|
مقالات نازك الملائكة.. رائدة الشعر العربي الحر هل تنبأت عاشقة ليل العراق بـ ( شظايا ورماد ) المستقبل؟ د. سيّار الجميل لا أريد العيش في وادي العبيد بين أموات وان لم يــدفنوا جثث ترسف في اسر القيـود وتماثيل احتوتها الأعيــن أبدا اسمعهم عذب نشيــدي وهم نوم عميـــق محزن لا يظنوا انهم قد سحقـــوه فهو ما زال جمالاً ونقــاء سوف تمضي في التسابيح سنوه وهم في الشر فجراً ومسـاء نازك الملائكة مقدمة: طار نبأ رحيل الشاعرة العراقية القديرة نازك الملائكة وهي ترقد منذ سنوات في القاهرة، فكان وقعه مؤلما على كل من عرفها من اصدقائها وطلبتها وقرائها في هذا العالم.. ولا يسعني الا ان ازجي كل التعازي الى ذويها وكل احبائها وكل المثقفين العراقيين والقراء العرب.. تلك الشاعرة الرائدة والاكاديمية الناقدة التي كان لها دورها اللامع في اثراء الثقافة العربية الحديثة.. وهي من جيل الرواد العراقيين العظام الذين كان لهم دورهم النهضوي والحضاري في القرن العشرين.. ويطيب لي بهذه المناسبة ان اقدم للقراء الكرام ما كنت قد كتبته عن نازك الملائكة قبل سنوات في فصلة من كتابي ( نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية ).. وسيبقى اسم نازك محفورا في ذاكرة الزمن.. لقد انتظرت طويلا تصارع الزمن ولكن لتعود رفاتها الى العراق الذي تنبأت به شظايا ورماد ليحتضنها ترابه الطاهر.
مدخل الى اسم نازك الملائكة نازك الملائكة شاعرة عراقية سامقة من جيل الحداثة العربية الرائعة الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية، ولقد غدا اسم نازك رمزا عراقيا شهيرا معاصرا للشعر العربي الحديث، وهو يكشف عن ثقافة عميقة الجذور لجماعة ذكية وعريقة تقطن منذ الاف السنين في واد كله زرع وضرع في ما بين النهرين الخالدين. وتكاد تكون نازك الملائكة رائدة للشعر الحديث الذي اسموه بـ " الشعر الحر "، بالرغم من إن تقاسما مشتركا في مسألة "الريادة" بينها وبين زميلها الشاعر بدر شاكر السياب، وهي نفسها تصر على سبقها اياه عندما تذكر في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" بأنها أول من قال قصيدة الشعر الحر، وهي قصيدة "الكوليرا" العام 1947. أما الثاني -في رأيها- فهو بدر شاكر السياب في ديوانه "أزهار ذابلة" الذي نشر في كانون الأول من السنة نفسها. ولست هنا في معرض لمثل هذه الجدالية التي استمرت اكثر من نصف قرن.. دعوني اتحرر قليلا من هذا الطوق ليعلن شاهد الرؤية عن بعض ما يتذكره من الشواهد، وما ينغرس في اعماقه حتى الان بعض انطباعات ولدتها احاسيس ثمينة لا تقدر باي ثمن.. وهذا ما وجدته عند البعض النادر من المثقفين العرب الذين يعتزون بمسيرتهم وتجاربهم الخاصة.
الشاعرة عاشقة الليل تدهشني جدا هذه السيدة الوقورة التي لم اتذكر منها غير جبهتها العريضة وانصاتها للاخرين عندما يتحدثون واذا تحدثت اندفعت الكلمات سلسلة غاية في الرقة والاتساق والروعة.. لم تكن تبتسم الا قليلا ومن كان يراها قبل عقود خلت من الزمن، يظنها تحمل فوق كاهلها هموم كل البشر.. رقيقة المشاعر مرهفة الاحاسيس ولكنها منطوية على ذاتها وكأنها تختزن في اعماقها كل احزان العراق منذ الاف السنين! ومن يقرأ قصائدها اليوم، تلك التي كتبتها قبل عشرات السنين، يلمح كم كانت تتراءى لها الصور التي ستتوالد في يوم ما على مدينتها وعلى وطنها.. لم تكن عاشقة للنهارات العراقية بكل تألقها وبريقها ووهجها وطعم اويقاتها تحت النخلات الباسقات، او عند ضفاف الشطوط.. كانت عاشقة عربية لليل بهيم دجي تبحث فيها عن غابة من نجوم وانوار واقمار واصوات بعيدة لناي حزين وسحر بغداد قديما لا طعم له الا في اعماق الليل الدجية. لم التق بالشاعرة نازك الملائكة الا مرة واحدة وانا في ريعان الصبا، لم احادثها ابدا، وانما كنت اجلس بعيدا عنها ونظراتي ترمقها من بعيد لأني كنت اسمع اسمها دوما من اقرب المقربين ونحن واياها في ضيافة عائلية لاصدقاء احباء وقدماء وجدد.. كان الحديث كما اذكر فيه شعر وفيه تاريخ وسياسة وذكريات وفيه نقد ساخن لواحد من الحكام العرب القدماء! ثم دار الحديث عن الشعر والشعراء العراقيين المحدثين وذكر منهم: السياب والبياتي وشاذل وسعدى وبلند ولميعة وعاتكة وغيرهم.. وانبرت د. حياة شراره، وكانت استاذة في الادب العربي وهي صديقة لنازك كي تعلمها انها تكتب كتابا في سيرة نازك وشعرها، ففرحت نازك فرحا جذلا ومضت الاثنتان في حديث مطول جانبي لم اسمع منه الا اسماء قصائد وبعض تواريخ مهمة..
وقفة عند سيرة نازك الملائكة: ولدت نازك الملائكة في عائلة ادبية ومثقفة معروفة تقيم في محلة العاقولية ببغداد العام 1923 وذلك يوم الأربعاء الموافق 30 من ذي الحجة 1341 للهجرة وقبيل بدء السنة الهجرية الجديدة بخمس دقائق.. كان الأب رجل عملي واقعي مغرم بالشعر واللغة العربية ودراسة الفقه والمنطق والشعر وكانت الام فتاة يافعة لم تبلغ بعد السن الصالحة للأمومة، ولكنها مغرمة بقراءة القصص وسير الابطال والشعر العذري. الاب في الثامنة والعشرين من عمره، والام في الرابعة عشرة ولكنها شاعرة اسمها سلمى عبد الرزاق وكانت امها قد اصدرت ديوانا بعنوان " انشودة المجد " - هكذا كتبت نازك تقول في مذكراتها التي لن تنشر بعد -! وكتب الأب قصيدة يحيي بها طفلته ويؤرخ مولدها بهذا الشطر: "نازك جاءت في زمان السرور". وكانت قصة اختيار هذا الاسم التركي لتسمية الطفلة انها ولدت عقب الثورة التي قادتها الثائرة السورية "نازك العابد" على السلطات الفرنسية. وكانت الصحف اذ ذاك تطفح بانبائها، فرأى جد الطفلة ان تسمى نازك اكراماً للثائرة وتيمناً بها وقال: "ستكون ابنتنا نازك مشهورة كنازك العابد ان شاء الله." ودرست في مدارسها، ثم تخرجت في دار المعلمين العالي العام 1944، وفي العام 1949 تخرجت في معهد الفنون الجميلة "فرع العود"، لكنها لم تتوقف في دراستها الأدبية والفنية عند هذا الحد، فلقد أحبت ان تكمل دراستها خارج العراق، فسافرت الى الولايات المتحدة الامريكية ودرست اللغة اللاتينية والادب المقارن العام 1950 في جامعة برنستن، كذلك درست اللغة الفرنسية والإنكليزية وأتقنت الأخيرة وترجمت بعض الأعمال الأدبية عنها، وفي العام 1959 عادت إلى بغداد بعد أن قضت عدة سنوات في أمريكا لتتجه إلى انشغالاتها الأدبية في مجالي الشعر والنقد. التحقت العام 1954 بالبعثة العراقية إلى جامعة وسكونسن بامريكا ايضا لدراسة الأدب المقارن، وأخذت بالاطلاع على اخصب الآداب العالمية، فإضافة لتمرسها بالآداب الإنكليزية والفرنسية تلقت العديد من الكورسات والنماذج الادبية الحية من الأدب الألماني والإيطالي والروسي والصيني والهندي.. فاثرت نفسها بثقافة متنوعة وانسانية واسعة المدى. عادت ثانية الى العراق واشتغلت بالتدريس في كلية التربية ببغداد عام 1957، وخلال عامي 59 19و1960 وعلى عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، تركت نازك العراق لتقيم في بيروت وهناك أخذت بنشر نتاجاتها الشعرية والنقدية، ثم عادت ثالثة إلى العراق لتدرس اللغة العربية وآدابها في جامعة البصرة. ونازك الملائكة شاعرة وناقدة في آن واحد، ولها العديد من المجاميع الشعرية والدراسات النقدية منها ما ضمها كتاب ومنها ما نشر في المجلات والصحف الأدبية، أما مجاميعها الشعرية فهي على التوالي: عاشقة الليل 1947، شظايا ورماد 1949، قرار الموجة 1957، شجرة القمر1968، مأساة الحياة وأغنية الإنسان "ملحمة شعرية" 1970، يغير ألوانه البحر1977، وللصلاة والثورة 1978. ونازك الملائكة ليست شاعرة مبدعة حسب، بل ناقدة مبدعة أيضاً، فآثارها النقدية: (قضايا الشعر المعاصر1962)، (الصومعة والشرفة الحمراء1965) و(سيكولوجية الشعر 1993) تدل على إنها جمعت بين نوعين من النقد، نقد النقاد ونقد الشعراء أو النقد الذي يكتبه الشعراء، فهي تمارس النقد بصفتها ناقدة متخصصة. فهي استاذة جامعية لها مكانتها في الوسط الاكاديمي، وهي فنانة - كما يقال - في فن القاء المحاضرة الأكاديمية في النقد، وانها تمارس نقد الشعر بصفتها مبدعة منطلقة من موقع إبداعي وخصوصا الشعر الحديث لأنها شاعرة لامعة في الشعر الحديث ترى الشعر بعداً فنياً حراً لا يعرف الحدود أو القيود. ويمكن ان نجد من يقابلها من شاعرات العراق المحدثات فالشاعرة د. عاتكة الخزرجي - التي كتبت عنها في نسوة ورجال - هي الاخرى تنظم الشعر وتكتب النقد واستاذة في الجامعة ولكن مجالها الرحب هو الشعر القديم. ولقد توالت النكسات والالام على نازك على امتداد السنوات الاخيرة، واصيبت بامراض عدة وغادرت العراق ولم ترجع اليه حتى الان، وقد ظلت عاشقة لفورة الحياة حتى وهي ترقد عليلة مستسلمة لأوجاع مرضها الأليم في مدينة القاهرة حتى اليوم هناك ترقد هذه المرأة.. نتمنى ان يشفيها الله وترجع الى بغداد كما رجعت اليها من قبل عدة رجعات لتكتب الشعر من وحي ما بين النهرين.
الصورة الحقيقية لنازك نازك شاعرة ليست كالجميع.. لقد قمت باعادة استكشافها من جديد لأكثر من مرة وانا اقرأ شعرها الذي يترجم صورا حقيقية عما يعتمل في دواخلها واعماقها.. ان نازك ايضا تترجم صورة حقيقية عن الذات والواقع. ويبدو لي انها برعت براعة لا تضاهى ابدا في ان تعلن للملأ عن الذات المنطوية التي تختزنها منذ طفولتها المبكرة، وايضا عن الوحشة والاغتراب الذي تحس به الذات العراقية الاكبر.. لقد توقعت ان اعصارا من دم عاصف سيطغى وان ثمة شظايا ورماد تتحدى ركود واقع ملىء بالتناقضات الحادة. لقد اكتشفت نازك ان حياتها سكون وان ظلامها بريق في همس العدم وصراخ الوجود.. فتنادي باعلى صوتها: النجاة.. النجاة من ذاك الشعور العميق! وزادها من الانطواء قنوط لا حدود او شواطىء له فلقد صنع الاحباط فيها ما فعل، فكل ما حولها اموات لم يدفنوا في مكان اسمته وادي العبيد الذي ترفضه ولا تريد العيش فيه! فكل ما فيه جثث مقيدة ترسف بالاغلال ازاء تماثيل لا تفارقها الاعين. لكنها برغم كل ذلك فهي لا تكف عنهم ابدا اذ تسمعهم نشيدها العذب ولكنهم يغطون في نوم عميق ولم يزل مجلسها على تلها الرملي يصغي الى اناشيد امها ولم تزل طفلةً سوى انها قد زادت جهلاً بكنه عمرها ونفسها. وليتها لم تزل كما كانت قلباً ليس فيه الا السنا والنقاء وكل يوم تبني حياتها احلاماً وتنس اذا اتانها المساء. ايه تل الرمال ماذا ترى ابقيت لها من مدرسة الاحلام. انظر الآن هل ترى في حياتها لمحة غير نشوة الاوهام؟ آه ياتلُّ ها هي مثلما كانت فأرجع فردوسها المفقود. أي كف اثيمة سلبت رملك هذا جماله المعبودا. انني دائما ما افكر في الذي يكمن من وراء النص.. وأجد نازك هنا وكأنها تريد التعبير في نصوصها عن خفايا حقيقية ستتحقق لاحقا في قابل الزمن.. خصوصا في الذي يكمن في نصوص شعرية رائعة كتبتها، مثل: " انا "، و " مأساة الحياة " و " عاشقة الليل " و " الكوليرا " و " مرثية يوم تافه " و " انشودة السلام " و " صلاة الاشباح " و " غرباء " وغيرها من القصائد التي تترجم واقعا عصيبا محشو بالاحداث التراجيدية القاسية!
طفولة نازك: سر تكوينها اللامع اما التمرد فقد كان طبيعة فيها منذ طفولتها.. كانت منزوية وعنيدة متمسكة بآرائها الى حد يضايق معلماتها وابويها، وكانت في نفسها مقدرة على الكتمان والصمت تندر في الاطفال. وكانت نازك الملائكة سمراء نحيلة الجسم، سوداء الشعر والعينين لا تعني بهندامها وكانت جدية منذ طفولتها تكره المزاح ويؤذيها ان تعاقب مهما كان العقاب شاملاً لسواها. وكانت تحس بأنها تكره المدرسة من اجل الحساب. انها تستطيع جيداً ان تفهم اللغة العربية والتاريخ والدين والجغرافية.... ولكنها لا تستطيع ان تصطلح مع الحساب. وقد طبعت حياتها وهي صغيرة بطابع من الكآبة والقلق وعدم الثقة بالنفس.. ونازك في الصف الرابع وقد بدأت مظاهر الرومانسية والخيال والشعر تبدو عليها بوضوح.... فهي منعزلة خجول تحب المطالعة، وتحلم كثيراً، ثم ان صحتها ضعيفة، وهي دائماً مزكومة.... وقد بدأت بوادر التفوق في درس الانشاء والمحادثة تبهر مدرستها. كانت في البيت خاملة لا تفعل شيئاً، وقرأت وهي في طفولتها القصص التاريخية القديمة.. وهنا بزغ في حياتها شيء جديد، اذ سمعت عمتها تغني: " اليلَ قبرُكِ ربوة الخلد نفخ النعيمُ بها ثرى نجدِ " لم تدر نازك لماذا تاثرت بهذا البيت وما بعده.. وعرفت بافتتنان وانبهار انه من مجنون ليلى احمد شوقي… كانت الطفلة نازك رومانتيكية جداً، وذاع خبر مفاده انها شاعرة..! أي نبأ غريب..! وجائت اللحظة الحاسمة لتقرأ قصيدتها الجميلة وفي عينيها بداية دموع..! وعجزت خجلا وهربت.. ولكنها نضجت على مهل في الثلاثينيات في معركة نحوية وفي تلك الايام تلتهم الكتب النحوية والادبية القديمة التهاماً. وكانت تجد لذة هائلة في الدراسة وحفظ الشواهد ومناقشة ابيها ولها حب شديد للقاموس في تلك الايام وتعتمد اعتماداً كلياً على قاموس "اقرب الموارد" للويس شيخ اليسوعي، وهو قاموس مقبول لم تزل تحبه ثم درست نازك على يد استاذتها المعروفة ماري عجمي واختلفت معها لأن ماري لم تعرف مستوى نازك الادبي واللغوي ثم اكتشفتها بعد حنق واساءة وعرفت موهبتها وتنبأت لها بمستقبل ادبي رائع قبل ان تودع العراق.
وأخيرا: ماذا اقول ؟ لابد ان نقول بأن العالم الشعري الذي انتجته لنا نازك الملائكة بحاجة ماسة للتحليل الذكي، وهو ينتظر الاجيال القادمة لدراسته من جديد واستكشاف فضائه بعد حل رموزه كاملة.. ويبقى عالم نازك غريب وجميل.. وآخر ما يمكنني تسجيله هنا: تمنياتنا لنازك بالصحة والعافية وهي ترقد منذ زمن طويل في واحدة من مستشفيات القاهرة وان تعود الينا كما كانت بعون الله.
كلمة اخيرة: وداعا نازك الملائكة فانت آخر جيل عراقي من ابناء القرن العشرين سيبقى مخلدا في ذاكرة الزمن.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |