|
مقالات كتبت إليّ تسألني عبر بريدي... وبريدي مزدحم ومليء بمواجع لا حصر لها كعادته... خطِّت فوقه بحروف دقيقة الحيرة بضع جمل تشتعل أفكارها بمعاني ارتجاف حقيقي داخل صدرها. قالت : " يقولون : إن أردت أن يجمع الله بينك و بين من تحب..عليكَ أن تأخذ من أثره مقدار سبع خطى.. و تضعها في قرآن بجانب صدرك ,.. أخبروني فقط.. أيّ شعوذة يمكن أن تعيد كلّ الأصدقاء؟!" ولأنها صغيرة السن و رهيفة الحس كغصن... ولأني لمست منها اضطراب حائر يخفق بقلق فوق ربيعها اليانع... ولأن حروفها تجرها مرارة الخيبة وضعف التجربة... فقد أصغيت لهذا اللحن الحزين بين سطورها.. واستشففت منها أنها لم تكن تسألني بقدر ما كانت تتألم لي وتشتكي. لذا أجبتها : لقد كنا مثلك يوما يا عزيزتي فعلمتنا التجربة الكثير... سأحكي لك شيئاً منها لعلها تهدئ ما داخلك من ارتباك... الصداقة قضية ربما هي أزلية في مقاييس البشر تتأرجح ما بين عدة معاني تبدأ من الصحبة وتنتهي بالأخوة... أيهما أولى، أيهما أجدر، أيهما يمكن أن نسعى إليه ونطمئن، ماذا عن قياسنا لهما، ماذا عن التقييم، وماذا عن التضحيات وعن مستوى الاستمرارية،و عن الحدود التي لا تنتهك في حقهما... وأخيرا ماذا الظروف التي يمكنها أن تُخلق فيهما أو تقضي عليهما، فالأمر كله يعود لنوعيتها وللخبرة التي نكتسبها ولسنوات النضج وللوضوح في التعامل والجدية كذلك في احتمال كلاً للآخر، ومدى قناعته بكل تحتمله معانيها. بعض الصداقات - يا عزيزتي - قد تخلق أشخاصاً عظماء وتدفعهم للتألق في سلكها، وبعضها قد تشغلهم بآلامها وتأكل من إبداعاتهم الكثير وتعيق تحركاتهم في الحياة... بعضها يبني وبعضها يهدم، والآخر يجيد حفر الجراح الغائرة... لكننا مع كل هذا نصبح مدينين لهم، لأنهم ساهموا في إعطاءنا درس جديد وخبرة نفيد منها وان كانوا قد افلحوا في حشو جراحنا النازفة برمال خشنة مالحة.. أما الحقيقي منها.. فهو ما يسمو فوق الظروف مهما كانت ومهما طال أمدها، وهي ذاتها التي تعبر بسلام فوق عراقيل الحياة وعثرات الزمن الغابرة، لأنها امتداد لعلاقة إنسانية راقية جداً، تمثل أخوة وصداقة حقيقية لا تتطلب المصالح بقدر ما تسعى للمحبة النقية ولصنع جسور نتكئ عليها لنعبر بعض المرافئ بسلام... فمهما أبحرت سفنهم بعيداً عنا في بحر هائج تجتاحه الريح العاتية، فهم حتما سيعودون لنا بقلوب يملأها الحب ويكسوها الإخاء وتظللها ألفة أودعها الله بيننا وبينهم، فتتسع صدورهم لآلامنا، يكتمون أسرارنا، يداوون جراحنا الغائرة، و... يحدثونا بحب كما كنا نفعل معهم تماماً... والآن.. سأهمس في أذنك بأمر لعله يطري نفسك المجهدة ويريحها من هذا التشويش الحاصل معها... الطيور لا ترحل عن سماءنا فجأة بلا سبب، إلا إن كانت قد اعتزمت أمر الحيل من قبل... والأشياء النفيسة لا تقع منا إلا إن حملت قيم تافهة لا تصلح للحمل. نعم، فالأصدقاء لا يرحلون عنا فجأة وإن كانوا طيوراً بأجنحة طليقة، إلا إن كان رحيلهم أمراً مؤقتاً يرجعون لنا بعده محملين بالشوق... والأشياء النفيسة لا تقع منا سهواً إلا إن كان سقوطها عابراً... لذا لن تفلح الشعوذة في إعادتهم لنا لأنهم قد اختاروا أن يرحلوا بمحض إرادتهم... فدعي عنكِ أمرهم جانباً... وأخيراً عزيزتي... هناك كلمات ومعاني نمر بها تبقى في أذهاننا متقدة وفي ذاكرتنا تنبض حيِّة... لأنها تجسد حقيقة لواقع نعيشه، يدلل عليه صدق ما نجده وما نلمسه... وبين كل ما ذكرتُ لك وما تعيشين حياة طويلة ستلمسين صحة تفاصيلها الدقيقة بنفسك، وحتى يحين ذلك الوقت... كوني بخير..
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |