|
مقالات
كاد الخوف يقتلني
فينوس فائق
أوشكت الطائرة على الإقلاع عندما تنبهت إلى الشخص الجالس على الكرسي الذي على يميني وهو غارق في الإستماع لصوت أحد المغنيين الغربيين الذين لا أحتمل سماعهم سوى لحظات، لم تكن الطائرة قد بلغت السحاب عندما غاب في نوم عميق، وغرقت أنا في تفكير قاتل بطول المسافة التي سأقطعها على متن الطائرة من هولندا إلى نييويورك، وفكرة أن أبقى محلقةً في السماء قرابة السبع ساعات ونصف الساعة، فكرت في كل شيء سوى الموت، لأن الموت كان يلبسني، لست من النوع الذي يخاف، بل أنني أحب المجازفة بعض الشيء، هذا النوع من الخوف كان شيئاً آخر، فأطول مسافة قطعتها في الهواء قبل هذه الرحلة لم تتجاوز الثلاث ساعات أكثر وأقل أحياناً ومرة واحدة فقط خمس ساعات من مطار بغداد إلى الجزائر، التحليق في الهواء هو نفسه كما في كل مرة، لكن هذه المرة كان تحليقاً من نوع آخر، في المرات السابقة لم يكن هناك حرب إسمها حرب الإرهاب، ولم تكن أحداث الحادي عشر من أيلول قد حدثت، لم تكن التكنلوجيا قد خدمت الإرهابيين إلى هذا الحد، لابل لم يكن هناك إرهابيين من هذا النوع الذي نراه اليوم، الإرهابي الوحيد على الأرض كان يتمثل في شخص صدام وأشباهه في العالم، قبل هذه الرحلة يكن صدام قد سقط وقام الإرهابيون من جحورهم بعد أن رباهم صدام وقواهم وقاموا من قبورهم العفنة لينشروا الموت على الأرض بإسم الدين، حينها لم تكن ظاهرة تفجير النفس قد ظهرت، على الأقل لم نكن نفكر في ما يحدث على الأرض من إرهاب، لم نكن نتصور أننا وبينما نحن بين السحب هناك من يموت مفجراً نفسه على الأرض ويأخذ معه أرواح العشرات بتذكرة واحدة إلى السماء، كنت وبينما أطالع وجه السماء من النافذة الضيقة بجانبي أتخيل الأرواح التي تصعد إلى السماء بعد تجربة إنفجار رهيبة رفعتهم وأرسلتهم في غمضة عين إلى السماء.. لم أستطع للحظة أن أكف عن التفكير في كل شيء وأي شيء سوى الموت، فحتى الموت كان يختلف في السابق، أبشع صور الموت كانت تحدث على يد إرهابي واحد هو صدام وأعوانه المتغطرسين، عداه كان الموت إما بالمرض وبعض حوادث السير، وأكثر أنواع الموت قسوة كانت في جبهات القتال البعيدة عن الأطفال والنساء والشيوخ، غير أن اليوم الموت موزع بين الجميع بعدالة لا متناهية، فتذكرت وبإلحاح أنني أم، وأن لي أبوين، لا أدري لماذا، تذكرت جارتي التي كانت تقول دائماً أنها عندما ترى الطائرات وهي تطير في السماء، في الأفلام طبعاً، يداهمها خوف رهيب، وكانت تضيف: أعرف أنني لن أصعد طائرة في حياتي، لكنني أفكر كيف يتجرأ البشر على أن يركبوا الطائرة ويطيروا في السماء دون أن يفكروا للحظة في إمكانية سقوط الطائرة، تلك كانت أبسط صور الموت عند الإنسان البسيط، لكن اليوم صورة الطائرات صارت مقرون بصور الموت والإرهاب، من إختطاف الطائرات إلى إسقاطها، إلى ضربها بالبنايات والأبراج في عروض إستشهادية بطلة تستهدف قتل أكبر عدد من الأبرياء، بهدف خلق توازن طبيعي ومنع التضخم السكاني، فبدلاً من أن يموت البشر وهم متلاصقون ببعضهم البعض، يقدم اليوم الإرهابيون خجماتهم ويضحون بأنفسهم بتفجيرها وأخذ العشرات والمئات وأحياناً الآلاف، لإفساح المجال أمام البشر ليتنفسوا براحتهم، فإلى جانب الكوارث الطبيعية التي تحدث من فيضانات وبراكين وزلازل وعواصف، هناك بدعة أخرى تسمى الإرهاب بإسم تساعد الطبيعة في عملية التوازن على وجه الأرض، لم أقدر أن أمنع نفسي من التفكير على هذا النحو الممل في الموت وأشكال الموت وظاهرة الإرهاب.. تذكرت حين حزمت حقائبي للمرة الأولى بعد غياب سبع سنوات عن كوردستان وبعد سقوط صدام بثلاثة أشهر، حين توجهت إلى المطار، في ذلك الوقت كانوا يتبعون تعليمات قاسية في المطارات الأوروبية خصوصاً في الفترة التي تلت أحداث الحادي عشر من أيلول، عندما وصلنا المطار وشحننا الحقائب الكبيرة، كنت بجسدي موجودة في المطار وبتفكيري في كوردستان، توجهنا إلى نقطة التفتيش الأخيرة لكي ندخل قاعة إنتظار الطائرة، وبينما وصلنا إلى النقطة، أشار موظف التفتيش إلى زميله الآخر وقال له إحجز هؤلاء الثلاثة مؤشراً إلينا، فلم أصدق إلا عندما جاء موظف التفتيش الثاني وأشار إلينا بأن نتبعه، وأخذنا إلى مكان مغلق من كل الجوانب ووقف يحرسنا، ولم نسأل ظناً منا أنها مسألة بسيطة وإجراء بسيط وسينتهي بعد دقائق، لكن عندما بقينا مدة ربع ساعة، سألت الموظف لماذا نحن محتجزون؟ قال بأنه لا يعرف، وبعد مرور نصف ساعة أخرى عدت إلى الموظف وسألته مجدداً هل أستطيع أن أعرف لمذا أنا محتجزة؟ وأنا مصرة هذه المرأة على أن أعرف، فعندما رأى الموظف ملامح الإلحاح في وجهي ومنعاً لحدوث أي مشادة نادى زميلاً ثالثاً وطلب منه أن يشرح لنا لماذا نحن محتجزون، فقال الآخر: أنتم محتجزون لأننا وجدنا بحوزتكم سلاحاً..!!! فكاد الضحك الممزوج بالخوف يقتلني، فسألته بدهشة، سلاح ؟ أين هو هذا السلاح هل لي أن أراه ؟ فقال حسناً، مد يده ليدير شاشة المونيتور التي تظهر فيها محتويات الحقائب اليدوية، وأشار إلى جسم السلاح الذي ظهر على الشاشة والحقيبة التي كان السلاح بداخلها والتي كانت موجودة داخل جهاز الفحص هي فعلاً لنا، فنشف حلقي وقلت له وأنا أضحك، لكن هذه حقيبة إبني، وربما جلب معه مسدس أطفال وهي لعبة ولا داعي لكل هذا التأخير، وطلبت منه أن يدعني أخرج له المسدس وينتهي الأمر، فقال أنهم أرسلوا في طلب خبير أسلحة هو الذي يفتح الحقيبة ويخرج السلاح دون وقوع أذى لأحد، وأضاف لا يحق لي أن ألمس الحقيبة. فضحكت مجدداً وقلت له لكن هذا إهدار للوقت، المسدس عبارة عن لعبة أطفال، غير أن الموظف قال بأنه لا يُسمح له بأكثر مما قال والتعليمات في مثل هذه الحالة هي التي ستطبق في هذه الحالة .. فبقينا ننتظر قرابة الساعتان إلى أن وصل خبيراً طويل القامة بشارب أصفر وجبهة ضيقة، وبيده جهاز خاص بفحص الحقيبة وجهاز بفحص السلاح المزعوم، فبدأ ببطء قاتل يمرر الجهاز على الحقيبة وبدأ وهو يحاول أن يبدوا كالأبطال فتح الحقيبة وأدخل يده الرفيعة البيضاء المائلة إلى الصفار المليئة بالبقع الخضراء على ظهرها إلى داخل الحقيبة وبعد جهد جهيد أخرج المسدس (اللعبة) فبدت على وجهه إبتسامة مصطنعة وإلتفت إلينا، من ثم إنحنى بطوله الفارع ليكلم إبني قائلاً له، هل هذه اللعبة لك؟ فرد عليه إبني: ومن غيري تظن؟ فقال : الا تعرف أن المسدسات ممنوع أن تجلبها معك في الطائرة، فرد عليه إبني : لكنك قلت أنها لعبة عندما سألتني هل هي لك، ولم أسمع أن اللعب يمنع إدخالها في الطائرة وأنا إشتريت هذه اللعبة لآخذها هدية لإبن خالي. فأجابه الخبير طويل القامة : لكن يؤسفني أن أبلغك بأننا سنحتفظ بها ولن نسمح لك بأن تأخذها معك إلى الطائرة، فقاطعتهما قائلة : لكن لماذا؟ فقال الخبير الأشقر المائل إلى الصفار: ألم تسمعي عن ذلك الإرهابي الذي إختطف طائرة قبل فترة تحت تهديد سلاح مثل هذا وعندما ألقي القبض عليه إكتشف رجال البوليس أنها مجرد لعب، فقلت له لكنني لن أختطف طائرتكم، لا حاجة لي بها، خصوصاً بعد غيابي عن بلدي سبع سنوات، فقال لكن هذه هي التعليمات ولا نستطيع تجاوزها ونحن آسفون .. تذكرت هذه الحادثة وأنا على متن الطائرة إلى نيويرك، وفكرت في ترى كم يحتاج المرء من الوقت لأن يتوصل إلى فكرة أن يختطف طائرة وليقتنع بفكرة أن يفجر نفسه، وأن يقوم بتفجير مكان ويقتل عشرات بل مئات الأرواح البريئة، لم أستطع التوقف عن التفكير في فكرة أن تركب حافلة وتنفجر في لحظة دون أن يكون لك في ظاهرة الإرهاب ومرض الإرهاب لا ناقة ولا بعير، لم أتوقف عن التفكير في الطائرات التي كانت تغيير على المدن الكوردستانية في عهد صدام وترش الأبرياء بالموت وتزرع الموت في نفوس الأحياء، والطائرة التي أنا أركبها هي أيضاً تطير لكنها تحمل بشراً يسافرون إلى ذوييم مثلي أنا بعد إنقطاعهم عنهم لسنوات طوال، فأي تكنلوجيا هي هذه التي كالسلاح الذو حدين ؟ تخيلت نفسي أقود طائرة وأحمل أمراً بقصف قرية بالغاز السام، فزعت في مكاني لم أكمل الفكرة، فتخيلت نفسي إحد أهالي قرية صغير وهذه الطائرة تقصف بالغاز السام، فإسترسلت في التفكير إلى أن تم قصف القرية وأصبت بجروح قاتلة وكادت ترتفع روحي إلى السماء عندما نبهتني المضيفة وقدمت لي الطعام، عندها تذكرت أني مازلت على متن الطائرة.. بقدر ماهي رهيبة فكرة التحليق في السماء لساعات طوال، بقدر ماهي ممتعة ومخيفة في آن واحد تلك الأفكار التي تسيطر على المخيلة ونحن في أحضان الغيوم.. فمرت الساعات بثقل، والأفكار تأخذني شرقاً وغرباً ولا أكف عن التفكير في كل شيء وأي شيء سوى فكرة الموت ..
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |