي والاجتماعي .

 لقد بدأت الحكايات الشعبية تتخلص من عيوبها التي لا تلائم الأطفال كورود ألفاظ ( السعلة ) و( الطنطل ) والسحر… الى غير ذلك من ألفاظ ترسخ في ذهنه القوى الغيبية المرتبطة بالأوهام والخرافات وفاعلية تلك القوى ومقدرتها على اللعب بمصير الانسان, فقد تغربلت الحكايات الشعبية في الوقت الحاضر مما علق بها من أدران وشوائب .

 ان خير مثال على ذلك رواية (الحطاب والعصفور) التي أعدها عن قصة شعبية القاص (خضير عبد الأمير) والتي صدرت عن دار ثقافة الأطفال عام 1980 في سلسلة حكايات شعبية التسلسل ( 15 ) حيث اعتمد المعد في كتابتها على الحكايات الشعبية المتداولة على السن الأمهات والجدات، على الرغم من ان هذا التداول في بعض الأحيان فيه بعض المسائل التي تضاف وتحذف لاعتبارات خاصة والتي تكون بعيدة عن أي هدف تربوي آخر، لكن المعد أحسن صنعا حينما شذب الرواية القديمة وأضاف إليها إضافات كثيرة جعلت من العمل نصا أدبيا رائعا يستلهم التراث الشعبي ويضيف إليه الشيء الكثير، لان في العمل إحساسا كبيرا يعود بالفائدة التربوية على أطفالنا، لما لها من وقع خاص على نفوسهم، ولقد أكد ذلك أكثر الباحثين حينما قالوا : (( وينبغي ان نعترف بالأثر السحري الذي تحدثه هذه القصص الخالدة ( أي القصص الشعبية ) في نفوس الأطفال )) (4)  

 إن استلهام الأساطير العراقية في كتابة نصوص مسرحية للأطفال، مسالة لها أهميتها في النواحي التربوية والنفسية والتراثية، وقد انتبه إلى هذه المسالة المهمة قبلنا كتاب ومؤلفون غربيون وعرفوا أهمية هذا الكنز التراثي وثرائه وعمق فائدته بالنسبة للأطفال ... فقرؤوه باهتمام واستوعبوه، ثم بدؤوا في إعداده كنص مسرحي يخلب الألباب ويشد إليه النفوس، وقد نجحوا في عملهم هذا أيما نجاح، والدليل على ذلك هواستمرارهم في التوجه في السير في هذا المجال، فلوالقينا نظرة عابرة على قائمة المسرحيات التي اُلفت وأخرجت للأطفال في الغرب لوجدنا على الفور أن معظم مسرحياتهم كانت مقتبسة ومعدة من حكايات شعبية أسطورية عراقية ومشرقية وعربية، لا سيما الأساطير العربية القديمة والهندية والصينية واليابانية .

 لقد استفاد أولئك الكتاب الغربيون من جماليات الأسطورة المشرقية والعربية وقدموها للأطفال بذكاء ونجاح ملفت للنظر، فمن المسرحيات التي كتبوها وكانت لها جذور أسطورية وشعبية هي مسرحية : ( هاجر في الصحراء، ذبح الأبرياء في بيت لحم، أليس في بلاد العجائب، أمير الثلج، سندريلا، توم سويار، ملابس الإمبراطور الجديدة، بيتر بان، الطائر الأزرق، جزيرة الكنز، بينوكيو( الصبي الخشبي)، روبين هود، وليم تلي، زمار هاميلان، علي بابا والأربعين حرامي ) وغيرها الكثير من المسرحيات التي أخرجت ومثلت عشرات المرات وفي أزمنة مختلفة . 

 إن أدبنا الشرقي وخصوصا الأدب العراقي القديم امتلأ بهذا الفيض الزاخر من الأساطير والحكايات الشعبية، سواء على مستوى تاريخ العراق القديم ( السومري، البابلي، الآشوري )، وعلى تاريخ الأمة العربية مرورا بالأساطير الفرعونية وانتهاء بالأساطير الكنعانية والفينيقية (فترة ما قبل الإسلام ) كـ : تغريبة بني هلال، جابر وجبير، عنترة بن شداد العبسي ... الخ من قصص الدولة العباسية مثل: ( الف ليلة وليلة )، على الرغم من تزاوج هذه الأساطير وتأثرها وتأثيرها أيضا في أساطير وحكايات الأمم المجاورة .

 إن هذه الأساطير محببة إلى نفوس الأطفال، لا سيما إذا تمكن كاتب ماهر في الاقتباس والتشذيب من إعادة صياغتها، فانه سرعان ما يرى أثرها السحري في نفوس الأطفال حيث ينبغي لنا : ((أن نعترف بالأثر السحري الذي تحدثه هذه القصص الخالدة في نفوس الأطفال)) لان هذه الأساطير والحكايات وفي أعمها الأغلب تصلح لان تُمسرح للأطفال لغناها في الأفكار الإنسانية وامتلائها بالأحداث المشوقة والحركة الدرامية، ولنضج ووضوح عقدتها الدرامية، لان اغلب (( الحكايات الأسطورية التي تتناول أبطالا كبارا وبطلات تشكل مادة صعبة لمسرحيات الأطفال، وإذا مُسرحت قصص البطولة الواقعية منها والخرافية، فقد تكون مصدر ترويح والهام لهم ))، فالطفل يحب المسرحية التي تشد خياله وتربطه إليها لأنها تملك عقدة قوية، أما الأمور الأخرى فإنها تأتي بالدرجة الثانية لدى الطفل، (( فليس المهم أن تكون أفكار المسرحية خارقة وأن تكون حافلة بالإحداث والأفكار الغريبة ))، لهذا كان واجب المؤلف المسرحي في حالة الإعداد والاقتباس من هذه الأساطير أن يكون حذرا، فهناك قصص درامية تستحوذ اهتمام الأطفال كقصص الحب، وهناك قصص تعتمد على السحر بشكل أساسي كجانب إنساني له قدرته في نواحي الإبداع، وبالتالي فان الطفل يصاب بخيبة أمل حينما يشاهد المسرحية بدون تعاطف ورغبة، حيث لا بطل في المسرحية يتفاعل معه، ولا فكرة مفيدة بالنسبة له .

 إن البحث عن العدد الكبير من الأساطير والقصص الدرامية الكثيرة التي يشوب البعض منها الخوف والرعب إلى درجة كبيرة، يستحيل معها تحويلها إلى عمل مسرحي للأطفال، أما البعض الآخر فانه يقوم على أمور سحرية بحتة تجعلنا نسقط من حسابنا فكرة التعامل معها وإعادة صياغتها للأطفال، فقد كانت الأعمال الخارقة كثيرا ما تدخل في نص مسرحي للطفل يصعب على المعد التعامل معه بشكل مباشر وبالصيغة المطروحة عليه، إضافة إلى أنها صيغة مرفوضة في الوقت نفسه من قبل الأطفال المشاهدين أنفسهم، فلوكان لأبطال هذه الأعمال قوة خارقة، ومثلوا على خشبة المسرح لكان الأمر صعبا يتجاوز قدراتنا الإنسانية ويشكل ظاهرة يصعب تصورها بشكل مباشر وغير مباشر، فان هناك موقفا صعبا للطفل في حالة تعامله مع النص فكريا وترفيهيا، فانه من حيث المبدأ لا يتعاطف مع هذه الشخوص ولا يهتم بقضاياها .

 من المعروف أن القصص الخرافية التي ذكرت في السير الشعبية والتي تمثل الجن، فان ذكرها جاء ليس مقصودا لذاته لمجرد التسلية ولتفسير مظاهر كونية لعالم الجن، بل استخدمه المؤلف لخدمة البطل في الوصول إلى غايته وتحقيق ما يريد حين يعجز السلاح الواقعي كسلاح لتغليب الخير على الشر .

 إن من أهم مهمات كاتب مسرحية الطفل هوأن يساهم بشكل فعال في تنمية خيال الطفل، ذلك الخيال الذي يعتبر أساسا لنموعقله وتفكيره، لهذا فانه يهرع إلى الأساطير لأنه يرى فيها مادة جيدة تصلح لان يكون فيها مصدر الهام لأعمال أدبية وفنية جديدة متميزة .

 لقد استُلهم التراث الشعبي العربي والأسطوري في كتابة مسرحيات خاصة بالكبار، ومنذ وقت مبكر مثلما فعل ( محمد عبد المطلب، محمد عبد المعطي ) اللذان كتبا مسرحيات مستلهمة من التاريخ المجيد لامتنا العربية مثل مسرحيتي: ( المهلهل، حرب البسوس )، ومثلهما فعل (احمد أبوخليل القباني) حين كتب مسرحيات : ( عنترة بن شداد ) و( وأنيس الجليس ) و ( ناكر الجميل ) و( عفيفة ) و( والأمير محمود )، ومثلما فعل الكاتب (علي أنور) حين كتب مسرحية : ( شهامة العرب ) التي استعرض فيها قصة (عنترة بن شداد العبسي) في إطار خيالي مغامر، وكان آخرهم وليس أخيرهم (توفيق الحكيم ) حين كتب مسرحية : ( يا طالع الشجرة ) والتي كانت استلهاما رائعا للأدب الشعبي العربي، ولكن - وللأسف الشديد - فان هذا الشيء لم يحدث بالنسبة لمسرحيات الأطفال، حيث ظلت بعيدة جدا عن روح استلهام التراث الشعبي واستغلال الأسطورة لتحقيق ذلك الاتجاه .

 جاز لنا الآن أن نتساءل ولنا حق كبير في ذلك :

- كيف يمكن لطفل كندي وألماني أن يستوعب مسرحية (علي بابا والأربعين حرامي ) وهي مسرحية مشرقية بأجوائها وإحداثها ومضامينها... ولا يمكن لطفل عربي أن يستوعبها ؟، وأن يتفاعل معها .

 انه تساؤل يجعلنا نخجل من أنفسنا ونعرف مدى تقصيرنا تجاه تراثنا وتاريخنا وأساطيرنا الموروثة، انه خوف كامن في نفوس المؤلفين والمعدين من الفشل وعدم النجاح، وهذا الخوف لا مبرر له، لهذا فقد وقفنا بعيدين جدا عن أساطيرنا، لا نجرؤ أن نقدمها لأطفالنا، في حين يُقدم هذا التراث نفسه وبأسلوب متميز ومليء بالنجاح على مسارح الأطفال في الدول الغربية .

 إن توجها صادقا في هذا المجال يقع على ذمة من يضطلع بهذه المسؤولية، بان يكون له وعي كامل في اختيار النصوص التراثية، حتى لا تكون عملية الاختيار سيئة تربويا وغير موفقة وذات اثر سلبي على فهم الطفل لأدبه الشعبي والأسطوري، مما يخلق فجوة مستقبلية بينه وبينها، فالاختيار الناجح لا يكون مع أسطورة بسيطة (لا تصلح مادتها سوى لمسرحية فصل واحد بل يجب أن تكون القصة غزيرة المادة حتى نستخلص منها أحداثا لنقيم عليها عقدة المسرحية التي تشتمل على شخوص لهم صفات البشر))، فلوفعلنا هذا نكون قد وفقنا في عملنا ونكون قد قدمنا لأطفالنا ولتراثنا ولتاريخنا خدمات جلا .

 (حب الوطن) واحدٌ من أهم المفاهيم التي يسعى كاتب الطفل للتعامل معها، حاولت أنا شخصيا أن أقدمه للطفل، حيث اقتربت منه ومن مفهومه ومن قاموسه اللغوي ومفرداته، فتحوَّل الوطن عندي إلى (بركة ماء) … وتحول المواطن إلى ذلك الشعور المتأرجح الذي كان يراود بركة الماء فجعلت منه مواطنا عاشقا للوطن،لكن تراوده أحلام وردية بالتغيير… وبالسفر إلى أَصقاع أخرى من العالم . كانت بركة الماء تتمنى الرحيل ، لكن لا تعرف إلى أين ترحل ؟… أردت أن أفهم الطفل أن الوطن بحاجة ماسة إلى أبنائه… كل أبنائه ، فطرحت ثيمة أخرى من خلال القصة وهي مجيء مجموعة من اللقالق المهاجرة التي كانت عندي تمثل أفراداً وأبناء لهذا الوطن… ولكن من بقاع أخرى…هاجروا… وأدَّوا مهمةً … أيةَ مهمةٍ كانت، وهم الآن يحترقون شوقاً ولهفة للعودة إلى الوطن الذي هاجروا منه… وعودتهم إليه حتماً,ولابدَّ أن تكون، كان سؤال بركة الماء التي تحلم بالسفر مفتاحاً لليقين والاستقرار ، كانت إجابة اللقالق بالعودة إلى الوطن ترسيخاً وتعزيزاً لهذا المفهوم وإلغاء نهائياً لحالة التشوق للهجرة وترك الوطن والابتعاد الكلي عن منبع الذات … عن البيت، عن الوطن.

 قالت اللقالق ذلك وودعت بركة الماء وطارت، على أثرها بقيت البركة… ابنة هذا الوطن تتساءل مع نفسها وتتساءل عن سر وكينونة ومغزى الحالة التي أمامها، كل الحالة المطروحة ومن جوانبها المختلفة، وبقيت أصداء تساؤلات اللقالق وأجوبتها تتردد وتتزايد بارتفاع مذهل في قاموس ذهنها وتفكيرها… قالوا لها:
- إنك مثلنا تحبين بيتك.

 وعلى الفور كانت الإجابة سريعة ومعبرة عن عمق ذلك التشبث وامتداد الجذور بالوطن:
- ترى، كيف تكون اللقالق أكثر مني حباً للمكان الذي تربيت فيه ودرجت ونشأت؟
 قالت ذلك مياه البركة بزهوٍ وخيلاء، بعد أن فكرت وابتسمت وصمتت وفرحت:
- لن أغادر مكاني هذا… إنه هوبيتي الجميل.
 ومن جديد ازداد تعلق المياه بالبركة… ازداد تعلق البركة بالتراث… ازداد تعلق الجميع واحداً بالآخر… وما عاد أحدٌ يفكر بالرحيل، هذه أهم أحداث قصة البيت الجميل.
 المفردات البسيطة واللغة الواضحة والربط القوي هي التي تقترب من ذهنية الطفل وتمكن الكاتب من إيصال ما يريد إيصاله للأطفال، إضافة إلى أنها تمكنه من النجاح في الاقتراب من ذهنية الطفل بكل سهولة ونجاحه في تلك المهمة .

هناك أكثر من مفتاح لنجاح الكاتب في مهمته منها:ألا يكثر من الأفكار والرموز والمدلولات في قصته، كي لا تتشابك الأفكار وتختلط لدى الطفل ، فكرة واحدة … حالة واحدة، حوار واحد، نتيجة واحدة،كل ذلك يكفي.

1- إن لا يضع المتاهات أمام الطفل ، وكذا الدهاليز التي لا أول لها ولا آخر التي تجعل الطفل يضيع ويتشتت ويتوقف أمام الاستنتاج والاستنباط والربط والمقارنة لأنه -وكما نعرف جميعنا ذلك- سريع الملل ، فيغلب عليه الرفض, فيرمي القصة جانباً ولا يفكر أبداً في قراءتها

2- البساطة والوضوح طريق للتشويق وللمتابعة التي تجعلنا أن نوصل للطفل ما نريد.

بهذه الروحية، وبهذا التوجه التربوي والفكري كتبت جميع قصصي ورواياتي للأطفال… والعشرات منها نالت متابعة من الأطفال، قرؤوها أمامي… وظلوا يقرؤون، قرؤوها بشغف ولهفة، وبعد ذلك كانوا ينظرون إليَّ بفرح وغبطة، قالوا لي:

- إنها قصص جميلة جداً.

 وطلبوا مني المزيد.. وحاوروني وحاورتهم، وعلموني.. وتعلموا مني، حالة معرفية متبادلة… عرفت منهم بذكاء شخصي ما يريدون، وعلموني بذكاء فطري بسيط ما يريدونه مني… وما يحتاجون إليه… وكان بيننا المزيد من الحوار الهادئ البسيط،يعني المزيد من القصص ولكن بنفس السياق وبنفس الإطار وبنفس المواصفات المطلوبة… الحالة كلها أشبه بالرجل الذي يدخل المطعم ليسد رمقه ويطفئ غليل الجوع… هنالك في المطعم مئات الأنواع من الطعام… يقرأها الرجل بإمعان, لكنه يطلب أخيراً الطعام الطيب واللذيذ الذي يرغب في تناوله، وهكذا كانت رغبة الأطفال في القراءة … وأخذوا من مطعمي ما يريدون.

 على هذا الأساس استمرت الصداقة الحميمة بيني وبين الأطفال، وتحولت صداقتنا إلى محبة طاغية تجاوزت كل الحدود… أقول لكم بصمت:

- لقد أوصلت أفكاري إليهم وتقبلوها وعلمتهم كثيراً من الأشياء، كان حبُ الوطن والدفاع عنه ضدَّ الأعداء الطامعين أول ما علمتهم ، ثم كان بعد ذلك الصدق والإخلاص والتعاون وحب الآخرين وكذا التضحية ونكران الذات وهذا سرُّ سعادتي.

 أتمنى أن يكون كتاب الطفل كذلك وأن يقتربوا من الأطفال بكتاباتهم كي يفهموها ويحبوها… لنقضِ وقتاً ممتعاً في قراءة بعضٍ من قصصي التي كتبتها للأطفال والتي أعجبتني وأعجبتهم وربما ستعجبكم أنتم أيضاً… هيا نقرأْها بسرعة قبل أن يأتوا… ويختطفوا منا الصحيفة التي بين أيدينا ليقرؤوها ً، هيا نتمتع… هيا…,فهذه ( قصة البيت الجميل) التي حدثتكم عنها … اقرؤوها معي ، إنها حتماً ستعجبنا جميعاً.

  قصة للأطفال : PRIVATEالبيت الجميل جاسم محمد صالح

 ملت بركة الماء من وقوفها، ورغبت في التجول، لكنها لا تعرف إلى أين تتجه؟..

فأمامها أكثر من طريق، وبينما هي حائرة تفكر مع نفسها، إذ سمعت أصوات في السماء..

كان هناك سرب من اللقالق العطشى…يريد أن يشرب الماء ليكمل رحلته.

 عرفت البركة ذلك ، وبعد أن ارتوت اللقالق من مياه البركة، وتهيأت للطيران، فكرت البركة في أن تسألها عن المكان الذي تسافر إليه… فأجابتها اللقالق مسرعة:

- إننا نعود إلى بيتنا أيتها الصديقة الطيبة.

 تململت البركة في مكانها وبقيت تسأل نفسها عن معنى الكلمة التي سمعتها، فعرفت اللقالق حيرتها.

– بيتنا هوالمكان الذي نحن إليه… انك مثلنا تحبين بيتك.

 قالت اللقالق ذلك وودعت البركة، وطارت واختفت عن الأنظار، وظلت بركة الماء تفكر مع نفسها… وتفكر… وأخيرا ابتسمت وقالت:

- لن أغادر مكاني هذا… انه هوبيتي الجميل… البيت الذي لا استطيع أن اتركه أبدا.

  قصة قصيرة للأطفال : ( القمر الفضي ) تأليف جاسم محمد صالح

  الأطفال الذين نجحوا في دروسهم جلسوا في وسط الحديقة العامة يتحاورون فيما بينهم :

- ترى ماذا سيقدم لنا صديقنا (القمر الفضي) هدية بنجاحنا ؟

 كل واحد منهم كان يفكر في شيء يرغب في الحصول عليه، دراجة ... علبة ألوان... حقيبة ملونة ... مكعبات ... كتب ملونة.

 كان القمر الفضي يستمع إليهم بهدوء وفرح وعرف بماذا يفكرون ؟ لكنه قرر أن يختبر ذكاءهم في لعبة الحروف الملونة الجميلة، وبسرعة صنع لهم أربعة حروف من الخشب, كبيرة وملونة ووضع كل حرف في (صُرّة) قماش ملونة، حمراء وخضراء وصفراء وبرتقالية، وقذف الصُرَر بهدوء بين أيديهم واختفى مسرعا بين الغيوم، ليراقب بهدوء ما سيفعله أصدقاؤه الأطفال .

 عرف الأطفال أن صديقهم القمر الفضي هوالذي رمى هذه الصُرَر الملونة عليهم، ففرحوا لذلك كثيرا وفتح كل واحد منهم (الصُرة) التي بين يديه بسرعة، فوجدوا فيها حروفا ملونة كبيرة، صرخ الأول قائلا :

- انه (حرف الآلف)... انه أول حرف من اسم صديقي( احمد)

وقال الثاني :

- انه (حرف العين)... وهوأول حرف من اسم صديقي(عامر)

وقال الثالث معقبا :

- انه(حرف القاف) ... وهوأول حرف من اسم صديقي( قادر)

أما الرابع فقد ابتسم وقال :

- انه (حرف الراء) ... وهوأول حرف من اسم صديقي (رائد)

 قالوا ذلك لكنهم لم يهتموا كثيرا بهذه الأسماء .

 قال الأول وكان أكثرهم ذكاء وتفوقا في الدروس :

- ( احمد ) و(عامر) و(قادر) و(رائد) أسماء لأصدقائنا... ولكن لنفكر في ابتكار كلمة أخرى نحبها كلنا ونأخذها من جمع هذه الحروف على الأرض .

 وافق الأصدقاء على فكرته وبسرعة وضعوا الحروف على ( ثيّل) الحديقة الخضراء، وبعد عدة محاولات من تغيير أماكنها...ذُهلوا مما رأوا أمامهم وبصوت عال قالوا :

- (عراق) ... ع ... ر... ا... ق، إنها تكوّن كلمة (العراق) ... بلادنا الحبيبة

 خرج القمر الفضي من مكانه بين الغيوم، فقد عرف أن أصدقاءه الأطفال أذكياء، فقد تمكنوا من حل اللغز الذي وضعه في الحروف، لهذا فانه أضاء أرضية الحديقة الخضراء بلونه الفضي الجميل وبدأت كلمة (العراق) تتألق أكثر وأكثر على ضوء القمر الساطع والأطفال يزدادون تعلقا وفرحا به.

 فرح الأطفال كثيرا وبدؤوا يغنون ويرقصون وهم يدورون حول كلمة ( العراق ) التي تتلألأ أمام عيونهم بلون جميل وزاه، ونسوا كل ما كانوا يفكرون به وكانت سعادتهم كبيرة بكلمة العراق التي تجمعهم .

ضحك القمر الفضي فقد عرف أن أطفال العراق يحبون وطنهم أكثر من كل شيء، حتى من الهدايا التي يحلمون بها .

15 -7-2008 

رواية للأطفال مقتبسة من التاريخ العراقي المعاصر

الّليرات العشر

تأليف جاسم محمد صالح

سكّان القرية يعرفون إن (الشيخ شعلان ابوالجون) لا يحب المال ولا يفكّر في جمعه أبداً.

- إذن أين يذهب المال الكثير الذي عنده ؟

سؤال مهم والجواب عليه سهل، انه ينفقه على المحتاجين من أبناء القرية ، وعلى المسافرين الذين يمرّون بها ، ويصرفه على بناء مشروع عمراني صغير وأعمال خيريّة أخرى .

ما دام (الشيخ شعلان ابوالجون) رجلاً طيّباً وكريماً ….فأنا مثلكم أرغب في معرفة المزيد عنه

- تُرى مَن نسأل ؟ …مَن؟ …مَن ؟

 آه …إنني أرى هناك بعض الصغار يلعبون ويغنّون …إنّهم أطفال القرية ، حسنٌ لأذهب إليهم …ولكنّهم يتراكضون جميعاً وراء فراشة صغيرة جدّاً ، لونها قهوائي ومنقّطة باللون الأسود في جناحيها .

 أنا أعرف هذه الفراشة فهي تظهر في المزارع في فصل الربيع ، فيمسكها الأطفال برفق وحنان ويضعونها على راحة أيديهم …وهم يغنّون لها بصوت جميل :

- (( بنت السقة طيري … طيري أمُّك … وأبوك بالجنّة )).

فجأة تطير ( بنت السقة ) من أيديهم …يتراكضون خلفها فرحين … وعندما تختفي عن أنظارهم يبدؤون من جديد يفتشون عن واحدةٍ أخرى ويغنّون لها تلك الأغنيات الجميلة.

 هنا ناديت على أحدهم وقلت له :

- حدِّثنا عن (الشيخ شعلان ابوالجون)، فأنت من أبناء قريته وتعرف عنه الشيء الكثير .

 رحب الطفل بنا ثم ابتسم وقال :

 - لا يوجد أحد في هذه القرية لا يعرف من هوالشيخ شعلان, يبدوأنكم من منطقه بعيدة جداًّ ؟

 سكت الصبي وهوينظر إلينا باهتمام وقال :

 - انظروا إلى ذلك المسجد الصغير وإلى ذلك الناعور والمطحنة وبيت المسافرين وهذه المدرسة الصغيرة التي تعلمنا القراءة والكتابة، الشيخ هوالذي بناها بأمواله الخاصّة، فأمواله هي أموال القرية كلّها, هنا لا فرق بين ماله ومالنا ، نحن هنا عائلة واحدة و(الشيخ شعلان ابوالجون) رب هذه العائلة الكبيرة… يسهر على حمايتها ويقدّم لأفرادها كل ما يحتاجون إليه، هذا ما قاله لنا آباؤنا وشاهدناه نحن بأعيننا .

الآن نوّدع هذا الطفل الذكي ونتوجه نحومضيف الشيخ (شعلان) ، لم نسأل أحداً، فمكانه واضح أمامنا وكل الطرق في القرية ومسالكها تؤدي إليه …فهويقع في منتصفها ، وهذا ما يعرفه الجميع .

 كان المضيف مضاء دائماً بالفوانيس النفطيّة وممتلئا بالناس … ومن الصعوبة أن يحصل المرء على مكان فيه ، فالكبار يهرعون إليه كل مساء ليقضوا فيه وقتاً جميلاً ويتناولوا القهوة العربية اللذيذة التي لا شيء عندهم أطيب منها … حتّى المسافرون الّذين يمرّون بالقرية فإنهم يهتدون إلى المضيف من كثرة أضوائه ، ورائحة قهوته ، لهذا فإنهم كثيرا ما كانوا يتركون المكان المتوجهين إليه ويقصدون المضيف ليجدوا فيه كل ترحيب وتكريم وضيافة، أخلاق العرب هذه معروفة في كل مكان وزمان … ولكن بعد ان سيطر المحتلون الإنكليز على القرية تغير كل شيء, حيث أطفئت الفوانيس وعم الخراب وانتشر الظلام في أنحاء القرية.

 (الشيخ شعلان ابوالجون ) جالس في مضيفه وهويستمع إلى أحاديث المسافرين بكل اهتمام ولهفة، هذا الرجل الذي يتكلم من (الكوفة) والثاني من (بغداد ) إما الثالث فقد جاء من (النجف ) والرابع من (الخضر) …كل هؤلاء يقصّون على الشيخ أخبارا عجيبة ويسلّمونه أوراقاً مكتوبة …يقرأها (الشيخ شعلان ابوالجون)باهتمام كبير فيتغيّر لون وجهه تبعاً لما يقرأ، فهذه الأخبار كانت عن أناس غرباء احتلوا بلادنا بالخديعة وقوّة السلاح يسمّون بالإنكليز، ووجوههم مليئة بالحقد والكراهية كوجوه الذئاب الجائعة .

 بعد نقاش طويل غادر هؤلاء الرجال مضيف (الشيخ شعلان ابوالجون)بحذر بعد ان وضع الشيخ في جيوبهم بعض الأوراق المطوية … ابتعدوا عن المضيف وهم يتسترون في الظلام حتّى لا يعرف بهم الإنكليز.

أمسى (الشيخ شعلان ابوالجون) قلقاً وساكتا خصوصا بعد أن قرأ تلك الأوراق التي جلبها له هؤلاء الرجال الذين لا أحد يعرفهم ومن أين جاؤوا ؟ ...ولوذهبنا إليه في أي وقت آخر فإننا سنراه على هذه الحالة وقد أمسك بيده اليمنى عوداً يخطط به على الأرض ما يفكر به ويدور في ذهنه ، ولكن لا أحد يعرف بالضبط ما كان يدور في ذهنه، وما يريد ان يحقق بهذه الرسومات التي يخططها على الأرض.

 من يدري ان (الشيخ شعلان ابوالجون) يهيئ مع نفسه أمراً مهماً ؟! وهذه الخطوط والمربعات التي يرسمها على الأرض ربما تكون معسكرات لجنود الإنكليز المحتلّين وطرقاً لقوافل تموينهم وخطاً لسكة الحديد الذي ينقلون به عتادهم وأسلحتهم وجنودهم الذين سيقلون الأطفال ويهدمون به البيوت لهذا فانه يفكر في ان يخربها ويقلع قضبانها فيما بعد .

 لا أحد يدري، فصمت (الشيخ شعلان ابوالجون) صمتٌ عجيب وغريب ، وأبناء القرية والقرى الأخرى يعرفون إنه لا يحب الإنكليز وانه يكرههم كرهاً شديداً لأنهم محتلون لبلاده، ولأنهم قتلوا الأطفال واحرقوا المزروعات وسرقوا كل ما موجود في المساجد والجوامع ، وقد سمع بعض الرجال منه ذات يوم بأنه أقسم بأن يحمل بندقيته ويقتل بها كل إنكليزي محتل دنس برجليه ارض العراق ، وما مساعدات (الشيخ شعلان ابوالجون)للثائرين إلا تأييد لذلك القسم .

والله لأطرد نهم من البلاد وأحرر أرضي منهم والله ، والله ، والله .

 قال(الشيخ شعلان ابوالجون) ذلك وهويخاطب رجال قريته ، فتبادل رجال القرية النظرات فيما بينهم وهم يستمعون إلى كلام (الشيخ شعلان ابوالجون) وقسمه بهدوء واهتمام ، فهم لم يسمعوا (الشيخ شعلان ابوالجون) قبل هذا الوقت يقسم بالله ثلاث مرّات علناً، تساءلوا فيما بينهم:

 -لا بد أن الأمر خطير جداً … علينا أن ننتظر ماذا يقرر؟ وماذا يريد ؟

 قال الرجال ذلك وسكتوا ، لكن أيديهم امتدت إلى البنادق التي أمامهم وامسكوها بقوّة، إنهم يفعلون ذلك تأييداً (للشيخ شعلان ابوالجون)، وهذا يعني إنهم سيقاتلون معه ببنادقهم التي امسكوها بكل إصرار وقوة .

قلنا لكم إن (الشيخ شعلان ابوالجون)يعرف كل شيء … وتصله أخبار كل ما كان يحدث في أنحاء العراق من رفض للمحتلين وإصرار كل العراقيين على مقاتلتهم وطردهم من ارض العراق التي دنسوها بأحذيتهم الوسخة …ومع هذا كله فان القرية كانت تبدوهادئة بين أشجار النخيل العالية وبين الحقول والمزروعات الممتلئة بالخضراوات والفواكه اللذيذة .

مرَّ وقت طويل والرجال الذين لا يعرفونهم يأتون إلى هذه القرية في تزايد، لكن حضورهم هذه المرة كان في شكل آخر ، فالتعب بادٍ على وجوههم والإجهاد واضح عليهم … إنهم ليسوا مسافرين يمرّون بالقرية ويذهبون إلى حال سبيلهم، فربما هؤلاء يقصدون مضيف (الشيخ شعلان ابوالجون) ليخبروه عدّة كلمات بسرعة ويعودوا من حيث أتوا، وهذا ما كان يبدوعليهم .

 نسيت أن أقول لكم إن هؤلاء الرجال وإثناء مغادرتهم كانوا يحملون معهم البنادق والطعام وأشياء أخرى … وربما رسائل من (الشيخ شعلان ابوالجون) للقرى المجاورة ولشيوخ العشائر الأخرى .

 في الصباح رفع (الشيخ شعلان ابوالجون)الراية فوق مضيفه وعلم رجال القرية انه يطلبهم لأمر خطير ومهم والراية مرفوعة فوق بيته تدل على ذلك، فتركوا كل شيء وحملوا بنادقهم متوجهين نحوالمضيف ، وهناك حيّاهم الشيخ الذي كانت تبدوعلى وجهه علائم الألم والغضب وقال لهم:

 - إخوانكم في مدن العراق وأريافه ثائرون على الإنكليز المحتلّين ، فهؤلاء المحتلّون وكما تعرفون يسرقون أموالهم ويهدمون بيوتهم ويعتدون على أبنائهم.

 تعّجب رجال القرية لسماع ذلك …صحيح أنهم يسمعون ويعرفون ان للإنكليز سمعة سيئة جدا، لكنهم لا يعرفون ان أخلاقهم وصلت إلى هذا الحد من الوحشية، الآن وضحت الأمور لهم، وصمت (الشيخ شعلان ابوالجون)منذ وقت طويل كان لسبب وهذا هوالسبب ولا شيء غيره أبدا.

 بعد هذا الكلام بقي (الشيخ شعلان ابوالجون)يحدث رجال قريته عن الموضوع ويوضّح لهم كل شيء، قال أحد رجال القرية :

 - نريد ان نساعد إخواننا في جهادهم ضد المستعمرين المحتلين .

 وافق (الشيخ شعلان ابوالجون)على ذلك بسرعة … وما إن سمع رجال القرية موافقة الشيخ حتى ارتفعت أصواتهم عالياً وهي تلعن الإنكليز المحتلّين وتلعن ظلمهم … وتدعوالناس … كل الناس للمشاركة في الجهاد ضد الإنكليز المحتلّين وطردهم بالقوة من بلدنا العزيز على نفوس جميع أبنائه.

 لم تكن مدينة (الرميثة) بعيدة جداً عن القرية …إنها قريبة جداً منها ، وبإمكان أي طفل ان يصل إليها مشياً على الأقدام في ساعة واحدة ، في تلك الأثناء كان الناس في هذه المدينة غير مرتاحين …وحاكم الاحتلال الإنكليزي الذي يسمى (هيات) متوحش ومزعج وظالم ويعتدي على الناس ويسرق أموالهم وفي أكثر الأحيان كان يأمر جنوده بان يطفئوا الفوانيس والشموع من كل البيوت لان ضوءها وكما كان يدَّعي يزعجه ولا يجعله ينام ، لهذا فان الظلام عشعش في بيوت (الرميثة ) والقرى المجاورة لها .

 حدث ذلك منذ ان دخلها هذا الحاكم الغريب المحتل مع جنوده الغرباء من ذوي الوجوه الغريبة والمتوحشة، ولهذا السبب كان الكبار يستسلمون للنوم مبكّرين ، أما الأطفال فإنهم كانوا دائما لا يستطيعون النوم مبكّراً، لان هذا المحتل الغريب منعهم من ان يلعبوا ألعابهم الجميلة في حمل الفوانيس ليلاً …وحمل الشموع والسير بها في الطرقات … فذلك ممنوع عليهم أيضا . لهذا فأننا نرى الأطفال يلعبون في الظلام الدامس وهم يتجمّعون على شكل حلقات دائريّة ، كل واحد منهم يريد ان يقص للآخرين حكاية عن وحش اسمه (هيات ) … ويظلّون يقصّون حكاياته وكيف يعتدي هووجنوده المحتلون على الأطفال ويدوسون بأرجلهم على الزهور التي تملأ الحدائق والبساتين … يبقون على هذه الحالة فترة طويلة وهم يقصون تلك الحكايات التي صنعوها وسمعوها من آبائهم وأمهاتهم… حتّى يناموا في النهاية ، وفي أكثر الأحيان كانوا يستيقظون فزعين من نومهم صارخين:

 - هيات … هيات … أنقذونا من هيات، انه يتعقبنا بسوطه الجلدي ووجهه القاسي البشع انه يشبه الذئب .

 وحينما يعود الأطفال إلى وعيهم كانوا لا يرون أمامهم شيئاً سوى الظلام الدامس ، لكنهم كانوا يسمعون من بعيد خطوات ثقيلة للجنود الإنكليز المحتلين وهم يتجوَّلون في شوارع مدينة الرميثة وأزقتها وقد اختلطت قهقهاتهم وضربات أحذيتهم بأصوات الكلاب التي يزداد نباحها على هؤلاء الجنود كلما رأت أحداً منهم مقبلا ... لا أحد يحب هؤلاء المحتلين الإنكليز, حتى الكلاب فهي الأخرى لا تحب ان تراهم أبدا, فوجوههم بشعة وعيونهم كلها حقد وكراهية.

ماذا تريد أيها الحاكم الإنكليزي ؟

 قال شعلان ذلك ، فرد عليه (هيات) بكل كبرياء وغرور وتعال :

مجرم … لأنك لا تحب الإنكليز ولا تساعدهم

 قال (هيات) ذلك بعصبية وغضب ، ثمَّ أكمل حديثه والرذاذ يتطاير من فمه :

وصلتني أخبار كثيرة بأنك تساعد الذين لا يحبون الإنكليز، وانك تأوي في قريتك كثيراً منهم.

 انتفض (الشيخ شعلان ابوالجون)في مكانه غاضبا وهويسمع كلمات (هيات) … فليصمت هذا اللعين فهولاء الذين يتحدث عنهم رجال يريدون حرية بلدهم ، فكيف يكونون مخرَّبين ومشاغبين وخارجين عن القانون ؟.

 المحتلون الانكليز هم الإرهابيون وهم القتلة وهم المجرمون، هؤلاء الإنكليز لا ضمير لهم، لأنهم لصوص وغايتهم الوحيدة هي ان يفرقوا أبناء البلد وأن يسرقوا كل شيء في العراق المليء بالخيرات والثروات، حتّى ولوكانت قطعة زجاجية ملونه في جيوب الأطفال .

بقي(هيات) يردد جملا وعبارات كلها تؤكد بان (الشيخ شعلان ابوالجون) كان يساعد الثوار ويؤيدهم .

 - سأضعك في السجن …وسترى فيه كثيراً من أصدقائك .

 قال (هيات) ذلك وهويضحك بشكل جنوني، في الوقت الذي أمر فيه جنوده بأن يسحبوا (الشيخ شعلان ابوالجون)بالقوّة ويضعوه في السجن، هنا التفت (الشيخ شعلان ابوالجون)إلى (هيات) وقال له بشجاعة :

السجن لا يخيفني …ما دمت أدافع عن حرية شعبي وكرامة بلدي.

 صرخ (هيات) غاضبا بوجه الجنود والغضب يملأ وجهه :

- أبعدوه عن وجهي فكلامه لا يعجبني، هؤلاء العراقيون أمرهم يحيرني، إنهم يحبون وطنهم كثيرا، وهذا الأمر لا يعجبني.

 في السجن الذي امتلأ بالرجال وقف (الشيخ شعلان ابوالجون) قرب القضبان الحديدية يفكّر … ويفكّر بالمسألة التي تشغله ويقلِّبها على أكثر من وجه ، فهويعرف كثيرا من الأشياء عن الإنكليز وخبثهم وعن أساليبهم اللعينة في تعاملهم مع الناس .

- عليَّ أن أكون أذكى من هؤلاء المحتلّين ، فالطيبة لا تنفع معهم أبدا

 قال (الشيخ شعلان ابوالجون)ذلك وهوينادي على حارس السجن قائلا له :

اذهب إلى أهلي وقل لهم أني بحاجة إلى عشر ليرات من الذهب الّلامع والرنّان لا تنس ان تذكرهم بـ( اللامع والرنان ).

 ذهب الحارس إلى (هيات) ليخبره بالأمر, فقال له (هيات) :

لا بأس… أرسلوا أحد الحراس الانكليز ليخبر أهله بما يريد ... إنها فرصة ثمينة لان أستولي على هذه الليرات الذهبية حتى يزداد ثرائي من أموال هؤلاء العراقيين.

 قال (هيات ) ذلك لحارس السجن الذي أخبره على الفور بما قاله (الشيخ شعلان ابوالجون) ولمّا كان (هيات) غبياً جداً فقد نسي ان يفكِّر في الطلب ويعرف ما فيه من ذكاء ومهارة، وبسرعة ذهب الحارس الانكليزي إلى قرية(الشيخ شعلان ابوالجون) ليخبرها بحاجة (الشيخ شعلان ابوالجون) إلى عشر ليرات ذهبيّة لامعة ورنانة.

 في سجن الرميثة بشر (الشيخ شعلان ابوالجون) كل المسجونين الذين كانوا معه وكان يعرفهم جميعاً وأخبرهم بان النصر أصبح قريبا … وانه قريب جداً، لهذا فان الجميع اخذوا يفكّرون فيما يفعلونه بعد أن يخرجوا من السجن .

 قال أحدهم :

 - كم أنا مشتاق لان امسك بندقيتي من جديد وأحارب بها الإنكليز المحتلين لأطردهم من العراق ومن وطني العربي الكبير .

 وقال آخر :

- وأنا سأعود فوراً إلى أعمدة التلغراف لأقلعها واقطع أسلاكها, حتى تتوقف الاتصالات بين المحتلّين .

 وقال آخر :

-أما أنا فسأهاجم دوريّات المحتلين الانكليز في كل مكان، وسأجعلهم يعرفون قوة العراقيين وشجاعتهم … ان العرب لا يرضون بالضيم والذل

 أما الرابع فقد قال :

 - سأعود إلى سكة الحديد لأقلعها من مكانها واسقط قطاراتهم المحملة بالجنود والعتاد والسلاح، وإذا ما رأيت إحدى بواخرهم في النهر … فسأرمي عليها كرات النار التي اصنعها من النفط والقطن والبارود واحرقها حتى تغرق.

 ربما تسألونني يا أصدقائي وتقولون :

ما شكل كرات النار هذه ونوعها والتي تغرق البواخر بعد ان تحرقها؟

 أنا اعرف ذلك وسأقول لكم إنها قطع كثيرة من القماش القطني التي تغمس في النفط لفترة طويلة حتّى تتشبع كلها ، وبعدها تملأ بالبارود وتلف على شكل كرة يخرج منها خيط طويل مدلّى يشبع بالنفط، وعند الاستعمال يحرق الخيط الطويل وترمى الكرة على الباخرة ، فتحترق الكرة كلّها وتنفجر وتكون ناراً شديدة تحرق الباخرة ومن فيها .

 استرسلنا في الحديث كثيراً ونسينا أمر الحارس الانكليزي الذي ذهب إلى قرية (الشيخ شعلان ابوالجون)…فانه حين وصل إليها واخبر رجالها بان (الشيخ شعلان ابوالجون) يريد عشر ليرات ذهبية ، ساد في القرية اضطراب ورفعت الأعلام فوق كل البيوت مؤذنة بالحرب ، هنا خاف الحارس الانكليزي على نفسه وظنَّ إن أبناء القرية يريدون قتله.

 هذا الجندي الإنكليزي لا يعرف أخلاق العرب وعاداتهم ، فالعرب لا يعتدون على رجل غريب في ديارهم حتى ولوكان قاتلاً لأحدهم ، لهذا فان رجال القرية لم يفكروا أبدا في إيذاء هذا الرجل، لكنهم ضحكوا كثيراً عندما أبصروا الحارس الإنكليزي هارباً ، فهم يعرفون سبب هربه .

 كان أطفال القرية يشاركون الرجال في الضحك…وحتى الكلاب فهي الأخرى كانت تتابعه نابحة حتى أبعدته عن القرية,ثم عادت وهي تحرك أذيالها منتصرة، فهي فرحة أيضا لأنها قد طردت هذا الغريب .

عرف رجال القرية ، إن (الشيخ شعلان ابوالجون) مسجون في سجن (الرميثة) وانه سيُسفر إلى (الديوانية) بالقطار وحاجته إلى (الليرات) تعني انه في حاجة لعشرة رجال أقوياء يقتحمون سجن (الرميثة) بالقوة ويطلقون سراحه ومعه بقية الرجال المجاهدين .

 كان (الشيخ شعلان ابوالجون) محبوباً من كل أفراد القرية، لهذا فقد تطوَّع الجميع لذلك رجالاً ونساءً وأطفالا، كل واحد منهم يريد أن يذهب، لكن الخيار في النهاية وقع على أشجع رجال القرية وأبرعهم في القتال إضافة إلى معرفته التامّة بمدينة(الرميثة) وطرقاتها وبسجنها الكبير .

أحاط رجال (الشيخ شعلان ابوالجون) بالرميثة من كل جانب …نساء المدينة يعرفن الرجال المسلحين حق المعرفة, فهم أتباع (الشيخ شعلان ابوالجون) وإنهن يعرفن لماذا جاؤوا ؟ وما هي غايتهم ؟ فأخذن يزغردن بكل قوّة، أما أطفال( الرميثة ) فإنهم كانوا مثل أمهاتهم يعرفون هؤلاء الرجال ، فقد سبق وان قدَّم هؤلاء الرجال لهم كثيراً من الحلوى في الأعياد, فبدؤوا يغنّون ويصفِّقون حتّى امتزج غناؤهم وتصفيقهم بزغاريد أمّهاتهم، فعمَّت الفرحة والبهجة في مدينة (الرميثه) التي لم تعرف الفرحة منذ ان احتلها الإنكليز ، تسألونني الآن يا أطفال ولكم الحق في ذلك :

 - أين رجال (الرميثة) ؟ ولماذا لم يشاركوا النساء والأطفال في فرحهم؟ .

 سؤال ذكي وأريد منكم انتم أن تجيبوا عليه :

 - إنهم غير مرغوب بهم، والإنكليز يطاردونهم من مكان لآخر، فهم يحملون السلاح، ولا يرغبون في بقاء الإنكليز لحظة واحدة في بلادهم .

 إنكم تصفقون ألان ووجوهكم ضاحكة فقد توصلتم إلى الجواب الصحيح

 - إنهم مع الثوار المجاهدين في القرى والمزارع البعيدة ، يحاربون الأعداء المحتلين ويقاتلونهم ، وقسم قليل منهم وقع في قبضة الإنكليز ، فوضعوهم في هذا السجن مثلما وضعوا (الشيخ شعلان ابوالجون) فيه، أنكم أذكياء يا أصدقائي وأنا اعرف ذلك … فقد توصلتم إلى معرفة الجواب بأسرع وقت ممكن.

 لنعد الآن إلى (هيات) ونعرف أشياء عنه ، فهذا الرجل الغريب الذي احتل بلادنا بالقتل وبالقوّة له هوايات كثيرة لكنها غريبة مثله وتصل أحيانا إلى حد الجنون ، فقد لا تتصورون بالضبط ما أريد أن أقول ، ولكن بعد أن أحدثكم عن بعض هواياته سيكون الأمر عندكم واضحاً ومفهوماً وسنكره كلنا هذا المتوحش المحتل أكثر وأكثر.

(هيات) هذا يحب أن يرى في غرفته أنواعا مختلفة من العقارب السامة ، فعلى جدران غرفته تتواجد العقارب السوداء والبيضاء والبنيّة ، ولوسألنا (هيات) عن اسعد لحظات حياته فانه يضحك ضحكةً خبيثة مثل الشيطان ويكشّر بخبث عن أنيابه ويجيبنا :

إنها تلك اللحظات التي يرى فيها عقاربه وهي تلدغ السجناء العراقيين وتقتلهم ، إن صراخهم جميل يجعلني أنام بهدوء.

 ولـ (هيات ) هواية أخرى فهوبعد ان يصبغ حذاءه بالفرشاة يضعه على المنضدة التي أمامه ويسأل كل شخصٍ يدخل غرفته عن جودة صبغ الحذاء وشدّة لمعانه ، فإذا كان ذلك الشخص جاهلاً بالأمور ولا يعرف طبائع (هيات) فإنه يستغرب من سخافة السؤال، وعندها يغضب (هيات) عليه غضباً شديداً ويمسك الحذاء ويضرب به رأس ذلك الجاهل مرات كثيرة، أما إذا كان ذلك الشخص عارفاً بالأمور فإنه سرعان ما يقول :

انه لم يرَ في حياته حذاء لامعاً كهذا الحذاء، انه حذاء قوي يحتل البلدان بالقوة ويخضعها لإرادته بكل الوسائل كالقتل والتشريد .

 يقول ذلك ولا أحد يعرف بالضبط ما هوالمقصود بكلامه ؟ أهوالحذاء …حقيقةً ؟ أم أن المقصود به هو(هيات ) نفسه ؟ …لا أحد يدري وعندها يحصل هذا الرجل على رضا (هيات ) وعلى هداياه الكثيرة ، لأنه عرف كيف يرضي غروره وجنونه ويشبع رغباته ونزواته الشريرة، وان يعرف ان (هيات) سيعطيه كثيرا من الهدايا التي سرقها من بيوت العراقيين.

في تلك اللحظة التي كان (هيات) فيها يتأمل حذاءه مثلما يتأمل الإنسان جوهرةً نادرة أمامه، صرخ قائلاً:

 - لينطلق القطار ألان إلى ( الديوانية )، ولا تنسوا أن تضعوا فيه السجناء كلهم وخصوصا ( شعلان ) .

 تصور (هيات) أن أمره سينفذ بسرعة،لان أخبار ما كان يحدث في( الرميثة ) لم تصل إليه، لم يقل الجندي شيئاً فقد كان يرتجف من الأحداث التي وقعت في المدينة والتي لا يعلم بها هيات … حيث ظلّ واقفا في مكانه كأنه عمود من رخام، فالمسألة كبيرة و(هيات ) المشغول بهواياته الغريبة لا يعرف عنها شيئاً .

زغاريد النسوة تملأ أسماع سكان المدينة منذ وقت طويل ، والأطفال يملأون الطرقات وهم يغنون ، ورجال (الشيخ شعلان ابوالجون)يتجولون في أزقة (الرميثة) يحيّون أبناء المدينة .

 الجنود الإنكليز هربوا من أماكنهم وابتعدوا عن المدينة خائفين، ما عدا ذلك الحارس الذي لا زال يرتجف والذي بدوره رمى سلاحه وولى هاربا كالفأر لا يفكر بأي شيء سوى إنقاذ نفسه من الثوار العراقيين.

القطار المتوجه نحو(الديوانية) فارغ ، وانه هذه المرّة لم يحمل الأسرى ، وإنما حمل أشياء أخرى لم يحملها من قبل .

بدأ القطار يحرّك عجلا ته والبخار يتصاعد منه وهويصرخ بصوت عالٍ :

- طوط…طوط…طوط .

 وبدأت عجلاته تتحرك… وتتحرك، والجنود الإنكليز الهاربون من مدينة الرميثة يلحّون على السائق كي يسرع مبتعدا عن المدينة التي حررها رجال الشيخ ( شعلان ) وفتحوا أبواب سجنها وأطلقوا سراح كل من كان فيه من مجاهدين رافضين للاحتلال الأجنبي .

 تحرَّك القطار بسرعة كبيرةٍ وقد صيَّر الخوف والفزع وجوه الجنود الإنكليز صفراء مثل قشرة البرتقال الناضج ، فتمسَّكوا بمقاعدهم الخشبيَّة بقوَّةٍ وأثناء تحركِ أبصروا من بعيد رجلاً خائفاً يركض وراء القطار المسرع … انه يركض بأسرع ما يمكن وهويصرخ ويصرخ بصوت عالٍ :

- أنقذوني …أنقذوني … أوقفوا القطار …احملوني معكم، أنا (هيات)، أنا القائد … أنا الحاكم، أنا إنكليزي مثلكم.

 في تلك اللحظات المخيفة المفزعة ضحك الجنود على منظر قائدهم ، على الرغم من إن الخوف مما يحدث في الرميثة منعهم من تحريك شفاههم ….لكنهم ضحكوا للحالة التي يرونها أمامهم، وظلّوا يضحكون كثيراً ، فمنظر قائدهم وهوفي حالته المزرية هذه تدفعهم إلى ذلك ، فقد أبصروه راكضاً وقد شدَّ فردتي حذائه اللامعتين وعلقهما على رقبته ، ولم ينسَ أن يعبئ جيوبه بعقاربه السّامة المختلفة الأشكال والألوان .

 تصور بعض الجنود الإنكليز إن (هيات) هذا كان عدّاءً سريعاً ، لكن الحقيقة إن الخوف كان سبباً في سرعته هذه ؟ لكن لا أحد من جنوده يستطيع أن يقول ذلك .

أما (هيات) فانه في النهاية تمكَّن من أن الوصول إلى آخر عربة في القطار وتعلَّق بها ورمى جسده على أرضيتها الخشبيّة ، وظل يلهث ، ويلهث مثل كلبً وخائف .

 مضى على القطار وقت طويل وهويبتعد عن (الرميثة) بكل سرعة، إلا إن (هيات) وبقية الرجال الذين معه كانوا يمتلئون رعباً وفزعاً وهم يسمعون من بعيد كلمات الناس الذين حملوا (الشيخ شعلان ابوالجون)فوق رؤوسهم، لكنهم كانوا لا يعرفون ما يقوله هؤلاء الناس ، فقط كانوا يعرفون شيئاً واحداً هوإن ما يقوله هؤلاء شيءٌ لا يحبون سماعه ولا يرغبون أبدا في معرفة معناه.

 بعد هذه الحادثة امتد لهيب الثورة العراقية إلى كل مكان … وثار الشعب العراقي كله من أقصاه إلى أقصاه على المحتلّين الإنكليز وكانت ثورتهم عظيمة والتي سمِّيت فيما بعد بـ(ثورة العشرين) لأنها حدثت عام 1920م والتي انتصر فيها العراقيون وطردوا المحتلين والطامعين من بلدهم .

 

قصة للأطفال مستوحاة من قصص ثورة العشرين الخالدة

الفأس

(قصة شهيد الوطن الأول حميد رشيد الأخرس)

تأليف جاسم محمد صالح

 أغلق النجار حميد رشيد الأخرس دكانه قبل أن يحل الظلام ، وعاد إلى بيته مسرعا فأزقة محلة الفضل الضيقة التي خيم الظلام عليها ووجوده الجنود المحتلين تزيد غضبه فهم يوجهون بنادقهم نحوالمارين وأصابعهم على الزناد … ومع كل هذا فهم يضحكون على الناس بلغة عربية ركيكة .

 حّول الإنكليز انتفاضة الشعب العراقي على التسلط العثماني لصالحهم … وحينما ملئوا بجنودهم شوارع بغداد وراحوا يفعلون مثلما فعل العثمانيون بالناس .

هز النجار الأخرس رأسه ، صحيح انه لا يستطيع الكلام .. إلا انه كان يريد ان يقول :

لن نُستغفل هذه المرة وسيدفع الانكليز الثمن غاليا .

ثم ضرب الأرض برجله بقوة وراح يتمتم بكلمات يريد ان يقول بها

الويل لمن يسرق الحرية من الناس ويطفئ المصابيح في الشوارع ويسرق البسمة من وجوه الأطفال .

 تجمع الناس ذات يوم في (جامع الحيدر خانة ) وكان النجار الأخرس قد سبق الجميع في الحضور فهومنذ طفولته أحب احتفالات المولد النبوي ففيها كثير من الأمور التي تستهويه وتعجبه .

 صعد احد الناس على منبر الجامع وبكل حماسة راح يلقي في الناس قصيدة شعرية تلهب حماس الجماهير .

صفق الحاضرون له تأييدا فقد دعا في قصيدته الى طرد الانكليز واستقلال العراق … انتبه النجار الأخرس إليه وهويستمع بفرح الى أبياته فصفق مع المصفقين وقبل ان ينزل الشاعر من مكانه أسرع إليه متخطيا جموع الحاضرين وقبله قبلتين … واحدة على خده الأيمن … والثانية على الأيسر ، وراح يتمتم علنا بكلمات غير معروفة كأنه يريد ان يقول بها :

- هذا هوالعراقي فلنكن كلنا مثله ، ونحقق ما نريد .

 عرف الناس ماذا يريد النجار الأخرس ، فاضطرب المكان وارتفعت صيحات الناس مطالبة بالحرية … وبالاستقلال وبجلاء الانكليز عن ارض الوطن .

 جن جنوب الانكليز حينما وصلت إليهم أخبار جامع الحيدرخانة وما جرى فيه، فأرسلوا جنودهم على ارض الوطن.

عد أهالي بغداد عمل الانكليز هذا تحديا لهم ، وامتهانا لكرامتهم وحقوقهم ، فتنادوا الى حضور اجتماع جماهيري

في الجامع نفسه ، بعد ان أغلقوا حوانيتهم ومتاجرهم كلها .

 ازداد غضب الناس شيئا فشيئا وهم يتجمعون في جامع الحيدرخانة لانتخاب ممثليهم الذين سيفاوضون الانكليز في كثير من المسائل ومنها حرية الناس في التعبير والتجمع لكن المحتلين لم يرضوا ان يحدث مثل هذا التجمع وخافوا من تحوله إلى ثورة عارمة ضدهم فأرسلوا على الفور قواتهم محمولة في سيارتين مصفحتين اخترقنا شارع الرشيد الذي امتلأ بالآلاف من المواطنين المتجمهرين .. هنا وهناك لكن أهالي بغداد بقوا في مكانهم لا يتراجعون ولم يخيفهم الرصاص الذي انهمر عليهم بدون رحمة من بنادق المحتلين لهذا ازداد جنون الجنود الانكليز وهم يرون صمود الناس بوجههم رغم الرصاص الكثير الذي يطلقونه عليهم والقسوة التي يعاملونهم بها .

 اشتعلت ثورة الغضب في نفس النجار (حميد رشيد الأخرس) وترك مكانه عند بوابة الجامع وامسك فأس بيده بقوة …فالإنكليز المحتلون لا يعرفون الرحمة ويجب ان يوقفهم عند حدهم . قفز من مكانه إليهم ووقف وجها لوجه أمام مصفحاتهم … وبفأسه فقط راح يقاتل عشرات الجنود المسلحين بالأسلحة … وظل يقاتل ويقاتل حتى سقط شهيدا بنيرانهم… وسحقته عجلاتهم .عرف الجنود الانكليز قوة الفأس التي شجت رؤوسهم فنزعوا خوذهم الحديدية وراحوا يتحسسون جراحهم التي منها الدماء . صار ذلك الحدث عندهم درسا بليغا وتجربة قاسية لا ينسونها أبدا، شيّع سكان بغداد كلهم "شهيد الوطن الأول" وكان هناك مشاركون من كل مدينة عراقية, فهذا الرجل الذي يشيعونه أول عراقي سقط شهيدا بنيران المحتلين الانكليز … وعند قبره اقسم المشيعون جميعا على الأخذ بثأره … وعلى مواصلة الجهاد من اجل طرد المحتلين . 

مقطع من رواية تاريخية للأطفال

السيف

قصة البطل الشيخ ضاري المحمود الزوبعي

تأليف جاسم محمد صالح

 

 قرية أم الخير يعرفها الجميع.. فمياهها كثيرة..وأشجارها مثمرة…أما أهلها فهم طيبون جدا ويكرمون المسافر والغريب ويعتزون بعاداتهم العربية،هذه التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم.

الرجل الشجاع القوي الذي يحمل سلاحه بيده دائما ويدافع عن القرية ضد الغرباء المحتلين ، رجل يحيه الجميع ويحترمونه ولا يخالفون له أمرا انه (ضاري)، الذي جعلوه شيخا على القرية لصفاته الحميدة..

ومنذ فترة ليست بالقصيرة أصبح اسمه الشيخ في الوقت الذي ازداد حبا لقريته ولأهلها الكرماء الطيبين.

 ان ملامحه تدل على الشجاعة والقوة والصبر وكذلك كان طيب القلب مع الجميع وخاصة أطفال قريته الذين يحبونه حبا كبيرا،ويهرعون إليه كلما وجدوه ليقص عليهم كثيرا من قصص الشجاعة والبطولة والتضحية.

 أطفال القرية يحبون ذلك كثيرا، لأنهم يرغبون في ان يكونوا شجعانا وإبطالا ومدافعين عن قريتهم ضد أعدائها الطامعين ،لهذا فأن قصص البطولة هذه تستهويهم كثيرا ، فلوان أحدا ذهب إليهم في إثناء جلوسهم قرب الشيخ ليسمعوا منه الأحاديث فأنه يراهم محيطين به…وهم صامتون وقد فتحوا عيونهم على أوسع ما تكون…وبين لحظة وأخرى تتبدل تقاطيع وجوههم.

 الشيخ ضاري يحب ان يشرب القهوة العربية اللذيذة وحينما يقص على الأطفال قصصه الجميلة كان يتلذذ بشرب القهوة …فالدلال النحاسية الصفراء موضوعة بجانب المضيف…والسنة النيران تتصاعد من الخشب المحترق… ولكن فجأة حدث شيء لم يكن في الحسبان.

 جاء احد رجال القرية الى المضيف…واخبر الشيخ ضاري بان احد الغرباء يقترب من أطراف القرية.

 ابتسم الشيخ ابتسامة عريضة … وفرح من أعماق قلبه ، فكلام هذا الرجل يعني ان هناك ضيفا قادما الى القرية … وهذه مناسبة سعيدة جدا، وعليه أن يهيئ نفسه لاستقبال الضيف وإكرامه على أحسن ما يكون.

 قبل ان يطلب الشيخ من الأطفال ان ينصرفوا الى بيوتهم ، عرف الأطفال إن بقاءهم غير ضروري وعليهم ان يغادروا المكان حالا.. شكروا الشيخ وانصرفوا مسرعين الى بيوتهم وهم يرددون بعض حكاياته بصوت عال.

 وقف الشيخ في باب المضيف بانتظار مجيء الضيف ، فقد بدا رجلا غريبا يرتدي ملابس غريبة وقد ركب حصانا.

 - هذا الرجل ليس غريبا… ترى من يكون؟ من؟

 قال الشيخ ذلك واخذ يتساءل مع نفسه ،ومر على الشيخ في تساؤله وقت ، ولم يحس الا والرجل الغريب واقف أمامه …وقد رفض ان يترجل عن حصانه كعادة الضيوف حينما يقتربون من احد البيوت التي سينزلون بها .

 - ماذا يريد هذا الرجل بوقوفه هكذا ؟

 سأل الشيخ نفسه ، لكنه- وبحكم أخلاقه العربية الحميدة - نسي هذا الموقف ، وتقدم من الغريب ليرحب به بوجه ضاحك بشوش ، لكنه فوجئ حينما رفض الغريب سلامه ولم يرد عليه ولم ينزل من حصانه … وعبس وجهه وقال باستعلاء وغضب :

 - أنا ( لجمن) حاكم هذه المنطقة … الجديد !

 - لجمن..لجمن..لجمن.

 قال الشيخ ذلك وهويتفرس في وجه الرجل الغريب ما بين مصدق ومكذب ، فألاخبار التي يتناقلها الناس حول هذا الرجل سيئة وإنها تؤكد خبثه…ولؤمه…وعداءه للعراقيين وحقده عليهم ... الخ ( هناك بقية للنص)

 

مقطع من رواية تاريخية للأطفال

منقذ اليعربي

تأليف جاسم محمد صالح

 منقذ اليعربي حداد من أهالي بغداد ، مع أن أسواق بغداد مليئة بالحدادين إلا أن منقذ اليعربي هوالحداد الوحيد الذي يحبه الناس ويذكرونه دائما في مجالسهم .. فهم يقولون عنه بأنه رجل صادق ... وماهر في عمله ...ز ويساعد الناس الذين لا يملكون مالا ... وأنه رجل يحب بلاده ويحث الناس على حمل السلاح للدفاع عن المدينة ، وقبل أن يقول الناس الجملة الأخيرة يتلفتون حولهم ووراءهم أكثر من مرة ... فهم يخافون جنود الخليفة وعقابه للناس .

منقذ اليعربي لا يعمل شيئا غير صناعة السيوف والأسلحة حتى تكدست في دكانه بكميات كبيرة جدا ، بعض الحدادين كانوا يتعجبون كلما رأوه يعمل هذه الأشياء ... ففي هذه المدينة التي كانت تسمى في ذلك الوقت ( دار السلام ) لا يجوز لأحد أن يشتري الأسلحة ، فلقد منع الخليفة ( المستعصم بالله ) ذلك بعد أن سرح الجيوش ، وألغى كل دفاعاته ... فقد كان المستعصم هذا طماعا ... وبخيلا ... وجبانا ولا يحب وطنه ، والشيء الوحيد الذي كان يحبه في هذه الدنيا هوالمال والجواهر والذهب حتى تكدست في خزانات قصره كثير من هذه الأشياء ، وما بقي في بغداد من جنود فهم قليلون جدا ، وواجبهم حماية كنوزه وسرقة أموال الناس والاعتداء على كل من يذكر الخليفة بسوء .

جيوش المغول تحاصر المدينة منذ وقت طويل ... وصراخ قائدهم وهويتوعد سكانها بالقتل والحرق يصل إلى أسماع الجميع خصوصا ( المستعصم بالله ) وأعوانه ..ز لكنه لم يفعل شيئا ... أي شيء حتى ولوكان بسيطا .

(منقذ اليعربي ) لا يعرف من الدنيا شيء غير وطنه وشعبه ، واتصالاته السرية بأبناء المدينة أثمرت وصار عنده في الخفاء رجال كثيرون مثله مستعدون لان يضحوا بأرواحهم من أجل ذرة من تراب الأرض التي يعيشون عليها ... لهذا فإنه حينما ينهي نهاره الطويل في صنع السيوف والرماح لا يذهب إلى البيت ليرتاح بل يتوجه إلى أحد الأماكن الخفية ليلتقي برجاله وليوزع السلاح الذي صنعه عليهم وليتباحثوا في قضية الدفاع عن المدينة ، وصد هجوم المغول عليها .

في يوم الجمعة ... امتلأ جامع الخليفة بكثير من المصلين ، فوضع المدينة خطير وخطير جدا ، والمغول يحاصرونها من كل جانب وجيوشهم تملأ السهول المحيطة بها .

 بعد أن انتهت صلاة الجمعة ، وقف أحد المصلين ليتكلم .... المصلون كلهم يعرفونه : أنه ( منقذ اليعربي ) ... ولكن ( منقذ ) رجل حداد ... ترى ماذا يريد أن يقول ؟ سؤال قاله بعض الذين لا يعرفون حقيقته .

 تكلم منقذ ، فالجميع منتبهون إليه وصامتون :

- يا أبناء بغداد ... المغول على أبواب مدينتكم ، أنهم قادمون ليهدموا جوامعها ومدارسها ومكتباتها وكل شيء فيها ، وهم يضمرون الشر كل الشر لكم ولإخوانكم في المدن الأخرى .

 وقف أحدهم وكان حاجبا في دار الخلافة ... وعلائم الغضب بادية على وجهه وقال :

هذا الشيء نعرفه يا منقذ ، ونعرف أن المغول سيتركون حصار المدينة عما قريب ، ولا داعي لأن نقلق ... أنهم حتما ينسحبون فأسوار المدينة قوية وعالية ، والخليفة المستعصم قال لنا ذلك

أنقسم الناس بين منقذ والحاجب ، وحدث ضجيج ولغو... لكن ( منقذ اليعربي ) ذكي ويعرف أن هذا الحاجب واحد من رجال الخليفة ، فتكلم من جديد ولكن صوته هذه المرة كان عاليا وعاليا جدا :

- لنذهب إلى (المستعصم) ونخبره بالأمر ، فالخطر يهددنا جميعا ، فإذا كانت القضية قضية مال فكل ما نملك من مال نقدمه له ، وإذا كان بحاجة إلى الرجال فكلنا جنوده .

 بقي منقذ اليعربي يحدث الناس ويشرح لهم كل صغيرة وكبيرة في الوقت الذي أنسل الحاجب بهدوء إلى خارج الجامع وتوجه مسرعا إلى قصر الخليفة .

 قال المصلون لمنقذ اليعربي :

- لنذهب الآن إلى الخليفة ونعرض عليه الأمر .

 خرج الجميع مثل السيل وتوجهوا نحوقصر الخليفة ... وتعجب الجميع حينما وجدوا أن الطريق الموصل إلى القصر مليء بالجنود المسلحين بالسيوف اللامعة الحادة ... والرماح الطويلة المدببة ... وهذا الشيء لم يروه منذ فترة طويلة :

- الحمد لله أن المدينة فيها بعض الجنود المسلحين

 قال بعض الناس هذا الكلام ، أما منقذ فلم يقل شيئا ، وتمتم مع نفسه بكلمات غامضة لم يفهما الرجال الذين معه ، فمنقذ يعرف حقيقة المستعصم ، ولأي شيء أوقف الجنود في هذا المكان .

عند بوابة القصر المرصعة بالذهب وبالياقوت وبكثير من الأحجار الثمينة وقف المستعصم مع بعض رجاله ... فقد وصلت الأخبار إليه في لحظة .

- قفوا مكانكم وانحنوا للخليفة المستعصم بالله .

 قال الحاجب ذلك يغضب ... وقد توقع أن الحاضرين سيطيعون كلامه وينفذونه على الفور مثلما كانوا يفعلون في المرات السابقة، لكنه تعجب حينما بقى الجميع في أماكنهم ولم ينحنوا ، بل ازدادت رؤوسهم ارتفاعا وشموخا ... حاول بعضهم أن ينحني لكن الأيادي القوية امتدت إليه من كل جانب وجعلته واقفا في مكانه ولم يفكر بعدها أحد في أن ينحني .

 امتعض الخليفة والحاجب والقاضي من ذلك وصار كل واحد منهم ينظر إلى الآخر باستغراب وتعجب ... ولكنهم في النهاية عرفوا بأن الأمر خطير ، وما يحدث أمامهم سيء جدا ، ولم يجد الثلاثة طريقا غير الخداع والكذب لتهدئة الرجال والتقليل من غضبهم ، فتناقشوا مع منقذ اليعربي عما يريدون ... وبعد أن عرفوا منهم الحقيقة ... تململ المستعصم في مكانه وقال بخبث :

- نحن أقوى من المغول ... صحيح أنهم يحاصرون المدينة منذ فترة طويلة ، لكنهم لا يستطيعون أن يعبروا أسوارنا ويدخلوا مدينتا ، نحن أقوى منهم مثلما قال لكم الحاجب .. بعض حراسي الذين يقفون على الأسوار أقسموا لي بأنهم شاهدوا المغول وهم يغادرون أماكنهم ، ويبتعدون عن المدينة مسافة كبيرة ، لهذا سيكون يوم غد عيدا للجميع ... وعليكم أن تلبسوا ملابسكم الجديدة حينما تأتون إلي فأن غداء فاخرا سيكون بانتظاركم في أروقة هذا القصر .

 قبل أن ينهي الخليفة كلامه أخذ الحاجب يمسح شفتيه بلسانه بينما كان القاضي يتلمس كرشه الواسع بيديه ، وكان الثلاثة يتوقعون أن يهتف الناس بسلامة الخليفة المستعصم بالله ويدعوا له بطول العمر ويقبلوا الأرض التي تحت أقدامه ... لكنهم فوجئوا بأن الجميع يضحكون على الخليفة مثلما الأطفال يضحكون على قرد يجيد الرقص والقفز ، وأرتفع الضجيج والصفير من كل مكان ... فالناس يعرفون الخليفة كاذب وكل ما يقوله كذب في كذب ، لأنه طماع وجشع ويحب المال أكثر من أولاده ومن نفسه ... فهولم يترك درهما واحدا في أيدي الناس دون أن يأخذه منهم بألف أسلوب وأسلوب ... تارة باسم الدفاع عن المدينة ضد أعدائها ... وتارة أخرى بحجة مساعدة الناس في أنحاء البلاد والأخرى ، حتى تكدست في خزائنه أكداس من الذهب والفضة والأحجار الثمينة ، ولم يفكر في أن يشتري سيفا واحدا لجنوده ... ولا رمحا ... ولا درعا ، بل أنه فعل أكثر من ذلك حينما سرح كل جنوده ولم يبقى عنده إلا بعض الجنود الذين يحبونه فقط ... ويحمون حاجبه وقاضيه .. لهذا فان الناس صاروا يزدادون ضحكا على الخليفة لحظة بعد أخرى حتى إنهم حينما لم يجدوا شيئا يفعلونه لهذا الخليفة الجبان حملوا بأكفهم حفنات من التراب والحصى والحجارة وصاروا يرمونه بها ويرمون حاجبه وقاضيه ... فلم يكن هناك شيء ينقذ الثلاثة غير الاحتماء بأبواب القصر وببعض الجنود المسلحين الذين شهروا رماحهم وسيوفهم بوجوه الناس وأخذوا يتوعدون بالقتل كل من يجرؤ على الاقتراب من الخليفة ورجاله .

 …الخ ( هناك بقية في الرواية) 

من قصص ثورة العشرين الخالدة

ألحصار

تأليف جاسم محمد صالح

رفع الأطفال أيديهم الى السماء ثم صرخوا قائلين :

 - الطائرات الانكليزية ... الطائرات الانكليزية !!!

 ولما كان صوت الطائرات قويا ومفزعا فقد خافوا من ذلك، فتركوا أماكن لعبهم المخططة بالحصى وبالطباشير ووضعوا أيديهم في آذانهم وراحوا يتراكضون الى بيوتهم عائدين .

 قسم منهم نسي نعليه وانطلق حافيا وقسم آخر نسي منديله مع بعض ألعابه الأخرى، ومرروا في السوق الكبير وقد تصوروا بأنه سينقذهم ويدخل الهدوء الى نفوسهم خصوصا وانه ملئ بالناس وبالبضائع وبأشياء جميلة أخرى .

 مروا قرب الدكاكين يتراكضون ... لكنهم حينما وصلوا الى دكان الحاج "(نجم البقال) الذي كان الناس يلقبونه بـ ( نجم الدليمي)، توقفوا … والدهشة مرتسمة على وجوههم فـ(نجم البقال) واقف أمامهم فاتحا ذراعيه لهم ووجهه الضاحك يقول لهم أكثر من شيء ... فهوصديقهم ويحبهم مثلما يحبونه .

 اقتربوا من دكانه حتى ملاوا الفسحة التي أمامه، وراحوا يتابعون (نجم البقال) وماذا يفعل ؟ .

كان (نجم البقال) سعيدا جدا وهويوزع على الأطفال التمر واللبن والجوز والحلاوة، فتلاقفته أيدي الأطفال بكل فرح وسرور وصار الجميع يأكلون بسرعة وهم يضحكون ويغنون ويصفقون .

 الأطفال الذين كانوا قرب دكان (نجم البقال) يعرفون ان طائرات الإنكليز مخيفة ومرعبة، لكن الأطفال كانوا لا يعرفون الأشياء الأخرى، فسال أحدهم (نجم البقال) قائلا :

- لماذا يفعلون بنا هكذا ؟ ونحن لن نؤذهم؟ ولم نفعل لهم شيئا؟ .

 وما ان اتم الطفل كلامه حتى تناهت الى الأسماع أصوات انفجارات قوية جعلت السوق يهتز … ويهتز ، فاقترب الأطفال من (نجم البقال) أكثر … وأكثر وقد أحاطهم بذراعيه مثلما يفعل الأب بأبنائه، ثم قص عليهم الحكاية من أولها ... الى آخرها، فالأطفال يريدون ان يعرفوا كل شيء … وخصوصا قصة هولاء المحتلين .

 ضحك الأطفال كثيرا عندما عرفوا السبب ، فقد ذهب الخوف منهم وعاد الفرح الى وجوههم من جديد … فهم لا يمكن ان يخافوا من أناس غرباء يريدون ان يسرقوا خيرات بلادهم ويستولوا على أرضه بالقوة .

- لن نخافهم بعد الآن، ولا يمكن ان نهرب منهم أبدا .

 قال الأطفال ذلك بصوت واحد ، واخذوا يصفقون ويغنون أغنيات شعبية جميلة … وكان (نجم البقال) يشاركهم فرحهم وغناءهم ، ويصفق مثلما يصفقون .

 حينما عاد الأطفال الى بيوتهم كانوا هادئين جدا ورؤوسهم مرفوعة الى الأعلى وينظرون الى الطائرات وهم يتمنون ان تكون لهم عضلات قوية جدا حتى يرموها بما في أيديهم من حصى … وقد حاول بعضهم ان يفعل ذلك … لكن الطائرات كانت بعيدة جدا وعالية … وتخاف ان تقترب من الناس .

 كل الناس في مدينة النجف يعرفون (نجم البقال) ويعرفون انه رجل طيب وكريم ويحب الناس كلهم ولا سيما الأطفال، ويعرفون أيضا انه من أكثر الناس عداء للمستعمرين الانكليز وكرها لهم ، فـ(نجم البقال) محق في ذلك، فلا يمكن لأي إنسان مخلص لوطنه ومحب لشعبه ان يرضى بوجود المستعمرين في وطنه .

- إذا ماذا كان يفعل ؟

 سؤال ربما يقوله أحدكم، والجواب عليه سهل وبسيط، فـ(نجم البقال) لم يضيع دقيقة واحدة من دون ان يجمع همم الناس ويقوي عزائهم، فالانتصار على المستعمرين ليس سهلا … لكنه ليس مستحيلا .

- بالقوة … وبالتعاون ... وبالتضحية يمكن ان نحقق الانتصار عليهم .

 كان (نجم البقال) يقول ذلك لكل الناس الذين يلتقي بهم بعد ان جعل من نفسه مثالا لذلك، فقد باع كل ما يملك واشترى بالأموال أسلحة وعتادا بكميات كبيرة، فقتال الانكليز قريب جدا ولا بدّ من التهيؤ .

 الناس في كل مكان حينما يأتي المساء يتركون أعمالهم ويتوجهون الى بيوتهم ليرتاحوا، لكن (نجم البقال) لم يكن يفعل ذلك، فحينما يأتي المساء يغلق دكانه ويتوجه مسرعا الى الخارج المدينة … بعد ان يمر بطرقها الملتوية وبيوتها المتلاصقة ويجتاز سور المدينة بصمت وحذر ويجلس في مكان يعرفه جيدا ويظل يحدق في الظلام المحيط به بكل اهتمام .

- ماذا يفعل نجم في هذا المكان ؟ ومن ينتظر ؟ وأي شيء يريد؟

 تساؤلات نقولها وما سيحدث بعد قليل يوضح لنا الأمور التي نجهلها .

 بعد مدة قليلة جاء الى المكان رجال مسلحون ومن دون ان يحدثوا صوتا … ويثيروا أي انتباه … إنهم الرجال الذين يحبون وطنهم ، واحد… اثنان … ثلاثة … سبعون … مئة ، وربما أكثر بكثير … ملئوا المكان الواسع وبدأوا صامتين.

- علينا ان نواجه الإنكليز بالقوة .

 قال (نجم البقال) ذاك ثم سكت بانتظار ان يسمع شيئا ، فردّ عليه احد الرجال قائلا:

- لن نتركهم يحتلون بلادنا .

 ثم أمسك بندقيته بقوة وصرخ قائلا :

 - والله لا سقطن طائراتهم ببندقيتي هذه .

 طلب (نجم البقال) من الرجل ان يخفض صوته، ففي الليل لا يمكن التحدث بصوت عال، وخصوصا إذا كان الحديث في مثل هذه الأمور .

- غدا سيكون "عيد رأس السنة" وسينشغل الانكليز بهذه المناسبة، إنها فرصتنا الوحيدة لان نهاجم مقراتهم ونخلص المدينة من "مارشال" وجنوده … وسنبتدئ في مهاجمة(الخان) بعد صلاة الفجر.

 سكت (نجم البقال) بعد ان قال ذلك واخذ الجميع يتناقشون في الموضوع ، وبعد فترة وافقوا على ذلك وتبادلوا الآراء في تنفيذ الخطة وحددوا ساعة الهجوم ثم تفرقوا عائدين الى بيوتهم إلا (نجم البقال) بقي في مكانه يفكر في الأمور .

, وقتها تذكر (نجم البقال) أطفال "مدينة النجف" وما يفعلونه في مثل هذه المناسبات حينما يلبسون ملابسهم الجديدة ويحملون الدفوف والطبول ويتجولون في الأزقة والحارات وهم يغنون بصوت عذب جميل :

- يا محول القلوب والأحوال … حول حالنا الى أحسن حال .

 وتذكر ، أيضا وهوفي الظلام الدامس وجوه الأطفال الذين أحبهم .. وكيف كانوا يضحكون ؟ ويغنون ويأكلون التمر واللبن والرمان، وكيف ؟… وكيف ... ؟.

 ثم اضطجع (نجم البقال) على عباءته التي فرشها على الأرض الرملية وراح يحدق في السماء ويحسب النجوم واحدة واحدة، على الرغم من أنها كثيرة فما زال لديه متسع من الوقت لتنفيذ المهمة .

 بعد فترة ترك (نجم البقال) مكانه وتوجه الى(الخان) الذي جعله "مارشال" مقرا له حيث سيهاجمه هووالرجال الآخرون حالما يبزغ الصباح .

 مكان(الخان) ليس بعيدا، إضافة الى انه مضاء في هذا الليل باضوية كثيرة جدا، في الوقت الذي منع الانكليز فيه أبناء المدينة من ان يوقدوا شمعة واحدة في بيوتهم، وليس صعبا على(نجم البقال) ان يصل الى المكان الذي يريد … فهوابن المدينة ويعرف كل طرقها ومسالكها .

 وقف (نجم البقال) قرب (الخان) وكانت شبابيكه مضاءة،وبعد لحظات اخذ رجاله المسلحون يتوافدون الى المكان من كل جانب، فلحظة الهجوم قد قربت، وحينما أطفئت الأضواء وخيم على المكان هدوء ليس له مثيل … أشار (نجم البقال) لرجاله بان الوقت قد حان وعليهم الآن ان يهاجموا(الخان) المحاط بالأسلاك الشائكة .

 اقترب المهاجمون من (الخان) وحفروا لهم ممرا تحت الأسلاك الشائكة حتى صاروا قرب بوابته الكبيرة، وبعد ان قيدوا احد حراسه بذكاء ومهارة، تمكنوا من دخول (الخان) من دون ان ينتبه إليهم احد ، فالجنود الانكليز نائمون وغارقون في نومهم .

 وقف (نجم البقال) وبعض رجاله المسلحين قرب غرفة (مارشال) وفتحوها بهدوء، وحينما أصبحوا معه وجها لوجه صرخ (مارشال) طالبا النجدة من جنوده، فلم يجد المهاجمون أمامهم طريقة لإسكات هذا الحاكم الانكليزي الخبيث غير ان يوجهوا أسلحتهم إليه ويسكتوه الى الأبد .

 انتبه حراس (الخان) لما يحدث، فأصوات الاطلاقات هزتهم جميعا، فاخذوا مواقعهم الدفاعية بسرعة، وراحوا يوجهون بنادقهم الى المهاجمين كي يحصروهم في مكان واحد ليسهل قتلهم … وأسرهم، لكن (نجم البقال) كان ذكيا جدا، فاخذ لنفسه موقعا حصينا وطلب من رجاله ان ينسحبوا الى خارج (الخان)، بينما يقوم هوبحمايتهم في إثناء الانسحاب .

 كانت عملية انسحاب الثوار من (الخان) جريئة وفيها كثير من المخاطر، فالجنود الانكليز كثيرون وأسلحتهم قوية، لكن شجاعة (نجم البقال) وبقية الرجال الثوار أفسدت عليهم كل شيء .

 انسحب الثوار من (الخان) تاركين الانكليز في حالة فزع وخوف، لكن (نجم البقال) بقي في مكانه .

- ترى ما حل به ؟وماذا فعل وحده ؟ وكيف خرج ؟ .

 سؤال نقوله والإجابة عنه سهلة، فما دام (نجم البقال) ذكيا وشجاعا ويعرف كثيرا من الأمور, فعملية خروجه من (الخان) ليست صعبة .

 اقترب (نجم البقال) من غرفة (مارشال) ودخلها بهدوء، ثم نزع ملابسه ولبس بدلا منها ملابس(مارشال) المعلقة ووضع خوذته العسكرية فوق رأسه وخرج من (الخان) بكل احترام وتقدير، فقد ظن الجنود الانكليز انه القائد (مارشال) فأدوا له التحية العسكرية احتراما وتقديرا .

 في البيت نزع (نجم البقال) ملابس (مارشال) ورماها في بئر قريب من بيته وكان خاليا من المياه، ولبس ملابسه التي كان يلبسها وجلس في باحة الدار يتذكر، ومن شدة فرحه لم يكن يملك شيئا يفعله غير ان يضحك ... ويضحك من الأعماق، في الوقت الذي كانت فيه أصداء ضحكات كثيرة تردد في محلات النجف وبيوتها وأزقتها .

 عرف (نجم البقال) هذه الضحكات وعرف أصحابها، إنها ضحكات رجاله الثوار، النداف والنجار والقصاب وبائع الخضرة وغيرهم ... الخ

 وعندما حل صباح ذلك اليوم خرج (نجم البقال) من بيته وتوجه الى مركز المدينة ليلتقي هنالك برجاله، ومن هنالك راحوا جميعا يجمعون الناس ويوجهون هممهم للأنقاض على ما تبقى من جنود الاحتلال الانكليزي .

 ساعات قليلة مرت على (النجف) وصارت في أيدي أبنائها ، فقد هرب الانكليز منها بعدما قُتل قائدها (مارشال) وبدأوا يجمعون قواتهم في خارج المدينة للأنقاض على المدينة واحتلالها من جديد .

 عجز الانكليز عن اقتحام المدينة على الرغم من حصارهم الطويل لها فالمدينة صامدة بصمود أبنائها الشجعان، فكر (نجم البقال) في طريقة يجلب الماء بها الى المدينة فقد قتل العطش الشديد كثيرا من أطفالها ونسائها، فتناقش مع بقية الثوار فترة طويلة حتى استقرار الرأي على ان يجلبوا المياه من خلف المعسكرات الانكليزية وهذه مهمة خطيرة جدا لكنها ضرورية في مثل هذه الظروف .

 تمكن (نجم البقال) وبقية الرجال من جلب بعض قِرَب الماء الى المدينة بشجاعة نادرة، بعدما اجتازوا معسكرات الانكليز واستحكاماتهم العسكرية، لكن الرصاص الذي أطلقه الجنود الانكليز قتل كثيرا من رجاله وثقب بعض القرب التي يحملونها، فانسكب الماء منها على التراب، فازدادت المشكلة أكثر وأكثر .

 ذات يوم ارتفعت الحرارة في الجوكثيرا وهبت على المدينة ريح صحراوية جافة مملوءة بالغبار، فازداد بكاء الأطفال كثيرا، ووقف (نجم البقال) وبقية الرجال الثائرين أمامهم حائرين، يريدون ان يفعلوا شيئا لإنقاذ هولاء الأطفال، لكن الظروف لا تسمح لهم بذلك .

 فوراء الأسلاك الشائكة التي تحيط بالمدينة وقف الجنود الانكليز وهم يضحكون على منظر الناس وحالتهم المؤلمة من شدة العطش، فقد قطع الإنكليز عن أبناء المدينة الماء، كان (نجم البقال) يراهم بوضوح وهويتألم في مكانه من شدة وحشية هولاء المحتلين وهمجيتهم وكرههم لأطفال العراق .

 ماذا يفعل (نجم البقال) ورجاله لهولاء الأطفال ؟ والمدينة كلها خالية من قطرة ماء واحدة،ماذا يفعل ؟ ماذا يفعل ؟ وظل يتساءل مع نفسه، ورجاله الذين معه يتساءلون أيضا، ولكن لا طريقة هناك للحصول على الماء، فالإنكليز يحاصرون المدينة حصارا شديدا ومن كل الجهات .

 رفع (نجم البقال) يده الى السماء وتمتم مع نفسه بكلمات غير مسموعة وفي أثناء ذلك كانت الدموع الساخنة تنزل من عينيه، فمنظر الأطفال وهم يتساقطون أمامه من شدة العطش مثلما تتساقط الأوراق اليابسة، منظر لا يحتمل، جعله يفعل ذلك رغم شجاعته وقوة صبره .

 حدث شيء لم يكن في الحسبان … فقد رفع (نجم البقال) وبقية الثوار وأطفال المدينة رؤوسهم الى السماء، وقد تغير الجوفجأة .. وصار شيئا آخر وامتلأت السماء بالغيوم الكثيفة السوداء وأظلمت الدنيا وهبت ريح رطبة، تصور الناس ان أسرابا من الجراد غزت المدينة من جهة الصحراء ، وحجبت الشمس بأعدادها الكثيرة عنهم، لكن تصوراتهم هذه تلاشت بسرعة حينما أرعدت السماء أكثر من مرة وبدأت الأمطار تتساقط فوق المدينة بغزارة لا مثيل لها، وفي موسم لا تسقط الأمطار فيه أبدا .

 الرجال المسنون في المدينة قالوا أنهم لم يروا في حياتهم مطرا غزيرا كهذا المطر … وانه سقط بأعجوبة في غير موسمه … يا للعجب !!! يا للعجب !!!

 صار سقوط المطر من أجمل اللحظات وأبهجها، انه العيد بل وأحسن من العيد ألف مرة ومرة، سكت الأطفال عن الصراخ وانطرحوا على ظهورهم ضاحكين، وقد فتحوا أفواههم بوجه المطر المتساقط، وبعد ان شربوا من مائه كثيرا بدؤوا يتراكضون الواحد خلف الآخر ، وهم يلعبون ويغنون أغنيات جميلة .

 أما الكبار فهم في فرح كبير, واخذوا يهزجون وهم يجمعون المياه بكل ما يملكون من أواني، فقد امتلأت كل الأواني والقدور والصواني، فتمكنوا من جمع مياه كثيرة، أما المياه الزائدة فقد سالت في أزقة النجف ومحلاتها المختلفة .

 وحينما كان الماء يجري كان الأطفال يجرون وراءه وقد انقسموا الى جماعات ... جماعات وهم يلعبون … جماعة انشغلت بعمل الدمى الطينية والخرز وجماعة أخرى بدأت تغني بفرح وسرور أغنيات عن المطر :

- (مطر مطر عاصي … بلل شعر راسي ...)

 بعد سقوط المطر ازدادت معنويات الرجال الثائرين وصاروا واحدا بعد الآخر يخرج الى خارج المدينة لمهاجمة الجنود الانكليز في كل مكان .

 جُن جنون الانكليز لارتفاع معنويات الثوار ولهجومهم المتوالي على معسكراتهم، لذلك اخذوا يشددون الحصار أكثر وأكثر حتى تستسلم المدينة لهم .

 (نجم البقال) وبقية أبناء المدينة رجالا … ونساء وأطفالا استبسلوا في الدفاع عن المدينة،فالانكليز يزحفون نحومدينتهم من كل الجهات وأسلحتهم القوية بأيديهم وطائراتهم تحميهم وتبث الرعب في كل مكان، ولم يمر وقت طويل حتى التحم الطرفان في قتال ضار، وبالسيوف والخناجر والبنادق وحتى بالأيدي من شارع الى شارع ومن بيت الى بيت ، وكان القتال مستمرا لكن المدينة التي امتلأت بالحياة وبالفرح ذات يوم تحولت الآن الى شيء آخر, فبعد أكثر من أربعين يوما من الحصار والجوع والعطش توقفت الحياة في مدينة النجف، فقد دخلها الانكليز مرة أخرى بالقوة بعد ان قتلوا كثيرا من أبنائها.

 بحث الانكليز بجنون عن (نجم البقال) وبقية الثوار الذين كانوا معه، وبعد بحث دقيق وجدوه في احد الأمكنة جريحا وجروحه كانت نازفة وخطرة، حاول ان يقاتلهم بيديه، لكنه لم يتمكن، فقد امسكه الانكليز بقوة وشدوه بحبل قوي وراحوا يسحبونه وراءهم على الأرض وتمكنوا أيضا من اسر بعض الثوار الآخرين وسحبوهم مقيدين والدماء تنزف من جروحهم .

 اتجه الإنكليز بـ(نجم البقال) وبقية الثوار الأسرى الى (مدينة الكوفة) القريبة منها لينفذوا فيهم هنالك حكمهم القاسي ويعدموهم، ومشاهد الحزن والأسى تملا الدروب،فالوجوه بدت حزينة وبائسة .

 في الكوفة وقف (نجم البقال) وعشرة من الرجال الثائرين ينتظرون إعدامهم على أيدي الإنكليز ورأسهم شامخة فقد رفضوا ان يحنوها للمستعمرين ولوللحظة واحدة، فالكرامة عندهم أثمن من كل شيء، حتى من الحياة نفسها … فهم يعرفون هذا ويؤمنون به وهوالذي جعلهم يقتلون (مارشال) ويحملون السلاح بوجه الانكليز لطردهم وتحرير العراق منهم .

 لم يقل (نجم البقال) وبقية الثوار شيئا حينما ماتوا مصلوبين على أعواد المشانق غير عبارة واحدة :

"سيتحرر العراق من سيطرتكم أيها المحتلون الأوغاد "

 ثم سكتوا جميعا، ولم يصرخوا،ولم يتأوهوا، ولم يقولوا حرفا واحدا آخر .. في الوقت الذي كانت فيه أفواج المنفيين من سكان العراق تغادر الوطن الى بلاد أخرى بعيدة، ربما " سيلان" و"الهند" و"هنجام"

 بقيت أجساد الأبطال معلقة لفترة طويلة، فقد أراد الانكليز ان ينتقمون من هولاء الأبطال حتى بعد موتهم، كنهم كانوا خاطئين في ذلك فشعبنا العراقي لا يقهر والكلمات التي رددها (نجم البقال) وبقية الثوار الأبطال قبل صلبهم ، ظلت تتردد في أرجاء العراق كله، تدعوالناس الى الثورة على الانكليز المحتلين والغزاة الطامعين .

-------------------- 

الهوامش :

1- القصة في التربية – مجيد ص 10 .

2- مجلة عالم الفكر – المجلد العاشر – ع3 – أكتوبر 1979 مقال ثقافة الطفل الدكتورة الفت حقي

3. القصة في التربية ص11-12

4- مسرح الأطفال – وني فريد وارد – ترجمة محمد شاهين الجوهري – مصر 1966 . 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org