|
مقالات الأدب والسياسة .. جدلية الشعور وتقلبات الدهور نضير الخزرجي / إعلامي وباحث عراقي الرأي الآخر للدراسات – لندن من يتابع أيام العرب والمسلمين في القرن التاسع الهجري، لابد وأن يتوقف عند التصدعات التي أصابت جدران الحكومات في البلدان العربية والإسلامية، وما أكثرها، حيث مثّل هذا القرن امتدادا للقرون الماضية التي حلّت فيها حكومات وسقطت أخرى وكلما جاءت امة لعنت أختها، وبخاصة مع انحسار الدور العربي والإسلامي عن القارة الأوروبية بشكل ملفت للنظر بسقوط الأندلس في العام 897 هجرية (1491م). وتركت هذه التحولات والتطورات الخطيرة -على مستوى السلطة والحكم- بصماتها على الواقع الاجتماعي والاقتصادي ناهيك عن الواقع السياسي، ولما كان الأدب يشكل جزءاً من ثقافة المجتمع بما يملك من تراث وما ينتجه حاضره، فان التحولات حفرت في صفحة الأدب أخاديد، عميقة في أغوارها، شحيحة في فضاءاتها، مع مساحات خضراء متوزعة هنا وهناك يهاجمها التصحر يوما بعد آخر!
رصد ثاقب المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي، وهو في رحلة البحث عن الشعر الحسيني عبر القرون، رصد هذه التحولات، ووضع يده على مواضع القوة والضعف في الأدب العربي، وبخاصة المنظوم منه، ولهذا يعتبر "التمهيد" الذي قدمه لكتابه الجديد "ديوان القرن التاسع" الصادر عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 522 صفحة من القطع الوزيري، بمثابة نافذة على الواقع السياسي والأدبي في القرن التاسع الهجري (13/09/1398-20/09/1495م)، وقراءة ثاقبة لواقع عاشه المسلمون، استقبلوا فيه هذا القرن: "بمزيد من التشتت والتشرذم حيث أشرقت شمس هذا القرن والحروب قائمة بين الأمراء والسلاطين في بعض النقاط، وبين المسلمين والصليبيين في نقاط أخرى، وربما اجتمعت معا". وكان من نتائج هذا الوضع المخيب للآمال والذي يشبه الى حد بعيد وضع العرب والمسلمين في مطلع القرن العشرين الميلادي على المستوى العسكري، والقرن الواحد والعشرين على المستوى السياسي، ان تدكدكت أركان الأدب وتناثر التراث العلمي والأدبي بين سنابك الخيل ومجانيق الجيوش، ولذلك:" وفي ظل هذه الظروف لم يجد الشعراء والأدباء المناخ الملائم لإنشاء الشعر وإنشاده، فبلاط السلاطين والملوك وأروقة الوزراء والأمراء كانت منشغلة بحياكة المؤامرات أو القضاء عليها بدلا من ممارسة الأدب والعلم"، وضمن هذه السياقات وفي إطار المد والجزر السياسي: "لم يجد العلماء والأدباء إلا فرصا ضئيلة لتنمية قدراتهم الثقافية والعلمية في فترة زمنية محدودة كانت تسودها الطمأنينة والهدوء النسبيين"، وحتى نتاجاتهم أصابها الجدب في أغراضه الشعرية. وفي مثل هذه الظروف، كان من الطبيعي أن تلحق نار التذبذب الأدبي بأذيال الأدب الحسيني، الذي شهد مناخ النظم جفافا إلا من بعض سحابات شعرية تطوف في سمائه تروي صدورا صادية الى التغني بالأدب الحسيني الذي يستنهض الهمم ويرسم البسمة على شفاه المعذبين، والقوة في سواعد المناضلين.
قواسم مشتركة ووجد الدكتور محمد صادق الكرباسي، وبما يخص النظم الحسيني، قواسم مشتركة بين القرن التاسع والقرنين الثامن والعاشر، وتتمثل هذه القواسم في الأمور التالية: أولا: انحسار المد الجغرافي: حيث انحصر الشعر الحسيني في المدرسة العراقية، وفي دائرة أضيق، بالمدرسة الحلية، إذ برز شعراء مدينة الحلة (بابل) ممن درس في مدرستها العلمية والأدبية أو أخذ من علمائها وأدبائها: "وفي الحقيقة فإن ديوان هذا القرن اعتمد في الأساس على شعر المدرسة الحلية كمّا وكيفا"، مثل صالح بن عبد الوهاب الحلي الشهير بابن العرندس (ت 840 هـ) وله أربع قصائد، وحسن بن راشد الحلي (ت 830 هـ) وله قصيدتان، ومغامس بن داغر البحراني الحلي (ت 850 هـ) وله خمس قصائد. ومن قصيدة لابن العرندس من بحر الكامل بعنوان "شمس على الفلك المدار" يقول فيها: وسلا الفؤادُ بحرِّ نيران الجَوى ** مني فذابَ وعن هواه ما سَلا فمتى بشير الوصل يأتي مُنجحاً ** وأبيتُ مسروراً سعيداً مُقبلا ولقد برى منّي السَّقامُ وبِتُّ في ** لُجَجِ الغرام مُعالجاً كربَ البلا وجرت سحائبُ عَبرتي في وجنتي ** كدم الحسينِ على أراضي كربلا ثانيا: تقلص عدد الشعراء: وكان من نتائج الانحسار الجغرافي انحسارا في عدد الشعراء والناظمين، فعددهم لم يتجاوز الخمسة عشر شاعرا. ومن هؤلاء عبد الله بن داوود الدرمكي، وله خمس قصائد، ومنها قصيدة بعنوان "يا صفوة الرحمان من خلصائه" من بحر الكامل، يقول في مطلعها: خلِّ الحزينَ بهمِّهِ وبلائه ** وبوَجدِهِ وحنينه وبكائه لا تعذلِ المحزونَ تجرحُ قلبَهُ ** فالبينُ أورى النارَ في أحشائه الى أن يقول: والله ما أجرى الدِّما من مقلتي ** إلاَ الحسينُ مُغَسَّلا بدمائه أبكي له أم لليتامى حوله ** أم للجوادِ أنوحُ أم لنسائه أم أسكبُ الدمعَ المصونَ لفتيةٍ ** عافوا الحياةَ وطيبها لفدائه ثالثا: إنحسار الأوزان: وكما انحسر الشعر والشعراء انحسرت الأوزان واقتصرت 44 مقطوعة شعرية لديوان القرن التاسع على تسعة أوزان هي: البسيط، الخفيف، الرجز، الرمل، الطويل، الكامل، المنسرح، الوافر، والمتقارب. فعلى سبيل المثال، من المتقارب، قول ملك بني نصر (بنو الأحمر الخزارجة) في غرناطة يوسف الثالث الناصر بن يوسف الثاني بن محمد الخامس (ت 819 هأ)، في قصيدة في مدح الحسن والحسين (ع) بعنوان "تَخِذتُ محبتهم عدة"، ومطلعها: تطاوَلَ ليليَ بالأبرَقَين ** ونامَ الخليُّ عن العاذلَين وبتُّ اُساجلُ الدجى ** بمحض النُّضار وذَوب اللُّجين الى أن يقول: لئن حلَّ جسمي بالمغربَين ** فقد صار قلبي بالمشرقين بسبطي نبيِّ الهدى أبتغي ** وأرجو الشفاعة من دون مَين تَخِذتُ محبَّتهم عُدَّة ** لأخذ النواصي وعضِّ اليدين وحسبي الشفيعُ إذا ما الذنوبُ ** أحاطت بنفسي في الموقفين جعلتُ التشيُّعَ في آله ** وسائلَ أرجو بها الحُسنَيَين رابعا: تقارب القوافي: ويلاحظ في المقطوعات الشعرية اقتصارها على عدد قليل من القوافي، والاعتماد على المشهور منها الغنية بالمادة اللغوية والصرفية، من قبيل قافية الدال التي تعتبر مطية الشعراء لكثرة استخدامها، وهجران البقية كقافية الظاء والضاد، ولذلك اقتصرت قوافي ديوان القرن التاسع على اثني عشر قافية. ومن ذلك قصيدة عينية للشاعر محمد بن الحسن العُلَيف (ت 815 هـ)، تحت عنوان "خير سجّد ورُكّع"، يقول فيها مادحا الرسول وأهل بيته (ع): أقولُ قولَ صادقٍ ** لا كاذبٍ ومُدَّعِ سَمَت عَلَت بي هِمَّتي ** إلى المَحَلِّ الأرفعِ بالمصطفى محمدٍ ** وبالبطين الأنزعِ بخمسةٍ ما بعدهم ** لطامعٍ من مَطمعِ مَن طُهِّروا وشُرِّفوا ** على الورى بالأجمعِ خامسا: النظم على النفس الطويل: وما يميز النظم في هذا القرن والقرن الذي سبقه، أن الشعراء امتازوا بنفس طويل، ولذلك جاءت قصائدهم مطولات وأبياتها كثيرة: "تبدأ بالعشرين والنيف رويداً رويداً الى 158 بيتا". ومن ذلك قصيدة سينية بعنوان "عزمة علوية" من 69 بيتا للشاعر حسن بن راشد الحلي، في مدح الإمام المهدي (ع) وفيها يذكر واقعة عاشوراء، ومطلعها: أسمر رماح أم قدود موائس ** وبيض صفاح أم لحاظ نواعس الى أن ينشد: الى القائم المهدي أشكو مصيبةً ** لها لهبٌ بين الجوانحِ حابسُ أبثُّكَ يا مولايَ بلوايَ فاشفها ** فأنت دواءُ الداءِ والداءُ ناخسُ تلافَ عليلَ الدينِ قبلَ تِلافِهِ ** فقد غالَهُ من علَّةِ الكفرِ ناكسُ فخّذ بيد الإٍسلام وانعش عِثارَهَ ** فحاشاكَ أن ترضى له وهو تاعسُ سادسا: استخدام المحسنات اللفظية والمعنوية: وما يميز النظم في القرن الثامن والتاسع الهجريين ان الشعراء توجهوا في نظمهم الى تزويق قصائدهم وتزيينها بالمحسنات اللفظية والمعنوية، كالجناس والتورية. ومن المحسنات اللفظية تجانس اللفظين المتجاورين (الإزدواج) قول مغامس بن داغر البحراني الحلي في نونيته من 97 بيتا من الطويل تحت عنوان "أيا شمر أبشر بالشقاء"، وعلى لسان زينب بنت علي (ع) (ت 62 هـ) مخاطبة الإمام الحسين (ع): أخي لو تراني في السبايا أسيرةً ** بشجوِ مُصابٍ هدَّني ودهاني لأبصرتَ مَسَّ الضُّرِّ كيفَ أصابَني ** بكفِّ عدوٍّ سَبَّني وسَباني وكان من استغراقهم، أنهم تجاوزا المحسنات الى استخدام كلمات محلية دارجة مثل "ست النساء"، وان كان هذا الاستخدام يعود الى القرن الثالث الهجري، يوم تأثرت اللغة العربية سلبا باللغات الدارجة والأجنبية بفعل توسع دائرة الإسلام الى غير العرب. ومن ذلك قول ابن المتوج احمد بن عبد الله البحراني (ت 820 هـ) من الوافر تحت عنوان "هل تحل لكم دمائي"، منشدا على لسان الإمام الحسين (ع) وهو يخاطب جيش يزيد بن معاوية في كربلاء المقدسة: ألا نوحوا عليه وقد أحاطت ** به خيلُ البُغاة الأشقياءِ ألا يا قومُ أنشُدُكُم فرُدّوا ** جوابي هل يحلُّ لكم دمائي وَجَدِّي أحمدٌ وأبي عليٌّ ** واُمّي فاطمٌ ستُّ النساءِ وينتقد المحقق الكرباسي هذا الاستخدام، ويرى أن: "الاعتذار عنهم، بأن الضرورة الشعرية ألجأتهم الى ذلك غير مقبول..".
مظاهر متميزة مع وجود مثل هذه القواسم بين القرنين الثامن والتاسع، فان القرن التاسع تميز عن غيره بظواهر عدة، أهمها: أولا: حضور الشاعر: فقد التزم شعراء القرن التاسع بذكر أسمائهم في نهاية كل قصيدة، وبذلك يكونون قد أسسوا لمرحلة جديدة من النظم قائم على إمضاء الشاعر القصيدة باسمه. ومن ذلك من المنسرح، قول علي بن حماد الأزدي المتوفى حدود 900 هـ، تحت عنوان "بهم شرفنا": أنا ابنُ حمّادٍ الشجيُّ لكم ** عيني على الخدِّ تسكُبُ المُزُنا أرثي النبيَّ المُصطفى وعِترَتَهُ ** لا أبتغي في مديحهم ثَمَنا سوى جِنان النعيمِ أسكُنُها ** طوبى لِمَن في نَعيمها سَكَنا لا قدَّسَ اللهُ أنفساً عَضَدَت ** آل زيادٍ الكلابَ نَسلَ خَنا وربما يعكس هذا الإمضاء حضورا أدبيا للشاعر يمنع الآخرين من السرقة، في زمن شح الشعر والشعراء، وربما يعكس حالة من الانفراج السياسي بما يجعل الشاعر في مأمن فيعمد الى التوقيع على القصيدة، أو ربما هو من باب التحدي للحكومات التي كانت تعاقب المسلمين على الولاء لأهل البيت (ع). ثانيا: وحدة الغرض: ومع ان النهضة الحسينية ذات أبعاد كثيرة، لكن الملاحظ على شعراء هذا القرن أنهم استغرقوا كثيرا في نظم قصائد الرثاء المحض حيث استأثرت 34 قصيدة من بين 44 قصيدة، مما يدل: "أن طابع الحزن قد استولى في هذا القرن على المجتمع الإمامي بشكل عام". ومن ذلك القصيدة اللامية من 106 أبيات من بحر الطويل، تحت عنوان "لقد سيط لحمي في هواكم" من إنشاء الشاعر محمد بن عبد الله السبعي (ت 815)، ينشد فيها مضمّنا قول الإمام الحسين (ع): سأبكي عليه يومَ أضحى بكربلا ** يُكابِدُ من أعدائه الكربَ والبلا وقد أصبحت أفراسُهُ ورِكابُهُ ** وقوفا بهم لم تنبعث فَتَوَجَّلا فقال بأي الأرض تُعرَفُ هذهِ ** فقالوا له هذه تُسمّى بكربلا فقال على اسم الله حُطّوا رِحالَكُم ** فليس لنا أن نستقلَّ ونَرحلا ففي هذه مُهراقُ جاري دمائنا ** ومُهراقُ دمعِ الهاشميّاتِ ثُكَّلا ثالثا: التضمين: وهذه ظاهرة يمكن ملاحظتها بسهولة، إذ توجه الشعراء الى تضمين قصائدهم بأشعار الماضين أو المعاصرين، فمنهم من ضمّن أبيات عدة، ومنهم من ضمّن البيت الواحد، ومنهم بشطر بيت، ومنهم من ضمّن المعنى دون الألفاظ بذاتها. ومن ذلك قول حسن بن راشد الحلي في قصيدة من 117 بيتا من البسيط تحت عنوان "الجوهر النبوي" يقول فيها: يا مَن يرى أنه يُحصي مناقبَ أهـ ** ـل البيت طُرّا على التفصيل والجَمَل لقد وجدتَ مكانَ القولِ ذا سِعَةٍ ** فإن وجدتَ لساناً قائلاً فَقُلِ أو لا فَسَل عنهمُ الذِّكرَ الحكيمَ تجد ** في طلعةِ الشمسِ ما يُغنيكَ عَن زُحَلِ والبيتان الأخيران تضمين لقول أبي الطيب المتنبي احمد بن الحسين (ت 354 هـ): خُذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ** في طلعة البدر ما يغنيك عن زُحلِ وقد وجدت مكان القول ذا سعة ** فإن وجدت لساناً قائلاً فَقُلِ رابعا: مدح الشاعر لنتاجه: ليس من عادة الشاعر ان يكيل المديح لشعره، فالأمر متروك لغيره في تقييم شعره غثه من سمينه، ولكن شعراء هذا القرن غلب عليهم المدح لنتاجاتهم. ومن ذلك قصيدة بائية من الطويل في 54 بيتا في رثاء الإمام الحسين (ع) للشاعر محمد بن عبد الله السبعي، تحت عنوان "يا ضيعة العمر"، ثم يأتي على مدح أهل البيت (ع)، فينشد: ولكنَّ دُرّاً فيكُمُ أنا ناظمٌ ** أسِفتُ له إذ لا يراه أديبُ أسِفتُ له فهوَ الذي في زَمانهِ ** غريبٌ وفي نظمِ البديعِ غريبُ وما عابَهُ جهلُ الورى بنِظامِهِ ** إذا لم يُعِبهُ في النّظام مُعيبُ فلو شاهدَ نظمي حبيبٌ ودعبلٌ ** لهامَ اشتياقاً دِعبلٌ وحبيبُ فالشاعر يصل به الفخر الى ان يرى نفسه في النظم أعلى مرتبة من فحول الشعر العربي أمثال أبي تمام حبيب بن أوس الطائي (ت 231 هـ) ودعبل بن علي الخزاعي (ت 246 هـ). ويحتمل المحقق الكرباسي: "ان هذه الظاهرة وجدت في ظل ظروف الشح الشعري، حيث أقدم مجموعة من الأدباء بنظم الشعر في وقت انحسر النظم والإنشاء". خامسا: انحسار الغزل والأطلال: وهما من علامات الشعر العربي في العهد الجاهلي، وهناك معادلة طردية، فكلما كثرت أبيات القصيدة ازدادت معها أبيات الغزل بما يصل الى الثلث في بعض الأحيان، كما يعد الوقوف على الأطلال من علامات الشعر العربي، ولكن القرن التاسع الهجري لوحظ فيه انحسارا في الغزل والأطلال، وتصدير القصيدة بالحكمة والموعظة والولاء والتهنئة، وبعضهم دخل في الرثاء مباشرة. ومن ذلك قصيدة ميمية من البسيط للشاعر رجب بن محمد البرسي المتوفى حوالي عام 813 هـ، تحت عنوان "تذكرت مولاي الحسين"، يقول في مطلعها: ما هاجَني ذكرُ ذات البانِ والعَلَمِ ** ولا السلامُ على سَلمى بذي سَلَمِ ولا صبوتُ لصبٍّ صابَ مَدمَعُهُ ** من الصَّبابةِ صبَّ الوابلِ الرزِمِ وعلى طُللٍ يوماً أطلتُ به ** مخاطباً لاُهيلِ الحيّ والِخِيَمِ ولا تمسكتُ بالحادي وقلتُ له ** إن جئتَ سَلعاً فَسَل عن جيرةِ العَلَمِ لكن تذكرتُ مولايَ الحسينَ وقد ** أضحى بكربِ البلا في كربلاءَ ظمي ويعتقد المحقق الكرباسي: "أن مسحة الحزن عمت كل القصائد متأثرة بأجواء الظلم والاضطهاد اللذين مورسا بحق الموالين لأهل البيت (ع)". سادسا: إبراز الواقعة وفصولها: ومن ظواهر هذا القرن ان القصائد وبخاصة الطوال منها استقل الشاعر بواقعة الطف بكل تفاصيلها، وما حصل من اعتداء على نساء أهل البيت (ع) وسوقهم أسارى الى الشام، فهي ملاحم تكرر على لسان الشعراء كل ينظر إليها من زاويته الشعرية. ومن ذلك قول ابن العرندس في قصيدة من الطويل في 104 أبيات تحت عنوان "فرجت له السبع الشداد"، يقول فيها شارحا قول الرسول الأكرم محمد (ص) في الإمام الحسين (ع): وفيه رسولُ اللهِ قال قولُهُ ** صحيحٌ صريحٌ ليسَ في ذلكُم نُكرُ حُبي بثلاثٍ ما أحاطَ بمثلها ** وليٌّ فَمَن زيدٌ سِواهٌ ومَن عمرو له تربةٌ فيها الشفاءُ وقُبّةٌ ** يُجابُ بها الدّاعي إذا مسَّهُ الضُّرُّ وذُرِّيَّةٌ دُرِّيَّةٌ منهُ تِسعةٌ ** أئمةُ حقٍّ لا ثمانِ ولا عشرُ أيقتلُ ظمآناً حسينٌ بكربلا ** وفي كُلِّ عُضوٍ من أنامله بحرُ وهذه الأبيات إشارة الى قول الرسول (ص): (إن الله تعالى عوض الحسين (ع) من قتله أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره)، والتسعة إشارة الى الأئمة التسعة من صلبه أولهم علي بن الحسين السجاد (ع) (ت 83 هـ) وآخرهم المهدي المنتظر (ع).
تمحيص شاعر يكثر في دواوين الشعر وفي الكتب الأدبية اسم الشاعر "ابن حماد"، وقد اكتنفت هذه الشخصية الأدبية الغموض، ولم يتم التثبت من شخصه واسم الأب واللقب والانتماء، فبعض يرجعه الى القرن الرابع الهجري ويصفه بأنه علي بن حماد بن عبيد – الله – بن حماد العدوي (العبدي) الأخباري البصري المتوفى حدود عام 400 هـ، وبعضهم يرجعه الى القرن التاسع الهجري ويصفه بأنه علي بن حماد الأزدي البصري المتوفى حدود عام 900 هـ، وبعضهم يرجعه الى القرن الحادي عشر الهجري ويصفه بأنه محمد بن حماد الحويزي الحلي المتوفى حدود عام 1030 هـ، ولذلك فان نتاجات ابن حماد الشعرية وقع الخلط في نسبتها الى احد هؤلاء الثلاثة. بيد ان المحقق الكرباسي استطاع بالأدلة والبراهين ان يفك طلاسم هذه الشخصيات الثلاث ويرجع كل نتاج شعري الى صاحبه، وبخاصة إرجاع الكثير من القصائد الى علي بن حماد الأزدي البصري الذي ميزه عن علي بن حماد البصري. ومن شعر الأزدي، قصيدة من الخفيف في 70 بيتا بعنوان "يا هلالاً" يقول فيها: ويكِ يا عينُ سُحّي دمعاً سَكوبا ** ويكَ يا قلبُ كُن حزيناً كئيبا ساعداني سَعَدتُما فعسى أشفـ ** ـي غليلي مِن لوعةٍ وكُروبا إن يوم الطفوف لم يُبقِ لي مِن ** لَذّة العيشِ والرقادِ نصيبا يوم سارت الى الحسينِ بنو حَر **بٍ بجيشٍ فنازلوه الحُروبا وكذلك أعمل المحقق جهده في التفريق بين شخصية الشاعر ابن راشد المتحدين في الاسم واسم الأب والموطن والقبيلة، وقد بان له ان أحدهما عاش في القرن الثامن والآخر في القرن التاسع، ولكنهما تعاصرا حيث مات الأول حدود عام 800 هـ فيما كان الثاني حيا عام 830 هـ. وبالتالي يكون الدكتور الكرباسي بتشخيص القصائد وإرجاعها الى أصحابها وكشف اللثام عن حقيقة كل شاعر قد أفاد الأدباء والمحققين والرواة وأصحاب القلم.
نافعة ومفيدة ويضعنا المؤلف في خاتمة الديوان في أجواء مشاعر وخلجات شعراء القرن التاسع من خلال تشريح بعض المقطوعات والأبيات من قصائدهم الطوال، ويخلص الى حقيقة أكدتها قوافي الشعراء على مر العصور، وهي: "أن تمني الشعراء الإشتراك بمعركة الطف الحزينة القتال مع الإمام الحسين (ع) للذب عنه والدفاع عن أهدافه بات من القواسم المشتركة بين الشعراء الموالين لأهل البيت (ع) طيلة القرون الماضية .. وبما أن البعد الزمني حال بينهم وبينها، فلذلك التمس الشعراء طريقة مثلى وذلك بالمشاركة الإعلامية وإحياء ذكرهم عبر إنشاء الشعر وإنشاده". وضمّ المصنف 30 فهرسا في أبواب متنوعة، مع قراءة نقدية كتبها باللغة الألمانية استاذ الدراسات الشرقية في جامعة فيينا (Vienna University)، النمساوي الجنسية، البروفيسور ستيفان بروخاسكا (Stephan Prochazka)، وجد فيها: "ان دائرة المعارف الحسينية مشروع ضخم لا تتحدث عن سيرة الإمام الحسين فحسب، بل تتطرق الى تأثيرات الإمام المباشرة على الآداب والفنون، ويعد ديوان القرن التاسع خطوة أخرى على طريق إنجاز هذا العمل العظيم"، وكان من رأيه أن ما قام به المصنف في هذا الديوان من خلال البحث عن القصائد في بطون المراجع والمصادر والمخطوطات وعرضها وتبويبها وشرحها وتحقيقها: "يجعلها ذات منفعة لطلاب العلوم الإسلامية، هذا ناهيك عن أهميتها من الناحيتين اللغوية والبلاغية"، كما أشار الى: "أهمية مقدمة المؤلف لهذا الجزء والتي جاءت تقريبا من ثلاثين صفحة وعن طريقها نعرف الكثير عن الشعراء وتاريخهم"، وخلص البروفيسور بروخاسكا: "ان هذا الجزء من دائرة المعارف الحسينية – على أي حال – ليس حكراً على عدد محدود من المؤلفين الشيعة، بل هو مفيد وهام بالنسبة لجميع المهتمين بالأدب الديني عموما".
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |