|
مقالات هناء مال الله ومها مصطفى ومناوراتهما التشكيلية علي النجار / مالمو (غير ان كتب الفلسفة والأعمال الفنية تحتوي بدورها على قدر يصعب تخيله من المعناة تجعلنا نستشعر مجئ شعب. انها تشترك في المقاومة, مقاومة الموت والعبودية, مقاومة ما هو مرفوض كليا, مقاومة العار والحاضر) جيل دولوز لم يكن التجريد غريبا عن التشكيليين العراقيين, وبدأ كان هاجسا للعديد من تشكيليي الستينات, تأثرا, ومن ثمة بحثا لمرجعيات تبحث عن بينة او بنية بيئية ما. وما اعمال الفنانة التشكيلية العراقية (هناء مال الله) الا اندراجا ضمن شوط التجريد الذي يبدو لا نهائيا في مسيرة التشكيل العراقي, رغم ما رافق نتاجها من تسميات او تفسيرات او تنظيرات هي بالأحرى احالات لمرجعيات ثنائية ملتبسة, مادية صلبة, و مرجعية تاريخية اثرية, اظافة الى الغازها او مدوناتها الصوفية الهوائية, وهي كوريثة لتحديث أثر سابق, فانها لا تني عن البحث في الوقت الحاضر عن مخارج تشكيلية تناور ازمنة حرجة وظمن شروطها التشكيلية نفسها.وما ورثته من تجريدي الستينات هو هذا الولع المبرح بسطح العمل (اللوحة) والسطوح الأخرى المتعددة. من جيل احدث, لم تبتعد التشكيلية العراقية الأخرى (مها مصطفى) عن مساحة الأداء التجريدي التشكيلي رغم اختلاف مصادرها المعرفية والتعبيرية والتي تعمقت بعد هجرتها العراق اواخر التسعينات. ومنذ نعومة تجربتها لم تجد في الموروث العراقي منفذا ما لتجرتها. وقطيعتها هذه رافقتها لسنواتها القادمة تطلعا لهواجس اغترابية تنأى عن البوح المباشر. وهي في سبيل الأمساك بتلابيب تجربتها الحسية تنصلت عن مخلفات الأرث الشرقي بتفاصيله المكتضة وصولا الى منطقة الكفاف الوجداني بجذور قاطني الشمال الأسكندنافي حيث تقيم. لقد اختلفت سبل هاتين التشكيلييتين بشكل ملفت, رغم حاضنهم الأول. اختلاف لا يبتعد كثيرا عما نشاهده ضمن جغرافيات العراق المتعددة من حوامل حساسية متعددة (تشكلت كحاضنات نفسية عبر عقود عديدة). فهناء المتلبسة هندسة فضاءات تشكيلية موغلة في القدم, لا تزال تؤكدها بدراسات اثرية مثلما هي مشاعة هي ايضا ذاتية. ولعها الأركولوجي النظري والعملي قادها بعيدا عن اطر التسويق الفني والعابه البهلوانية. في الوقت الذي قادت قطيعة مها (جغرافيا وتاريخيا) اهتماماتها الأستثنائية بجغرافيا حاضنتها الجديدة وثقافتها التسويقية, ثقافة تطلبت منها جهدا واضحا لفهم خصائص المواد التشكيلية الأولية وبما يوازي امكانياتها التعبيرية المتماهية وثقافة هذه الحاضنة الجديدة. وان كانت مادة التشكيل الأولية عند هناء خاضعة لمناورة تفاصيل اعمالها كحاضن لخرائط رموزها البارزة والمطمورة وخاضعة لطوبوغرافيا الأثر. فالمادة عند مها غالبا ما تكتفي بخصائصها الجوهرية ضمن اداء محكم تتحكم فيه حساسية تقليلية واضحة. ولع هناء المعرفي النظري متمكن من نصوصها التشكيلية, وهو الذي يعمر بناءاتها المتراكمة, وغالبا تجاوزا تنظيريا لفضاءات فنتازيا الروح. وما حدث من شرخ لأزمنة العراق المعاصرة لم يكن بعيدا عنها, لكنه بقي في حدود صرامة هذه النصوص التشكيلية بعتمة طبقاتها الأركوليوجية. وهو امر بات متداولا عند العديد من تشكيلي العراق المعاصريين (وبالذات ابرز تشكيليي الداخل), وعلى الضد من التيارات التشكيليية المعاصرة التي انتبهت الى اهمية تفاصيل الواقع المعاش البيئي والأنساني, واعادة صياغاته بشتى السبل الأدائية المتاحة ومرورا من التفصيل الجزئي المهمل الى فنتازيا تتعدى عوالمه. لكن هناء وعن قناعات تلبستها منذ البدءلا تزال تحاور تضاريس العمل الأثري وبكل عتمة طبقاته وحتى تجاوزا لأثر مستحدث مستقطع من وسطه المحيط, لكنه منتقى بعناية ضمن نفس ذلك الحس الأثري, ولا يزال مستحكم في سطوح اعمالها كنصوص تشكيلية مكتفية بكفاية فاعليتها, وكأحجية كثيرا ما تكون صوفية تحاول ان تتكشف عن انتهاكات بيئية, هي الأخرى اثرية متصورة. هذا التستر والكشف المختزل هو الذي يبقي اعمالها ضمن مساحة فراغ ما من مجمل التشكيل المعاصر. ولم يكن الأمر بالنسبة لها امتيازا, لكنه يبقى كنتيجة متوقعة لأفرازات حاضن ثقافي لم يترك للمبدع من مجال لمحاورة او مناورة عزلته الا حيزا ضيقا هو في معضمه عدميا. ولم يكن له من خيارات الا في حدود استساغة الأقامة فيما وفره هذا الحيز من مسالك تطرح الذات الغائبة بديلا عن حاضرها, ولم تكن هذه الذات الا بقايا من نصوص او احفورات مجردة الملامح تشد في نفس الوقت لأعماق الروح او الغياب بعيدا عن مسارب اضواء الحياة المعاصرة وصراع او مناورة مفاعيلها الثقافية. المعرفة التشكيلية عند مها مستمدة من محيطها الجديد تفاصيل منتقاة بعناية من حاظن بيئي واسع, ومن فسحة واسعة لممارسة حرية اسلبة اي اثر ملتقط, سواء كان جاهزا او مفكرا به بعيدا عن ضغط وسط محدد برقعة معرفية تشكيلية مؤطرة بظوابط هي بالأساس تعداها الزمن (لكنها لا تزال فاعلة في الوسط التشكيلي العراقي المحلي). وما انتقالاتها او انتقائاتها لأساليب موادها الأولية سواء كانت فلزا او باطونا او نسيجا او ضوءا او غير ذلك, الا شاهدا على حريتها الأدائية المعاصرة. ولا وجود لمساحة التنظير في اعمالها, كونها تختزن حيوات موادها المتشكلة او المصنعة, والصنعة هي الأخرى حكاية, لكنها تبقى تحافظ على حكاياها الأسطورية المعاصرة, وكتميمة هنا فهي غالبا ما ترافق هندسة الأنشاءات المعمارية او فراغاتها. مستمدة شرعيتها من صلب وظائف صلابتها او هشاشاتها المادية. وان اصبحت نصوص مها التشكيلية نصوصا فاعلة, فان فاعليتها كثيرا ما لا تتعدى وظيفتها التشكيلية والمعمارية في ان واحد. الزمن عند هناء, وكما تعتقده تاما, بمعنى انه لا فرق لديها بين زمن ماض وزمن حاضر. ما دامت تسترجع دوما ازمنة ما من انقاض ركام ثقافي هو الأقدم. لكنه يبقى لديها في حدود ذاكرته الأثرية, وبحدود ما تؤطره معارفها التشكيلية. وان كانت الأوفاق وجداول ارقامها, وهي بعض من اهم ادواتها التعبيرية, تشكل لديها حلولا تشكيلية معرفية. فالأوفاق ايضا تبقي محافظة على تهيئات مبتكريها كخطابا ملغزا ومطمورا, وليس كما يفضل ان يكون الان خطابا معرفيا تواصليا. وان كانت لوحة هناء المرسومة او المشكلة لم تفقد مخطاطاتها الوفقية, الا نها في نفس الوقت لا تستطيع ان تشكل وفقا تقليديا, بقدر ما تحافض على تشكيليته الهندسية الأساسية المستوية على الرغم من اجتراحها لعناصر اخرى. ولذلك تحددت سبل ادائها ودائما بصرامة هذه الهياكل الخطية وبعقلانية متصورة تسد امامها سبل النفاذ الى واقعها المعاصر المحيط والأوسع. وبالرغم مما يبدو من حداثة خطابها, لكنه يبقى متماهيا وازمنة فقدناها منذ عقود. اما الزمن عند مها فهو اني. فبحوثها التشكيلية لا تزال بنت زمنها, وهي خلقتها عبر متابعات مستمرة ويقضة لما يستحدث على الساحة التشكيلية العالمية. ومع ذلك فان المتابع لمنجزها لا يستغرب من كون هذه الصرامة التي تعامل بها اعمالها لم تكن متاخرة. فهي رافقتها منذ نظوج تجربتها الأولى في تسعينات العراق, لكنها اغنتها من خلال احتكاكها في السنوات الأخيرة بالوسط التشكيلي الأسكندنافي. ولقصر تجربتها العراقية وديناميكية بحثها التشكيلي خارج اطر التشكيل العربي المألوفة. فقد وجدت نفسها متنصلة من مجمل تأثيرات الوسط التشكيلي العراقي. ولكونها اصلا تدربت على تقنيات السيرامك والتي ابقتها على مبعدة من عادات الرسم والنحت التقليدية. وبالرغم من ان بعض اعمالها ولحد الان لا تزال تحمل بصمة الفورمات السيراميكية (الفخارية) المعاصرة. الا ان تجاربها الذكية على المعادن والخامات المختلفة, خلقت لديها القدرة على تطويعها وبما يخدم افكارها, وخارج ما تختاره من اطر عناوينها. فان اعمالها تندرج ضمن الأساليب او الأشتغالات التقليلية المعاصرة. اساليب المادة التشكيلية الأولية كأنشاءات في حدود اداء ادنى, لكنها تحافظ على جوهر التعبير المادي وكمعادل روحي او بيئي احيانا. فازمنة الأنقطاع عن المنشأ هي التي اوصلت مها لنتائجها المتقدمة هذه. بينما ازمنة التواصل الملتبسة الغير سليمة اوصلت نتاج هناء لتعقيداته الطوباوية. يعاني التشكيل العراقي الذي يحاول ولوج منطقة التعبير عن محننا المعاصرة وبما رافقها من لا معقولية العنف المبرمج. من قصور واضح في الأداء وما يتبعه من تصورات او افكار محركة, والفكرة باتت الان مهمة في اخراج العمل التشكيلي. والقصور ناتج اولا من الأصرار على اعادة نفس التجارب السابقة في زمن مختلف, زمن العنف الفالت هذا, وثانيا في عدم الألتفات الى التجارب العالمية المعاصرة والتي تناولت بشكل ما ما يوازي هذه الأزمنة المرعبة. والمعاصرة العالمية هي بالأساس تجارب شعوب العالم التشكيلية بدون استثناء, ذلك بعد رفع الغطاء عن عصر الحداثة الأوربي النزعة. وبمعنى ان كان الدم لا يتحول الى ماء فهو الأخر في العمل التشكيلي المعاصر كذلك. وان كانت حوادث التفخيخ المرعبة قاسية لأبعد الحدود, فهي الأخرى كذلك في التشكيل. وان كان التشكيل المعاصر يستمد غالبية عناصرة من البيئة, فبيئتنا الان كوارثية بامتياز. وان كانت هناء في محاولات عديدة لها حاورت هذه الفاجعة, فهي الأخرى لم تحاورها الا بعناد اسلبة نتاجها الأثري. مما افقد الحدث صدمته وحوله الى ارث مخطوطاتي في افضل الأحوال. وليست هي الوحيدة في هكذا منحى. اما مها فهي الأخرى نأات بعيدا عن محنة وطنها الأم بعد ان تمكنت منها هواجس غرائبية تستحضر للذكرى وفي اوقات تحددها هي. فبالرغم من بعض صلة قرابة ولو من بعيد لنتاجها ونتاج التشكيلية الفلسطينية اللندنية منى حاتوم, . الا ان الفرق شاسعا بين مصادر انتاج الأثنتين, حيث ان منجز منى كله تشكل من خلال فهمها الفائق لنكبات وطنها العامة والخاصة, وما اكتسابها لشرعيتها العالمية الا من خلال ذلك. اخيرا يبقى لغز المصطلح التجريدي التشكيلي قابلا لأجراءات معرفية ودلالية مصنعية عديدة. وما يهمنا من هذا المصطلح الملتبس, ليس وهج التسمية بمدلولاتها الميتافيزيقية, ولا جمالياتها الحسية, ولا اسلوبيتها الحداثوية اوائل القرن العشرين, بل ذلك النأي عن تفاصيل الواقع البيئي والثقافي, والذي يشكل استثناءا لفناني منطقة هي الأكثر كارثية في عالمنا المعاصر. وان كانت حقول المعرفة التجريدية الحسية والجمالية مشرعة لكل البشر, فهذا لا يعني انها الوحيدة القابلة على ادراك معاناتنا ومحاورة صخب هو الأعلى في ازمنتنا الحالية. وليس من الصحة في شئ ان تبقى الأسلوبية التشكيلية تتراوح في منطقة ملغزة بتشكيلاتها العامة المتنافذة والمتشابهة او المتشابكة وتلك هي خصائص جيل التشكيليين العراقيين البارزين داخل الوطن وحتى بعظهم خارجه. كذلك ان كانت بعض مشاريع فناني الخارج محكومة بانظمتها التسويقية. فهذا لا يبرر اغفالهم لما يجري لوطنهم الأم وهم الأقرب الى مستجدات التشكيل وادواته التعبيرية الفائقة التي تمكنهم من التعبير عن هذه المحن بما لا حدود له من مساحة التعبير وبما توفر لهذه المساحة من ادوات فائقة الأداء.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |