|
مقالات الحضارة الإسلامية وعوامل ازدهارها آمنة عامر الكفيشي / جامعة بابل بعد قيام الدولة العربية واستقرارها، وجه العرب جهودهم نحو العلوم والآداب، بدأت عملية تمازج فكرية بين تعاليم الإسلام ومعطياته وقيمه وبين معطيات الحضارة العربية القديمة والحضارات الأجنبية، وسرعان ما انتقل العرب من هذه المرحلة إلى مرحلة الإبداع والابتكار في كل مظاهر الآداب والعلوم والفنون فأبدعوا حضارة جديدة متمايزة، هي الحضارة العربية الإسلامية، التي وصلت إلى ذروتها في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين (الرابع والخامس للهجرة). ولعل أهم العوامل التي أسهمت في تطور هذه الحضارة وازدهارها هي:
1ـ دعوة الإسلام للعلم: دعا القرآن الكريم والأحاديث النبوية إلى طلب العلم والمعرفة، بل قدس الإسلام العلم كقيمة إنسانية كبرى. ((وقل ربي زدني علما)) و ((هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)). والأحاديث النبوية تزخر بهذه الدعوة أيضا ((لموت قبيلة أيسر من موت عالم)). كما حث الإسلام على استخدام العقل، وأطلق باب الاجتهاد لاستنباط الأحكام وراعى تغير الأحكام بتغير الأزمان. وهذا كله كان بسبب رغبة العرب الجامحة في العلم والمعرفة، فأخذوا ينهلون من منابع كل الثقافات التي اتصلوا بها دون تردد حيث فرقوا بين العلم والدين فالعلم للإنسانية جمعاء والدين لله.
2ـ التسامح الديني: إن التسامح الديني الذي اتسمت به الفتوحات وسياسة الدولة العربية تجاه العرب غير المسلمين كان ظاهرة بارزة وسمة حضارية رائعة. فلقد استمر المسيحيون العرب، مثلا، يعملون في أجهزة الدولة وتولى عدد كبير منهم مناصب إدارية حكومية مهمة كمنصب الوزير والكاتب، وتمتع عدد منهم بحظوة خاصة في بلاط الخلفاء الأمويين والعباسيين فكان للشاعر الأخطل مكانة متميزة في بلاط معاوية بن أبي سفيان، وكان الأب يوحنا الدمشقي المستشار الأول لعبد الملك بن مروان، وكان جبرائيل ابن بختشيوع الطبيب الخاص لهارون الرشيد... ولهذا كله فقد أسهم المسيحيون العرب إسهاما مثريا في بناء الحضارة العربية الإسلامية ولم يكن هذا الإسهام في ميدان الترجمة من السريانية والإغريقية إلى العربية فحسب وإنما ظهر منهم علماء في ميادين العلوم والآداب والفنون.
3ـ الترجمة: إن الموقف الإيجابي الذي اتخذه العرب المسلمون من الحضارات السابقة تجلى في ترجمة أهم مؤلفات الإغريق والفرس والهنود إلى اللغة العربية. ولقد بدأت الترجمة في العصر الأموي إلا أنها كانت فردية ومقصورة على العلوم العملية كالكيمياء والطب. أما في العصر العباسي فقد أصبحت الترجمة سياسة عامة تتبناها الدولة وتشرف عليها. فأسس الرشيد (بيت الحكمة) في بغداد الذي أصبح مركزا للترجمة والعلم تحت رعاية الدولة وعلى نفقتها. ووصلت حركة الترجمة إلى ذروتها في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين (الثالث والرابع الهجريين). وقد ترجم إلى العربية أهم مؤلفات الإغريق في الهندسة والجغرافية والفلك والطب والفلسفة... وكانت الترجمة من اليونانية إلى العربية تتم بطريقتين: ـ الأولى: ترجمة الكتب من اليونانية إلى السريانية ثم من السريانية إلى العربية. ـ الثانية: الترجمة من اليونانية إلى العربية مباشرة دون المرور بالسريانية. ولقد بلغ العرب السريان شأوا عظيما في حركة الترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية ومن أشهرهم: جورجيس بن جبريل ويوحنا بن ماسوية وحنين بن اسحق وابنه اسحق. ولم تقتصر الترجمة إلى العربية على التراث اليوناني وإنما شملت التراثين الفارسي والهندي أيضا. فالفتح العربي أدى إلى جعل بلاد فارس جزءا من الدولة العربية الإسلامية، ولهذا كان الاتصال بالحضارة الفارسية اتصالا مباشرا. وتسلم عدد كبير من المسلمين الفرس مناصب كبرى في أجهزة الدولة وإداراتها في العصر العباسي.ولهذا قامت حركة ترجمة واسعة من الفارسية إلى العربية، حيث نقل المترجمون المسلمون الفرس أهم ذخائر التراث الفارسي القديم. كما اتصل العرب بالتراث الهندي. وعلى الرغم من أن مؤلفات هندية قد نقلت إلى العربية مباشرة، إلا أن معظم ما ترجم إلى العربية من التراث الهندي تم عن طريق الفارسية. مثل كتاب كليلة ودمنة وقصة السندباد وقصص ألف ليلة وليلة. وصفوة القول: إن حركة الترجمة كانت، كما هي في كل العصور، نافذة هامة تطل من خلالها الحضارات والمجتمعات الإنسانية على بعضها البعض، وتفيد كل منها من منجزات الأخرى. وكانت الترجمة، في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، عاملا هاما من عوامل تطورها وازدهارها.
4ـ الازدهار الاقتصادي: لا شك في أن الازدهار الاقتصادي، سواء في الميدان التجاري أو الزراعي أو الصناعي، كان عاملا أساسيا من عوامل الازدهار الحضاري في الدولة العربية الإسلامية. فموارد الدولة من زكاة وجزية وخراج وعشر كانت تتجمع في خزينة الدولة في العصر العباسي وتصل ـ على قول أحد المؤرخين ـ إلى أكثر من سبعمائة طن من الذهب المسكوك سنويا. وقد انعكس هذا الثراء على مرافق الدولة وحياتها العلمية وجعل الخلفاء ينفقون بسخاء على الآداب والعلوم والفنون والمؤسسات والأجهزة المتعلقة بها.
5ـ تشجيع العلم ورعاية العلماء: شجع الخلفاء العلم أيما تشجيع، فالرشيد هو الذي أمر بنقل مؤلفات العلماء اليونان إلى العربية، وهو الذي استحضر إلى بلاطه أطباء من الهند، وأرسل المأمون البعثات إلى الدولة البيزنطية لشراء المخطوطات اليونانية ونسخ مالا يمكن شراؤه؛ وهو الذي طلب من الإمبراطور البيزنطي، ميخائيل الثالث، بعد انتصاره عليه، أن يتنازل له عن بعض المؤلفات اليونانية النادرة. ولم يكن الخلفاء الأمويون في الأندلس والفاطميون في القاهرة أقل اهتماما بالعلم من الخلفاء العباسيين في بغداد، فأصبحت قرطبة في ظل الأمويين (لؤلؤة العالم) وأصبحت القاهرة في ظل الفاطميين (قبلة للعلم) يتجه إليها طلابه من كل أنحاء العالم. وقد أكرم الخلفاء العلماء على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وجنسياتهم أدبيا وماديا. فالرشيد مثلا لم يتردد في غسل يدي أحد كبار العلماء العرب على مشهد من الناس، كما لم يتردد ابنه المأمون مثلا في إعطاء حنين بن اسحق من الذهب زنة ما كان يترجمه إلى العربية.
6ـ العناية بالمؤسسات التربوية والتعليمية: اهتم العرب المسلمون اهتماما بالغا بكل ما يخدم الحياة العلمية، من مدارس ومكتبات، فضلا عن الجوامع التي لم تكن دورا للعبادة فحسب وإنما أحد المراكز التربوية والتعليمية. وأنشئت المدارس في مدن الوطن العربي والعالم الإسلامي كافة، ولعل أشهرها (المدرسة النظامية) في بغداد التي أنشأها الوزير نظام الملك (عام 1059م / 459هـ ). وأقام الفاطميون الجامع الأزهر في القاهرة عام 360هـ وخصص منذ عام 378هـ للدراسات والأبحاث العلمية فتحول منذ ذلك الوقت إلى الآن إلى جامعة من الجامعات الأولى في الوطن العربي والعالم الإسلامي. واهتم العرب المسلمون اهتماما خاصا بالكتاب، وبذلوا كل ما استطاعوا للحصول عليه ونسخه من داخل العالم الإسلامي وخارجه. فعمت المكتبات عواصم الدولة العربية ومدنها. وتنوعت وظائفها. فهناك مكتبات كانت ملحقة بالجوامع وأخرى بالمدارس، ومكتبات عامة يرتادها من يرغب في الدراسة والبحث مثل مكتبة (بيت الحكمة) التي أسسها الرشيد في بغداد، التي لم تكن دارا للنسخ والترجمة ومعهدا للتعليم وحسب وإنما احتوت على كتب في شتى أنواع العلوم وبكل لغات العالم. وهي تعد أول مكتبة عامة ذات شأن في تاريخ الحضارة العربية. كما أن (دار الحكمة) التي أنشأها الحاكم بأمر الله الفاطمي عام 395هـ في القاهرة قد ضمت مكتبة للمطالعة وقاعات للنسخ وأخرى للتعليم. وانتشرت المكتبات المتخصصة ببيع الكتب للجمهور، وكانت تسمى (حوانيت الوراقين). فوجد في بغداد مثلا في القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، الذي سقطت فيه بغداد بيد المغول، أكثر من مائة (حانوت للوراقين). كما اشتهرت المكتبات الخاصة بالعلماء بضخامة محتوياتها. فيقال أن أحد العلماء اعتذر لأحد الملوك عن الانتقال إلى بلاطه لأنه بحاجة إلى 400 بعير لحمل كتبه ونقلها.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |