|
مقالات محنة أطفال العراق .. "عبّودي" قرطبة الظاهر يُقابل فندق الشيراتون ـ الواقع على شارع أبي نؤاس على ضفاف نهر دجلة ـ ... يُقابله فندق فلسطين الشهير الذي كنا من مهجرنا نشاهد الإعلاميين على شاشات التلفاز يتبارون فيما بينهم ومن فوق أسطحه العالية لنشر الاخبار الطازجة من مناطق الحرب الساخنة وإجراء اللقاءات الصحفية مع آخر وزير للاعلام والدعايات المضادة محمد سعيد الصحّاف. عندما كنت في المهجر كنت أتساءل هل سوف أعود للعراق ثانية ً؟ هل سوف أرى هذا الفندق فعلا؟ نعم، عدتُ بعد أربعة أشهر من دخول قوات التحالف مدينتي الحبيبة ومسقط رأسي بغداد. كنت أصطحب في ذاك اليوم وفداً أتى من المانيا في زيارة لكشف الحقائق السياسية على أرض الواقع العراقي والتحدث مع الاحزاب والشخصيات ذات الصلة في كل ما يمس النظام السابق و الحاضر. كان المُدخل الذي يبعد عن بوابة فندق الشيراتون بما يقارب 300 مترا، كان مكتظاً برجال التفتيش والحماية الشديدة وكانت هناك عربات مدرعة ودبابات تصطف على عدة جهات من المدخل تابعة للجيش الامريكي. كان الامريكيون جالسين على كراسيهم يحتمون من شدة الحر بظلال أشجار الكالبتوز الموزعة في كل مكان في شارع أبي نؤاس. كانت شامخة وجذوعها غليضة وكانها لا تبالي بكل ما عصف في محيطها من هدم وخراب ودمار. لاحظت طفلا جالسا مع صديقه الصغير على حافة رصيف المدخل يتمعن سيارتنا البرتقالية اللون وأمامه سطل من الماء وقطع من القماش وإسفنجة. بعد تفتيش دقيق لسيارتنا في المدخل واصلت الحركة حتى بوابة الفندق. عند نزولي من السيارة شاهدت هذا الطفل يتوجه عَجِلاً نحو السيارة وصاحبه الصغير ينادينه: "عبودي إنتظرني". أيقنت بأنَّ الطفلين يريدان غسل السيارة. طلبت من سائقنا أنْ يرفض عرضيهما لغسيل السيارة واوصيته أنْ يعطي كلا منهما 10 دولارات. أدرت وجهي لاتوجه نحو الفندق وإذا ذات الطفل، عبودي، يقف أمامي رافعا نحوي رأسه الصغير والشمس الحارقة تضرب كل صفحات وجهه الجميل الاسمر اللون. سالته: "شنو إسمك حبيبي؟" إرتسمت فجأة ابتسامة كبيرة على وجهه. لربما لم يحتضن أحدٌ قلب هذا الطفل المحروم ليملأه حبا وحنانا ودفئا. كان يرتدي قميصا قطنيا يميل إلى السواد من شدة وساخته وقد كان لونه أصفرَ حين ارتداه أولَ مرة. ربما كان هدية من أحد أقربائه او أمه او صدقة من الجامع أو من الحسينية!! لقد كان ممزقا من الكتف. ربما كان هذا التمزق ناتج عن مشاجرة مع احد المتسولين الاكبر منه سنا...كانت ساقاه مغطاتين بقطعة بنية اللون شبيهة بالبنطلون. وبسبب تلف ووساخة البنطلون اصبح الامر صعب علي َّ تشخيصه. كان الطفل حافي القدمين. أجابني وبصوت تملأه البراءة:" إسمي عبودي خالة". "هل هذا اسم الدلع ام إسمك الحقيقي؟" أجابني:"لا خالة، امي تسميني عبودي ...آني عبد الله" "واين امك الان؟" أجابني:"أمي بالبيت يم إخواني" "ولِمَ انت وحدك في هذه الظهيرة في الشارع؟" أجابني:"ما كسبتُ شيئاً بعدُ . .." دهشت لهذا الجواب وسألته: "ماذا يعني ذلك؟ لم أفهم" أجابني:"أمي ما تخليني ارجع للبيت إلا وآني بيدي فلوس" لم اكن اعلم بان الام العراقية اصبحت قاسية لهذه الدرجة بحيث لا تسمح لطفل صغير بالعودة إلى بيته لتناول على الاقل وجبة من الطعام. عندما كنت منشغلة في تفكيري أكمل عبودي قصته قائلا: "خالة احنة 6 اخوان تلاثة منهم اصغر مني، ابوية مات لانه كان مريض وامي ما تشتغل لذلك آني واخواني الاكبر مني لازم نشتغل ونساعد امنا وإذا ما نشتغل ما نعرف من شنو نعيش..آني لازم كل يوم اجيب فلوس مثل اخواني حتى امي تروح للسوق وتشتري أكل النا. آني وصديقي رضا نغسل سيارات ونحصل شكم فلس. احنا ما نطلب فلوس من احد، اللي ينطوه النا احنة نكول الحمد لله والشكر...لكن إذا ما اكسب شي ما اكدر ارجع للبيت امي تضربني. لذلك آني لي هسة بالشارع....خالة, اغسللكم سيارتكم؟" أحزنتني قصة عبودي كثيرا ولكن في نفس الوقت شعرت بأني أكنُّ له كل الاحترام، هذا الانسان الشجاع المكافح الباسل الذي لم يقبل ممارسة مهنة مهينة اخرى كشحاذ او نشال. إنه يعمل ليجمع المال الكافي لاطعام امه واخوته. ويعتمد قوته على سطلة ماء وقطع من القماش واسفنجة. إنه مثل شجرة الكالبتوز صبور قنوع ومقاوم. أعطيت كلا من عبودي وصديقه رضا عشرة دولارات وأمرتهما بالعودة إلى بيوتهم. "من أية منطقة أنتما؟ سألتهما " أجابني عبودي:"إحنة من مدينة الصدر خالة...آني عمري صار ست سنوات واريد هاية السنة ادخل الصف الاول .. لكن امي ما تخليني تريدني اشتغل واعيش اخواني". ودّعتُ الطفلين وقلبي ممزق من الحزن والالم عليهما لادخل باحة الفندق المبردة والراقية ولاودِّع الوفد النزيل في الشيراتون. كل فكري واحساسي مع هذين الطفلين. كيف سيواجهان المستقبل المجهول؟ من هو محامي هذين الطفلين وهما يواجهان قساوة الحياة في مدينة أصبح أهلها مثل الذئاب يفترس بعضُهم بعضاً بلا شفقة ولا رحمة من أجل البقاء؟ هل سيصلان بيتهما بسلام في وضع لا يعرف السلام؟ ركبت مع سائق السيارة وتركنا الفندق وراءنا للعودة إلى البيت مارين بوزارة الاتصالات التي سوف نقوم بزيارتها في صباح اليوم التالي. لم أنسَ صورة وجه هذا الطفل الجميل المليئ بالتفاؤل والبراءة. في صباح اليوم التالي، إذ توجهتُ والسائق إلى فندق الشيراتون مرورا بوزارة الإتصالات، لمحتُ سعادة الوزير القصير القامة نازلا من سيارة كبيرة ذات الدفع الرباعي زجاجها أسود اللون يرافقه عدد كبيرٌ من افراد الحماية المدججين بالسلاح. تقدمت سيارتنا من المدخل الذي يؤدي إلى الفندق وإذا بي ادهش وأصيح باعلى صوتي: "مو معقول!!!" عبودي ورضا وآخرون نائمين كالملائكة على ورق من الكرتون في وسط الشارع وتحت نافذة سعادة وزير الاتصالات الجديد.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |