|
مقالات التحقق من آراء المستشرق البريطاني مارجوليوث في اللغة العربية والشعر الجاهلي الدكتور خالد يونس خالد- السويد / باحث وكاتب صحفي تمهيد هذه الدراسة تدقيق وتحقيق لبعض الآراء التي طرحها المستشرق البريطاني اليهودي دافيد صموئيل مارجوليوث (1) في نقد الشعر الجاهلي وإنكاره من زاوية دراسته للغة العربية والقرآن الكريم. مستهدفا الطعن بصحة الشعر الجاهلي الذي يعتبر واحدا من أهم مصادر اللغة العربية إلى جانب القرآن الكريم. وعليه لابد من الإشارة إلى أفكار وأطروحات مارجوليوث قبل التحقق من صحتها طبقا للأسس المنهجية والعلمية في الدراسة والتحليل. ومن هذا المنطلق، نؤكد في بحثنا على المنهج الاستقرائي بطرح مجموعة من الأفكار والمعطيات الجزئية لنصل إلى فكرة كلية وهي مدى صحة الشعر الجاهلي كأساس من أسس اللغة العربية الفصحى. ومن جانب آخر نطرح فكرة مارجوليوث الأساسية (الاستنباط أي إنكاره للشعر الجاهلي) من زاوية انطلاقه من الأسباب الدينية، ولا سيما القرآن الكريم، كمصدر لا شك فيه، ونستقرء تلك الفكرة من خلال تحليلنا بطرح مجموعة من البيانات الجزئية في تحقيقنا لأفكاره لنصل إلى جوانب كثيرة تؤكد درجة صحة الشعر الجاهلي، مشيرا إلى المصادر والآراء المختلفة في كل من الفكر العربي والفكر الأوربي. ومن أجل أن نفهم النقاط المطروحة للبحث لابد من فهم الدلالات المختلفة لمفهوم اللغة ومعانيها المختلفة ووظائفها، وعلاقتها بالفكر وإشكالية هذه العلاقة، ودرجة تلاحم بعضهما البعض، أواستقلالية كل منهما عن الآخر.
اللغة من أكثر تعاريف اللغة تداولا هو أنها "نظام رمزي يستعمل للاتصال بين بني البشر. يتكون هذا النظام من عناصر متناسقة أصغرها الأصوات وأكبرها الجمل والعبارات" (2) وتؤدي اللغة في المجتمع، طبقا لوجهة نظر الأستاذ عمر لحسن في دراسته "لا اللسانيات والترجمة"، وظيفتين متميزتين: وظيفة آنية باعتبارها أداة للتواصل بين أفراد المجتمع ونقل الدلالات إلى المتلقي، ووظيفة زمانية تاريخية باعتبارها وسيلة لحفظ تراث المجتمع العلمي والفني والثقافي، ونقله إلى الأجيال المتعاقبة. ونظراً إلى هذه الأهمية التي اكتسبتها اللغة، فقد حظيت باهتمام الباحثين والعلماء عبر العصور، وأدى هذا الاهتمام إلى ظهور علوم لغوية متعددة ومتنوعة شملت جميع مستويات اللغة، منها علم الأصوات، وعلم النحو والتركيب، وعلم الصرف، وعلم الدلالة... الخ كما ظهرت مدارس متنوعة ونظريات متميزة، ساهمت كلها في إثراء البحث اللساني عبر التاريخ. درس الأستاذ الكلعي في أطروحاته الفكرية والفلسفية موضوع اللغة، من الدلالات إلى الإشكالية، كما ربط اللغة بالفكر. وذكر أن للغة معنيين، المعنى الخاص: وظيفة التعبير الكلامي عن الفكر داخليا وخارجيا. والمعنى العام: كل نسق من العلامات يمَكن من التواصل .لغة ذاتية وموضوعية فردية واجتماعية فطرية ومكتسبة، كما أنها أداة لإنتاج الفكر وتبليغه في نفس الوقت. وإشكالية العلاقة بين اللغة والفكر تحتمل افتراضين؛ إما أن نعتبر أن كلا منهما يوجد باستقلالية عن الآخر وهذا الموقف عند الفلسفة الكلاسيكية ولا سيما موقف الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكـارت وموقف برجسون. وإما أن نعتبر أن العلاقة بينهما علاقة تلاحم وتداخل بحيث لا يمكن أن نفصل أحدهما عن الآخر، وهذا الموقف نجده لدى الفلاسفة المعاصرين واللسانيات الحديثة. وتتخذ إشكالية العلاقة بين اللغة والفكر الصيغة التالية: هل للفكر وجود سابق على اللغة؟ أو أن الفكر واللغة متلازمان؟ بحيث لا يمكن أن نفصل أحدهما عن الآخر. هناك موقف في الفلسفة المعـاصرة واللسانيات الحديثة تؤكد أن الفكر لا وجود له إلا في شكل لغوي، ولا وجود للغة خالية من المعنى و الدلالة. هذا الموقف نجده عند دي سوسير وإيميل بنفنسن ومرولوبوتي وكريستيفا، إلا أن كلا منهم يدافع عن هذا الموقف من زاوية خاصة. فبالنسبة (لدي سوسير) يعتبر أن العـلاقة بين اللغة والفكر هي علاقة تلاحم و تداخل ويشبه هذه العلاقة بوَرقة العملة النقدية، بحيث لا يمكن تمزيق الوجه الأول دون أن يتمزق الوجه الثاني. أما مرولوبوتي، فينظر إلى العلاقة بين اللغة والفكر من زاوية أخرى: علاقة اللغة بكل من الفكر والكلام، فلا وجود لفكر قبل اللغة، إنهما متزامنان ففي الوقت الذي يصنع فيه الفكر اللغة فإن اللغة تحتوي معاني ذلك الفكر وينتقد الموقف الديكارتي الذي يفصل الفكر عن اللغة، فاللغة في نظره لا يمكن أن تكون أداة للتعبير عن الفكر وما يدل على ذلك هو أن التفكير في صمت هو في الواقع ضجيج من الكلمات، فالتفكير الداخلي هو لغة داخلية (3) .
اللغة والنقد الأدبي نستنتج مما ذكرنا أعلاه أن اللغة وعاء الفكر والثقافة الإنسانية. أما النقد فهو "فن تمييز الأساليب" (4) ويعتبر "في المحيط الانساني نشاطا عقليا هدفه التمييز بين ما هو جيد وما هو رديء. وما هو جوهري وما هو تافه. وعليه فالنقد هو عملية كشف الحقيقة من الباطل، والصحيح من الخطأ، وهو تحرير العقل من قيد التقليد ومن اللامبالاة لبيان ما هو مفيد ونافع" (5) . بهذا المعنى فالنقد كما عبر عنه ميشال عاصي "نوع من أنواع النشاط النظري في الأدب، قوامه البحث في نشاطات الانسان أية كانت، نظرية أو عملية، في الأدب أو في واقع الحياة، ابتغاء التحليل والدراسة، وبيانا لمواضع الخطأ والصواب، استنادا لوجهة نظر الناقد ومقاييسه ومفاهيمه" (6) . ولكن في كل الأحوال ف "النقد لغة تنكب على اللغة. واللغة بطبيعتها تحمل معها قوانين فهمها التي يتفق على اختزانها وتمثلها كلّ من المتكلم والمستمع. ولأنه لغة تحتال لفهم آلياة لغات أخرى، فهو يرتبط، دون شك، بهذه اللغات الأخرى أيضا، وهذا يعني أن الخطاب النقدي هو خطاب متصل بخطابات أخرى، وبظروف إنتاج معينة تهيمن على هذه الخطابات المجاورة له. وعملية المجاورة بين الخطابات وظروف الانتاج المهيمنة عليها هي ما نسميه بالفضاء النقدي" (7) .
العلاقة الدائرية بين اللغة والتاريخ والفكر هناك علاقة ثلاثية دائرية تفاعلية بين اللغة والفكر والتاريخ (8). فإهمال العلاقة بين هذه العناصر الثلاث يؤدي الى الفوضى في اللغة العربية في مواجهة الخطاب السياسي الديني والحداثة الفكرية على السواء بشكل يسيء استعمال المصطلحات أو فهمها. هناك متحزبون يأخذون من الخطاب السياسي الديني وسيلة لتكفير الذين لا تتفق آراؤهم مع آراء حزبهم، ويرفضون الحوار العلمي ويهملون تطور اللغة والفكر الذي حصل بسبب التطور السياسي والاجتماعي. وهناك في الجانب الآخر حداثيون مغتربون يقتبسون من الخارج بشكل لاعقلاني ولاعلمي متجردين من العوامل التاريخية والتطور الفكري للغتهم. وهذا قد يؤدي الى اساءة فهم كثير من المصطلحات التي يجب دراستها قبل استعمالها في اللغة الجديدة.
آراء مارجوليوث في اللغة العربية والشعر الجاهلي يعتبر دافيد صموئيل مارجوليوث أحد أكثر المستشرقين الغربيين راديكالية بالمقارنة مع أرش بروينلش وفرتس كرنكوف وتيودور نيلدكه وفلهلم ألفرت في الشك بصحة الشعر الجاهلي. وقد خطا مارجوليوث خطوة واضحة وجريئة ومتطرفة في دراسته بعنوان: The Origins of Arabic Poetry: Journal of the Royal Asiatic Society. July 1925, pp.417/449. استفاد مارجوليوث من نتائج النقوش الحميرية والعربية الجنوبية. المهم في بحثه أنه ركز على الأسباب الدينية التي أدت إلى انتحال الشعر الجاهلي (9) . وتساءل أن بعض أهل مكة من الذين يُفترض أن يعرفوا الشعر، ظنوا أن ما يوحى إلى محمد عليه الصلاة والسلام كان شعرا. يبدأ مارجوليوث دراسته ببعض الآيات القرآنية عن الشعر والشعراء فيقول: "يشهد القرآن على وجود شعراء في جزيرة العرب قبل بزوغ الإسلام. ففيه سورة مسماة بإسمهم، وفيه إشارات عابرة إليهم في مواضع أخرى. ومن بين الأوصاف التي أطلقها خصوم النبي محمد عليه وصفه أنه "شاعر مجنون" (الصافات: 25)، وقد رد عليهم بأنه إنما "جاء بالحق" وفي موضع آخر (الطور: 29) يصفونه بأنه "كاهن" أو "مجنون" أو "شاعر". ولما كان الذين وصفوه بأنه "شاعر نتربص به ريب المنون" (الطور: 30)، فيمكن أن نستنتج من هذا أنه كان من عادة الشعراء التنبؤ بالمستقبل. وفي موضع آخر يؤكد أن لغته ليست لغة شاعر بل "قول رسول كريم" (الحاقة: 40-41)، وأن الله لم يعلمه الشعر "وما ينبغي له، إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين" (يس: 69) ومن هذا ينبغي أن نستنتج أن الشعر كان كلاما غامضا غير مبين. وهذه الإشارات إلى الشعراء تتلخص في السورة التي تحمل أسمهم (الشعراء: 224 وما يتلوها) وفيها يرد أن "الشعراء[كذا] تبعهم [كذا] الغادون [كذا] ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون" (10) . [لم ينقل مارجوليوث جميع الآيات بأمانة. ينظر: الهامش، نص الآيات من القرآن الكريم] (11) . يتساءل مارجوليوث لو افترضنا أن هذا الأدب صحيح، فكيف حُفظ؟ ثم يجاوب على تساؤلِه بأنه حُفِظَ إمّا شفاها أي بالرواية الشفهية، وإمّا بالكتابة. ويتفق العلماء العرب الذين يسميهم مارجوليوث ب "الأثريين المسلمين"، أن الشعر الجاهلي حُفِظَ بالرواية الشفهية. لكنه لايوافق على هذا الرأي لأنه لم يكن هناك أفراد إتخذوا حِفظَ الأشعار مهنة لهم. كما أن القرآن كان قاسيا على الرواة والشعراء، طبقا للآية 224 من سورة الشعراء ((والشُّعَراء يتبعهم الغاوون)). هذا إضافة إلى أن الإسلام دعا إلى وحدة العرب في الوقت الذي كانت القصائد القديمة تُمَجدُ انتصارات القبائل (12) . ولهذا يرى مارجوليوث أن القصائد القديمة قد حُفِظَت بالكتابة، وإن احتمال تسجيلها كتابة يصبح احتمالا قويا. وبعد ذلك يرجع مارجوليوث إلى نزعة الشك فينفي كتابة الشعر الجاهلي. وأنه يعتمد في نفيه على آيات قرآنية مدَّعيا أنّ فيها أمثلة على كثير من أوزان الشعر كما فيها نثر مسجوع. ويدعم مارجوليوث رأيه بعدم كتابة الشعر الجاهلي مستشهدا بأن القرآن يسأل أهل مكة ((أم لكم كِتاب فيه تدرسون)) (13). ويتساءل القرآن عن معارضيه ((أم عندهم الغيبُ فهم يكتبون)) (14) . ويقول بأنه لم يكن للوثنيين كتاب، وأن القرآن أشار أن الكتاب السماوي قبل نزول القرآن كان لأمتين فقط، وهما الأمة اليهودية والأمة المسيحية ((أن تقولوا إنما أُنزِلَ الكتابُ على طائفتين مِن قبلِنا وإن كُنّا عن دراستهم لغافلين)) (15) .ويقول بأنه من الصعب أن نفترضَ أن القرآنَ أخطأَ في هذه المسألة (16) . ويصل مارجوليوث إلى نتيجة مفادها أن الشعر الذي يُقالُ أنه شعر جاهلي جاء في مرحلة تالية للقرآن، وليس في مرحلة سابقة عليه، لأنه مشابه لأسلوب القرآن، وأن القرآن هو أول نص بلغة عربية واحدة (17) .
التحقق من آراء مارجوليوث من خلال قراءتنا لآراء مارجوليوث نجد أنه جعل القرآن الكريم مرجعا لتأكيد الشك بالشعر الجاهلي بغض النظر عن إيمانه أو عدم إيمانه بالقرآن. إن التحقق من آراء مارجوليوث يقودنا إلى أنه انتقى آيات قرآنية معينة بشكل مجرد، دون الإشارة إلى آيات قرآنية أخرى تشير إلى العوامل التي أثرت في اللغة العربية لتكون بالشكل الذي روي أو كتب به الشعر الجاهلي. فقد نسي مارجوليوث بأن القرآن ذكر بوجود علاقات تجارية واقتصادية بين القبائل العربية والأمم الأخرى التي أثرت في اللغة واللهجات العربية، طبقا للآية الكريمة ((لإيلاف قريش إيلافِهِم رِحلةَ الشِتاء والصيف)) (18). قال مارجوليوث بأن الشعر الجاهلي يتضمن ألفاظا دينية اسلامية، واعتبر الأبيات الشعرية التي وردت فيها كلمات قرآنية هي أبيات شعر إسلامي. لكن الباحث الإسلامي (محمد الخضر حسين) نقل عن المستشرق ليال Lyall رفض هذا الإدعاء. فيقول المستشرق ليال في ملاحظته على شعر الشاعر (عمر بن قميئة) مثلا بأنه "يجب علينا أن نفحص موضع البيت من القصيدة لنعلم صلتها بأقول الشاعر المنسوب إليه" (19). ثم يقول "ليس من الممكن أن أذكر على المواقع التي ذكَرها مارغليوث [كذا] وقال إنها إسلامية، فللإنسان أن يدققها ويفندها" (20). كيف يمكن رفض الشعر الجاهلي وهناك أحداث كثيرة تجعل المرء يتيقن من أن صدق العاطفة في كثير من الشعر الجاهلي لايمكن أن يصطنع؟ وإنه من المستحيل أن يستطيع شاعر أو راو أن ينحل شعرا بأسم (الخنساء) مثلا، معبرا عن تلك المشاعر وتلك العاطفة الجياشة التي عبرت عنها الخنساء في قصائد رثاء أخيها وأولادها الأربعة. وقد خرجت تلك الكلمات من روح أحرقتها تلك المأساة العظيمة في فجيعتها بمقتل أحب الناس إليها (21). يُفَنِدُ المستشرق أرش بروينلش Erich Braunlich نظرية مارجوليوث ويقول بأنه بسبب ثراء اللغة العربية بالمترادفات يجد المرء عددا كبيرا من اختلافات الرواية الشفوية في الشعر الجاهلي. وبسبب التقيد الكتابي وما في الخط العربي من عيوب ازداد الأمر سوءا. لقد نشأت غالبية القصائد الجاهلية بعقود قليلة سابقة لظهور الإسلام (22) . وأعاد بروينلش إلى الأذهان بعض الأفكار التي طرحها مارجوليوث والتي تستند إلى النقاط التالية: "1. العلاقة بين النقوش والأشعار. 2. العلاقة بين القرآن والأشعار. 3. الثقة في الرواة. 4. مضمون الشعر الجاهلي" (23). ويعلق بروينلش على نظرية مارجوليوث بقوله، أنه على الرغم من الصعوبات في فهم النقوش العربية الجنوبية فإنها لم تكن موزونة في الأقل بسبب البحور المألوفة في الشعر العربي. وأن حضارة هذه النقوش كانت أرفع من حضارة البدو الذين قالوا هذا الشعر. وحين إحتج مارجوليوث بأنه كيف يمكن أن يكون للبدو هذا الشعر دون أن يكون للمتحضرين في الجنوب، قال بروينلش بأنه رغم اختلاف الزمن فإنه ليس من المستبعد ازدهار ملَكة فنية لدى أقوام ذوي حياة بدائية. على سبيل المثال النقوش الصخرية الرائعة في العصر الحجري القديم في أوربا. ويؤكد بروينلش أن دول الجنوب لم تشارك في الثقافة المشتركة لشعر البدو لذلك جاءت لغة الشعر العربي مختلفة عن سائر لهجات الجنوب. كما يمكن القول بإمكانية مشاركة بعض الأفراد في هذا الشعر إذ أنَّ كثيرا من العرب في الجنوب كانوا يتكلمون لغتين إثنتين (24). ويرد بروينلش على مارجوليوث بأنه يمكن تفنيد الرأي القائل أن الشعر الجاهلي مكتوب بلهجة القرآن إذا أدرك المرء إمكانية أن تجتمع اللهجات العربية الشمالية العديدة في لغة عالية (25) . وتظهر الفروق بوضوح "لو أننا رسمنا الشكل في كل حالة بعلامات صوتية وليس فقط بالأشكال الثلاثة (الفتحة، الضمة، الكسرة) " (26) . وإلى جانب اختلاف الأصوات نجد أحيانا أبنية ذوات جذر فيه صوت (أ) أو (آ) مما لا يصطدم مع النص المأخوذ من القرآن (27) . مثل هذه الأصوات تختلف في بنائها في الشعر، وبهذا لايمكن استفادة شيء من تفسير مارجوليوث بعدم وجود شعر مكتوب (28) . وتساءل مارجوليوث بأنه لو وُجِدَ شعر مكتوب لأمكن لخصوم محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام أن يذكروا عدة كتب، بجعل الآية القرآنية ((أم لكم كتاب فيه تدرسون)) (29). حجة على أن الشعر الجاهلي لايمكن أن يكون مكتوبا (30) . ويمكننا الرد على قول مارجوليوث بأن المقصود هنا ليس امتلاك أي نوع من الكتب، إنما المقصود "كتب يتفق مضمونها مع القرآن أو على الأقل يمكن مقارنتها به" (31) . وذلك بدليل الآية ((تنزيل الكتابِ لاريبَ فيه مِن ربِّ العالمين)) (32) ، وكذلك الآية ((أو تقولوا لو أنّا أُنزِلَ علينا الكتابُ لكُنّا أهدى منهم فقد جاءكم بيِّنةٌ مِن ربِّكم وهدى ورحمة)) (33) . ولقد ورد أسم (الله) في الشعر الجاهلي لأنه كان يسمو فوق كل القبائل في العصر الجاهلي ولا يعد سببا كافيا بعدم صحة هذا الشعر (34) . وحين يقول مارجوليوث بأن البيت رقم 2 من القصيدة رقم 24 للشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص، لغة قرآنية لذلك يرفضها، نرد عليه بأن يتذكر أن ناشر ذلك الديوان "اعتبر هذه القصيدة كلها منحولة" (35) وبذلك لا يحتاج أحد سرده دليلا لانتحال الشعر الجاهلي. يقول المستشرق فيدا Giorgio L. D. Vida أن مصادر تاريخ بلاد العرب القديمة كانت نقوشا في أغلبها رمزية، في حين أن مصادر تاريخ العرب الوسيطة أي القرن السابق لظهور الإسلام كانت أدبية في اغلبها، وهذه المصادر كثيرة جدا، وهي تشبه في بعض وجوهها المصادر التي نعرفها عن التاريخ اليوناني والروماني واليهودي. فالمصادر ليست أوثق ولا أضعف من أية رواية أخرى في أي عصر تاريخي يعوزنا فيه الدليل المباشر. فهي مثلا ليست أضعف من Titus Livius 59 BC- 17 AD عن القرون الخمسة الأولى من التاريخ الروماني (36) ، والمصادر العربية من الشعر العربي الأخير جمعها علماء العصر الإسلامي ويجب فحصها ونقدها بسبب التباين في شرحها (37) . يعتقد جيورجو فيدا بأن بعض الباحثين قد بالغوا في مسألة وضع الشعر الجاهلي ونحله. ولايمكن أن نعتبر الجانب الديني أو ضعفه في الشعر الجاهلي عاملا كافيا لجعله مصنوعا أو موضوعا. فمجموع الرواية الشعرية في جملتها أصيلة رغم أن الشعراء الجاهليين صوروا لنا الحياة البدوية العربية في الجاهلية في أجلى مظاهرها كالفروسية. وهذا الجانب البطولي مشابه في بعض الوجوه مع المثل الأعلى لقصيدة أوديسا لهوميروس، والقصيدة الفرنسية Chansons de Geste. ولا يصح أن يُتَهَمَ الشعر العربي بالانتحال كما لا يصح أن يتهم الشعر الهومري أو القصيدة الفرنسية المذكورة بأنها عملت على تغيير الجو التاريخي للعصرين الميسيني والكاروليني (38). ويؤكد المستشرق ليال Charles James Lyall أنه من الخطأ الكبير أن نجعل حماد الراوية وخلف الأحمر النموذجين المثاليين للرواة المحترفين لرواية الشعر الجاهلي، فكلاهما من أصل فارسي. في حين أن الشعراء كانوا يختارون الرواة العرب من بين القبائل العربية ليكونوا الوسيلة التي تحفظ شعرهم وتخلد في صدور القبيلة. أما ما ذهب إليه مارجوليوث إلى أن الشعر القديم في معظمه موضوع منحول وضع على نمط القرآن، مستدلا على القصص التي رويت عن حماد وخلف، فهو مخالف للصواب. فما نقله حماد الراوية وخلف الأحمر عن اسلوب للنظم كان قد اتخذ صورته النهائية قبل الإسلام بمدة طويلة. وقد نظم كثير من الشعراء غير المسلمين بهذا الأسلوب في زمن محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام ثم أسلموا، ولذلك فالقول بأن هذا الشعر منحول بسبب رواية حماد وخلف أمر لا يقبله العقل. إنه كان يجب على مارجوليوث والذين ينتهجون ذلك المنهج أن يجْروا بحثا دقيقا لما يقدمه الرواة من أدلة، وضرورة دراسة موضوع القصيدة وأسلوبها والعناصر الفنية والشخصية للحكم على القصيدة (39) . وفي دراسة أخرى للمستشرق ليال في مقدمته لديوان (عبيد بن الأبرص) أشار إلى أن وصول الشعر الجاهلي إلينا عن طريق الرواية أدى إلى بعض التغييرات في ترتيب الأبيات الشعرية والكلمات المترادفة. ولكن ذلك لا يدعونا إلى الحكم بإنكار الشعر الجاهلي، لأننا نجد الشخصية الفردية واضحة في هذا الشعر. فعلى سبيل المثال (المعلقات السبع) كلها قصائد ذات شخصية وخصائص واضحة، وتعرض لنا سبغ شخصيات متميزة. ومن المهم أن نشير إلى صحة هذا الشعر، وهذا ما نعتقد أنه ليس شعرا منحولا، ولا سيما ما يقنعنا شعراء القرن الأول الإسلامي ومنهم (الفرزدق وجرير والأخطل وذو الرمة) يتبعون تقاليد الشعراء الجاهليين وأن شعرهم يتضمن وجود هذا الشعر القديم، متقيدين بنفس التقاليد، ومستعملين نفس الأسلوب مع بعض التحسين أحيانا والتحوير والأقتباس أحيانا أخرى. والسبب الآخر الذي يدعونا إلى صحة الشعر الجاهلي وهو أنه يحتوي على ألفاظ غريبة على العلماء. وهذه الألفاظ تنتمي إلى مرحلة لغوية أقدم من عصرهم مما عرض هذا الشعر إلى النقد. فلو رجعنا إلى المعاجم الكبيرة نرى كيف أن الشُرّاح اختلفوا فيما بينهم، وهذه المعاجم اللغوية تعتمد على الشعر الجاهلي وعلى القرآن والحديث النبوي، مما يدعونا إلى القناعة بصحة ذلك الشعر (40). هوامش ___________________ (1) مارجوليوث (دافيد صموئيل)، مستشرق بريطاني. ولد عام 1858 م وتوفي عام 1940. درس الآداب الكلاسيكية اليونانية واللاتينية واللغات السامية. عين أستاذا في جامعة أوكسفورد، وألقى محاضرات عن تطور الإسلام في بدايته. وكانت دراساته تسري فيها روح غير علمية ومتعصبة مما أثار سخط المسلمين وكثير من المستشرقين. يعود الفضل إليه في نشر (رسائل أبي العلاء المعري عام 1898) و (أوراق البردى العربية في مكتبة بودلي بأوكسفورد عام 1893). من كتبه عن الإسلام (محمد ونشأة الإسلام، عام 1905) و (الإسلام، عام 1911). نشرت محاضراته بعنوان (العلاقات بين العرب واليهود) عام 1924 بنفس روح التعصب، ومع ذلك أختير عضوا مراسلا في المجمع العلمي العربي في دمشق منذ تأسيسه عام 1920. ينظر بهذا الصدد: عبد الرحمن بدوي، دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ط2 ، دار العلم للملايين، بيروت 1986، ص 87 وص 317-318. من أهم دراسات مارجوليوث التي تأثر بها عميد الأدب العربي طه حسين هي (نشأة الشعر العربي) المنشورة في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية بلندن، عدد يوليو عام 1925.fd hgughx hgluvd uhl 1889Hfd (2) يوسف بغول (من الجزائر)، مداخلة بعنوان: ما اللغة؟ موقع www.arabicwata.com/forums 24 / 5/2004. (3) ينظر: الكلعي، دراسة وإنجاز الأستاذ الكلعي، بعنوان "اللغة": من الدلالات إلى الإشكالية . اللغة، الفكر، التواصل. (4) محمد مندور: النقد والنقاد المعاصرون، مطبعة نهضة مصر، القاهرة (د. ت)، ص 228. 5) ) See: Abdelrashid Mahmoudi, Taha Huusain’s Education from the Azhar to the Sorbonne, 1st ed., Curzon Press, New Baskerville 1998. pp. 76-77. (6) ميشال عاصي: الفن والأدب، ط2، المكتب التجاري، بيروت 1970، ص 119. (7) سعيد الغانمي: مئة عام من الفكر النقدي، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق 2001، ص11. (8) محمد أركون: تأريخية الفكر العربي الاسلامي، ط2، مركز الإنماء القومي، بيروت 1996، ص8. (9) ينظر: عبد الرحمن بدوي، دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ص 12. (10) Margoliouth: (The Origins of Arabic Poetry): Journal of the Royal Asiatic Society. July 1925, pp. 417-449. تنظر: الترجمة العربية، عبد الرحمن بدوي، (نشأة الشعر العربي)، في: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ص87-88. نُقِل الاقتباس مباشرة من مارجوليوث طبقا للترجمة العربية لمعرفة الأخطاء التي وقع فيها مارجوليوث أثناء نقله نصوص بعض الآيات القرآنية وأرقامها، لأنه جزأ تلك الآيات بشكل قد تعطي معاني أخرى، كما أن أرقام بعض الآيات لا تتطابق مع الأرقام الأصلية في القرآن الكريم. (11) هنا أنقل الآيات القرآنية مع أرقامها وأرقام السور طبقا لما وردت في القرآن الكريم، لي ليتسنى للقاريء الرجوع إليها في القرآن الكريم دون التباس. ((ويقولون أئِِنّا لتارِكوا آلهتِنا لشاعر مجنون))، سورة 37، آية 36. ((بل جاء بالحق))، سورة 37، آية 37. ((فذكِّر فما أنتَ بنعمت ربِّكَ بكاهن ولا مجنون))، سورة 52، آية 29. ((أم يقولون شاعر نتربص به ريبَ المنون))، سورة 52، آية 30. ((إنّه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلا مّا تُؤمنون))، سورة 69، الآيتان 40-41. ((وما علّّمناه الشِّعر وما ينبغي له إنْ هو إلاّ ذِكْرٌ وقرآن مبين))، سورة 36، آية 69. ((والشُّعَراء يتبعهم الغاوون.ألّم ترَ أنّهم في كلِ وادٍ يهيمون. وأنهم يقولون ما لايفعلون))، سورة 26، الآيات 224-226. (12) See: Margoliouth, (The Origins of Arabic Poetry), pp. 423-24. ينظر أيضا مارجوليوث (نشأة الشعر العربي)، في: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص 96-97. (13) سورة 68 (القلم)، آية 37. (14) سورة 68، آية 47. (15) سورة 6 (الأنعام)، آية 156 (16) See: Margoliouth, (The Origins of Arabic Poetry), pp. 424-425 ينظر أيضا مارجوليوث (نشأة الشعر العربي)، في: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، 99-100. (17) See: Margoliouth, (The Origins of Arabic Poetry), p. 426. (18) سورة 106، الآيتان 1-2. (19) محمد الخضر حسين، نقد كتاب في الشعر الجاهلي، القاهرة 1926، ص 213. (20) المصدر نفسه. السيد محمد الخضر حسين يكتب أسم Margoliouth باللغة العربية مارغليوث. (21) يوسف اليوسف، مقالات في الشعر الجاهلي، ط4، دار الحقائق، بيروت 1985، ص 113. (22) See: Erich Braunlich, (Zur frage der Echtheit der altarabischen poesie). Orientalistische literaturzeitung, No. 10. Hamburg, October 1926, p. 825. ينظر: بروينلش، (في مسألة صحة الشعر الجاهلي)، في: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص 130-131. (23) ينظر: بروينلش، المصدر نفسه، ص 131. (24) ينظر: المصدر نفسه، ص 131-132. (25) ينظر: المصدر نفسه، ص 132. (26) المصدر نفسه، ص133. See also: W. Wright, A Grammar of the Arabic Language, third edition, Cambridge 1988, p. 25. مثلا الألف الممدودة وهي طويلة بالمقارنة مع الألف المقصورة (27)ينظر: بروينلش، (في مسألة صحة الشعر الجاهلي) ص133. (28)ينظر: المصدر نفسه، ص 135. (29)سورة 68، آية 37. (30) ينظر: بروينلش، ص34. (31) المصدر نفسه. (32) سورة 22، آية 2. (33) سورة 6، آية 157. (34) ينظر: بروينلش، ص 138. (35) ينظر: المصدر نفسه، ص139. (36) Giorgio Levi Della Vida: (Pre-Islamic Arabia) in the Arab Heritage, ed., Nabih Amin Faris, New Jarsey 1946, pp. 41-42. For more details about (Titus Livius), see, in Swedish language, Sven Rinman, Litteraturens varldshistoria, vol., 1, Stockholm 1991, pp. 502-506. (37) See: Giorgio Levi Della Vida, p. 42. (38) See: Ibid., p. 48. (39) Charles James Lyall, (Introduction) in the Mufaddaliyat: An Anthology on Ancient Arabian Odes, al-Mufaddal son of Muhammad al-Anbari, ed., trans., and notes, Charles James Lyall, Vol. II, Oxford 1918, pp. xx-xxi. (40) See: Charles James Lyall, (Introduction) in the Diwan Abid ibn al/Abras, ed., and notes, Sir C. J. Lyall, London 1913, pp.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |