|
مقالات المفهوم الفلسفي للزمن تحت مبضع التقنيات الحديثة علي آل شفاف عند فجر يوم الثلاثاء العشرين من أيلول من عام 1519 وعندما شرعت سفنه لتمخر عباب البحر, لم يكن ليخطر بذهن "ماجلان" أن رحلته التي أراد منها الدوران حول الأرض والوصول إلى آسيا عن طريق الغرب ـ وأكملها زملاؤه, بعد أن استغرقت ثلاث سنوات ـ ستستغرق في يوم ما عدة ساعات كما هو الحال الآن, وربما عدة دقائق مستقبلا, أو عدة ثواني "قبل أن تقوم من مقامك هذا", أو أقل من ثانية "قبل أن يرتد إليك طرفك". فما كان يعتبره الكثير منا خرافة أو "ميتافيزيقا" يتجسد أمامنا تدريجيا ويفضح جهلنا وتسرعنا في التعامل مع ما لا نعرف, وما لا نحس, وما لا ندرك. إن أغرب الأفكار, وأبعدها عن المألوف, هي بنفسها الأقدر شحنا وتحفيزا للفكر, وإيقادا لجذوة العبقرية الكامنة في عقل الإنسان. فبالرغم من أن الفيلسوف الإغريقي "زينون" قد أفرط في تصوره أن العالم في سكون دائم, وأن لا حركة حقيقية فيه, مستدلا على ذلك بأدلته الشهيرة, (كالسهم الذي لا يتحرك), و(الأرنب الذي لا يستطيع سبق سلحفاة), وغير ذلك من الأدلة التي تنطوي على مغالطات منطقية, فندها الفلاسفة فيما بعد؛ إلا أنه حفز في الفكر الإنساني الرغبة في معالجة مشكلة الزمن السيال باتجاه واحد, وإمكانية إبطائه أو تعجيله أو عكس جريانه ليعود القهقرى. وعندما عجز الإنسان أمام هذه المشكلة, بدأ ينسج حولها قصصا خيالية, لينفس بها عن رغبته المكبوتة في التغلب على عجزه هذا. إن الكثير من الفلاسفة والعلماء قبل عصر "آينشتاين" حاولوا تفسير أو تصور إمكانية قطع الإنسان لمسافات كبيرة جدا بأزمان قصيرة جدا, إلا أنهم فشلوا في ذلك, لأنهم حصروا تفكيرهم بين جدر الأبعاد المكانية الثلاثة, واعتبروا أن الزمن "جوهر مستقل منفصل عن المادة", وهو دائم الجريان, سواء وجدت المادة أم لم توجد. حتى ظهرت نظرية "الحركة الجوهرية" للفيلسوف "ملا صدرا" التي اعتبرت أن الزمان من لوازم الحركة ومتعلق بها, وغير مستقل عنها. وهو ما اقترب به هذا الفيلسوف من المعنى السائد حاليا بعد ظهور "نسبية" "آينشتاين". حيث بدأ الإنسان التعامل مع الزمن على أنه بعد كباقي الأبعاد يمكن التحكم به عن طريق تغيير سرعة المادة. وبذلك يمكن تقصير الزمن بزيادة السرعة. بل يمكن تضخيم الكتلة بزيادة السرعة. فأصبح الزمن جزء مترابط مع المادة يتأثر بحركتها, وتتأثر بقدره. وضع "آينشتاين" الفكر الإنساني في مأزق فلسفي صعب بافتراضه ثابتا وحيدا في هذا الكون هو "سرعة الضوء". الأمر الذي لا يمكن تفسيره ـ فلسفيا, أي: كيف نفسر هذا الدور المحوري للضوء وسرعته في حركة ونشوء الكون من الناحية الفلسفية؟ وتأتي الحيرة من أن سرعة الضوء هذه تمثل ـ نظريا ـ نقطة انقلاب الزمن, وعمليا هي مانع من اختراق حاجز الزمن. ولأن الوصول إليها يتطلب كتلة لا نهائية, تحتاج بدورها إلى طاقة لا نهائية, وكلاهما مستحيل؛ فالوصول ـ إذا ـ إلى سرعة الضوء مستحيل أيضا. ولأن الزمن عندها يكون صفرا, فإن أي زيادة ـ مفترضة ـ فوقها ستعود بالزمن القهقرى, ليصبح الماضي حاضرا ومستقبلا. وعلى الرغم من أن هذا المأزق هو فلسفي وليس فيزيائي, إلا أن البعض يعتقد أن التخلص منه سيأتي عن طريق الفيزياء أيضا, بتبني نظرية فيزيائية جديدة. وهذا ما يسعى إليه الفيزيائيون المعاصرون, إذ حاول بعضهم الإستعانة بفن المغالطة المنطقية "Paradox" الإغريقي الذي عرضت لنموذج منه في بداية المقال, بينما حاول آخرون تغيير النموذج الهيكلي لوحدة بناء المادة, فوضع نظرية الأوتار أو الخيوط "String Theory". وعلى الرغم من أن هذه النظريات لم تخرج على قواعد فيزياء "آينشتاين", ولم تضع بديلا لها, لكون الأخيرة ـ ربما ـ لا تزال متقدمة على عصرها؛ إلا أن الأمل لا يزال يدفع الكثيرين لاكتشاف حلول للمسائل المعلقة, التي عجزت عنها فيزياء "آينشتاين". إن وسائل التقنية الحديثة ستقترب بنا من الحاجز (النظري) الخفي بين المادة والطاقة, وستظهر لنا مفهوما جديدا يعرف "الموجود الخارجي" تعريفا جامعا غير مقيد بالمادة أو الطاقة, قد يكون أقرب إلى التعريف الفلسفي للماهية أو الجوهر, وبالتالي سيغير قناعاتنا عن الزمن. فالتطرف المادي الذي سخر من "الميتافيزيقا" ولا يزال, هو بذاته ما سيعود بنا إلى التحقق من قناعات الإنسان الفطرية التي تتحدث عن تأثيرات "ما ورائية", سنكتشف من جديد أنها الأقرب لتفسير نشأة الكون وحركة الإنسان. سيتلاشى الحاجز بين المادي واللامادي في ذهن الإنسان, بعد أن تتوسع مديات الحس الإنساني, لتصل إلى تحسس وكشف عوالم أدق من "الدقائق دون الذرية", وأبعد من أبعد مجاميع المجرات المعروفة, وأخفى من الموجات الراديوية. وذلك عن طريق وسائط حس أكثر تقدما من الميكروسكوبات والتليسكوبات والأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية وفوق الصوتية والراديوية وغيرها. ففيزياء الجسيمات الدقيقة (Microphysics) وفيزياء الطاقة العالية (High Energy Physics) ـ مثلا ـ تتعامل مع دقائق لم تكن قبل سنوات عديدة ـ عند الكثير ـ إلا وهما أو استنتاجا رياضيا محضا, يفتقر إلى أي دليل مادي أو حسي. لكنها أصبحت الآن حقيقة مدركة بوسائط للحس غير مباشرة وفائقة الدقة كالمعجلات (Particle Accelerators) بأنواعها المختلفة, وخصوصا معجلات البلازما (Plasma Wakefield Acceleration) التي تعتبر الأحدث. إن التقنيات المتوقعة خلال العقود القليلة القادمة ستجعل مما قد يعتبره إنساننا الحالي مستحيلا أو معجزة أو خيالا حقيقة واقعة حيث أن من المتوقع أن تمكن الفيزياء الكونية (ِAstrophysics) الإنسان من إنتاج "ثقوب سوداء" (Black Holes) عن طريق معجلات تنتج دقائق (جزيئات) ذات كتلة هائلة تعرف بالمادة المظلمة (Dark Matter), ومن المعروف أن الزمن يتوقف حول هذه الثقوب لأن الضوء لا يستطيع الإفلات من جاذبيتها. من ناحية أخرى فإن الوسائل التقنية الدقيقة جدا ستمكن الإنسان من صنع أجهزة بأحجام غير محسوسة بوسائل الحس التقليدية, وبذكاء يقرب من ذكاء بعض المخلوقات, وذلك باستخدام تقنيات متقدمة كتقنية الأنظمة الألكتروميكانيكية الدقيقة (MEMS), وتقنية تصنيع أشباه الموصلات (Photolithography), وغيرهما من التقنيات الحديثة. كما أن هناك تقنيات بصرية وضوئية حديثة جدا, تجعلك تشاهد ما يجري على الشاشة, وكأنه يحدث في الخارج, أي كأنه واقع خارجي. وهذا ما جربته بنفسي في معرض "هانوفر" الدولي للأتمتة (Automation) في العام الماضي 2005. فبعد أن تضع نظارة خاصة وتنظر إلى الشاشة, سترى ما يجري فيها, وكأنه يجري في الخارج؛ أي أنك ستتصور الخيال واقعا, والواقع وكأنه أضحى خيالا. وسيتداخل عندك الواقع والخيال. إن تعود الإنسان على التعامل مع بيئة يتداخل فيها الواقعي باللاواقعي والخيالي, ومملوءة بكائنات إصطناعية وطبيعية غير محسوسة أو خفية, تصدر أفعالا وإشارات غير معلومة المصدر, كالتي تستخدمها بعض أجهزة المخابرات المتقدمة, سيمثل ثورة في نظرة الإنسان للعلاقة بين عالم المادة والعوالم اللامادية, كالخيال الذهني, والعوالم الروحية, التي يستدل عليها من طريق عقلي. لأن الإنسان سيكون أكثر قدرة ـ من السابق ـ على تعقل وتقبل الفعل الصادر عن مصدر غير محسوس أو مصدر خفي أو مصدر غيبي. إن أكثر الناس إيمانا بالمادية سيكون بفضل التقدم التقني المادي ـ بذاته ـ الأكثر قبولا لتفهم السبب غير الحسي أو السبب اللامادي. لأنه سيكون الأكثر ألفة وتعايشا مع الكائنات الصناعية غير المحسوسة أو الكائنات الخفية. وستختلف عنده مفاهيم المادة والطاقة والزمن والوجود والعدم. لعل أكثر الأفكار مدعاة للتأمل ـ وتضمنا للطرافة ـ بشأن الوجود وعنصر الزمن فيه هي, تلك الرؤية التي جسدها كل من الفيلسوفين "ملا صدرا " و"هنري برجسون", في أن الوجود ليس وجودا مستمرا (صلدا) بل هو عبارة عن (انوجاد) و(انعدام) مستمر في وحدات زمنية متقطعة ومتوالية سميت "آنات" (جمع "آن"). وهنا لا بد أن أشير إلى أنني ـ وأنا أكتب هذه الكلمات الأخيرة ـ خطر بذهني معنى لكلمة "الصمد" في سورة التوحيد (قد) يتوافق مع هذا الطرح. فإن أحد المعاني اللغوية لكلمة "الصمد", هو "الصلد" غير الأجوف وهو ما يطابق المستمر غير المتقطع. ولأن الكون في حالة (انوجاد) و (انعدام) مستمر, لا بد من (ضامن) أو (ضابط) لإيجاد الشئ بذاته وبنفس صفاته, بعد (انعدامه). وهذا (الضابط) لا بد أن يكون موجودا مستمرا لا يتخلله العدم, وإلا لحصل في نقطة ما, لاوجود تام, أو عدم تام, لا يمكن الخروج منه إلى الوجود مرة أخرى, لانعدام العلة الموجدة. من الواضح أن الفواصل بين (الانوجاد) و (الانعدام) هي فواصل (صفرية), لا يمكن الإحساس بها, كما لا يمكن الإحساس بتقطع الصورة التلفزيونية. أعود للتقنية وأثرها في فهم وتقبل هذه النظرية العقلية التي تفسر لنا مفهوم الوجود والزمن, فقد قرب الشريط السينمائي هذه الفكرة من فهم الإنسان كثيرا, فـ "الفلم" السينمائي عبارة عن صور منفصلة متوالية, تتوالى بسرعة معينة, وهذا ما نراه واضحا في الأفلام القديمة التي عندما تتباطأ يظهر تلاحق الصور فيها بوضوح, وعندما تدار بسرعة عالية تصبح وكأنها صورة مطابقة للحياة الواقعية في الخارج. هناك مثال أكثر قربا, هو برامج الكومبيوتر, إذ يستطيع من خلالها أي شخص أن ينتج لنفسه فلما, بتجميع صوره الخاصة, أو برسمه لصور معينة (كما في أفلام الكارتون), وذلك عن طريق برامج الـ (Movie Maker) وبتقنية التحريك (Animation). فيصنع بذلك صورة حياتية من قطع منفصلة. ولعل كوننا وحياتنا عبارة عن (Animation), ولكن بأبعاد وتفاصيل لا يمكن للإنسان الإحاطة بها.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |