|
مقالات دلائل الاحتباس الشعري في القرن الثاني الهجري نضير الخزرجي / إعلامي وباحث عراقي يحمل التاريخ فوق ظهره كتبا جمة، يطوي بعض سجلاتها تارة ويترك أخرى مفتوحة تارة أخرى، بعضها مدونة بأحبار سود مطرزة على جلد ذي نفس غير عاقلة تحكي فترة رخاء وأخرى حبّرتها النصول بالقاني من الدماء على جلد ذي نفس عاقلة، وشكلت السياط في بعضها خطوط الصفحات يكتب فوقها الجلاد ما يريد، تحكي فترة شدة وعناء. وتاريخ المسلمين تقلب بين هذين النوعين من الجلود، ومالت الكفة إلى جلود البشر، فشهدت المجتمعات المسلمة على مدى أربعة عشر قرنا سماءأ صافية في بعضها وفي أكثرها تلبدت بالحالك من الغيوم تمطر عذابات. ومثلَ القرن الثاني الهجري علامة فارقة في تاريخ المسلمين، حيث شهد الثلث الأول منه تنازع روح الدولة الأموية إلى الترقوة صاحبتها عمليات قمع شديدة للثورات والانتفاضات حتى خرجت، وانهار جسد الدولة الأموية لتحل الروح في جسد الدولة العباسية مؤذنة بعهد جديد ومعلنة عودة الحكم إلى الفرع العباسي من قريش، بدلا من علويّها، وكما قام الحكم الأموي على الدم لمدة قرن من الزمان ابتدأ الحكم العباسي بالدم. هذه التحولات الكبيرة في تاريخ المسلمين، كان للشعراء حضورهم في تسجيل وقائعها وتضمينها في صدور قصائدهم وأعجازها، وبخاصة ما يتعلق بالنهضة الحسينية التي كانت تغذي حركات المعارضة، أعمل الدكتور الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي جهده وسجلها في كتابه "ديوان القرن الثاني" قسم "الحسين في الشعر العربي القريض" من سلسلة دائرة المعارف الحسينية، الذي صدر عن المركز الحسيني للدراسات في لندن، في 396 صفحة من القطع الوزيري، والذي غطى الفترة الزمنية (24/7/719م) حتى (29/7/816م).
الإحتباس الشعري ولكن رغم التحولات الكبيرة والخطيرة التي شهدها المسلمون في القرن الثاني، وبخاصة قبل وبعد سقوط الأمويين في العام 132 هـ، فان الشعر العربي الخاص بالنهضة الحسينية، تقلصت مساحته، ويعزو المؤلف ذلك إلى شدة البطش الذي كان يمارسه النظام الأموي، صحيح إن عهد عمر بن عبد العزيز (101 هـ) شهد رفع سب الإمام علي وأهل بيته (ع) ولعنه من على المنابر، ولكن هذه الفترة استمرت ثلاثين شهرا فقط، وعاد الظلم من جديد على شيعة أهل البيت (ع) بصورة أشد، ولما كان الشعراء يمثلون الطبقة الواعية من المجتمع فمن باب أولى أن يكون الظلم الواقع عليهم أشد قسوة، ولهذا فان الموالين من الشعراء انكفأوا على أنفسهم أو إنهم تعرضوا للتهميش، وهاجر بعضهم أو هجّر وأُبعد، وضاعت عدد غير قليل من المقطوعات في زحمة الظلم والمطاردة، كما كان العهد الأموي يمارس الدس والدجل من جانب ومن جانب آخر يشتري الذمم لإنتاج الأحاديث الكاذبة أو القصائد المضادة لفضائل أهل البيت (ع)، ولذلك اقتصر الشعر الحسيني على الولائيين لأهل بيت النبي (ص) وكان هذا واحد من أسباب انحسار رقعة الشعر الحسيني، واحتباس حرارته في صدور الموالين، ولعل أبو الفرج الأصفهاني (ت 356 هـ) خير من يعبّر عن هذه الظاهرة الأدبية بقوله: "وقد رثى الحسين بن علي صلوات الله عليه جماعة من متأخري الشعراء أستغني عن ذكرهم في هذا الموضوع كراهية الإطالة، وأما من تقدم فما وقع إلينا شيء رثي به، وكانت الشعراء لا تقدم على ذلك مخافة من بني أمية وخشية منهم". ولم يختلف الحال بعد زوال العهد الأموي، فالظلم الواقع على شيعة أهل البيت (ع) ازدادت وطأته، وبخاصة بعد أن توسد العباسيون الحكم واقتعدوا نمارقه، مع إنهم دخلوا قصر الرئاسة من بوابة الثأر لدماء الإمام الحسين (ع) والرضا من أهل البيت (ع)، فعلى سبيل المثال وصل الأمر بهارون العباسي (ت 193 هـ) أن طلب من وزيره الفضل بن الربيع (ت 208 هـ)، بنبش قبر الشاعر منصور بن سلمة النمري (ت 190 هـ)، حتى يستخرج جثته ويحرقها، لان هارون تناهى إلى سمعه أبياتا للنمري في رثاء الإمام الحسين (ع)، أزعجته كثيرا، كان مطلعها: شاء من الناس راتع هامل ... يعللون النفوس بالباطلْ وفار تنور غضبه عند البيت: ألا مساعير يغضبون لها ... بسِلّة البِيض والقنا الذابلْ وقد بلغ الظلم الزبى، وضيقوا الدائرة على أئمة أهل البيت (ع) بين سجن وقتل وسمّ، حتى قال الشاعر: والله ما فعلت أمية فيهم... معشار ما فعلت بنو العباس ولكن البيت وان كان يقدم صورة للواقع الذي كان عليه أبناء الرسول (ص) في العهد العباسي، لكن العهد الأموي أسس لهذا العدوان بقتله الإمام الحسين (ع) ولذلك صدق القول "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله الحسين". وبشكل عام فان طبقات الشعراء في القرن الثاني الهجري يحصرهم المحقق الكرباسي في أربع: طبقة موالية للحكم، وثانية موالية للرسول (ص) وأهل بيته (ع)، وثالثة مستقلة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وقفت على أعراف الحياة، ورابعة سائرة وراء مصالحها ترى حياتها في تجنب الإنشاد في الإمام الحسين (ع) لما قد يجلبه الحق من همّ وحرمان وإبعاد.
مفاهيم خاطئة عندما يتناهى إلى سمع المرء كلمة "الرفض والروافض" فان ذهنه سيقوده إلى شيعة أهل البيت (ع) ويسوقه فكره إلى سقيفة بني ساعدة التي جرت فيها "بيعة الفلتة" للخليفة أبي بكر التيمي (ت 13 هـ) والنبي محمد (ص) بعد لم يدفن، ورفض شيعة علي (ع) أمثال عمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري لمثل هذه البيعة. وعندما يتناهى إلى السمع كلمة السُنّة والسنيون، فان الذهن سيقود المرء إلى السقيفة نفسها واصطفاف قادة من المهاجرين إلى جانب الخليفة. ولكن الحقيقة مختلفة جدا، فلا السقيفة أنتجت المسلمون الروافض ولا هي ابتدعت المسلمون السنّة، فالروافض كما يؤكد البحاثة الكرباسي مصطلح نشأ في القرن الثاني الهجري، على يد المغيرة بن سعيد المقتول في العام 119 هـ إشارة إلى الرجال الذين رفضوا الالتحاق بثورة زيد بن علي السجاد المستشهد في العام 121 هـ، فكما يقول السجستاني (ت 250 هـ) والنوبختي (ت 310 هـ) ما حاصله: "إن المغيرة بن سعيد هو الذي سمّاهم الرافضة لمّا رفضوا زيداً وفارقوه في الكوفة وتركوه حتى قتل"، ولذلك يقول ابن منظور في لسان العرب: 5/267: "والروافض جنود تركوا قائدهم وانصرفوا، فكل طائفة منهم رافضة والنسبة إليهم رافضي، والروافض قوم من الشيعة سموا بذلك لأنهم تركوا زيد بن علي". ومثل ذلك يقال في مصطلح السنّة، فمن الوهم المعرفي والخطأ الشائع القول إن المصطلح إشارة إلى سنّة الرسول محمد (ص)، أو أن المصطلح من إفرازات السقيفة، بل هو من مبتدعات الماكنة الإعلامية الأموية، أطلق لأول مرة على الذين امتنعوا من سبّ الإمام علي (ع) في خلافة عمر بن عبد العزيز، فكان الواحد منهم يلتقي صاحبه في السر ويسأله هل أنت سُنِّي يعني ممن يعمل بسنّة معاوية في سب الإمام علي وسبطيه (ع)، وكان الواحد إذا امتنع من السب عمداً أو سهواً التفت إليه جليسه وقال له: نسيت السنّة يا شيخ! مما يدل أن اللعن كان يتم بصوت مسموع في أثناء الصلاة وخارجها!!، ثم استقرت التسمية تدريجيا، ويعبر الفقيه الكرباسي عن أسفه، لأن: “التسميتين انحرفتا عن مسمّيهما فقيل لأتباع مدرسة أهل البيت (ع) رافضة ولأتباع المدارس الأخرى سنّة".
الاختبار الصعب في الواقع أن حب أهل البيت (ع) والولاء لهم ليس من الأمور الهينة، فالولائي الحقيقي يختبر عند الامتحان، والشاعر الملتزم يبان التزامه عند الملمات والشدائد، ولذلك فلا عجب أن الإنشاد في حق بيت النبوة من المنازل الكبيرة والمراتب السامقة، ولذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (ت 148 هـ): (من قال فينا بيت شعر بنى الله له بيتا في الجنة). وهذه المنزلة صعبة، بخاصة عندما تكون السيوف مصلة على الرقاب، ولهذا لا يخفي الشاعر يوسف بن لقوة الكوفي المتوفى في القرن الثاني إحساسه في قصيدة من الخفيف تحت عنوان "مالي مجير سواهم" يقول في مطلعها: أحمد الله ذا الجلال كثيراً ... وإليه ما عشت ألجي الأمورا إلى أن يقول: إنّ صرف الزمان ضعضعَ رُكني ... ما أرى لي من الزمان مجيرا ليس ذنبي إلى الزمان سوى أنني ... أحببت شُبّرا وشبيرا وعليا أباهما أفضل الأمة ... بعد النبي سبقا وخيرا فعلى حبهم أموت وأحيا ... وعلى هديهم اُلاقي النشورا فالشاعر هنا لا يبالي إن وقع الموت عليه، وهذه من طبيعة الشعراء الملتزمين الذين يدركون حقيقة الولاء لأهل البيت النبوي (ع) وما يجر عليهم من إبتلاءات، لانهم يؤمنون في الوقت نفسه أن مآلهم إلى خير، من هنا فان الشاعر كميت بن زيد الأسدي (ت 60-126 هـ) مات على الولاء شهيدا على يد والي الكوفة يوسف الثقفي، وقد اشتهر بلاميته، عندما أنشدها على الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، حيث رفع الإمام (ع) يديه بالدعاء وقال: (اللهم اغفر للكميت ما قدّم وما أخّر وما أسرّ وما أعلن وأعطه حتى يرضى)، ووقع الدعاء في محله، لان الشهادة في سبيل الحق منزلة عظيمة لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم. فاللامية المعنونة بـ "عجب لا ينقضي" من بحر الطويل، ومطلعها: ألا هل عم في رأيه متأمل ... وهل مدبر بعد الإساءة مقبل اختص 15 بيتا منها في وصف الإمام الحسين (ع) في معركة الطف وما حل به وبأهل بيته، إلى أن يقول: كأنّ حسينا والبهاليلُ حوله ... لأسيافهم ما يختلي المتبقِّلُ يخضن به من آل أحمدَ في الوغى ... دماً طُلّ منهم كالبهيم المحجلُ وغاب نبيُّ الله عنهم وفقدُهُ ... على الناس رُزءٌ ما هناك مُجلَّلُ فلم أرَ مخذولا أجلَّ مصيبةً ... وأوجبَ منه نُصرةً حين يُخذلُ ومن مفارقات الدهر وصروفه، وبعد قرون من الإهمال المتعمد للحكومات المتعاقبة، قررت وزارة الدولة للسياحة والآثار العراقية في عهد ما بعد 9/4/2003م، في بيان صادر عن رئاسة الوزراء في العشرين من آذار مارس العام 2007، إجراء مسح لإعمار قبر الشاعر المنسي، الواقع على تل كميت غرب ناحية الكميت على بعد 40 كيلومترا من مركز مدينة العمارة، عرفانا بالجميل لدور هذا الشاعر الشهيد في الدفاع عن مقدسات الأمة الإسلامية بعامة والشعب العراقي بخاصة، ودفاعا عن العراق الذي ولد في كنفه وقدم له أدبه وما يملك، واستشهد على صعيده بسيوف أعدائه التي هوت على بطنه وبقرته حتى مات محتسبا صابراً، وكانت آخر كلماته قبل أن تفيض روحه إلى بارئها "اللهم آل محمد اللهم آل محمد اللهم آل محمد".
سيد القرن ما يلفت النظر في قصائد الولاء، أن الشاعر إسماعيل بن محمد الحِميَري المتوفى في العام 178 هـ كان سيد الموقف الشعري في القرن الثاني الهجري، جاهر بفضائل أهل البيت (ع): "وأعلن مناقبهم دون تهيّب أو تردّد، فلم يدع منقبة وردت إلا ونظمها وكثرة ما في هذا القرن من شعره يبيّن ذلك"، إذ كانت له 33 مقطوعة شعرية من مجموع 94 مقطوعة لـ 39 شخصية وقف الشيخ الكرباسي عليها من بين مئات المصادر وأمات المراجع التاريخية، يليه عبد الله بن الزبير الأسدي وله 18 مقطوعة ثم الكميت وله 6 مقطوعات، وسديف ابن ميمون المكي (146 هـ) وله 5 مقطوعات، وكلا من الشاعر كثير عزة الخزاعي (105 هـ) وأبو نؤاس الحكمي (198 هـ) ولهما أربع مقطوعات، وتوزعت البقية بين ثلاث واثنين ومقطوعة أو بيت واحد. كما استدرك المؤلف بمقطوعتين من شعر القرن الأول الهجري. ولعل من أشهر ما يتصف شعر القرون الأولى القريبة من عصر النبوة والإمامة، أنها تترجم أحاديث الرسول أو وقائع حصلت في عهده، فيأخذ الشعر دوره القديم فيكون ديوان عهد الرسالة كما كان من قبل ديوان العرب، وهكذا كان شعر الحِميَري المتصف بالجرأة والشجاعة، ومن ذلك بيتان من البحر الكامل تحت عنوان :نعم الراكبان" يصف طلب أبي بكر من النبي (ص) حمل الحسن أو الحسين لما رآهما والنبي يحملهما، فرد عليه (ص): "نعم المطي مطيهما ونعم الراكبان هما"، فينشد: مَن ذا الذي حمل النبي برأفة ... ابنيه حتى جاوز الغمضاءا مَن قال نِعم الراكبان هما ولم ... يكن الذي قد قال منه خفاءا أو قصيدة في وصف ما جرى في كربلاء أنشدها في محضر الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) بطلب منه حيث أجلس حرمه خلف ستر فبكى الإمام (ع) وارتفع الصراخ والبكاء من داره، والحميري ينشد من مجزوء الكامل تحت عنوان "الأعظم الزكية": أُمُرر على جدَث الحسيـــ ... ـن وقل لأَعظُمه الزكيّة يا أعظُما لا زلتِ من ... وطفاءَ ساكبة رويّة ما لذّ عيشٌ بعد رضِّكَ بالجياد الأعوجيّة قبرٌ تضمّن طيِّباً آباؤه خيرُ البريّة
الوسيلة وأشياء أخرى من الأمور التي خضعت للجدال بعد فترة من عصر الرسالة الإسلامية هي مسألة الشفاعة والتوسل بالنبي وأهل بيته الكرام، ففي حين يقر القرآن الكريم مسألة الوسيلة، بقوله سبحانه في سورة المائدة: 35: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)، وقوله سبحانه في سورة الأنبياء: 28: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، غير أن بعض المدارس الفكرية المتأخرة، حاولت تحت دعوى التوحيد نسف مسألة الوسيلة التي مَنّ الله بها على بعض عباده الذين اصطفى، ومنهم النبي محمد (ص) وأهل بيته الكرام (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأكدتها الروايات والأحاديث. وقد كانت هذه المسألة في العصر الأول من المسلمات بحيث وردت في أبيات الشعراء ولم يجدوا في ذلك حرجا، من ذلك قصيدة للفرزدق (ت 110 هـ) في مدح أهل البيت (ع) يقول في بعضها من البسيط: من معشر حبُّهم دِينٌ وبغضهم ... كُفرٌ وقربهم منجىً ومعتصمُ يُستدفعُ السوءُ والبلوى بحُبِّهم ... ويُستدبُ به الإحسانُ والنِّعمُ مُقدَّمٌ بعد ذكر الله ذكرُهُمُ ... في كل بدءٍ ومختوم به الكَلِمُ إن عُدّ أهلُ التقى كانوا أئمتهُم ... أو قيلَ مَن خَيرُ أهلِ الأرض قيلَ همُ ومن ذلك قصيدة لأبي نؤاس (ت 198 هـ) في الشفاعة، من الكامل تحت عنوان "الحصن الحصين" يقول فيها: مُتمسِّكاً بمحمد وبآله ... إن الموفَّقَ مَن بهم يستعصمُ ثمّ الشفاعة من نبيِّك أحمدٍ ... ثم الحماية مِن عليٍّ أعلمُ ثم الحسينُ وبعده أولادُه ... ساداتنا حتى الإمام المُكتمُ سادات حُرٍّ ملجأٌ مُستعصَمٌ ... بِهم ألوذُ فذاك حِصنٌ مُحكم ومما تؤرخه المقطوعات، هو لون اللباس الذي كان يرتديه المعزون بفقد قريب أو عزيز، إذ كان الأسود والأخضر إشارة إلى الحزن والمصاب، وهذا ما نستبينه من قصيدة سيف بن عميرة النخعي المتوفى في القرن الثاني الهجري، من بحر الكامل في مائة وستة أبيات حملت عنوان: جلّ المصاب"، وتعتبر هذه القصيدة من أطول القصائد في ديوان القرن الثاني أنشأت في رثاء الإمام الحسين (ع)، يقول الشاعر في بعض أبياتها: إبكِ الحسينَ بلوعةٍ وبعبرةٍ ... إن لم تجدها ذُب فؤادك واكثِرِ وآمزج دموعَك بالدماء وقَلَّ ما ... في حقه حقًّا إذا لم تَنصُرِ والبس ثياب الحزن يوم مُصابِهِ ... ما بين أسودَ حالكٍ أو أخضرِِ فعساك تحظى في المعاد بِشِربةٍ ... مِن حوضهم ماءٍ لذيذٍ سُكَّرِِ بيد أن الأقوام عند العزاء تختلف في ملبسها، فبعض يرتدى الأبيض وآخر الأصفر، ويكثر استعمال الأسود، ويقل استخدام الأخضر، والشاعر يؤرخ لتلك الفترة حيث كان الأسود والأخضر هما اللونان المستعملان عند المسلمين، وبمرور الزمن اختص الأخضر بنسل أهل البيت (ع) والذين يطلق عليه لقب السادة، حيث يضعون في مجالس العزاء على الإمام الحسين (ع) قطعة خضراء على الكتف أو حول الخاصرة إلى جانب رداء اسود، فيما يكتفي غيرهم بالأسود. ويصاحب الملبس البكاء، لان البكاء في واقع الأمر إظهار للحزن الشديد على ما حلّ بالإسلام من قتل سيد شباب أهل الجنة (ع)، حيث يمثل البيت النبوي عدل القرآن، وهما وصية رسول الله (ص) في أمته، ولهذا أصاب الشاعر جعفر بن عفان الطائي المتوفى حدود عام 150 هـ كبد الحقيقة في قصيدته من الطويل بعنوان "ليبك على الإسلام"، عندما أنشد: ليبكِ على الإسلام مَن كان باكيا ... فقد ضُيِّعَت أحكامُهُ واستُحِلَّت غداةَ حُسينٌ للرماح دَريئةٌ ... وقد نَهِلَت منه السيوفُ وعَلّتِ كما تحرى الشاعر خالد بن معدان الطائي المتوفى حدود عام 103 هـ، صدقا في قصيدته من البسيط المعنونة "جاؤوا برأسك" عندما أنشد: فكأنما بكَ يا بنَ بنت محمدٍ ... قتلوا جهاراً عامدين رسولا قتلوكَ عطشاناً ولم يترقَّبوا ... في قتلكَ التأويلَ والتنزيلا ويُكبِّرون بأن قُتلتَ وإنما ... قتلوا بك التكبيرَ والتهليلا ولذلك فلا عجب أن تمطر السماء دما على الإمام الحسين (ع) كما بكت من قبل على النبي يحيى بن زكريا (ع)، ويخلد الشاعر سيف النخعي هذه الواقعة في ملحمته "جلّ المصاب": وعليه أمطرت السماءُ وقبلُهُ ... يحيى دماً وسواهما لم تُمطرِ
بين عصرين يشكل القرن الثاني الهجري علامة فارقة تفصل بين عصرين من حيث الإنتاج الأدبي في جانبيه المنثور والمنظوم، بين العصر الجاهلي وعصر المخضرمين (من البعثة حتى نهاية عصر الخلافة الراشدة في العام 40 هـ)، إذ أصاب العربية اللحن وتهجنت بعض مفرداتها، وكان هذا من آثار اختلاط المسلمين بالثقافات واللغات الأخرى وورود غير العرب ولحنهم في اللغة، ولذلك كما يقول المصنف: "فقد بدأت اللغة العربية تشعر أنها لم تعد على أصالتها الأولى بل امتزجت بمفردات جديدة بدأت تنعكس على الأدب العربي" ولذلك ضعف الاستشهاد بقول الشاعر في بيان اللغة وقواعدها وآدابها: "فكان أن انتهت فترة الاحتجاج بقول الشاعر بعد بشار بن برد المتوفى عام 168 هـ"، لكن القرآن الكريم ظل هو المعين الذي لا ينضب والذي لن يتسنّه ماؤه. ويستظهر المحقق الكرباسي من مجمل ديوان القرن الثاني الهجري أمور عدة، أهمها: أولا: غلب الاتجاه السياسي على الكثير من القصائد، وبخاصة لدى الكميت بن زيد الأسدي الذي يمثل في هذا الجانب وبحق فارس الحلبة. ثانيا: غلبت صبغة المعارضة والتمرد على الواقع السيئ، على الكثير من القصائد، بخاصة وان القرن شهد تحولات سياسية خطيرة كان السيف هو الحاكم فيها والدماء تسيل من تحت شفرتيه، وكان الشاعر منصور بن سلمة النمري فارس الميدان فيه. ثالثا: سعى شعراء الولاء إلى تخليد كل منقبة لأهل البيت وردت في القرآن أو على لسان النبي محمد (ص) إلى قصائد، لتخليد تلك المناقب والمكارم، وكان الشاعر إسماعيل بن محمد الحِميَِري سيد الموقف. رابعا: ولأن النهضة الحسينية تتجدد، فان باب الرثاء ظل مفتوحا للشعراء على مصراعيه، وقد أبدع فيه عدة من الشعراء، كالنمري والحِميَري، واشتهر الشاعر سليمان بن قتة التميمي الدمشقي بقصيدته المعنونة "وإنّ قتيل الطف"، ومطلعها: مررتُ على أبياتِ آلِ محمدٍ ... فلم أرَها أمثالَها يومَ حُلَّتِ
وأخيرا لا يخلو أي مجلد من مجلدات دائرة المعارف الحسينية البالغة نحو 600 مجلد وصدر منها حتى اليوم 34 مجلدا، من فهارس قيّمة في أبواب كثيرة، تختلف من مجلد إلى آخر حسب الباب الذي يطرقه الكاتب، وفي هذا الديوان، نتابع من خلال: فهارس المتن: فهرس الأعلام والشخصيات، القبائل والإنسان والجماعات، القوافي والروي، البحور والأوزان. ونتابع في فهارس الهامش: فهرس الأبيات وأنصافها، التأريخ، الناظمين والشعراء، الأعلام والشخصيات، القبائل والأنساب والجماعات، اللغة. وفي الفهارس المشتركة بين المتن والهامش، نتابع: فهرس الآيات المباركة، الأحاديث والأخبار، الأمثال والحكم، مصطلحات الشريعة، المصطلحات العلمية والفنية، الطوائف والملل، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحيوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، مؤلفي المراجع، وفهرس الخطأ والصواب. وفي سبيل أن يقف القارئ على وجهات نظر غربية واستشراقية للنتاج الشعري الولائي في القرن الثاني الهجري، ختم الدكتور محمد صادق الكرباسي كتابه بقراءة نقدية للدكتور بيار جون لويزارد (Pierre-Jean LUIZARD)، وهو مستشرق فرنسي مسيحي المعتقد، باحث في المركز الوطني للأبحاث والعلوم، وبروفيسور في المؤسسة الوطنية للغات الشرقية، قال فيه: "وفي هذا العصر – القرن الثاني للهجرة- حيث المشاعر العلوية كانت متوهجة، كما تؤكد على ذلك الحركات المناوئة للأمويين والعباسيين، لم يصلنا إلا القليل من ذلك الشعر الذي نظم في رثاء الإمام الثالث، وما وصلنا فهو تصور فيه مشاعر المحبة تجاه حفيد النبي"، وعبر عن كبير تقديره للجهد المبذول في الكتاب، ذلك: "أن العمل الموسوعي للشيخ محمد صادق محمد الكرباسي يبدو مدهشا، حيث أثمرت جهوده من خلال القصائد التي كان من الصعب جمعها وتقديمها بإخراج الموضوع إخراجا رائعا". الرأي الآخر للدراسات – لندن
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |