|
مقالات الخيول الغاضبة حجي خلات المرشاوي عشرون عاما تصرخ في وجهي كخيول غاضبة وتدق حوافرها في جوف كلمات الهاربة من واقعها المندعك تحت اللسعات اللاهبة لسياط الخوف التي حفرت ندبا في لحاء أفكاري المتبرئة من حاملها كعاهرة حبلى بابن سفاح تلقت عربون نموه من عابر سبيل نذل تركها في عز التهابها تتقلب على فراش من شوك وابر لتحترق بجمرات شهوتها وتتلوى كأفعى جريحة فاتحة كل مساماتها على ذلك الخارج ملتهبا من مكامن أنوثتها ليختفي في غمضة عين في ظل تلك السحابة التي طويتها وأنا طفل صغير أربع طيات ووضعتها في حقيبتي المدرسية لأباهي صحابي بها وابلل يباب فقرهم وجدب حرمانهم بأغنية بيضاء ترتشف من نشيد الإله عنفوانها ودفقها وقوة إخصابها وبراءة غاياتها بإصلاح عالم أدار وجهه لرجاءات الأمهات الواقفات على عتبات البيوت العتيقة ينتظرن رجالهن الذاهبين إلى البرية كي يزرعوا الحنطة ويغرسوا قطرات العرق المالحة في جسد التراب الصلد الصلب والمفعم بصدأ الرغبات وصدى الأمنيات الغابرة وقيح الخروج الأول والكارثي من الأرحام إلى (دنيا) بقرت صدر الشعر الهش وأنشبت أظافرها الحادة في وجه الحكايات الرقيق كغلالة من دخان لا يشبه دخان المواقد الذي كان يلفنا كإخطبوط حانٍ ورؤوم ويلمنا مسحورين مأخوذين في أفق أصوات آبائنا وهي تقص لليل الفاحم السواد حكايا الجن والعفاريت و(الديوهات)1 الذين يأتون في جنح الظلام ليخطفوا الأطفال عبر خصاص النوافذ وفتحات الأبواب الزاعقة بصمت محايد ومخيب لآمالنا في الحماية والأمان فننام بأعينٍ نصف مفتوحة نرقب قدوم تلك الكائنات الخرافية ونحن نشحذ ما تبقى فينا من قوة ونخوة لصدها عن عوالمنا البسيطة ودفع أذاها عن أهلنا الغاطّين في نوم عميق كالبحر الذي طالما سمعنا عنه دون أن نراه مكتفين بالتبجح بجبالنا الصغيرة وتلالنا المنتشرة هنا وهناك حيث كنا نذهب في مجاميع ملونة نبحث عن أزهار نيسان وننقّب في الأرض المباركة كي نحظى بثمرات (الكجّيب والكشتبرخ)2 ونناكف العم (سلو) الطيب القلب كي يدعنا ننبش التراب في خانات البصل باحثين عن فسقات (الكحس) التي لم تلتقطها أيادي العاملات النشيطات اليقظات في أمل عسير ورغبة بعيدة المنال لنملأ أكياسنا ثم نستبدل غلتنا المتواضعة بثمرات الجوز اللذيذة عند العم (سلو) الذي كان يستقبلنا بوجهه السمح وتجاعيده المنطوية على حسرات تندب عمرا انقضى بكامله كرشفة ماء وانزلق بعيدا بعيدا دون نصف كلمة بعودة كاذبة ورجوع واهم فتنشط شيطنتنا ويتألق ذكاؤنا حتى نخدعه ونشاغله لنسرق جوزة وننتشل قطعة حلوى دون وجه حق ووخزة ضمير لان أفواهنا كانت مفتوحة دائما وعيوننا كانت مشغولة طوال الوقت بثقل حرمانها ووطأة جوعها لكل الأشياء التي نراها دون أن نملك القدرة على حيازتها والتمتع بطيّباتها لأنها ملك صرف لبيئة قاسية حرون وجدباء تهزأ بأمزجتنا وتسخر من رغباتنا في صلف موجع يضع حدا مسننا وغير شرعيٍّ لانطلاقات مخيلاتنا وانثيالات سلائقنا فلا نقدر أن نستغل طاقات عقولنا ومواهب أرواحنا وننكفئ على أنفسنا ونتقوقع كمحارة بائسة أضاعت سبل تعاملها مع محيطها واختارت قسرا أن تجعل من اتساع الحياة وامتدادات الكون وتلك المساحات الشاسعة للعالم تنضغط في جوف صدفتها الجامدة المجردة من الأعصاب والأحاسيس والشعور الطازج بدفء اللحظة وحنو الانخراط في لب حركة الناس ودوامة الضوضاء اليومية التي تصدر بصورة عفوية عن سيرها الحثيث نحو أماكن عملهم مطأطئي الرؤوس محدودبي الظهور ومكسوري القامات فيلوحون للناظر كأشباح منبوذة لفظتها خارج سياقات الحياة الكريمة إرادة الإله وجشع الأفراد القلة المتنعمين بتسع وتسعين بالمئة من خيرات الله التي لم تنقسم بالعدل والفسطاط فيهز عوالمنا الهشة استسلام آبائنا لذلك الغبن وتسليمهم بمشيئة القضاء والقدر فنروح كعصافير دوّختْها العاصفة لنهيم في الوديان والجبال المحيطة بقريتنا كقوس ثقيل ونصرخ بين فكّي ذلك الوادي العميق لنسمع صدى آلامنا ورجع أحلامنا ثم نغذّ السير نحو بِرْكة (أبو سيف)3 العميقة الخطيرة لنرمي بأنفسنا وأثقالنا وهمومنا في مائها الضحل متأملين من المطر الذي لم يغسل أدراننا وعقدنا عند نزوله أن يكمل مهمته المكلّف بها من قبل الإله ويخلصنا وهو ساكن كدبٍّ وديع في تلك البركة الوسيعة من كل ما يدفعنا على التفكير بواقع مر نخر الفقر موجوداته وأحاله إلى هيكل ناشف كحطبةٍ تنغرز ليلا ونهارا في أسفل حلوقنا وتجعل حتى من الهواء الداخل إلى صدورنا علقما ودموعا مدموغة بإرث ثقيل وغائر في التاريخ تسلمناه من آبائنا الذين تسلموه من آبائهم في دورة زمنية منتظمة متعاقبة ودقيقة أطاحت بكل أمل لنا بتغيير يأتي من فوق حيث الإله الذي يرى كل شيء ومن تحت حيث الأنظمة السياسية والاجتماعية تطبق علينا كما تفعل أشداق الأفعى بفريستها المستسلمة لتعصرها كأسفنجة من كل مياه حياتها وسوائل روحها فنتآكل ونتلاشى عظما رميما ومنثورا بين قبور أجدادنا في مقبرة (الشيخ شمس)4 والذين قضوا دون أن يتذوقوا نكهة الراحة ورائحة الثراء وطعم الجلوس على كراسٍ وثيرة ليحتسوا الشاي الصباحي ويأكلوا البيض المقلي والجبنة المصنوعة محليا والمستخلصة من ضرع الأغنام السارحات في البرية وهي تحاول الإفلات من أيادي (البيريّات)5 الخبيرات بحلبهنً واللواتي يسرنً دون أن ينتبهنً إلى خطواتهنً وهي تسحق الأزهار البرية التي كانت الشاهد الوحيد والأصدق على قصة حب اندغمت كلمات العاشقين بين ثنّيات أوراقها وتوثقت الابتسامات الخجولة في نسغ سيقانها والتصقت الهمسات الملتهبة والرغبات المحرّمة على تيجانها وغبار طَلَعِها فيا أيتها (البيريّات) الرائحات والغاديات على ملعب حبي الأثير ومرتع صباي الجميل أمانة عليكنّ أن تخففنّ الوطء عن لوحتي الأقدس ففيها رسمت مع حبيبتي أولى ارتباكات خطوط عشقي الأخضر وعليها طبعت أولى تنهدات ظلال ماساتي البكر لتنتشر عنا الأقاويل والهمهمات كالنار في هشيم القرية المقفرة ويروح عشاق ساعات العصر حين يكون للحب لون الغسق يحدّثون حبيباتهم على عتبات البيوت والرائحات صوب مراقد الأولياء ليلقين نذورهنّ ويهمسنّ بأدعيتهنّ الخجلات بلقاء حبيب شهم وفارس نبيل يأتي كسهم وشَهابٍ على حصانه الأبيض ويزرع في جوف مخاوفهنّ غرسة أمل بإمكانية الحياة وينثر على خدودهنّ الحمر المتوردات بذور الحرية المكفّرة وسبل الحب غير المطروقة ليأتي في ليلة ثَقُلَتْ ساعاتها واستطالت ثوانيها لدهور طويلات كي يسامرني ويخفف عن روحي الهائمة في صحراء المكابدات ارق الحزن المتوارث وسهاد العاشق المتيم والغائص حتى النخاع في مستنقع عينيْ حبيبة أتت من رحم الأساطير وأناشيد الآلهة الإغريقية وتجليات فرسان المائدة المستديرة ويطوف معه في فضاء اللا خوف حين تصبح الكلمات أجنحة والشعر دفّة ودواة القلم بحرا ازرقا لا يوفره واقع وتجود به حقيقة واحدة من ركام تلك الحقائق المؤلمة التي لا تنفك تصدم توقعاتنا وتجندل أمانينا وتعصف كإعصار جرار باختياراتنا الخاطئة دوما لأنها تنبع من أفق ذلك الزنديق الجليل الذي غادر أبنائه الجياع وزوجته الصابرة ليبحر على متن أفكاره السباقة والتقدمية حتى حط رحاله في ربوع الإمبراطورية التي لم تغب عنها الشمس وصار يكتب ويكتب ويسجل معاناتنا ويدون آلامنا ويحلل عللنا ويستقرأ أوضاعنا ثم يستنتج علاجنا ويخرج بوصفة سحرتنا ببيانها وأخذت منا الكثير من الوقت فسرقنا من لحظات طفولتنا وسطونا على ساعات مراهقتنا لنملك ما يكفي من الوقت لقراءة أفكاره والسير على هَدْيِهِ غير مدركين إن سفينتنا كانت نقطة تيهٍ هائلة في بحر الكفر والزندقة والهرطقة والتجديف فحاربتنا القرية وتخلى عنا رجال العشيرة وتبرأت منا أمهاتنا وحرّم علينا آباؤنا تقبيل أياديهم حتى بتنا فريسة سهلة لذلك الطاغوت المستخضر المتعفلق والمتحكم عبر إلهه الخارج من خيمة شعثة بمصائرنا ورغباتنا وأحلامنا وأوقات قضاء حاجاتنا في زمنٍ هجين تبرأ منه الزمن وفي مكان لقيط لايمتّ للمكان بصلة سوى انه كيان مادي صلف ومستطيل عرضه نصف متر وطوله متر وبين أشداق كونكريتة كُنتُ أنا من ينام واقفا كصبارٍ مستوحد ويأكل واقفا كخرنوب منسيٍّ ويتبرّز واقفا كخنزير منبوذ وافتقد طلوع الشمس وغروبها لعشرين سنة فلا استطيع أن ارقص (الديلاني)6 في (طوافة الشيخ بكر)7 واركب (الجرجر)8 وألف به في دوائر متتالية على قش البيادر واعلق حزمة من بيبون نيسان على باب بيتنا واحشر البيوض الملونة في جيب سروالي الأبيض الفضفاض في عيد (السري صارلي)9 وأتراشق بالماء مع جيراني وأصدقائي في عيد (محمد رشان)10 لاستجلاب المطر الذي لن يقدر أن يبلل يباس هذه الزنزانة المعلبة فيحرق هجير فضائها الضيق نياط قلبي فأصير مستعدا لدفع ألف عمر في سبيل سيكاره واحدة علمني الإمساك بها (صلاح) في عرس ابن عمه حين أتى إلينا يحمل قبضة (امزبّن)11 ووزعها علينا بالتساوي وصار يلقي على مسامعنا درساً بليغاً عرفنا من خلاله لذة النيكوتين وروعة أن تزفر الدخان في وجه اللاشيء وكأننا نحتج بذاك المنطق الصبياني الطائش على عدم حيادية محيطنا العدائي الذي يحاصرنا بارزا أنيابه وحادّاً مخالبه ليجردنا حتى من فتات أحلامنا التي كنا نراها كل يوم تنسحق تحت أقدام احد أبناء الأغنياء وهو يقف إزاء الدكان ويختار ما يشاء من الحلوى واللعب والفواكه ليسلبنا في لحظة توراتية رغباتنا وأمانينا ولايترك لنا غير حسراتنا على تلك الأشياء التي حشرها في جيوبه فننظر إلى بعضنا نسند ضِعفَنا وتَخلخُلَ سيقاننا بنظرات كسيرة يلفّها الخذلان الرمادي والعجز المتورم عن التفسير والتعليل ومعرفة سر ذاك التمايز الذي جعل من اثمن أحلامنا وأبعدها منالاً بضاعة تافهة يتلاعب بها أولئك البيض البشرة والسمان وذوو الأجساد الممتلئة والصحة الصارخة التي يخفت إزاء بريقها اصفرار وجوهنا حتى يصبح بلون البلغم وبطعم الهزيمة الساحقة فننكّس رؤوسنا ونتفادى حتى الهواء المحيط بنا غير إن صوت (المنادي) يعيد إلى استحالة انفراط عقدنا دفعه فنسمع من بعيد عبارته المزمنة (هيه كلي جماعه)12 فترتفع رؤوسنا وتشرأب أعناقنا صوب بيت (الكزيغ)13 لنعلم إن أحداهن قد أضاعت خاتمها الذهب وهي تغسل الملابس بماء (الكوم)14 فتلمع عيوننا وهي تتخيل ذلك الأصفر اللماع الذي (ياما) سمعنا به دون أن نراه ونلمسه فنركض هاشّين باشّين باتجاه (رأس العين)15 وكأنما جزيرة الكنز الأسطورية تقبع هناك إلا إنني كنت الوحيد الذي لم أضع سوى وجه حبيبتي أمام ناضريّ فأتخيلها حقلا مزروعا بالذهب ولوحة منقوشة بالماس ومطعمة بالجواهر والحلي لأنها ولابد تنتظرني هناك وعيونها تتقلب بين مدخل الطريق الترابية و(الفغشي)16 التي تغسل ملابس عائلتها عليها فأدبّ الخطى لأكون أول الواصلين وابحث كالممسوس عن وجهها دون جدوى فتبتسم كآبتي وترتفع قامتها في صلبي ويفقد اندفاعي طاقته وقوته فأقف كمسمار صدئ وبالٍ أمام إحدى أشجار التوت استحلف الصبايا الذاهبات أن يبلغن سلامي إلى المكان الذي حظي قبل قليل بعطرها ودفء جسدها وطراوة أصابعها ووضوع ابتسامتها فيا أيتها القاصدات النبع تحملن الجرار على أكتافكن تهادين في مشيتكن لان كل حجارة تحمل ابتسامه خجلى سقطت سهوا من وجه فتاتي وكل ذرة تراب تحتوي بعضا من حمرة الحياء التي كانت تنساب رقراقة من خديها وترفقن بتلك الأغصان اليابسات المرميات على قارعة الطريق لأنها وحدها من شهد عناق النظرات وتواصل الروحين وتلامس الأفئدة في عصر (بحزيني)17 خرافي استوت في الأكوان وتجاورت النجوم والتئمت لتشكل طوقاً أسطوريا حول القمر المستوحد الذي مازالت صورته البهية واضحة في مخيلتي وأنا انظر إلى الجدران الإسمنتية الأربعة التي تقف أمام كارثتي كحارس أمين ومتجهم يمنع امتدادها أكثر من عشرة سنتيمترات لترتد عليّ بخناجرها وسكاكينها وسمومها وتقتات على كبدي ومرارتي ورئتي وكل أحشائي فاشعر إنني اذوي شيئا فشيئا وافقد أشلائي الواحدة تلو الأخرى فيتيه عقلي في سديم لانهائي مفكرا في السؤال الأكثر صعوبة لمعرفة أيكون الوقت نهارا أم ليلا فأروح تحت الضوء الأصفر الباهت والآتي من حيث لا ادري أحصي عدد الحصى في هذا الجدار وذاك ثم احسب الحصى السوداء والبيضاء والبنية فأتعمد الخطأ في حساباتي كي أعيد الكرّة ثانية لكسر انف الوقت الداخل في لبّ سأمي واحمل صخرة (سيزيف) من جديد واصعد بها نحو تلك القمة القصية حيث تكاد تلامس ذؤابتها نجمتي الأثيرة في ليالي الصيف حين كنا ننام على أسطح البيوت ونرمقها بنظرات الإعجاب والتقدير ونضمر في داخلنا غايتنا في الفوز بها ونقسم بأغلظ الإيمان بانّا غدا لما تشرق الشمس سوف نترك كل شيء خلفنا ونصعد الجبل حتى قمته لنقطف تلك النجمة المستحيلة كي تصبح في أيدينا فانوس علاء الدين لا نكاد نفركه حتى يخرج من فتحته المارد العظيم وهو يهدر بصوت الجهوري (شبيك لبيك) فتتحقق الأمنيات وتصبح الأحلام حقيقة غير إن الشمس التي انتظرنا طلوعها هي من أضاعت السبيل علينا ففقدنا نجمتنا وغلف الحزن وجوهنا كما يفعل دائما لكن (باسل) ظل يضحك بملء فمه ويخبرنا إن نجمتنا الأصيلة إنما تكون هناك بعيدا في ذلك الشمال القصي حيث يعتمر (خروشوف) قبعته ويجلس بمعية رفاقه الحمر فاقتنع بكلامه واخرج من غلالة اليأس محافظا على تماسكي وأعود إلى بيتي لأجد أمي تبكي وهي تشعل التنور الطيني غير عابئة بنظرات إخوتي وأخواتي الساهمة الشاردة فاسألها (أماه يا أماه لما تبكين) فتختنق بالعبرات وتطمر وجهها الستيني بين يديها فأركض والدموع تسبق خطواتي نحو الحجرة الكلسية لأجد أبي ممدا ينازع سكرات الخطوة الأخيرة ويصارع جبروت الموت بهمهماته وأنينه الخافت فأوقن إن أولى الكوارث تبدأ بموت الأب المرشد والموجّه كبوصلة أمينة لاتجاهاتنا وحركاتنا وأدرك تمام الإدراك إن الأب حالة زمكانية أكثر من كونه وجود مادي تستقيم بحضوره الأمور وتأخذ بوجوده الأشياء نسقها المعهود فأتصرف على (هواي) مطمئنا لذلك الرجل النبيل الحامل مسؤولياتي والتزاماتي والمستوعب بنَفَس (أيوب) أخطائي وهناتي والمتقبل (بطري) ولامبالاتي لأنال عبر ذلك الإحساس الأناني كامل الحرية التي احتاجها كي اشطب كل ما يشوّش ويعيق انطلاقاتي فاجمع الأحجار الصغيرة المدورة واعلّق النقافة في خاصرتي واتجه صوب أشجار الزيتون برفقة صحابي كي نزعج الطيور والحشرات اللائذة بأمان أشجار الزيتون ونطارد الفراشات ونصطاد العصافير وننبش الأعشاش ونسطو على البيوض الصغيرة ونلعب مع (قوال دخيل)18 لعبة القط والفأر فنخاتل ونراوغ ونحتال ونختبئ عن عيونه المبثوثة في كل مكان ثم نتظاهر بأننا قد أتينا (للطوش)19 ونحمل القواطي الصدئة ونلتقط حبات الزيتون السوداء التي غفلت عنها عيون (المنقيّات)20 الشاطرات وهن يجمعن تلك الحبات المباركة دون أن يعلمن إن كل حبة تختزن في لحمتها عبير حبيبتي ولون عينيها وتورّد خديها حين كنت أبثها لواعج الغرام واخرج من جيبي نصف الممزق ورقة مندعكة تحمل في سطورها المرتبكة لفحات الغزل واكاسير الحب وتجليات مغرم حتى النخاع فيا أيتها (المنقيّات) المقرفصات حبا بالله أن تتأملن قصة عشق منثورة بين أياديكن وتنقلن بأمانة بوح العاشق المستهام وشكوى الصبّ المجنون وتنثرن على بيوت (بحزاني) أخباره القلقة وغرامياته القدرية وتوزعن بالتساوي على كل شباب وصبايا القرية كسْرات ذلك الخبز الإلهي عسى أن تنال قصتي خلودها بهم مادامت حبيبتي قد اقترنت بآخر سلك عكس مسالكي متكأً على ارث أجداده الأغنياء ومادام حجم عالمي المترامي الأطراف قد تقلص إلى متر واحد أنساني المشي والخطوات وحرمني الركض والرقص والتقلب بين سنابل الحنطة الخضراء حين كنا نجوب البرية الواسعة ونطوف كنسائم غير مروضة على حقول الحنطة فيقتلع كل واحد منا سنبلة ويستخلص من حباتها الطيّعات الليّنات نقيعها الأبيض كالحليب بضغطةٍ من شفتيه ثم يلحس ذلك الرحيق الرباني ويتلمّظ به وكأنه دفقة نور مسحت عليها يد الله ومطر من المنّ والسلوى أرسله الرب إلى أهل موسى بعد عبورهم البحر الذي ياما حلمنا برؤيته دون جدوى فنكتفي مرغمين بالذهاب إلى (ديلة مطو)21 نتسابق كسرب قطا متجنبين برشاقة صبانا سواقي الماء والمطبات التي شكلها الفلاحون لحماية حقولهم ثم نشرع بنزع ملابسنا قبل أن نصل كي لا تضيع من متعتنا لحظة واحدة إلى أن نقفز كنمور مدربة إلى أسفل البئر الواسع المدوّر ونبلل يباس نهاراتنا وجدب ليالينا في مياهه الضحلة الراكدة التي تفوح منها الروائح الكريهة ويكون لمائها طعم الخرنوب الأخضر وهو يدخل رغما عنا إلى أفواهنا في أخطاء سبّبها تزاحمنا وليس عدم إجادتنا للسباحة التي كنا نملها بعد حين فنخرج من جوف (الديلي)22 ممسكين بالقضبان الحديدية المتدرجة في تسلسل مثير للإعجاب والمنغرزة نهايتها في الحجر المرصوص بإتقان لندخل إلى الغرف المهجورة التي عافها ساكنها الأخير لرحمة الضواري وعاديات الزمن ونزعة التدمير التي كنا بالوراثة نحمل بذورها فندور يمنةً ويسرى باحثين عن أحجار مدببة النهايات كي نخطّ على الحيطان التعبة ذكريات الزمن الصافي والجميل وننقش أسمائنا بخطوط متعرجةٍ وعجفاء على جصها الرؤوم المطواع لأمزجتنا بعكس هذا الجدار الكونكريتي الصلب الذي طالما حاولت كسب وده ونيل صداقته بشتى السبل لكنه حَرِنَ كحصان بري في وجه توسلاتي وصدّ بتجهمه الأبدي كل تذللاتي وبكائياتي فأتقن ذبحي ونحْر غمائم ترهاتي ومنع عني تحسس مايدور في الخارج فلم اعرف إن إخوتي وأخواتي سيقوا كنعاج مذنبات لمهرجان السلخ ألصدامي ولم اعرف إن بيتي وقبلة روحي ومخزن أحلامي وانجازاتي قد تحول إلى اثر بعد حين وان اقرب أصدقائي هو من دلّ رجالات الأمن إلى أدق أسراري الحزبية وان نصف أهالي القرية كانوا يرسلون التقارير تلو التقارير للإطاحة بي وبعائلتي ولم اعرف إن ليالي النضال السري و(البريد) المحشور في نخاع العظام والحلم المجنون بعدالة مستحيلة قد صارت وصمات عار ووشمات خزي في جباهِ رفاقي ولم اعرف إن أشدنا اندفاعاً وأكثرنا حماسا قد أصبح متسولاً معزولا في زنزانة بيته يستجدي تحيات الجيران وأسئلة الناس عن الحال والأحوال غير إنني عرفت في زنزانتي الفردية إن ثباتي وقوة إرادتي وتعاملي مع الألم وتقبّل الخسارة بروح نضالية هو السبيل الوحيد لتحقيق انتصارٍ مهزوم على كل أعدائي فصمتُّ كبغل استرالي وصمدتُ كعاشق يعتز بأحلى ذنوبه في اقتراف جريمة الحب وأقسمت بكل قدح احتسيته وبكل قنينة خمر أفرغتها وبكل لحظة فكرتُ فيها بترميم الوطن وبكل كلمة قرأتها وبكل سطرٍ مرت عليه عيناي وبكل (رَحْلة) جلست عليها في مرحلة الدراسة وبكل درس ألقاه علينا أستاذ مخلص في عمله أن اجعل من روحي صندوقاً مغلقاً ومقفلاً بشمع مبادئي وختم أحلامي وان أحافظ على ارثي النقي من فايروسات الهزيمة والاستسلام فعلقوني وجلدوني وسحلوني واطفأوا سكائرهم بأعضائي ورجرجوني في غرف معدنية تهتز ألف هزةٍ في الدقيقة وصعقوا كل مكانٍ رجولتي بكهربائهم وقلعوا أظافري وشلعوا أسناني وكسروا عظامي وهرسوا لحمي وحقنوني بإبر جهنمية أضمرت عضلاتي وشلّت أطرافي واستباحوني وسطوا على كليتي وسحبوا نصف دمي ووضعوني في آلات تجر كل أشيائي وأدخلوني في مكائن تضغط كل أعضائي وأطعموني برازي وشرّبوني بولي وقطّعوا اناساً إلى أشلاء على وجهي وعلّقوا حبل المشنقة ألف مرة حول رقبتي لكنني ازددت صلابة واستطعت أن أتواءم مع الألم وأصادق الوجع واعقد مع الأذى الذي لا يوصف زواجاً كاثوليكياً لافكاكَ منه وها أنا بالكاد أميز ما تبقى مني يخرج إلى النور غير مصدق انه كان أسير تلك الزنزانة لعشرين سنة بكل شهورها وأسابيعها وأيامها وساعاتها ودقائقها ولحظاتها وها أنا أراه يدخل إلى قريته باحثا عن شبر واحد لم تدنسه تلك السنوات العجاف ويستنطق النثار المتساقط من قلف دماغه المتقشر كجص عتيق ويستجلي في كلمات مستقبليه صدقا افتقده منذ السقوط المدوي لبابل الشرائع فلا يملك أدنى فرصة بإمكانية الاستمرار كعراقي سوي فيخفق في التأقلم مع هدير الكلمات التي يطلقها محدّثوه فتزيغ عيناه التي لم تتعود هذا الكم الهائل من الكائنات والأشياء المتحركة فينظر مليا دون أن يرى ويشعر بالوجوه المثقلة بالكآبة الرمادية والملامح المتشحة بالحزن العميق والقسمات المقفولة على حسرة مرة والمسوخ التي تبدو على هيئة بشر والمردة الذين يظهرون بصورة ملائكة وحركات الأيدي المتوترة التي تنوء تحت وطأة حرمان كارثي من الحب واللذة والمتعة والألسنة التي تتحرك داخل تجاويفها معلنة عكس ما تبطن والأفواه الميكانيكية التي تردد برتابة ما لقنت وما دربت عليه والعيون القلقة التي يندغم في حدقاتها خوف رهيب وقلق ابدي، والأنوف المزكومة بجراثيم الظلم والقهر والترهيب، والآذان المتأهبة لسماع نبأ سعيد لا يأتي أبدا، والأسنان التي نخرتها فايروسات الفقر وعدوى المهانة، والشفاه التي تشققت بفعل ترديد الشعارات الفارغة وهتافات التأليه المدوية، والخدود التي تورمت تحت صفعات الويل والثبور، والرقاب التي تهدلت من طول الانتظار اللامجدي والترقب العبثي، والرؤوس الخاوية التي امتلأت بقش الرعاة الهمج وثقافة الخيم البائسة، والذاكرة الممحية لأجيال تعودت القرفصة على خط طول (صفر) والأدمغة المغسولة بإشعاعات اليورانيوم العفلقي ورمال الإيديولوجية المتصحرة، والصدور الممتلئة بالنيكوتين والسعال والبلغم وحبوب (الآرتين)، والقلوب الممهورة بختم الإذلال والخضوع وطاعة الأوامر، والأرجل المسيّرة حتى ابد الآبدين في دروب معتمة تفوح منها رائحة الموت الجماعي، والملابس السوداء الفاحمة كليل خائف والمشية المغلّفة بالخيبة والانكسار، والمشاعر شبه الحية الموضوعة تحت الإقامة الجبرية في ثلاجات الاعتقال المبرمج لأدفئ اللحظات الإنسانية، والأحلام التي ولدت ميتة من أرحامها المتيبسة، والهواء المزحوم بأيونات الخباثة والخيانة والعمالة والتجسس، والمحيط الموبوء بالأوامر والمحاذير والمحرمات والتهديدات والإشاعات والممنوعات ونقاط التفتيش والسيطرة، والشوارع المنهكة حتى الشلل والبنايات المتعبة حد الفناء والبيوت المتداعية حتى الدوار والغثيان، والسماء التي فقدت عذريتها وتزوجت من سيد الحروب العبثية، والغيوم الحبلى بالتيزاب وطلاسم الخردل وغموض المصائر، والجبال المنتهكة بالجزم العسكرية وخرافات التاريخ المخاتل وأكاذيب الانتصار الزائف، والسهول المحتقنة بصديد المقابر الجماعية وقيح التصريحات الرسمية ودمامل الإعلام المخادع وآلام الجرائد ذات الخطاب الناشف الواحد، والأهوار عديمة الحيلة التي انصاعت إلى أوامر معتوه بالهجرة خارج زمانها ومكانها، والنخل الذي فقد خصوبته فأثمر صبارا وشوك، والزيتون الذي اضطربت ذاكرته فأمتهن مهنة أخرى، وشجر الجوز الذي اختلّ توازنه الطبيعي فأنتج ألماً قشرته استسلام، والنفط الذي سئم بقاءه حبيسا داخل طبقات الأرض فتحول إلى خمرة معتقة، والمدن التي أُفرِغتْ من روحها وصميميتها حين سكنها جُلّفٌ متخلفون يبشرون بثقافة هدامة صلفة اجتاحت جميع بؤر الإشعاع الأصيلة وأجهزت بجبروتها على كل النور والنبل والإرث الذي كلّف هذا الشعب آلاف السنين من العناء والجهد وها أنا أراه يحني رأسه كحلاّجٍ آخر مهزوم كي يسهّل على الانشوطة أن تلتفّ حول رقبته بأحكام وهو يستمع على مضض لأحاديث جلاّسه عن شعب كامل اجبر عبر عقود أربعة أن يحمل دمغا على جبينه بأنه مذنب حتى تثبت براءته، ويطوف بأذيال ذاكرته على سجونٍ ضاقت بنزلائها المهانين وزنازنٍ تعفنت في رطوبتها آلاف العقول النيرة والأرواح البريئة فيذرف شبه دمعة على طاقات مهدورة وموجّهة بعكس مسار الطبيعة المحتوم وكفاءات تركت دفء أعشاشها لتتيه في دهاليز الغربة والمذلة المشينة ويغوص مرهقا في مستنقع نظام اجتماعي فاسد مبني على التباغض والتنابذ والحقد والترويع، ويحاول جاهدا أن يضحك على صناعة وطنية بائسة لم تنافس أية جهة خارجية ولم تنجح إلا في صنع دكتاتور وجلاّد و(اله) معبود في ذات الوقت ثم يهيم كطائر مشلول على رؤوس رجال يموتون كل يوم مئة مرة وهم يرون خيبتهم وانكسارهم وعجزهم يرتسم على وجوه أطفالهم كل حين ويعرفون إن نسائهنّ قد رمين ثياب العفة ونزلنَ للشوارع ليتاجرنَ بأعزّ ما لديهنّ حتى يضمنّ رزقا يبابا لأفواه جائعة فتزعجه أكثر مما تؤلمه أحاديث الجالسين حوله عن قضاة سحقوا جنين العدالة تحت أحذيتهم المستوردة وملأوا جيوبهم برنين الذهب وسحر الدينار اللعين وأطباء ابتزّوا مرضاهم على أسرّة الموت ملوّحين بصورة عزرائيل ومهددين من لا يدفع برميه على أرصفة المستشفيات، ومحامون تبوّلوا على روح القانون وتلاعبوا بمصائر آلاف البشر وتجار لطّخوا ببرازهم وجه الحق وجعلوا من الحصار جحيما لا يطاق وامتصوا دماء المستضعفين حتى الثمالة، ومهندسون ومعلمون ومسئولون ووزراء ووو.... ويشعر بدوار ويستأذنهم كي يبحث عن لوازم أحلامه ومزركشات أمنياته ويحاول الإمساك بآخر توقدات ذهنه كي يعثر على (البيريات) و(المنقيات) وعن بِركة (أبو سيف) و(ديلة مطّو) وسنابل الحنطة الخضراء وصباحات (السري صالي) والبيوض الملونة والأطفال الراكضين بملابس العيد والصبايا المتزينات وشلّة الطفولة والمراهقة التي اندثرت في سفر الحروب وطواحين الإعدام ويبذل جهدا (سيزيفياً) ليصلي ويبكي في محراب حبيبة كاملة مستحيلة الوجود ومحالة التشكل إلا في أشعاري وقصصي وأغنيات طفولتي وهدهدات أمي وأدعية جدتي وطيبة أبي وسماحة العم (سلّو)، وأراه وأرى ما تبقى منه يذهب بخطواته الجنائزية إلى مقبرة (الشيخ شمس) باحثا عن قبور لا وجود لها لإخوة وأخوات فيرتمي كرجل انكسر مرة واحدة بين قبري أمه وأبيه يفكر بأنه ما عاد بإمكانه أن يرى أمه تسوق البقرة نحو ساحة القرية وتخبز للعائلة خبزها الرقيق وتشكو من وجع ظهرها ومعاناتها المستديمة مع أبنائها المتمردين وتنزع (بوشيتها)23 وتعيد لأقراص الفضة في (فيزها)24 لمعانها وألقها، وما عاد بإمكانه أن يرى أباه يأتي ساعات المغيب حاملا معدات عمله وصرّة طعامه ويشعر بنغزة شاربيه الحانية حين يطبع على وجهه قبلة رضا ويسمع جداله اليومي مع أفراد العائلة كلما ارتأى أن يشرب (العرق)25 ويضع صحون المزّة المتواضعة قبالة بساطه المتهرئ ويرافقه في صباحات الأربعاء والجمعة إلى المراقد ليؤدي الطقوس الدينية مرغما وما عاد بإمكانه ولن يكون بإمكانه أن يجتمع مع إخوته وأخواته على مائدة واحدة يبتهجون ويمرحون ويجعلون من ثقل الفقر ووجع الحرمان نوادرا تستجلب الضحك والكركرات ولن يستطيع أن يخرج معهم إلى (حوش) البيت الكبير حينما تمطر الدنيا لتستقبل وجوههم وجباههم نقرات قطرات المطر اللذيذة ولن يستطيع أن ينهض معهم وقت السحور في (صوم ايزيد)26 ويساعدهم في جلب الصحون وتجهيز الطعام ويلقي عليهم التعليمات في هدوء وهمسات خافتة لئلا ينتبه الأب الذي كان يمنعهم من الصيام لصغر أعمارهم ولن يستطيع أبدا أن يكون ما كنته أنا قبل أن تأتي تلك السنوات العشرين لتصهل في وجهي كخيول غاضبة وتدق حوافرها في جوف كلماتي الهاربة من واقعها المند.........
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |