|
مقالات عبدالامير الحصيري الساخر الذي لم تنفذ وصيته كانت الموهبة مبكرة عند عبدالامير الحصيري، فقد نشر قصيدته الأولى وعمره ثلاثة عشر عاما وذلك في عام 1955م وقد تتلمذ الشاعر على يد أبيه الفقيه عبود مهدي الحصيري، وكان الشعر هاجسه الأول وفي المرحلة المتوسطة كان يكتب قصيدة ناضجة معبرة، وفي المرحلة الإعدادية اصدر مجموعته الشعرية الأولى (أزهار الدماء)، وعندما ترك المدرسة بسبب ظروفه العائلية واشتغل مراقب عمل ، وكان لبيئة النجف الأثر الكبير في شاعريته ، ففيها تعلّم العلوم الدينية ضمن حلقاتها الكثيرة وكان شغوفا بالمطالعة والقراءة والحفظ . وفي مطلع الستينات هجر الحصيري النجف واستقر في بغداد ، وهناك اشتغل في إحدى المطابع وتعرّف على الكثير من الشعراء ، حسين مردان ، رشدي العامل ، سعدي يوسف والجواهري الذي ساعده على العمل في مكتبة اتحاد الأدباء ، وظل شاعرا متقبلا هنا وهناك ، مأواه المقاهي والساحات ، وكانت مقهى البرلمان محطته الدافئة ، وفي النهار تراه صحفيا وناقدا ، ويطوف باحات الصحف والمجلات والجرائد وكانت هذه الوحدة والغربة سببا لإقدامه على شرب الخمر حتى أراد أن يكون إلها للخمرة ما دام حسين مردان إلها للمرأة ، وهو القائل مخاطبا نفسه : وها أنت قد أصبحت للخمر ربها وأصبحت للأقداح ترعتها الكبرى وهكذا كبرت اندفاعاته الذاتية وحرمانه وشعوره بالمرض ، وما إلى حياة الصعلكة قائلا (أنا عروة الورد ، شيخ صعاليك أزمنة الأرض)، والذي نعرفه ونقرأه عن الحصيري انه صاحب قناعة وموقف لا يقول كلمته مرتين ، متمرد على روحه وفكره وجسده وأصحابه وأقاربه ومجتمعه :
ولم أبق شيئا لم أهبه تمرّدي وإن كان في إيماءة يخسف البدرا ولم أعف منه آل بيتي وصحبتي ولا صنت منه الروح والقلب والفكرا كان يعلن تمرده بصوت عال ويقول اشربوا ، اسكروا ، الخمرة ثم الخمرة ، فهي طريق الخلاص ... (تمرد على الدنيا وعش صحوها سكرا) ، والسؤال الذي يطرح نفسه كيف تحوّل ابن البيئة إلى مدمن خمرة ..!! لعلها حولت ضغطا القديم على الشاعر ووجد حريته في بغداد ، فراح يبحث عن حصيري غيره باحثا عن التمرد أينما حل ناسيا انه صاحب موهبة وقدرة ، دليل ذلك مجاميعه (أزهار الدماء ، أشرعة الجحيم ، أنا الشديد ، بيارق الآتين ، تشرين يقرع الأجراس ، تموز يبتكر الشمس ، سبات النار مذكرات عروة بن الورد ، معلقة بغداد) كل هذه الرموز التي نزفتها دماؤه لم تقدر على حمايته من القلق واليأس ، فكم مرة حاول الشاعر ان ينتحر ، وكم مرة ظل نائما في باب حانة ، وساحة حديقة في بغداد ، كل هذه تمرد على المجتمع ، ومن الذي يغير المجتمع..؟ لقد سخر الحصيري من كل شيء ، حتى من المقبرة التي سيدفن فيها ... لا تسخري مني يا مقابر جنازة تحملها المقادر وسخر من الشعر هاجسه الروحي ، رأى بعيدا عنه يصد عنه كما يصد الآمال والأصدقاء ... (يا شعر ما هذا الصدود وقد ظمأت إلى لقاك) وكم لقبا أطلقه على نفسه ..؟ الصعلوك ، عروة ، الشريد ... أنا الشريد لماذا الناس تذعر من وجهي وتهرب من أقدامي الطرق لذلك هو مجموعة من الأحزان في جسد واحد (أنا التشرد والحرمان والأرق) ، وهكذا اخذ الحصيري وسام الأحزان وعلقه على صدره قائلا:
وان وسام الحزن يبقى ملألئا على جبهتي ما دمت لست مماريا وهكذا التجأ إلى الخمرة وسيلته الأخيرة للخلاص ، فولع بها حتى تمنى أن يصاب بالشلل يوما :
يا ابنة النخل اعصفي بكياني واطعني اعرقي وشلّي يديّا ولم يصح الحصيري من الحلم الذي شيّد منه صومعته قائلا :
وشيّدت من الأحلام في طهر السنا قدسي وبعد : أتعلمون أن الحصيري ظل بعيدا عن المربد وكان يتنزه في الحلم لكي يرى الشعراء دون ان يشاركهم ، منذ كتب قصيدة عنوانها نزهة في ذاكرة المربد ، استذكر بها مربد البصرة وشعرائها ، وبعد أيضاً ماذا نقول لشاعر مثل الحصيري يكتب شعرا للآخرين مقابل ثمن لكي يعيش ..!! ولكن أين الهاجس وأين الموهبة والذي نراه تعتبرا من قبل الشاعر وتخبطا عشوائيا لا مبرر له ، وكان عليه أن يحتفظ بقدره الذي أحبه مهما جنت عليه الحياة ، ومهما تناقضت المقاييس ، زد إلى ذلك افتعاله كتابة القصيدة الحرة مسايرا موجة عصره وهو بعيد كل البعد عنها ، ودليلنا نمطه الشعري الذي اعتاد عليه ، وهنا يبرر موقفه بإثبات الوجود ليس إلا وكأن الشعر صناعة ، مع علمنا بأن الحصيري صاحب قدرة في العمودي وإبداع في الصورة البلاغية ، ولا ندري أين تضع الأجيال شاعرنا هذا ..! مع الصافي النجفي ، مع حسين مردان ، مع الجواهري . انه الشاعر الذي كتب عنه الكثير ودرس أكاديميا وطبعت مجموعتان بعد وفاته ، فلا نقول قد ظلمه أحد ، ولكن إلا تشعرون معي سر عزلته وابتعاده عن أصحاب الكلمة النبيلة –الشعراء- لقد كان متمردا هجوميا كاشفا عن زلة غيره، لذا قرعوه ورفضوه بل لم يؤمنوا بما كتب ، فكان جوابه الصريح :
وكم يحبون تقريعي وقد كرهت نفسي بأن تظلم الفعل المفاعيل
إننا لا نطلق أحكامنا جزافا على شاعر مثل الحصيري ، وما الذي ننقصه أو نضيفه له ، وهو قد اخذ مكانته ، وما موضوعنا هذا إلا تذكرة لمن ينسى ، وكانت نهاية الشاعر الموت المحتم في 3 / 2 / 1978م ، تلك النهاية التي لم يفاجئ بها ، فقد كتب وصيته وطلب أن ينقش فوق قبره البيت الآتي : أماه لا تحزني ما في شقاوتنا عاد وأثوابنا أنقى من الحجر ورجع النجفي إلى المقبرة التي طالما خاطبها (مزرعة القبور) وكان عجز القلب سببا لوفاته ... وهكذا رحل عروة بن الورد ثانية وهو يحمل معه موقفا ورأيا وقضية ، يقولها بخلاصة القيم التي لبسها الرجال التي اشترت العباءات من محل والده ، وهو القائل :
أبي يخيط عباءات ويتركها تسجي إليه التحايا عبر اكتاف وإذا كان والده يخيط العباءات ، فقد كان عبدالامير يخيط الكلمات شعرا
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |