|
مقالات هجرة القوافي العربية الى ضفتي البحر المتوسط نضير الخزرجي / إعلامي وباحث عراقي الرأي الآخر للدراسات – لندن تختلف الأغراض الشعرية وتتنوع مقاصده من جيل الى آخر ومن حقبة الى أخرى، ويترك النظام السياسي الحاكم أثره الكبير في عناوين الشعر ومساحاته وفضاءاته، كما يترك الزمن بصماته على الشعر فيتلمسه بحنان او ينشب أظافره فيه، فترى البعض من الشعراء اذا ما هوى نظام وقام آخر، صرعى على مذبح السلطان يسبح بدمائه يقدم ضريبة الولاء للسابق ورفض اللاحق، وبعضهم يتلون مع صبغة النظام يتحرك حيثما هبت الريح وحيثما حطت الأمور رحالها، يتبضع بقوافيه يملأ جيوبه من صفراء هذا النظام وبيضاء ذاك النظام، فهو في كل واد يهيم، لا يهمه اهتزاز عرش قوافيه ما سلم معاشه، وان كان بذلك تثبيت عرش سلطان جائر، فليس كل شاعر دعبل الخزاعي (ت 246 هـ) يحمل على ظهره خشبته ينتظر نصف قرن من يصلبه عليها بتهمة الولاء للحق والتغني بقوافي الحرية. ولعل القرن السابع الهجري يشكل علامة بارزة في تاريخ الأدب العربي بعامة والقريض منه بخاصة، لاسيما وانه شهد سقوط دول ودويلات وقيام أخرى على أنقاضها، ومن الطبيعي وفي هذه الأجواء الحساسة المليئة بالمفاجآت أن يسطع نجم شاعر ويأفل نجم آخر، وهجرة الشعر وانتقال الشعراء الى بلدان أخرى. وهذا ما يحاول ان يثيره الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتابه "ديوان القرن السابع" الخاص بالمنظوم في الامام الحسين (ع) من الشعر القريض، والصادر في لندن عن المركز الحسيني للدراسات، في 365 صفحة من القطع الوزيري.
اهتزاز عرش القوافي فسنوات القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، كانت حبلى بالحوادث والوقائع، حيث انقرضت الدولة الأيوبية في مصر (647 هـ)، والدولة العباسية في بغداد (656 هـ) والدولة الزنكية في الموصل (657 هـ) والدولة الموحدية في تونس (667 هـ). وفي المقابل قامت الدولة الحفصية في تونس (627 هـ) ودولة بني الأحمر في الأندلس (635 هـ) ودولة المماليك البحرية في مصر (648 هـ)، والدولة المغولية الإيلخانية في ايران (649 هـ) التي قامت على أنقاض الدولة الخوارزمشاهية، والدولة العباسية الثانية في مصر (659 هـ)، وقيام الدولة العثمانية في الأناضول (680 هـ) على أنقاض الدولة السلجوقية، وغير ذلك من الحوادث والكوارث التي حلت بالمسلمين. ويوعز المحقق الكرباسي انحسار موجة الأدب في القرن السابع الهجري الى أسباب عدة، أهمها: أولا: كثرة الحوادث والفتن التي أنهكت قوى المسلمين في سائر الأقطار الاسلامية. ثانيا: زيادة الكوارث الطبيعية والأمراض الفتاكة التي أدت الى شيوع القحط والغلاء. ثالثا: اهتمام المماليك البحرية في مصر بالفن والعمران والبناء أكثر من اهتمامهم بالأدب والشعر. رابعا: انتقال العاصمة الاسلامية من بغداد الى الأناضول ثم استانبول، ما أدى الى توزع الحواضر العلمية والأدبية. خامسا: انتشار أدب النثر والتأليف والتصنيف وفن القصص كبديل عن الشعر، ما ساعد على انحسار رقعة الشعر. لكنه في الوقت نفسه يلاحظ انتشار فن الموشحات والمقامات، على ان ابتعاد الحكام من التتر والمماليك والعثمانيين عن اللغة العربية الأثر المساعد في انحدار الشعر عن مكانته الأدبية والسياسية. وخلاصة الأمر ان عرش القوافي أصابه الاهتزاز بسبب ضعف قوائمه وعدم إسناد الأسر الحاكمة للشعر ودعم الشعراء، وعزوف بعضها عن الأدب العربي لأنها جاءت من محيط غير عربي، وانشغال بعضها بالحروب الداخلية بين دوائر العائلة الحاكمة الواحدة.
قوافي العرب في الأندلس كانت الطلائع الأولى التي فتحت الأندلس عام 92 قادمة من العراق، وهذه الطلائع فيها الى جانب العسكر رجال أدب وثقافة، وكان لهم الدور الكبير في انتشار الأدب العربي الى البلدان الأوروبية التي بدأت تفتح الواحدة بعد الأخرى حتى سيطرة الأسبان على الأندلس في العام 898 هـ، ومن ذلك الأدب الحسيني الذي يبث في النفوس روح التحدي والاستشهاد من اجل سلامة الأهداف السامية والقيم العالية. وبناءاً على رأي المؤرخين فان الأدب العربي في الأندلس شهد تطورا على حكم الأمويين (138-316 هـ)، وتراوح مكانه تحت حكم المروانيين في الأندلس (216-422 هـ)، وبدأ يشرئب بعنقه ويزدهر في عصر ملوك الطوائف (422-484 هـ)، وفي الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط إزدهر الأدب في شمال افريقية أيام حكم الأدارسة (172-363 هـ) واستمر في أيام الفاطميين (291-555 هـ). ويرى المحقق الكرباسي انه: "وفي ظل حكومة ملوك الطوائف وبفضل دولة بني حمود (407-449 هـ) ظهر التشيع في الأندلس بعدما كان فاشيا في أفريقية في عهد الأدارسة والفاطميين واستمر الأمر على هذه الحالة على عهد دولة الموحدين (515-667 هـ) التي حكمت شمال أفريقية والأندلس أيضا، ومع ظهور التشيع وانتشاره ظهر الشعر الحسيني وانتشر في المغرب الاسلامي بشكل عام". ويعود الشعر الحسيني في الأندلس في بعض جذوره الى هروب عدد من الموالين بمن فيهم الشعراء من المشرق الاسلامي الى مغربه، وكان من إفرازات الهجرة ظهور انتفاضات وثورات عدة في الأندلس، كما ساعد سقوط الدولة المروانية الأموية في الأندلس وقيام دولة الحموديين على نشر فكر أهل البيت وبالتالي انتشار الأدب الحسيني بما فيه الشعر، وقبل ذلك كان الأمويون يقتلون من يوالي أهل البيت (ع)، وهذا ما يؤرخه الرحالة المقدسي محمد بن احمد (ت 380 هـ) في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" حيث يؤكد في (ص 322): "ان الأندلسيين – الأمويين منهم – اذا عثروا على شيعي فربما قتلوه"، واستخدام المقدسي كلمة (عثروا) دلالة على عظم الجريمة بإشهار الشيعي ولاءه لأهل البيت في ظل حكم الأمويين! ويرى البعض كما يشير الكرباسي: "ان من أسباب دخول التشيع في الأندلس بل جميع بلاد المغرب العربي هو رحلة عدد من الأندلسيين الى المشرق الاسلامي ويعتبرون الأعشى القرطبي المتوفى عام 221 هـ من أوائلهم فقد رحل عام 179 الى العراق المركز الشيعي ثم رحل بعده عباس الثقفي (ت 238 هـ) الذي أوفده عبد الرحمان الأوسط (176-238 هـ) عام 201 هـ في التماس الكتب القديمة". ورويدا رويدا اخذ الناس بالأندلس في إقامة مجالس العزاء في عاشوراء ذكرى استشهاد الامام الحسين (ع)، وفي هذا يقول المؤرخ عمر فروخ (ت 1407 هـ) في تاريخ الأدب العربي: 6/130، وهو يتحدث عن الأدب في الأندلس والمغرب: "من المناسبات التي كان أهل الأندلس والمغرب يحتفلون بها ذكرى عاشوراء التي كانت بها مأساة عاشوراء ومقتل الحسين بن علي رضي الله عنه". ولا خصوصية للأدب الحسيني في المغرب الاسلامي عما كان عليه في المنشأ في المشرق الاسلامي، كما يذهب بذلك الشيخ الكرباسي، ولم يختلف الاتجاه الأدبي كما: "ان الأغراض الشعرية ظلت كما هي ولم تتغير بشكل عام ويعترف الجميع بان الشعر بالذات وصل أوجه في الأندلس في عصر المماليك وبسقوطهم انحط الشعر انحطاطا كبيرا لابتعاد المرابطين – البربر- عن العربية، وفي شمال أفريقيا وصل الشعر أوجه بعد المرابطين حين وصل الموحدون الى السلطة وكان للشعر الحسيني بالذات أرضية خصبة".
أسماء لامعة ومع ان الأدب العربي بعامة والحسيني بخاصة أصابه ما أصاب الوضع السياسي من مد وجزر، نتيجة: "الأوضاع المتردية في مجمل الأقطار الإسلامية وبالأخص تلك الاضطرابات التي هزت القلب والمناطق الوسطى من الخارطة الإسلامية"، فان الشعر الحسيني ظل: "ينشد من هنا وهناك وصوته يدوي في أرجاء الديار الإسلامية"، وفي الوقت نفسه فان ما يلاحظ على الشعر الحسيني في هذا القرن ان الشعر القادم من المغرب الإسلامي فاق الشعر المنظوم في المشرق الإسلامي، حيث: "بلغ مجموع من وصلنا اسمه من الشعراء الحسينيين من بلاد المغرب الإسلامي في هذا القرن ستة وعشرون شاعرا وهو كبير في قبال شعراء العراق البالغ عددهم أربعة عشر شاعرا وشعراء مصر البالغ عددهم ثمانية ومثلها من شعراء الشام بغض النظر عن سائر الشعراء". ولاحظ المصنف ان القرن السابع الهجري شهد تنوعا فريدا في وظائف الشعراء وجنسياتهم، اذ كان فيهم الفقيه والقاضي والأمير والوزير والرحالة والكاتب والأديب توزعوا على اسبانيا وإيران والبرتغال وتونس والجزائر والجزيرة العربية وسوريا والعراق وفلسطين وليبيا ومصر والمغرب واليمن وغيرها. فيشار بالبنان الى القاضي السعيد ابن سناء الملك (ت 608 هـ) وهو من خريجي مدرسة أبي تمام (ت 231 هـ) والمتنبي (ت 354 هـ): "وقالوا بأنه أشهر وأجود من نظم من المشارقة في الموشحات وكان صاحب نظرية موسيقية فيها". ومن شعره الحسيني قوله في قصيدة أنشأها في مدح القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي اللخمي (ت 596 هـ)، من الشعر المتقارب ومطلعها: مديحك كالمسك لا يكتتم ** به يبتدى وبه يختتم ثم يقول: وما ضيّع اللهُ آل الحسينِ ** إذا رفع الدهرُ آل الحَكَم فالشاعر يحاول ان يخفف عن القاضي الفاضل تخليه عن القضاء والوزارة في الدولة الأيوبية، فيجري مقارنة بين آل الحسين وآل الحكم، حيث رفع الله الأسرة الأولى وان بان ان الدهر رفع الثانية. ويشار الى الأمير العيوني علي بن المقرب (ت 629 هـ) وهو من خريجي مدرسة أبي تمام والمتنبي والنابغة (ت 18 ق هـ). وهو صاحب القصيدة العينية من 87 بيتا في رثاء الإمام الحسين، يقول من الرجز التام ومطلعها: يا باكيا لدِمنةٍ وأربُعِ ** إبكِ على آل النبيّ أو دَعِ ثم يقول: وإنّ حُزني لقتيلِ كربلا ** ليس على طول المدى بمُقلِعِ إذا ذكرتُ يومَهُ تحدّرت ** مدامعي لأربَعٍ في أربَعِ ويشار الى الحكيم المتكلم ابن أبي الحديد عبد الحميد بن محمد المدائني المعتزلي (ت 656 هـ)، وهو صاحب شرح نهج البلاغة، وصاحب القصيدة العلوية وهي واحدة من سبع قصائد سميت بالقصائد العلويات السبع، يقول فيها من الطويل في مدح الإمام علي (ع) ثم يأتي على واقعة كربلاء، ومطلعها: لمن ظعن بين الغميم فحاجر ** بزغن شموساً في ظلام الدياجر الى ان يصل مورد الشاهد، فيقول: فيا لك مقتولاً تهدّمتِ العلى ** وثُلّت به أركانُ عرشِ المفاخر ثم يقول: أما كان في رُزء ابن فاطمَ مُقتَضٍ ** هبوطَ رواسٍٍ أو كُسوفَ زواهرِ ولكنما غدرُ النفوس سجيةٌ ** لها وعزيزٌ صاحبُ غيرُ غادرِ ويشار الى الإمام البوصيري محمد بن سعيد (ت 694 هـ) صاحب البردة الميمية في مدح النبي محمد (ص). وفي قصيدة له في مدح السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الإمام الحسن (ع)، ينشد من الطويل ويعرج فيها على الإمام الحسين (ع) وأهل بيته، ومطلعها: جنابُك منه تستفيد الفوائد ** وللناس بالإحسان منك عوائد ثم يقول: وطُفِّفَ يومَ الطّفِّ كيلُ ذمائكم ** إذا الدمُّ جارٍ فيه والدمعُ جامدُ ويلاحظ ان الفقيه والشاعر الشيخ ابن نما جعفر بن محمد الربعي الحلي (ت 680 هـ) قد استأثر بتسع عشرة قصيدة وقطعة وبيت من مجموع 94 قطعة من بين 52 شخصاً ضمهم ديوان القرن السابع الهجري. ومن قصيدة له من الطويل ينعى ديار آل رسول الله (ص) وقد خلت من ساكنيها، فينشد: وقفتُ على دار النبيّ محمدٍ ** فألفيتُها قد أقفرت عرصاتها وأمست خلاءً من تلاوةِ قارئٍ ** وعُطّلَ فيها صومُها وصلاتُها الى ان يقول: فعيني لقتل السبطِ عبرى ولوعتي ** على فقدهم ما تنقضي زَفَراتها فيا كبدي كم تصبرين على الأذى ** أما آن أن يُغني إذاً حسراتُها ومن المفارقات ان الشيخ ابن نما صاحب كتاب "مثير الأحزان" والذي مات على الولاء لأهل البيت، دفع ضريبة هذا الولاء ليس في حياته فحسب، بل وحتى وهو ثاويا في لحده، فقد تعرض قبره في الحلة بتاريخ 13/8/2005م الى عملية تخريبية لغرض هدمه، أدى العمل الإرهابي الى سقوط عشرين مواطنا عراقيا بين قتيل وجريح.
ظاهرة الشعر الملمع ويسجل الدكتور الكرباسي ظاهرة طرأت على الشعر العربي القريض في القرن السابع الهجري على يد الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي (611-672 هـ) بخاصة، وان كانت بذورها غرست في القرن السادس الهجري، وهو ظهور "الشعر الملمع" المتضمن لمقاطع من الشعر غير العربي يرد فيه شطر أو بيت من الشعر العربي، وهذا النمط من الشعر: "ظهر من جراء اختلاط المسلمين من قوميات شتى بعضهم بالبعض الآخر نتيجة الفتوحات الإسلامية وأخذوا شيئا فشيئا يستخدمون المفردات العربية في النثر والشعر". ومثال ذلك قول الرومي: راح بفيها والروح فيها ** كي أشتهيها قم فاسقنيها إين راز يارست إين ناز يارست ** أواز يارست قم فاسقنيها أي: (هذا سر الحبيب، هذا دلال الحبيب، نداء الحبيب قم فاسقنيها). ولان الأدب الحسيني دخل في كل ثقافات الشعوب الداخلة في الإسلام، فان هذه الظاهرة شملته وبخاصة لدى الفرس والأتراك والهنود، وأصبحت هذه الظاهرة سائدة في النظم، ومثال ذلك: شيعتي ما إن شربتم ** عذب ماء فاذكروني أو سمعتم بقتيل ** أو شهيد فاندبوني مَن شهيد كربلايم** سَر بُريده أز قفايم أي: (أنا شهيد كربلاء، مقطوع الرأس من القفا)، حيث يحكي الشاعر الفارسي على لسان الإمام الحسين (ع)، وما حلّ به، أما البيتان الأولان فمنسوبان للإمام الحسين (ع).
يوم الشهيد العالمي تتخذ الأمم المتحضرة أياما في السنة للاحتفال بمناسبة أو مناسبات معينة تحتفل بها لتخليد ذكرى حدث أو شخص، وكلما مرت السنين تجددت الذكرى، ولعل من أهم أغراض الاحتفال هو تخليد الذكرى تأسيا بها إن كانت تحمل معها بذور آمالها أو منعا لحصول أمثالها ان كانت ذكرى تحمل معها بذور آلامها، ولا ذكرى أعظم من ذكرى عاشوراء، لتخليد يوم الشهيد العالمي، حيث لا يوم كيوم أبي عبد الله الحسين (ع) استشهد فيه وأهل بيته وأصحابه. ومنذ زمن بعيد نادى الأحرار بتخليد الشهيد يوم عاشوراء من كل عام، للاحتفاء بشهداء البشرية ولمنع تجدد نزيف الدماء، وتبارى الشعراء الى تخليد هذا اليوم ومطالبة العالم بتخليده وتكريم الشهيد، ومن ذلك نداء الشاعر السوري كمال العباسي المتوفى بعد العام 656 هـ ينشد من الطويل قائلا في عزاء سيف الدين علي بن عمر المشد المتوفى في المحرم عام 656 هـ والمدفون بسفح جبل قاسيون،: أيا يوم عاشورا جعلت مصيبة ** لفقد كريم أو عظيم مبجل وقد كان في قتل الحسين كفايةٌ ** فقد جاءَ الرزء المعظّم في علي وهذا اليوم الكبير الذي قال فيه فقيه الحنفية وشاعرها محمد بن عبد المنعم التنوخي المتوفى عام 669 هـ، في قصيدة من الكامل في نعي سيف الدين علي بن عمر المشد، ومطلعها: أأخي أي دجنة أو أزمة ** كانت بغير السيف عنا تنجلي الى ان يصل مورد الشاهد: عاشورُ يومٌ قد تعاظَمَ ذنبُهُ ** إذ حلَّ فيه كل خطب معضل لم يكفه قتل الحسين وما جرى **حتى تعدّى بالمصاب على علي من هنا فان الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي انفرد في عصرنا بتتبع آثار النهضة الحسينية يرى ان يوم العاشر من محرم الحرام هو رمز للشهادة وهو يوم المصائب، ولذلك فان: "من الإنصاف أن يتخذ هذا اليوم يوما عالمياً لتكريم الشهيد من اجل الحق، فلولا شهادة طلاب الحق لما قامت للإنسانية قائمة ولا بقيت للكرامة مصداقية".
تشبيهات كربلائية ولأن مصاب الإمام الحسين (ع) لا يعلوه مصاب، فهو مصاب الإنسانية جمعاء، فان كل إنسان على وجه الأرض صاحب مصاب وعزاء، يحاول ان يقترب من مصاب الحسين بان يجعل ما حلّ به من مصاب يناظر مصاب الإمام الحسين (ع)، وهذا المعنى يظهر بجلاء في شعر الرثاء، على ان صاحب المصاب مهما علا شأنه وارتفع كعب مقامه، لا يمكن قياس مصابه بمصاب الحسين (ع) ابدا، ولكنها مقاربة رثائية تجري على لسان الشاعر لبيان عظم المصاب وخطره. فهذا الشاعر عبد الرحمان بن إسماعيل المقدسي (ت 665 هـ) يرثي الملك الكامل محمد بن غازي الذي قطع التتر رأسه ومن معه سنة 658 هـ بعد ان استولوا على الشام، وطافوا برأسه في الأزقة ثم دفن في مسجد الرأس الشريف في دمشق، فينشد من الخفيف: ابن غازٍ غزا وجاهدَ قوماً ** أثخنوا في العراق والمشرِقَين ثم يقول: لم يَشِنهُ إذ طيفَ بالرأس منه ** فله أسوةُ برأس الحسينِ وافق السبطَ في الشهادة والحمـ ** ـل لقد حاز أجره مرتين وهذا الشاعر ابن الساعاتي علي بن رستم الخراساني (ت 604 هـ)، يرثي فقد ولده محمود، فيقول في قصيدة من الكامل ومطلعها: لا تنكري سقمي ولا تسهيدي ** أبلى جديد الدهر كل جديد الى أن يقول: ولكلّ حَيٍّ أسوةٌ بمحمدٍ ** ومحمدٌ ذو الموقف المحمود كم في مصارع آله من عبرةٍ ** سوداءَ عدّوها من التسويد فتأسَّ بالمأموم والمسموم والـ ** ـمقتول والمجلوب نحو يزيد فالمأموم إشارة الى الإمام علي (ع) حيث أصبح مأموما بصرف الخلافة عنه وهو الإمام بنص الغدير، والمسموم إشارة الى الإمام الحسن (ع) الذي مات بالسم، والمقتول إشارة الى الإمام الحسين الشهيد بكربلاء، والمجلوب إشارة الى الإمام علي بن الحسين السجاد الذي جلب مأسورا الى الشام مع رحل الإمام الحسين (ع). ويستقرئ المحقق الكرباسي من جملة قصائد ومتابعة للتراث الإسلامي، أن التأسي بمصاب الحسين (ع) أصبح سنة في المجتمعات المسلمة: "ولعل هذه هي بداية لترسيخ العادة المتبعة عند الموالين لأهل البيت (ع) في التذكير بمصاب سيد الشهداء عند مصابهم والتي تحولت فيما بعد الى قراءة سيرة الإمام الحسين (ع) في مجالس العزاء على أمواتهم والتي تطورت أيضا الى تخصيص قراءة مقتل علي الأكبر - نجل الإمام الحسين – مثلا فيما إذا كان المتوفى شابا والى ذكر مصائب السيدة زينب (ع) مثلا فيما إذا كانت المتوفاة امرأة وهلمجرا". ولأن الاستشهاد في سبيل القيم النبيلة شهادة عالمية لا تختص بدولة أو فئة، فان عاشوراء لا تختص بالشيعي أو السني ولا تختص بالمسلم أو بغيره، وهذه الحقيقة يؤكدها الشعراء، فهذا هبة الله ابن سناء الملك بن جعفر السعدي (ت 608 هـ) يقول في قصيدة من مجزوء الكامل ومطلعها: جاءت بحسنٍ مطمئن ** جاءَت منه بكل فن الى ان يقول: ونظمتُها في يوم عا ** شوراءَ مِن همّي وحُزني يومٌ يناسب غَبنَ مَن ** قتلوهُ ظلما مثل غَبني يومٌ يُساءُ به وفيـ ** ـه كُلُّ شيعيٍّ وسُنّي
أدب شجي ودرج المحقق الكرباسي كما في كل نتاجاته على تضمين الكتاب بعشرات الفهارس في أبواب شتى، ويختمه بقراءة نقدية لواحد من الأعلام، وفي هذا الديوان قراءة للأديب والمؤرخ العراقي، مير شاؤول البصري (1911-2006م)، رئيس اللجنة الإدارية ليهود العراق ورئيس الطائفة الموسوية، صاحب المؤلفات الكثيرة منها: أعلام الأدب في العراق الحديث، وأعلام الوطنية والقومية العربية، وأعلام الكرد، وهو الى ذلك له دواوين شعر. يقول البصري في قراءته ان الموسوعة الحسينية في جانب منها: "تتناول مناحي أدبية وتاريخية مختلفة، وتجلو صفحات كانت مجهولة من التراجم والآثار والأشعار والأخبار"، ورأى ان الأدب الحسيني التي تهتم بها دائرة المعارف الحسينية هو: "أدب إنساني شجي يخلّد فاجعة كربلاء التي تردّد ذكرها على مرّ العصور رمزاً للحرية والفداء، قلّما نجد في الآداب العالمية مثالاً لهذا الأدب الذي ارتفعت أصواته من فوق المنابر ورهنت آياته في بطون الكتب وظلّ حيّاً في الصدور وعلى الألسنة مئات الأجيال يثير الشجون ويبكي العيون". وعنده: ان كربلاء كانت ولا تزال مركزا ثقافيا إسلاميا تعاقبت عليها العهود"، مثنيا في الوقت نفسه: "على جهود الأستاذ الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي وتحقيقاته الرائعة المفيدة، وأرجو له مواصلة التوفيق في دائرة معارفه ومساعيه الأدبية الجميلة".
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |