|
مقالات عضة الضحاك ولا خنجر السفاك خلدون جاويد الحسين بن الضحاك شاعر عظيم وأكمة شعرية منيفة، ذكره أبو فرج الأصبهاني في الأغاني قائلا أن أبا نؤآس كان يأخذ معاني الحسين الضحاك في الخمر والغزل وحب الحياة وطراواتها. فما هي هذه العضة التي مارسها الضحاك بالعنف او تمناها وهو ذلك الغض الرقيق؟ انه يقول:
صفاته فاتنة كلها فبعضه يُذكرني بعضهْ فليت لي من فمه قبلة وليت لي من خده عضه ْ
هذا الشاعر الرقيق الحسين الضحاك، ما أروعه في معانيه وفي ديباجته، بل في حريته واندياحه في عوالم الانتشاء النؤآسي، وهذه رغبته التي لم يجرّم بها أحدا، ولم يمارس بها أي نوع من أنواع العنف ضد كائن ٍ من كان، لا بل هو ذاته وسواه من عشاق الدنيا قد تعرضوا الى مضايقات وسجن واهانات وحتى قتل، لو انهم تصرفوا وفكروا بحرية. انه انطلاقة ذاتية في مراح انساني دنيوي يوفرها له مجتمع قابل للتنوع وفيه مسحة من التعارض والاختلاف. ومفهوم الحرية مطلق ونسبي في عوالم الحضارات، ومقتول وملغى ومضطهد في عوالم القبيلة والقرارات الجماعية. لكن هذا لم يمنع من ان يمارس صريع الغواني على سبيل المثال، حقه ونظرته الشخصية بعيدا عن الادلاءات الشرطية من قبل عمامة او سيف. لقد رآى الشاعر صريع الغواني – رفيق الضحاك وغيره – ان سويعات الهناء هي الحياة فدبّجها في تلخيص شعري منقطع النظير ولا شبيه له بالسحر اذ قال:
وما العمر الاّ أن تروح مع الصَبا وتغدو صريع الكأس والأعين النجل ِ
وغني عن القول بانه في قطاعات ما من مجتمعنا الحالي تطمر العيون في الأقبية والظلمات، ويقمّط الجمال في الظلام ويدفن الحُسن في مقبرة الحياة، ومن فك ضفيرتها، كما قال نزار قباني: مفقود ٌ ياولدي!. وماذا عن كأس صريع الغواني! انه مهشم ومحطم في بلد النخلة الزاهية التي طالما أكرمت العشاق والشاربين منذ زمن بابل بستة وثلاثين نوعا من الجعة! ومنها الجعة السوداء!. واليوم فنخلتنا عجفاء وحق الناس بالفرح الخيامي والانتشاء النؤآسي مهدور مهدور ياولدي. والمسألة برمتها تعود الى فعل ارادوي يعمل على اغتيال الحقوق الفردية في كل شئ، في الاختيار السياسي والوجودي والحرية الفردية. هكذا نهج وهكذا مرجعيات فكرية تغتال سعادات الناس واساليب حياتهم مستعملة لا العصا والسيف فحسب بل كل انواع ادوات القتل وسفك الدماء والتفجيرات من اجل تعميم وجهة نظر او سلوك بالقوة. يجري اغتيال ابن رشد وبشار بن برد في القرن الواحد والعشرين، يجري قتل ابي نؤآس والخيام في كل نادي ومحفل، يجري تمزيق سِفر الشاعرية لحسين الضحاك ووالبة بن الحباب وانس الخاسر. يجري في تحقيق البحوث العلمية الخوف من الاتيان بكامل ماكتبه شاعر. رغبات جامحة للقضاء على أدب الف ليلة وليلة وفكر المعري الفلسفي وشعر عبد الأمير الحصيري وحسين مردان الشاعر الشهير بديوانه الأكثر من رائع " قصائد عارية " الذي صادرته السلطة في الخمسينات من القرن الماضي لولا تدخل الأكابر من الادباء الافذاذ من مثل الدكتور صفاء خلوصي والمحامي صفاء الاورفلي وغيرهما. كل ومضة حبور وفرح وفضاء من حرية شخصية يجري دفنها. ومن أغرب الغرائب بهذا الصدد ان شاعرا كبيرا مثل محمد مهدي الجواهري قد أفاد هو ذاته معبرا عن خوفه من مجرد جلوسه في محفل جميل ليس في العراق لا! بل على بعد آلاف الكيلومترات عن العراق وأمامه كأس من البيرة وهو يقول وقد كتب مقدمة لبيتين شعريين: " نظمت عام 1962 في جلسة نادرة في مطعم منشن بروي هاوس، في ميونخ، الشهير بحفلاته اليومية المتواصلة، ورقصاته البافارية الجماعية... وكانت البيرة هي الشراب المفضل! "
أحرام ٌ علي ّ " مونخ َ " أن أشرب كأسا ً وأن اغني حياتا دون أن ابتلى بوغد ٍ وأن أخشى رقيبا ً وأن أخاف و ِشاتا؟!
نعم الخوف والنميمة ومن ثم العقاب، لكن هذا لم يمنع من ان يطلقها الجريئ والباهر عبد الأمير الحصيري الشاعر الكبير حقا وفعلا المتألق الصعلوك الخمري العملاق القائل:
أنا الإله وندماني ملائكة ٌ والحانة الكون والجلاّس من خلقوا
ان بيتا مثل هذا لايمكن شطبه من التاريخ الشعري العالمي. وحسب الشاعر المشاكس! ان ينال وسام عشرين الف (عقوبة )! وان يدخل يوتوبيا عبقر مكللا بالغار، فهو الخالد المخلد بالقول البليغ الصاعق الذي لن يمحى من ذاكرة بغداد والعراق. انه ابهى عقد شعري ماسي في متحف الكلام العراقي. نعود للضحاك، شاعر رآى العشق حسب طريقته مثلما رآه – أي العشق – الرصافي وحافظ ابراهيم واوسكار وايلد وجان جنيه ورامبو وفيرلين وشكسبير وحتى هرقل وعشرات سواهم! رآى التغزل بهذا النوع او سواه. وهنا لا تنساق هذه المقالة الى التحريم ام لا، فهي تتحدث عن ما هو في الواقع وفي اطار من الحرية الشخصية. كتب الضحاك اجمل الشعر حتى ان ابا نؤآس بهيبته قد كان يأخذ من معانيه ويصوغها شعريا. لم يمسك الضحاك خنجرا بيديه ولا غدارة ليرشق رصاصها على مخزن للأطعمة او المشروبات ولا مسدسا ليقتل حلاقا ولاسيفا ليطعن به سافرة ولا سكينا ليقتل عاشقا او عاشقة كل ما تناوله الضحاك او ابو نؤآس وسواهما هو كأس اولها يتغلغل رقراقا في نشوة وآخرها يورث الصداع والافلاس وأحيانا الندم! وبعض الشعراء انتحاريون في مدارج النشوة والسفر على بساط النجوم وتحليقة الليل في ندي الانسام وعابق السحر والشذا! هاهو ابو نؤاس الانتحاري! لا على طريقة هؤلاء البهائم من حارقي الشعوب الدمويين الدراكيولات القتلة المرتزقة مزيفي الأخلاق ومرتدي اقنعة الأديان، يقول ابو نؤآس:
وبعت قميصا سامريا ً وجبة ً وبعت رداءا ً معلم الطرفين ِ ثلاثين دينارا ً جيادا ذخرتها فأفنيتها حتى شربت ُ بدين
انه يرهن ثيابه كلها بما فيها هدايا الخلفاء العباسيين. انه عنيف نعم لكن ازاء ذاته ومن اجل ليل مسرة وفرح بمكان مغاير لقرف الواقع وجفاف الحياة اليومية. هذا العنف مارسه الحسين الضحاك لكن لم يكن لا هو ولا ابو نؤآس ولا صريع الغواني ولا سواهم يمت بأي صلة الى العنف الدموي والارهاب الفكري. انهم على العكس يمثلون نشدان الخروج من ضغط الكوابح والممنوعات الى التنفس في فضاء بلاحدود، الى تجاوز السائد نحو المتفرد والغريب والجديد، وأيضا ان لا يَستنسخ أحدهم سواه ولايُستنسخ به، انهم حالة قائمة بذاتها من الرأي والسلوك بما لايتقاطع مع سلامة الآخرين أو خياراتهم.. انهم عالم يتغنى بذاته.. قال الضحاك:
اشرب الراح بأرطال ٍ... وطاسات ٍ وجامْ إنما الدنيا كوهم ٍ........ أو كأحلام منام ْ كل شيء ٍ يتوفى....... نقصُه عند التمام ْ
وفي مكان آخر، وهو يدعو الى الفرح بالحياة والالتذاذ بها قبل ان يتصرم الزمان، ومادامت حوادث الدهر بعيدة عنا:
أقول لصحب ٍ ضمّت الكأس شملهم وداعي صبابات الهوى يترنمُ خذوا بنصيب ٍ من نعيم ٍ ولذة ٍ وكل ٌ وان طال المدى يتصرم ُ ألا إن ّ أهنى العيش ما سمحت به صروف الليالي والحوادث نو ّمُ
ازاء رأي في العيش مثل هذا، غريب على بعض وليس كذلك على البعض الآخر، تجري الحياة بغثها وسمينها، لكن يبقى العاشق هو المذبوح دائما والجلاد الدكتاتور المهيمن هو القاتل وهل يستوي فعل هذا بفعل ذاك؟. انهم يمنعون ويمنعون ولو كان بمقدورهم قتل حتى البلابل والعصافير لأنها تغني وتلهم الرومانس وحرق الورود لأنها ربما تثير الرغبة وتذكّر بشفاه المرأة!، ويمنعون الضوء لأنه ربما يشغل بأطيافه عما يريدون لعيون الناس من أقبية وكهوف. يظل رأي الضحاك حقا مشروعا بالنسبة له، وليس للآخرين الملتزمين، وهذا لايمنع من وجود مناطق وسطى لا هي متحررة من الالتزام ولا هي ملتزمة بعيدة عن التحرر اياه. هناك من يسهم بحكمته في الحياة ويفرح لما يقتنيه من طرائق السلوك او تبني الرأي ولا أدل على ذلك من قول أحد الفلاسفة:
بزجاجتين قضيت ُ عمري وعليهما عوّلت ُ أمري فزجاجة مُلئت ْ بحبر ِ وزجاجة ملئت ْ بخمر ِ فبذي ادوّن حكمتي وبذي ازيل هموم صدري.
واذ نعود الى عضة الضحاك الملام عليها في فعل المحبة، نورد كل ما قاله نابعا من الذات البشرية العاشقة المتغزلة المداعبة:
وابأبي أبيض في صفرة كأنه تبرٌ على فضه جرّده الحمام عن درة ٍ تلوح فيها عُكُن ٌ بضه غصن ٌ تبدى يتثنى على مأكمة ٍ مثقلة ٍ النهضه كأنما الريش على خدّه ِ طل ٌ على تفاحة ٍ غضه صفاته فاتنة ٌ كلها فبعضه ُ يذكرني بعضه ياليته زوّدني قبلة ً أو لا فمن وجنته عضه.
هؤلاء يقولون، ويهيمون لكن القول لوحده قابل للدحض، فالتبذل والخمر وحتى الغزل في اختلاف النصوص والآراء محط مساجلة، لكن الاختلاف الشاذ الوحيد في طبيعته العنيفة هو انك تمارس سحق الآخر في اختياراته ومنعه من ابداء رأيه، وأن تضع على رأسه خنجر السفاك ليحذره بأنه لوخرج عن سكة مرسومة له ومتعارف عليها في الأمس " في ديموقراطية الأمس "! فانه لا محالة أي العنق، الى سفح العدم والمسلخ الدموي الذي هو الاسم الثاني لكل تطرف مُقنن وتشدُد مرسوم والى الأبد. ان الكثير من النتاج الأدبي الغزلي والتأملي الفلسفي هو محط امتعاض المتشددين الذين يتمنون ان يمزقوه. ان التشدد محرقة الحرية. وسيبقى هناك على مذبح الحرية دم العنقود بجانبه خنجر السفك، هذا يريد الانطلاق الى الذرى السقراطية والباخوسية! وهذا يجرجره الى العقل والالتزام وفق مفهوم الأخير في الحرية. والى ان تخرج المعضلة هذه من عنق الزجاجة سيجري دم البشر في غير محله. ويظل الاختيار حالة حضارة والتربية الصحيحة في التوازن والعدالة في ذوق الآخرين وعدم التدخل فيما لايعنيني هو القيمة الأرقى لتقدم الناس وانني بالقدر الذي لا اسمح به لنفسي تمزيق زهديات ابن الرومي فاني لا اعطي الحق لنفسي بحرق خمرياته. قال ابن الرومي في الخمر:
خلّ ِ الزمان اذا تقاعس أو نجح واشكُ الهموم الى المدامة والقدح واحفظ فؤآدك إن شربت ثلاثة ً واحذر عليه أن يطير من الفرح ْ هذا دواء ٌ للهموم مجرب ٌ فاسمع نصيحة حازم ٍ لك قد نصح ْ ودع الزمان، فكم نصيح ٍ حازم ٍ قد رام اصلاح الزمان فما صلح ْ
لإبن الرومي رأي ولنا رأي، وبالرأيين وسواهما تتقدم الحياة مادامت متوازنة وبدون قمع لأن الأخير يورث مثيله والعنف يوجب العنف، وبذا يدخل الزمان في دائرة من الدم، ومخططات السفاك تهون معها عضة الضحاك!. ولو كان للشعراء بيت قريب لجادوا عليك بفستق وزبيب، وباقة ورد وشموع وقناني نبيذ وموسيقى حالمة وجلسوا لسويعات هناء يتسامرون مع حبيب طيب له ذوق في الكلام واصول في المُدام.
* * * * * * *
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |