|
مقالات حوار مع الإمام علي عليه السلام الدكتور طالب الرمَّاحي سيدي أمير المؤمنين ، أيها الشعلة التي أبقت ببعض ضيائها على ماتبقى لنا من قيم ومباديء وحب ، نحن في زمان لم يبق فيه للعقيدة إلا اسمها وللفضيلة إلا رسمها ، برع فيه الإنسان في كتابة ملاحم البؤس والحرمان، راغبا بذلك تحقيق مآرب الشيطان ليسحق بذلك في دواخلنا معاني الحب والأمان ، زمان كالح أغلب مافيه سيء وطالح ، انطفأت فيه مصابيح الحق إذ لم يبق منها إلا بقايا وميض تجاهد في إخفائها حجب عنيدة من رماد الباطل، وها هو كما تنبأت قد انكفأ علينا ( بفعل أهله ) كما ينكفأ الإناء بما فيه . سيدي أبا الحسن ، قضايا ضخمة أسقطناها فوق كواهلنا ، أعيانا حملها ومالت بها كواهلنا ، وليس ثمة سبيل للخلاص منها، فاستسلمنا لها ، ورضينا مكرهين بذلها وثقلها ، لكن الأنكى أننا طفقنا نعايشها حتى أمست فينا قدرا مقضيا ، كثيرة هي الأمور التي نريد أن نشكوها إليك ، وهي من سنخ ما كنت أنت تشكو منها ، فالباطل هو الباطل في كل زمان ومكان ، لايتغير، يتغير فقط هو الإنسان ، فالشر يتوارثه الأحفاد عن الأجداد ، كما هو الخير يتوارثه الخيرون كابر عن كابر . فالذين وترتهم في بدر وأحد وحنين وخيبر والجمل وصفين ، عاد أحفادهم ليثأروا لماضيهم من محبيك ، كي يشفين صدورهم من العقيدة التي وترت أجدادهم بها ، وها هم أحفاد الحجاج والوليد والرشيد والمتوكل كالحية الرقطاء يتسللون بيننا ويعيشون بين ظهرانينا باسم السلام والإسلام ، يمارسون عين الأدوار التي مارسها أجدادهم في قطع الرقاب وانتهاك الحرمات وتخريب بيون الله وبيوت عباده ، والطامة الكبرى يابن عم الرسول أنهم يرفعون راية لا إله إلا الله ويرتكبون شتى الفضائع باسم الدين مثلما كان يفعل معاوية حينما حاربك باسم الدين وباسم الدفاع عن الحق بينا هو يضمر للدين والحق ولأتباعهما المخلصين كل العداء ، و هاهم يرفعون قميص الجهاد كما رفع أجدادهم قميص عثمان من قبل . وإليك ياسيدي .. عراقك الذي سبق وأن اخترته من دون الديار سكناً ودارا لحكمك ، يحترق بنيران حقدهم منذ عقود ، لقد أمطرت سماؤهم علينا دما وقيحا، وتفجرت في صدورهم أحقاد السنون الخالية حتى أصبحنا رجالاً ونساءا وأطفالاً نهبا لسيوفهم وهدفا لسياراتهم المخخة لم تأخذهم فينا إلاً ولا ذمه ، وهاهي الشعوب العربية من حولنا تأنس لموتنا وتطرب لأنين أطفالنا وعويل نسائنا ، إنهم يحضرون مشهدا تراجيديا نحن ممثلوه وهم مشاهدوه ، فما أن ينتهي مشهد حتى تأخذهم رغبة في التصفيق ابتهاجا بنصر جديد تحقق بنصول سيوف الغدر والحقد الذي ورثوه عن الأجداد. - من بين كل هذا الركام الهائل جئتك.. ياسيدي .. محملاً بأسئلة حيرى ،يغريني فيك نفس تأبى الضيم ، لم تهادن ولم تداهن أو تصانع أو تضارع في الحق طرفة عين ... لقد عرفتك خبيرا في رسم لوحات دقيقة للأزمان والدهور فهل لنا أن نعرف في أي دهر نحن الآن : * في دهرٍ عنود وزمنٍ كنود ، يُعد فيه المحسنُ مسيئاً ويزداد الظالمُ فيه عتوا ، لاننتفع بما علمنا ، ولا نسألُ عمَّا جهلنا ، ولانتخوف قارعةً حتى تَحل بنا . - أين إذن معايير الحق التي أكد عليها الإسلام وأمرنا باتباعها؟ * أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل ، واللسان عن الصدق كليل ، واللازم للحق ذليل ، أهله معتكفون على العصيان ، مصطلحون على الإدهان ، فتاهم عارم وشائبهم آثم ، وعالمُهم منافق ، وقارئُهم مماذق ، لايعظم صغيرُهم كبيرَهم ، ولا يعول غنيُّهم فقيرَهم - زمان لا يُقرب فيه إلا الماحل ولا يُظرف فيه إلا الفاجر ، ولا يضعَّف فيه إلا المنصف - قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً ، ونسَبَهُم أهلُ الجهل فيه الى حسنِ الحيلة - زمان لايبقى - في الناس- من القرآن إلا رسمه ، ومن الإسلام إلا أسمُه ، مساجدهم عامرة من البناء خراب من الهدى ، سكانها وعمَّارها شرُّ أهل الأرض ، منهم تخرج الفتنةُ ، وإليهم تأوي الخطيئة. - وعلماؤنا يا أمير المؤمنين أو لا يقع على كواهلهم بعضٌ من مسؤولية مانراه من انحراف عن جادة الحق ؟ * العالمُ من عرفَ قدره ، وكفى بالمرء جهلاً ألاَّ يعرف قدره ، وأن من أبغضَ الرجال الى الله تعالى لعبداً وكَّله الله الى نفسه ، جائراً عن قصد السبيل ، سائراً بغير دليل ، إذ دُعي الى حرثِ الدنيا عملَ ، وأن دُعي الى حرث الآخرة كَسلَ ! كأنَّ ما عَمِلَ له واجب عليه ، وكأنَّ ما ونى فيه ساقط عنه . - أفهم من ذلك يا أمير المؤمنين أن أكثر علماء زماننا قد عملوا لمصالحهم على حساب العقيدة ومصلحة الأمة ، فما هي صفة المخلص منهم علهم ينتبهوا ويعودا الى العمل بما أمرهم الله به؟ * ألاَّ يقارّوا على كِظةِ ظالم ، ولاسغبِ مظلوم - منطقهم الصواب و ملبسهم الإقتصاد ومشيهم التواضع، عظم الخالق في أنفسهم فصغر مادون ذلك في أعينهم - لايرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير. - البلاء والظلم لم يستثن أحداً منا حتى الشيوخ والنساء والأطفال قتلاً وتهجيرا وتغييباً. * إنما يجمع الناسَ الرضى والسخط ، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمَّهم اللهُ بالعذاب لمَّا عمُّوه بالرضى. - تسلط الظلم والظالمين وبهذا الشكل الفضيع ، أترى سببا لذلك ؟ * إنما بدء وقوع الفتن أهواءٌ تتبع ، وأحكامٌ تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، ويتولى عليها رجال رجالا ، على غير دين الله ، فلو أن الباطل خلُص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يُؤخذ من هذا ضغثٌ ومن هذا ضغثٌ فيُمزجان ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى . - ولكن الأشرار ياسيدي قد مسكوا زمام أمورنا على شكل لم نكن نتوقعه ، فأكثروا فينا القتل وملؤوا ربوعنا بالمقابر الجماعية واستضعفونا مع قلتهم وكثرة عددنا ، أوذلك من ضعف فينا أم من قوة في عدونا أم هو مكر نربأ عنه ويحسنه عدونا؟ * لو لم تتخاذلوا عن نصرة الحق ، ولم تهنوا عن توهين الباطل ، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ، ولم يقو من قَويَ عليكم ، لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل ، ولعمري ليُضعَّفن لكم التيه .. أضعافا ، بما خلَّفتم الحق وراء ظهوركم ، وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد - ألا فتوقعوا ما يكون من إدبار أموركم ،وانقطاع وصلكم واستعمال صغاركم . ذاك حيث تكون ضربة السيف على المؤمن أهون من الدرهم من حِلِّه ، ذاك حيث يكون المُعطَى أعظم أجراَ من المُعطِي ،ذاك حيث تسكرون من غير شراب ، بل من النعمة والنعيم . - تقول قولاً عظيما يأبا الحسن مما يجعلنا نتهم أنفسنا بالتخاذل عن الحق وركوب الباطل والركون الى الدنيا ، وهو سبب لما نحن فيه من مآسٍ تحيق بنا ، فبم إذن تنصحنا من أجل الإصلاح والرجوع الى جادة الصواب قبل فوات الأوان ؟ *.. الحذر الحذر من طاعة ساداتِكم وكبرائِكم الذين تكبَروا عن حَسبهِم وترفَعوا فوقَ نسبهم ، وألقَوا الهَجينةِ على رَبِّهم ، وجَاحدوا الله على ما صَنع بهم ،مكابرة لقضائه ومغالبة لآلائه ، فإنهم قواعد أساس العصبية ، ودعائم أركان الفتنة ، وسيوف اعتزاء الجاهلية . فاتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم أضداداً ، ولا لفضله عندكم حساداَ ، . ولا تُطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدَرَهُم ، وخلطتم بصحتكم مرضهم ، وأدخلتم في حقكم باطلَهم ، وهم أساس الفسوق وأحلاس العقوق . اتخذهم إبليس مطايا ضلال ، وجندا بهم يصول على الناس ، وتراجمة ينطقُ على ألسنتهم ، استراقا لعقولكم ودخولاً في عيونكم ، ونفثا في أسماعكم - ومالي لا أعجب من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها لايقتصُّن إثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصي ، ولا يؤمنون بغيبٍ ولا يعفون عن عيب ، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروأ . - لقد عانينا الكثير ياأمير المؤمنين من الطغاة في بلاد الرافدين ، وكلما كبرسلطانهم كبرت عذاباتنا على أيديهم ، حتى هيأ الله لنا من خلقه من يكسر شوكتم ويكبح جماح حبهم لسفك دمائنا ، بعد أن عجزنا عن ذلك ، وعلى مضض قبلنا مكرهين بأن يَرفعَ عنا ركام ظلم أخوتنا من أبناء ديننا قومٌ من خارج ملّتنا . * إن الله لم يقصم جباري دهر قط إلا بعد تمهيل ورخاء ، ولم يُجبر عظم أحد من الأمم إلا بعد أزل وبلاء - وسسينتقم الله ممن ظلم مأكلاً بمأكل ومشرباً بمشرب من مطاعم العلقم ومشارب الصبر والمَقَر ولباس شعار الخوف ودثار السيف . - بماذا تنصحنا ياسيد البلغاء في خضم ما نواجهه من تحديات شتى بين تكفيري اخرجنا ( مجتهداً ) من الإسلام وبعثي ملك رقابنا عقوداً وهو لم يزل مأخوذا برغبة عارمة في أن يعود كرة أخرى ؟ * عليكم بالجد والإجتهاد ، والتأهب والإستعداد ، والتزود في منزل الزاد ، ولا تغرَّنكم الدنيا كما غرَّت من قبلكم من الأمم الماضية والقرون الخالية - عليكم بتقوى الله ونظم أمركم - انفروا الى قتال عدوكم ولا تثَّاقلوا الى الأرض فتقرُّوا بالخسف وتبوُّوا بالذل ، ويكون نصيبكم الأخس ، وأن أخ الحرب الأرق ، ومن نام لم يُنم عنه . - لقد علمنا ياسيدي أن شسع نعلك أحب إليك من الإمرة إلا أن تقيم حقاً أو تدفع باطلاً .. لكنا نرى عكس ذلك ممن تولى وتأمر . * الإمرة البَرَّة فيعمل بها التقيُّ ، وإما الإمرة الفاجرةُ فيتمتع فيها الشقيُّ الى أن تنقطع مدته وتدركه منيته. - لقد تقلد الكثير من المناصب ممن كان في زمن الطغيان مقربا للسلطان وممن كان أداة لقتلنا وقمعنا. * إن شر الوزراء من كان للأشرار وزيرا، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن بطانة ، فإنهن أعوان الأَثَمَة وإخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ،أولئك أخف عليك مؤونة وأحسن لك معونة وأحنى عليك عطفاً - فلا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة ، والزم كلٌ منهم ما ألزم نفسه . - الذين أباحوا دمنا يا أبا الحسنين يرفعون كلمة الجهاد . * كلمة حق يراد بها باطل (و) قد اضاء الصبح لذي عينين . - وعلماؤهم الذين يفتون بقتلنا بحجة محاربة المحتل على أرضنا بعد أن اشاحوا بوجوههم عن فلسطين . * الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى كل داخل في باطل إثمان : إثم العمل به وإثم الرضى به. - وهل أن تلك الفتاوى ملزمة لشباب الأمة ؟ * لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (و) قد بصِّرتم إن أبْصَرتُم ، وقد هُدِيتم ان اهتدَيتم وأُسمعتُم إن استَمعتم . - إن كثير من الناس وخاصة ذوي السطوة يبدون للأمة صفحة الصدق والأمانة حتى إذا ملكوا الرقاب تبدت لنا صفحة الأنانية والخيانة وحب الدنيا . * لقد قال لي رسول الله صلة الله عليه وآله : إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركاً ، أما المؤمن فيمنعه بإيمانِه ، وأما المشرك فيقمعه الله بشركه . ولكني أخاف عليكم كلَّ منافق الجَنان عالم اللسان ، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون . - يقول البعض أن الإسلام هو أن تقر بالشهادتين وتؤدي الفرائض الواجبة ، هل لك رأي آخر فيه يا أبا الحسن؟ * الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل . - لقد نعت الدنيا ياسيدي بنعوت وضيعة ، حتى طلقتها ثلاثاً لا رجعة فيه فهل لنا في وصف عله يأخذ له أثراً في كبح جماح هوسنا وتكالبنا عليها؟ * ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء ، في حلالها حساب وفي حرامها عقاب ، من استغنى فيها فُتنَ ومن افتقر فيها حزن ، من ساعاعها فاتته ومن قعد عنها واتته ومن أبصر بها بصَّرته ومن أبصر بها أعمته . (و) من هوان الدنيا على الله أنه لايُعصى إلا فيها ولا يُنال ماعنده إلا بتركها - خذ من الدنيا ما أتاك وتول عمَّا تولى عنك ، فإن أنت لم تفعل فأجمِل في الطلب. - هل من حكمة صغيرة الكلمات كبيرة المعاني نتعض بها؟ * قطيعة الجاهل تعدلُ صِلة العاقل . - وكلمة قبل الختام يا سيد الحكماء. * رحمَ الله امريءً تفكَّر فاعتبر، واعتبر فأبصر . ولا تكونن ممن لاتنفعه العظة إلا إذا بالغتَ في إيلامِه ، فإنَّ العاقلَ يتعظ بالآداب ، والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب . جمعنا الله وإياك ياسيد البلغاء وإمام المتقين مع النبي المصطفى وأهل بيته ومع عباده الصالحين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* كلام الإمام علي مأخوذ نصاً من نهج البلاغة .
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |