|
مقالات برهان الخطيب: لا أحد ينوب عن رب العالمين* (في لب الليل) فصل من رواية برهان الخطيب لم يشهد المضيف عمره الممتد أكثر من قرن مثل التجمع الذي انعقد يوم حضر نوفل بعد تسريحه، جميع الأقارب صغارا وكبارا تقاطروا عليه، بل وجاء من الديَر والقرى الأخرى البعيدة رجال وشباب لم يكن سابقا يعرفهم أو رآهم، جاءوا للتهنئة بالسلامة، لسماع الأخبار وما يحكى ويقال عما حدث ويحدث، عن يوم الآخرة خاصة، هل اقتربت الساعة وانشق القمر وزلزلت الأرض زلزالها، خلط الغبار بالطحين، أو أن مسألة الغبار الأصفر يوم الحرب بيضة كسرت، خلط صفارها بزلالها، وقليت بيد ماهرة لمن يعود بعد حين على ما يشاع لتناولها والتربع من جديد على كرسي حديد، أو مكهربا قد يكون لو صدق العلماء وكذب المنجمون بشأن الصنديد بل الرعديد. اتكأ نوفل على وسادة الصوف في مكانه المعتاد، صدر مستطيل التخوت الواسع، مقابل المدخل الغاص بالصبيان والفتيان، يرد على التحيات والاستفسارات كأنه في مجلس صحفي، هذا يسأل وذاك ينتظر دورا للسؤال، عله يفهم افضل ما يسمع مما يقال، سابقا، في مجمع أصغر عادة، كان نوفل يعاني حين يدور الحديث عن الأوضاع العامة من إحراج سببه الخوف من كشف عدم توافقه والسلطة، لا مجلس ولا مضيف خلا من أذن وعين لها، هذا اليوم كان إحراجه لخوفه من كشف عدم توافقه مع أهله وزواره، يسألون ماذا يحدث في بغداد، لو رد الديمقراطية نزلت علينا مثل المَن من السماء بهتوا، بل طقوا في ضحكة وصاحوا، ما هذه الديمقطاطية التي جاءت منزلة والعياذ بالله، عشنا وشفنا، تذكر حين أراد الإصلاح الزراعي بعد الثورة تقسيم أراضينا، طلعت الحكومة مديونة لنا، الآن أعادوا الحصان أو الثور إلى الحظيرة وما زال الفقير منا يجلس على حصير، ليتهم يطبقون الديمقطاطية هذه المرة بالمثقال بلكن نشوف ماذا تطلع الدولة مديونة، حفنة نسوان، جوقة ندمان، مَن يدري. الشباب الذين بحث نوفل في عيونهم عن بريق نبل غير ضار قلة، كان عليه أن يقول شيئا. لو سكت قالوا انهزم مع الكبار فلا احترام له حتى بين الصغار. أخيرا حسمها: ”بعد اليوم لن يجبروا شبابنا على دخول حرب، ولا يتجبر فوق الرؤوس قريب أو غريب، تبيعون محاصيلكم لمن وأين ومتى تريدون، تذهبون إلى الحج والشمال والجنوب دون مراجعة الأمن، تتكلمون ما تشاءون دون خوف من وشاية، وتشاهدون أو لا تشاهدون ما لا تشتهون، هذا بعض ما يأتينا مع النظام الجديد” قال نوفل هذا واتكأ. حرك إمام مسجدهم عمامته فوق رأسه، خرج عن صمته باسطا يده البيضاء الناعمة أمامه: ”لم تقل لهم أرضنا ستكون في يد عدو، ولا لن يكون منا مَن يقف فوق الرؤوس لأن الجميع سيغدون عبيد الأهواء والأطماع، لا ولم تقل محاصيلهم سيدخلها الكيماوي ويضع عليها برثنه الواوي، وستفقدون ورعكم وسنتكم شيئا فشيئا، كلمة الحق سوف تزهق ويعلو الباطل عليها ويظل يعلو، الغواني الخليعات يدخلن غدا عقول الناشئة من شاشة تغوي بالبشاشة”.. لم يجد نوفل بين الوجوه أمامه ما يريح من الهموم والظنون، فمن أين سيعثر أخوه غدا على نصف درزن يؤدي دور بزون، وهذا الإمام الناطق بمعنى غير تام يفتح ساحة أخرى للعراك والخصام، وقت هم في حاجة لراحة واستجمام، لو سكت على اعتراضاته أشاح الحضور عنه إليه، وخسر نوفل حتى الأهل: ”يا شيخنا، بالحروب خسرنا أكثر مما كسبنا، ها هم الشباب أمامك، مَن منهم لم يفقد الأخ وابن العم والخال والخالة والعمة، خلي عنك النتائج الكبيرة، نعرفها، أما الحقوق فبالمنطق والقانون تسترد أسرع مما أراد المجنون، وإلاّ ما أقاموا المحاكم محلية ودولية ومختلطة، وإذا كنتَ تخاف الأهواء، والنفس أمارة بالسوء عندك، فإن الجديد يفيد، مَن لا يستطيع الصمود بوجه إغراء يستحق خسارة احترامه لنفسه، بل قد يتعلم من هذا أسرع مما تعلمه مدارسه، لا أحد ينوب عن رب العالمين اليوم، والمحاصيل أمس بيعت وغدا تباع، لا أحد تحت حراسة يسرقها، وأما كلمة الحق هي أقوى حتى لو ندرت، حرية الكلام توفرها، وأما كلام الغواني والأماني مثله مثل ماء الحنفية، يمكن شربه ويمكن الشطف به، ولا أحد يشرب كل ماء الحنفية بل يأخذ كفايته ويغلق، هكذا باقي الأحوال إذ تراها غير مقبولة، قالوا الباب الذي تجئ منه الريح سده تستريح، الآدمي فيه العقل؟ لا تخف عليه إذن، بل منه، أما الذي يريد أن يكون من الطراطير فلا تأسف عليه، مَن خلاف هذا الحال يذهب إلى جهنم إذن لو دخلنا كلنا الجنة؟”.. ضحك بعض الحاضرين، تلفتوا، تنقلت على وجوههم عينا الإمام، يناقشون على التخوت وحصران أرض المضيف همسا أقوال أصحاب المقام، رفع صوته لاستعادة الزمام.. ”أسمع منك سيادة اللواء بعض ما أسمعه هذه الأيام، عن بعض حادوا عن طريق العقيدة، ومَن يسمون أنفسهم بمثقفين ذوي بدع جديدة، لو لم أقرأ كتاب إمامهم الذي يجيز الدخول في الفتاة ذات السابعة بل والتلذذ حتى بالرضيعة ما صدقت أذني والله، زد كفار غزوا أرضنا، يعيقون نشر رسالتنا، حلفاؤهم قرب حدودنا استولوا على أراضي الأخوة، وأنت القائد العسكري تلمح لعدم مقاومتهم، كيف لا يلجأ الناس إذن لقادتهم الدينيين”. قاطعه نوفل صارما: ”القائد الديني ليس عسكريا ليحق له قيادة اتباع، لما يكون يتكلم بالحسنى حسب القدرة مثلي، غاندي بلا جيش حرر بلاده، والأخوة بيوتهم أعمر من بيوتنا نحن أهل النفط”. تصدى الأمام له منزعجا هذه المرة: ”قادة عسكريون غيرك يقودون المقاومة اليوم”. أسكته نوفل: ”وقادة دينيون غيرك يدعون لتفاهم واستقرار تتبعهم غالبية. صاح الأمام: ”معلوم، غالبية شيعة متفاهمة حاليا مع المحتل، كيف لا تكون منهم وأنت المتزوج شيعية!” صاح نوفل: ”حدك! زوجتي وأنا أكثر منك في لهف على رحيل المحتل يا ابن الكهف، على مبعدة خطوات مقبرة جماعية لإخوانك في العقيدة ولم تفتح فمك حينه وتقاوم!”.. ”بل قطاع طرق وهاربون من الجيش ومتمردون هم كانوا ضد نظامك”. ”نظامي كان الصمت ولك المنبر” ونهض اللواء مشيرا إلى الباب كأنه يطرده أو يطلبه إلى خارج المضيف لكلام خاص، نهض العشرات من كبار السن ووقفوا بينهما، ضاع ما قيل في الضجيج والعجيج، وحين هدأ الحشد وساد الصمت أضاف الأمام مرتجف الفكين باحتقار: ”قبل مجيئك صنفنا رجال الديرة بطريقة ديمقراطية كما تريد، بل بالشورى، مَن كانوا يريدون المقاومة مقابل الدفع لهم عن كل عملية اتضح هم أقل من النصف، ومَن أرادوها لوجه الله والشهادة أغلبية، عليك الآن ابتداع خانة خاصة بك، سمها ما تشاء، خانة لا تجد فيها يا كبير القوم غير نفسك”. الشباب صامتون، بلبلة وحيرة وغضب فوق الرؤوس كأنهم لا يفقهون، الأخ غضبان يريد منهم إذن اختيار نصف درزن يرسلهم إلى غرفة نوم الأميرة الأثيرة، ومنها ببعثة جهادية إلى أطراف مثلث الموت، لا، قبل ليلة الزفاف، على العريس القيام بالهجمة، ليثبت رجولته لأقرانه قالوا. رفع نوفل يديه كأنه يدين الإمام لا يستسلم: ”ماذا جرى لنا جميعا، أبوك وأنت غلام كان يؤم آباء هؤلاء في المسجد، لم يكن حادا مثلك، وأبوي حرم وقته الكلام في هذا المضيف بالسياسة، الآن أنظر، تحول مجلسنا إلى برلمان”. ”يخرج المحتل ونحرمها في كل مكان، سوى في المجلس أو البرلمان كما تشاء، السابق زال وبلدنا ما زال، وإلاّ ما وجدنا مكانا لنا لا في مجلس ولا برلمان ولا على حصير، أنت القائد خذهم في إمرتك لو ما عجبك كلامي”. نادى إبراهيم من وراء الحشد مصالحا بين المتخاصمين” ”الله أكبر والصلوات على نبينا محمد سيد المرسلين” كبروا وراءه، دخل صبيان صغار مندفعين إلى المضيف، صاحوا غير مبالين باللغط المتصاعد نحو السقوف: ”سيارات القوات والعساكر تحيط ديرتنا، الأمريكان جاءوا”. هب البعض إلى باب المضيف يستطلع الخبر، تمهل غيرهم أو جلسوا في أماكنهم، وخرج الإمام واضعا عباءته على كتفه، عدل عمامته على رأسه، وزم شفتيه مشيرا للحاضرين بيديه ليلزموا الهدوء. عديد عساكرهم أحاطوا البيت الكبير، المربط، المضيف، المسجد، وبيوت بعض الفلاحين القريبة، يفتشون منتقلين كما لو على ساحة معركة بين باب وآخر، الكابتن قائد المجموعة ومعه الترجمان وجنديان مدججان بالسلاح والمعدات حتى اليافوخ، كأنهما هابطان من أو على المريخ، توجهوا إلى الإمام حين ظهر في الساحة يعدل عمامة كالبطيخ، قال شيئا بالإنكليزية، تناول الترجمان الهذيان: ”ما هذا يا شيخ، وعدتنا المرة السابقة بالهدوء في منطقتكم ولم تف بالوعد والحلفان، سمعتَ حتما دوي تفجير العبوة أمس على الطريق القريبة منكم، سيارتنا نخرت بالرصاص، من جنودنا أصيب اثنان، والرشاش الذي عثرنا عليه بجانب الطريق مسروق أو مستعار من المخبأ المتروك بعهدتك في أمان، حتى يأتي دوره للتفجير والنسيان، مليون طن تقريبا من الذخيرة في العراق الآن، نحتاج حوالي خمس سنوات للتخلص من هذا السقام، شطارة الإمام مطلوبة لحفظ السلم والنظام”. لم تغفل عينا الإمام الجنود الذين دخلوا بوابة البيت الكبير، مقتربين إلى بيت الحريم، صاح مشيرا إليهم: ”عندنا هناك نسوان يا ميجر، قد يكن فارعات أو يغسلن هناك، لا يحق لكم الدخول عليهن دون اسم الرحمن في الأقل”. قاطعه الترجمان نقلا عن الميجر كما يسميه الإمام نقلا عن التسمية القديمة التي كان والده يستعملها عندما تكلم عن دخول الإنكليز الأول هذه الديرة قبل ولادته: ”لو كنتم حفظتم الوعد والبيان ما كنا أزعجناكم، جندينا أصيب قرب كليته، الثاني في صدره، لحسن الحظ لم يمت أي منهما، لا أريد لآخر من جنودي يصاب في عينه”. الإمام في غيظ وقهر: ”ما أكثر الحرامية في منطقتنا منذ وجودكم على أرضنا، لعل بعض الفلاحين صوب واهما عليكم، لشبهة في دخول نهاب مزرعته، أو توجس نية للسطو على بيته وعرضه”. ”الحرامية أطلق سراحهم قبل دخولنا بلدكم، والسلاح الذي وجدناه على الطريق بعد الانفجار لم يكن كلاشنكوف فلاحين مغبرا بل نوع متقدم من الموجود في المخبأ، رائحة زيت التنظيف تفوح منه، عليكم كشف مَن كان وراء العملية وإلاّ لا تلوموا غير أنفسكم على هذه المشكلة”. تصاعد صياح نسوة من البيت الكبير، جرى بعضهم من المضيف مستلين خناجرهم، وقف الإمام في طريقهم، انتزع منهم خناجرهم، أعادهم إلى المضيف سوى اثنين منهم، ومضوا مع الميجر والترجمان ورواد المريخ إلى البيت الكبير الطافح بالصريخ. المضيف يخلو من الزوار، أحد الشبان اقترب وجلس جوار نوفل، بعد قليل همس قريبا من أذنه مراقبا عن مبعدة خلال الباب الآخرين المنشغلين بالمداهمة غير المنتظرة: ”أبو فرح كن على حذر، بعضهم هنا متأكد من وقوفك وراء كشف مكان مخبأ الأسلحة لهم، المخبأ مخبأك على كل حال وهم يدعون لم يطلقوا سراح اللواء مجانا، بعضهم حمل الغل في صدره، لا تمش دون سلاح هنا، قتلوا العديد من المتعاونين مع السلطة المؤقتة، أنا أفهم وأحترم ما سمعته منك قبل قليل، لكن الأغلبية هنا ما زالت تحت تأثير المخدر السابق، مخدر الخوف”. تطلع نوفل بين إعجاب وشك إلى وجه الشاب، لم يكن من الوجوه التي يعرفها، سأله: ”من أية عشيرة أو ديرة جئت”. رد الشاب: ”أنا عراقي مثلك، وإذا لم يكن هذا يكفي، أنا أحد جنودك، لو زاد الخطر عليك نبهتك أو ذدت عنك”. ”بورك عقلك الراجح، ما اسمك ؟”.. ”عثمان عبد الحسين. للعيشة أسمتني أمي هكذا، صدق حدس المرحومة”. ”لو تكلموا عن المخبأ مرة أخرى قل لهم، لدفع شر المغرض في الأقل، هذا لا يعني لا يوجد مخبأ آخر هنا لو فعل نوفل ما تدعون”. ”يوجد مؤكد، لا افهم كيف يمكن سرقة قطعة سلاح من المخبأ المكشوف وعليه حراسة مزدوجة من الأمريكان والعرب هنا”. ”على أي حال لا تحشر نفسك في مشاكلهم، لكن لا تتأخر لو شممت رائحة شواط، تعرف أين بيتي”. ”ومَن لا يعرف، كدنا نهده بالقنابل اليدوية يوم مرور المخلوع على أرضكم قبل دفن جماعتي بالمقبرة الجماعية القريبة”. ” وكيف نجوتَ أنت؟”..
ـــــــــــــــــــ * عن الملحق الثقافي لصحيفة العرب . عدد 7331
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |