|
مقالات مقاربة شعرية من رؤية فلسفية خلدون جاويد انه لأمر مفجع أن لاتتعظ البشرية رغم دعوات حكمائها وشعرائها الى ضرورة بناء عالم جديد يسوده العدل والسلام. فهل الانسان عاجزعن التخلص من احد طرفي الصراع؟ والمقصود الشر كمفهوم فلسفي نقيض ٍ للخير؟. أم ان الشر كفة الميزان الثانية لهذا العالم. ان الشاعر محمد مهدي الجواهري يذهب في قصيدته ( الخطوب الخلاقة ) الى ان في الشر خيرا في مكان وان في الخير شرا في موازنة متصلة اخرى وبذا تستوي العدالة في هذا الامتزاج. والى جانب ذلك تجد الحظوظ لها مكانا من اشقاء هذا أو اسعاد ذاك! انها واقع الحال صورة الفوضى واللآنظام. ان الصورة قاسية هنا! لامنطق ولامعيار! انها الحياة الشقية التي نحياها:
إني وجدت الليالي في تصرفها تأوي الى حكم عدل ٍ.. وتحتكمُ تدس في الشر خيرا يستضاء به وتنزع الخير من شر ٍ ويلتئمُ ان الشدائد تستصفى النفوس بها مثل الحظوظ على اصحابها قِسَمُ يُلقين ظلا على وجه ٍ فيلتطم ُ ويزدحمن على وجه ٍ ويبتسم ُ
وهنا لانعلم هل الحياة بذاتها هكذا! أي مثلما يصفها الشاعر محمد مهدي الجواهري. أم ان مايجري منحصر فقط بمرحلة لامتجانسة من حركة التاريخ. وان المستقبل الزاهر موكول بقدرة الانسان على تطوير امكاناته الذاتية في الاخلاق، وفي العمل على صياغة مجتمع العدالة. ولكن لو ظل الوضع البشري على هذا التوازن من الألم ونقيضه. والفرح وضده. والجديد وقديمه. والولادة المقرونة بظاهرة الموت. فهل ستنتهي الشرور في حياة اخرى غير هذه؟. ان الآخرة كما تشير الكتب السماوية والأنبياء والرسل، هي المطاف الأخير للتخلص من الشر والأشرار. أما لو أخذنا ملمحا من ديانات اخرى ورأينا كيف ينظر الى المسألة ذاتها، فاننا سنجد اله الخير ينتصر على اله الشر وعلى سبيل المثال أشار الاستاذ حسن توفيقي في كتابه دروس في تاريخ الأديان: " يبلغ عمر الدورة الحالية للعالم – وفقا لما ورد في ديانة زرادشت 12000 سنة، حكم فيها اله الخير طيلة 3000 سنة، ظل خلالها اله الشر متواريا في الظلام، وعقب انتهاء الفترة المذكورة خرج اله الشر من الظلام، واصطدم باله الخير الذي استمهله 9000 سنة، وهو على يقين بأن النصر سيكون حليفه في نهاية المطاف، وابان هذه الفترة أخذ أحدهما يتحدى الآخر من خلال خلق الخير والشر، وبعد 3000 سنة خلق زرادشت، ومنذ ذلك الوقت بدأ ميزان القوى يميل لصالح اله الخير وجنوده، واستمر في سيره الصعودي ". تلك اذن حرب تاريخية طاحنة ترد عند الزرادشتية لتأكيد مبدأ الصراع قديما والانتصار مستقبلا. وقد تبدو هذه الآراء وسواها مما يرد لدى أديان ومعتقدات اخرى وعدد السنين تلك من قبيل الأخيلة والتصورات. لكن مايرد فيها هو الانتصار النهائي للخير. واذا كان الأمر هكذا فانه ادعى الى التفاؤل. وقد يغري هذا أيضا لا على الاتكال على صراع الآلهة فقط، وانما على تدخل الانسان في فعل دؤوب من اجل نشر المثل والدفاع عنها. الاّ ان الصورة كما يبدو ليست احادية الجانب، فهنالك آراء مختلفة منها على سبيل المثال مايقول به الاستاذ محمد تقي مصباح اليزدي في كتابه ( النهج الجديد في تعليم الفلسفة ): " ان التأمل في تدبير النوع الانساني كاف ليطلعنا على كون هذا العالم حكيما، بل يكفي التأمل في شأن واحد من شؤون تدبيره وهو موته وحياته، لأنه لو لم يكن قانون الموت سائدا بين الناس فعلاوة على كونهم لايظفرون بالسعادة الآخروية ولايتعظون من رؤية موت الآخرين فانهم أساسا لايتيسر لهم الرفاه الدنيوي بأي شكل من الأشكال. فمثلا لو كان كل الناس الماضين احياء اليوم فان سعة الأرض لاتكفيهم سكنا، فضلا عن ان تؤمّن لهم المواد الغذائية وسائر ضرورات الحياة. اذن لتحقق مثل هذه الخيرات لابد من هذه الشرور.". لقد تناول الاستاذ اليزدي اعلاه مالاطاقة للانسان ولاتدخل فيه. وذلك لأن قضايا الموت والحياة هي من غير اختصاص الانسان. أما الذي يقع في دائرة الفعل الانساني فانه أدعى الى التدخل والتناول والعمل الصالح من أجل درء مايسوء المعذبين في الحياة واعطاء العبرة والدرس لكل ذي جبروت وقوة بأن لاتكون قوته ظالمة وسلبية بل قوة من أجل البناء والخير. ان قارئ قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب ( انشودة المطر) يجد نفسه وبعد الانتهاء منها بأن فداء الانسان لأخيه الانسان المظلوم المضطهد انما هو قمة الكرم والرفعة والسعادة الروحية والنبل البشري:
" حديد " لمن كل هذا الحديد! لقيد ٍ سيلوى على معصم، ونصل ٍ على حلمة ٍ او وريد، وقفل على الباب دون العبيد، وناعورة لاغتراف الدم ِ. " رصاص " لمن كل هذا الرصاص؟ لأطفال كوريّة البائسين، وعمال مرسيليا الجائعين، وأبناء بغداد والآخرين اذا ما أرادوا الخلاص حديد رصاص رصاص! ( حديد.... )
الى ان يضيف الشاعر قائلا في ص 574 – 575 من المجموعة الكاملة:
" حديد، حديد " وانت تبيع السرير العتيق، تبيع الحديد الذي امس كان مهادا عليه التقى عاشقان وشدا نداء الحياة العميق ذراعا باخرى، فما تخفقان! فياحسرتا حين يمسي غدا شظايا تدوي وبعض المدى تنحى بها عن ذراع ذراع وينهد مهد ٌ ويخبو شعاع.
ان الشاعر بدر شاكر السياب يرى في عالم التكنولوجيا الحديثة نهبا لفقراء الناس. فلو بقيت فضلة من حديد هو سرير لعاشقين لامتدت اليه مخالب الغنى وأفقرت الفقير وزادت فاقته على فاقة، مما يجعله يبيع أبسط مقتنياته، وبما فيه سريره وان زرد الحديد ليلتف على المعاصم بدل الأسورة وعلى الحلمات فيصفدها ويذويها. ان الشاعر السياب في هذه المقاطع المؤتلقة من الشعر ليرقى بهمم النبلاء والانسانيين الى التبصر، الى الضمير الحي، والى ضرورة ادراك مايحدث في المحيط من محاولات الانزال بالانسان في عصر في عصر النهب التكنولوجي الى الحضيض. والشاعر يهيب بنا الى أن نعي ونتصدى لمعسكر الشر الزاحف الى دفء بيوتنا وعبير احلامنا ووريق آمالنا. اننا مهددون حقا وفعلا وما علينا الاّ الاصطفاف مع قوى الخير ونداء الشعر والحكمة. ان قضية الشر مقرونة بالنهب والقتل والحرب وافقار الناس وتجهيلهم وتعميتهم والعمل على مسخهم وتجريدهم من ابسط حقوقهم في الحياة والعمل والفضيلة. يقول افاناسييف في كتابه ( الشيوعية العلمية ): " بان عدد الحروب خلال 5559 عاما هو 14513 حسب ما احصاها العالم السويسري جاك بابل، وضحاياها قرابة 3640 مليون نسمة ".. ]. ولم تكن بطبيعة الحال دواعي ذلك الاّ حب الهيمنة الطبقية واستبداد الافراد. وحول كمون اسباب الحروب في طبيعة الناس كمونا ملازما لطبيعتهم، ينبري بعض الكتاب والفلاسفة الى مقارعة هذه الآراء باعتبارها مهينة لهم، منزلة بهم الى الحضيض. والناس كالأرض اذا وفرت لهم شروطا للانبات مناسبة بعيدا عن النقص والكوارث يُزهرون ويزدهون بالثمار والأريج، لكن جذر الأفكار الناظرة بدونية الى البشرية تحاول الاقناع بان روح الحرب والغريزة الحيوانية كامنة في طبيعة الانسان ولاسبيل الى تغييرها ناسين او متناسين ان العامل التربوي الايديولوجي او الديني يتمكن من التأثير الايجابي بحدود بعيدة وكبيرة. وقد قال الفيلسوفان بوتوستنيك ويخوت: " ان الماديين القدماء، بمن فيهم فيورباخ، لم يأخذوا بعين الاعتبار الدور الهائل لنشاط الناس العملي ولم يروا الاّ تأثير الطبيعة على الناس العملي ولم يلاحظوا التأثير المعاكس، تأثير الانسان على الطبيعة " وقد أضاف الكاتبان: " بدلا من ان يفسر تفسيرا صحيحا ظاهرة اجتماعية مثل الاخلاق بالظروف الواقعية التي يعيش فيها الناس، انطلق من انه تلازم الناس افكار اخلاقية ما ابدية لاتتغير مستقلة عن الظروف المادية لحياتهم ". ان الآراء المتضاربة في صدد علو الانسان او دونيته لاتدفع بنا الى الاعتقاد الاعمى بأحد الطرفين او هذه المجموعة من العلماء او تلك، فالأمر على ما به من نفي احدهما الآخر ليحدو بنا الى العمل على ترقية المستوى الاخلاقي لبني الانسان وان نهيب بالجميع الى الاستمرار من اجل التخلص من الشرور والآلام التي لحقت وتلحق بالبشرية أيضا، في الحدود الدنيا، العمل على موازنة الخير بالشر الذي لابد منه، ودرء غلبة الأشرار. سيظل الانسان شئنا أم أبينا بحاجة الى توفير شروط انسانية متوازنة ومنظومة فكرية خلقية لابد منها ولا بد من العمل على تطبيقها المؤسساتي وعدم الركون الى مايقوله هذا العالم او ذاك فالحقيقة نسبية ومتغيرة، لكن العمل باتجاه رفعة الانسان وتطويره هو ارقى واسمى خاصة بشرية تقول بها الأديان والحِكم والقصائد. والنبل لابالقول البليغ الساحر الرنان بل بالعمل القائم على المعطى العلمي والواقع الملموس.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |