|
مقالات عبق الفلسفة في زهرة الشِعر خلدون جاويد اروع الشعر ماتفكر بالحياة وحلق بالرؤى الفلسفية في فضاء الأسئلة الكبرى ، وفي الصدارة منها الخلق والحياة والموت ، وجدوى العالم . وتبسيط الفلسفة وجعلها خبزا يوميا هو انجاز حضاري باسل ومُساجل ، بتوصيف آخر ، لابد من حاضنة اجتماعية لتلاقحها بسلام . صحيح ان الفلسفة متحيزة وفق المنظور الماركسي ، لصالح الطبقات الكادحة ، الاّ ان عالم الوئآم الفلسفي يبدأ من المستقبل ويقتضي البناء حثيثا من اجله ، ولقد تصور الشاعر المتألق محمد صالح بحر العلوم أجزاءَ تكوّن هذا الوعي عندما قال : ان نجا العالم في مجموعه فنجاة الفرد بالضمن تنالْ واتصاف الكل في ظاهرة ٍ دون أن تعرض للجزء محالْ . وهذا يعني ان لاجدوى مني لو كنت جزئيا ً متطرفا ارى الى الكل في خندق الاحتراب المتاخم ! اية معركة ومهارشة طويلة الأمد سأخوضها من اجل تثبيت اركان جزئيّتي ، وبالتالي وبعد حين يأتي من يزيحني ! وهكذا تظل دائرة الدم القابيلية تأخذ بأعناق الف هابيل وهابيل ! ان السلام في منظور انساني شامل ( الكل ) هو ميدان اشكالي لترقية الاجزاء القومية والوطنية في سبيل انقاذ المعمورة من شبح الحرب . وفي العمق ، أي في رؤية الذات ، وفي الأُفق أي في عالم الآخرين ، مايوحدنا على قاعدة نحن ! فهلم نعمل بما قاله الشاعر العالمي التركي المولد ناظم حكمت : كلنا من اجل واحدنا واحدنا من اجل كلنا . ورؤية الثبات في الذات الواحدة والفكرة الواحدة هو خطل فكري قامع مانع يحول دون ان يرى كل ذي ذات ٍ ذاته في مرايا الحضارات واللغات والأجناس . ان الخروج من قوقعة الفلسفة الواحدة أفضل وسيلة لمعرفة العمق الذاتي في بحر متلاطم بالرؤى والكائنات ومكتزاتها ! . لاثبات في الفكر ولاثبات بوجود الاشخاص ، كل شئ في انهمار هائل التسارع :
انما الدنيا فناءٌ ليس للدنيا ثبوتْ انما الدنيا كبيت ٍ نسجته العنكبوتْ ولقد يكفيك منها أيها الطالب قوتْ ولعمري عن قليل ٍ كل من فيها يموت ْ
هكذا وردت الأبيات أعلاه في ديوان الامام علي الشعري وفي صياغة متينة وسبيكة مرموقة وقد عبرت عن التحول المرير والفناء المحيط بالحياة . ان موت الآخرين وزوالهم مهما كان موقعهم هو بمثابة ربيع البراعم لحياة جديدة . انه الموت الايجابي . أما موت العتاة والسلاطين الجائرين فهو انكفاء لزمن وانتهاء لمرحلة ضرورية وتقدم اخرى في لوحة التغيير بعيدا عن الثبوت المشار اليه علويا ، أعلاه . في الفكر المادي الديالكتيكي أركان اساسية لاعتبار ان كل شئ في تغاير وتطور مستمرين . وان صراع الاضداد هو مصدر تطور الحركة الكونية . ان على العتاة ان يتواضعوا ويتأملوا في ان لاخلود لجبروتهم . الجزء يفنى والكل يتجدد ويتطور . وان الاشخاص بمرورهم الملموس العابر هم مجرد صور ، واستنادا على هذا المفهوم السديد لشعر عمر الخيام الفيلسوف والفلكي والرياضي قد كتب الشاعر محمد مهدي الجواهري :
وممّا يهوّنُ وقعَ الحِمام أن ليس للمرء منه مفرْ يوقع ماشاء عود الزمان ويبكي ويضحك منه الوترْ " فيوم ٌ علينا ويوم لنا ويوم ٌ نُساء ويوم نسرْ " تعشّقت ُ من عمر ٍ قولة ً وكم قولة ٍ في معاني عمرْ ارى دهرنا مسرحا ً كلنا نروح ونغدو به كالصورْ .
واذا توغلنا - دينيا ً - فان كلمة الموت وردت لخمس وعشرين مرة في القرآن الكريم وكلمة الميت لإثنى عشر مرة وكلها تؤكد على أن الخالق حي لايموت . وان المخلوق زائل من الحياة الدنيا . وقد عبرت الآيات الكريمة عن ذلك : " كل نفس ٍ ذائقة الموت وانما توفون اجوركم يوم القيامة " . وفي النص اعلاه جدارة واعتبار ، فاذا كان خليقا أن يُقرأ على الناس مرة واحدة ، فان علينا ان نقرأه على الحكّام مرتين ! ومن وصية للنبي محمد ص لأبي ذر الغفاري " مازهد عبد في الدنيا الاّ انبت الله الحكمة في قلبه وانطق بها لسانه وبصّره بعيوب الدنيا ودائها ودوائها وأخرجه منها سالما ً الى دار السلام " واليوم فأنبل زهد في الدنيا هو مايمارسه الحاكم . وما أحوجنا الى دعامة بل ترسانة اقوى من الفولاذ (اعني الصدق ) بأن يقف حاكم زاهد بالدنيا وما عليها من غبار ! بأن يتصدى لمرتشي الفساد الاداري ومرتشي أموال القتل من المرتزقة ! ان لحتمية الموت ايجابا في طريقتين اولاهما ان سقوط ورقة ذابلة في التصور المادي يعتبرفناءً تاما اذ لارجعة لانطواء الحياة لتلك الورقة . والايجابية الثانية ان الموت في المفهوم المثالي معبرٌ الى حياة خالدة . لكن تبقى حتميته ضرورة ً ، لا على طريقة مالثوس : ( الحرب ايجابية للتخلص من الكثافة البشرية اضافة الى الكوارث الطبيعية) بل على درب التغيير من حالة الى اخرى . لا سلطة كونية باقية ولاقاعدة واحدة ، خالدة وتصلح للجميع ، ابد الدهر . قال الشاعر في الحتمية :
وانك كالليل الذي هو مدركي وان خلت ان المنتآى عنك واسع
أي انه لابد من اطباقة الليل .
ان كلمة الموت ليست مرادفة للزوال ولكن تواردها معها ومع الفناء والعدم مايوحي بالتقارب وللمزيد من الدقة فلابد من الاشارة الى ذلك قاموسيا : فالعدم ضد الوجود . والزوال ، في بعض معانيه ، هو زالت الشمس أي مالت عن كبد السماء . وزالت الخيل بركبانها : نهضت ، ومنه " زيل بنعشه " أي نُهِض َبه . تنحى وتحول " .... ] وأما الفناء فهو " خلاف البقاء : الهلاك ". ويؤكد الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه معالم الفلسفة الاسلامية ، على الايمان بالله حلا لظاهرة العدم فيقول : " واذا أثبت ان العالم حادث ، وانه وجد بقدرة الله المبدع المطلقة فيكون بقاؤه متوقفا على ارادته أيضا ، وان شاء أبقى ، وان شاء أفنى . وقد يتسائل : كيف توجد أشياء من لاشئ ؟ ونجيب بالتساؤل : من أين جاء ذلك الشئ الذي هو مصدر الاشياء فان وجد من شئ آخر أعدنا التساؤل الى مالانهاية ، ولا حل أبدا ً الاّ أمر الله اذا أراد شيئا ً يقول له كن فيكون فالارادة الالهية هي التي تبدع الكون ، وتوجده بعد أن لم يكن شيئا ، وهي التي تفنيه فيصبح لاشئ " . أما ميخائيل نعيمة ، فانه وعلى ماتيسر من ملامح المعرفة ، يتحسس الروح التي بين ثناياه ، والمعبر عنها بنسمة ربانية تقترن بوجود آدم ، ووفق مخيلة الشاعر او حدود معرفته فان تلك النسمة هي التي وفقته لمشاهدة بصيص ما ! لكنها عادت وزادته عماءا باعتبار ان الذين يتسلحون بالعلم والمعرفة وعندما يكتشفون نجمة في السماء ، يقفون حائرين ازاء لامتناهي نجوم وبحر من معارف لايفقهون منه شيئا ً . وماذا ياترى في كنه ذلك المشهد الساحر والغرائبي سوى ماينعته ميخائيل بالجهل او كما قال : العماء . تماما مثلما ينطوي ثوب الحياة على الفناء في داخله . انها مرة اخرى صورة هلاك الحياة بعودة النسمة الى خالقها . نسمة لاتقوى على الفوز بنكهة وجوهر الأشياء ومعانيها : قال الشاعر ميخائيل نعيمة في قصيدة ، بين الجماجم :
حدثيني عن نسمة ٍ جعلت آدم حيا ً وكان تربا وماءا يالها نسمة ارتنا بصيصا في ظلام البقا فزدنا عماءا مالبسنا الحياة حتى لبسنا في ثنايا ثوب الحياة الفناءا فغدونا اذا رجونا عزاءا صار ذاك الرجاء فينا بلاءا ونسينا أنا تراب ٌ فلا بالارض نرضى ولاننال السماءا نسمة الله أين ، اين استقرت بعد ان عادت الجسوم هباءا ؟ أالى صدر خالق الكون آبت تحمل الهم والأسى والشقاءا أم طوتها الأقدار لكن لحين ٍ؟ أم هواء كانت فعادت هواءا
ان مايذهب اليه الشاعر ميخائيل نعيمة ليعتبر من أكثر المواضيع اهمية في خلد الفيلسوف حيث لاينفك يتفكر بمعنى النسمة التي تسكن التراب والماء ليغدو انسانا ! وياترى هل نقوى على معرفة كنه البصيص الساكن فينا ؟ انها مسألة مؤرقة حقا وفعلا . فما السر اننا نحيا لنفنى . واين تمضي تلك النسمة الربانية ؟ هل تمضي الى اله الكون أم تطويها الأقدار . ان النص مشحون بمرارة الشجن الفلسفي المحبب وذلك لأنه ، عدا تأججه الذهني ، مكتوب بشاعرية الحس والموسيقى . وهنا مرة اخرى تكمن جمالية الرؤى الفلسفية في القصيدة . انها وئام فكري شاعري يذيع الهيام في العقل والقلب . ان محمد مهدي الجواهري ، وان لم يكن شاعرا فيلسوفا كالزهاوي ، الاّ انه بحكم تجربته الحياتية الطويلة قد اغترف الحكمة وراحت تنساب مابين اصابعه مثل غدير هادئ . وهنا تجدر الاشارة الى كيفية تناوله لمفهوم الزوال :
افهذا قصر " فرهاد " الذي جمعته مع "شيرين " المنونْ مثلا للحب دورا طاهرا لم يشب أثوابه البيض مجون ْ ليس منه غير رسم ٍ دارس ٍ مخبر أن رحى الدهر طحون ْ أوَ لا " كسرى " ولا أجناده خُليتْ منهم قلاع ٌ وحصون ْ سلفت فيهم سنون ٌ ترفا ً وأتتهم بالبليّات سنون .
ولقد اوكل الجواهري الكبير في حكمته وشعره ، الى تنازع الكون ، كل مايحيلنا الى التحول والتقلب ، لكن مع ذلك المصير فان أجمل ما نتركه ، وفق روحية التفاؤل لدى الجواهري ، هو أن نهب أعمارنا للحياة ، فأية نبالة في منطلقاته التربوية الايمانية التي ترتقي بالحياة الى مصاف العطاء رغم الموت والأمل رغم الزوال :
تنازع ٌ للكون في أهله صيّر منا الحوّل القلّبا ماالجود في أعمارنا طولها وانما الجود بأن تُوهبا سيان طال العمر أو لم يطل مادامت الغاية ان يُسلبا
ان الايمان الحقيقي هنا هو كم تهب للحياة ، كم تقف مع قضايا الطبقات الكادحة ، مع المحتاجين ، سواء كنت مثاليا ام ماديا . قل لي كم تمتلك ، اقول لك كم انت صادق ام كاذب ، وذلك لأنه لم يعد يطاق أن تكون مليونيرا وانت تضع على رأسك خمس عمائم ! خمس نجوم من الابتزاز الوطني والارتشاء والجدل ، والتشدق ببؤس وعار الفلسفة.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |