|
مقالات الحلة في الذاكرة (4) .. أوضاع مدينة الحلة الثقافية 1942 ـ 1962 الدكتور عدنان الظاهر مدارس الحلة الإبتدائية قامت في الحلة مع بدايات خمسينيات القرن الماضي مدارس إبتدائية ليست بالكثيرة ولم تستطع منافسة أخواتها الثلاث القديمات المخضرمات (الغربية والشرقية والفيحاء)، الأولى والثانية في جانب المدينة الكبير والأخرى، الفيحاء، في الجانب (الصوب) الصغير المكوّن من ثلاث محلات أو مناطق هي الوردية وكريطعة والكلج. قد يفهم المرء معنى أو إشتقاق أصل كلمة (وردية) ولكنَّ الأمر ليس كذلك مع الأخريين: كريطعة والكلج. لعلَّ مدرسة الفرات الإبتدائية للبنين هي التي شغلت الموقع الرابع في تسلسل المدارس الإبتدائية من حيث زمن التأسيس. تم َّ تشييدها على أرض واقعة في أطراف محلة الجامعين إلى الغرب من سجن الحلة مقابل بساتين عامرة بالنخيل تلاشت تدريجاً لتحل محلها بيوت [الإسكان] ومعمل تعبئة مشروب الكوكا كولا.أول من أدار هذه المدرسة هو المربي القدير الأستاذ محمود شكر أبو خمرة (ابو لؤي) وظل مديرها حتى زمن إحالته على التقاعد. لم تبلغ شهرة باقي المدارس الأقدم منها من حيث النشاطات الطلابية الرياضية والفنية والسفرات والحفلات الموسمية رغم قوة شخصية مديرها ونقاوة سمعته وسمعة عائلته المرموقة من آل خمرة في الحلة. لكنه أسس علاقة شخصية متينة جداً مع مدير المدرسة الشرقية الأستاذ محسن ياسين. لكأنه شكّلَ { حلفاً } ثنائياً يضم مدرستي الفرات والشرقية مقابل الثنائي الآخر: مدرسة الفيحاء والغربية. بالطبع لعبت وتظل تلعب العلاقات الشخصية بين مدراء المدارس أدواراً محسوسة في رسم مصائر هذه المدارس ولا سيما تلامذتها الصغار فضلاً عن علاقات ذوي التلاميذ بمن يدير هذه المدارس بالدرجة الأولى ثم بالكادر التعليمي وجلّه من أهل الحلة. أعرف الكثير عن شؤون هذه المدرسة لأنها كانت تجاور داراً سكناها هناك ردحاً غير قصير من الزمن. قامت بعد مدرسة الفرات الإبتدائية للبنين على ما أحسب مدرسة (صفي الدين الحلي) في منطقة تقع في وسط محلتين (أو أكثر) من محلات الحلة المعروفة هي: محلة التعيس والأكراد. لا أعرف من كان مدير هذه المدرسة ولم تبرز أو تنافس أو تتنافس مع بقية المدارس لا في مستويات ونوعيات مَن تخرج فيها من تلاميذ ولا من حيث النشاطات الإجتماعية أو الفنية أو سواهما من أوجه النشاط المدرسي المعروفة. قامت بالطبع مدارس أخرى خاصة بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 ليس في وسعي تحديد أسمائها أو مواقعها ولعل أهل الحلة الكرام يعالجون هذا الأمر ويتممون معلوماتي ويصححون ما يرونه مخطوءاً منها. أما مدارس البنات فمعلوماتي جدَّ قاصرة بشأنها سوى أنَّ متوسطة الحلة للبنات توسعت فغدت متوسطة وثانوية في نفس الوقت وكانت أكثر مديراتها شهرة الست (عائشة أو عوّاشة) فقد بقيت فترةً طويلة ً في إدارتها قبل أن تتحول إلى التفتيش التربوي كما كان يسمى وقتذاك، حين كان السيد يوسف صالح السامرائي (من العمارة وعديل أحد وزراء حكومة عبد الكريم قاسم) مدير َ معارف لواء الحلة.
المكتبات والصحف والأدب والطرب كانت في الحلة مكتبة عامة صغيرة الحجرات محاطة بحديقة واسعة تقع مقابل نهر الحلة لا يفصلها عنه سوى حديقة النساء. وكانت ثانوية الحلة للبنين على مبعدة بضعة أمتار عنها. أدار هذه المكتبة لسنين طويلة السيد (ثم الأستاذ الدكتور) باقر السيد محمد سماكة. كان يرتدي الزي العربي [وليس الإفرنجي] مع كوفية بيضاء وعقال دقيق رفيع أسود اللون. ما كان يرتادها في أربعينيات ولا في بدايات خمسينيات القرن الماضي إلا القلة من المدرسين وبعض طلبة الثانوية وإني أتذكر جيداً أنَّ من أبرز روادها كان أستاذنا الفاضل عبد الرزاق عبد الكريم الماشطة. كان يحثناً دوماً على إرتياد هذه المكتبة وقراءة ما فيها من كتب وصحف يومية ومجلات أدبية وسواها مما له علاقة بمقرراتنا المدرسية وقتما كنا طلاباً في متوسطة الحلة للبنين. قضّى الأستاذ الماشطة حياته التدريسية في هذه المدرسة المتوسطة حتى أحال نفسه على التقاعد ربما بسبب ما كان به من مرض السكري الذي كان وقتذاك مستعصياً. كان صعباً عليه المكوث في الحصة التدريسية لأكثر من الزمن المقرر لها (45 دقيقة) إذ كان المرحوم ينتظرلدى باب الصف بفارغ الصبر ضربة جرس قدوم الفرصة ليسارع إلى دورة المياه. منذ أربعينيات القرن الماضي، تجمعت قرب بعض ثلاث مكتبات شهيرة وقديمة في مدينة الحلة تبيع الكتب والصحف والمجلات وقرطاسية المدارس وتمارس تجليد الكتب وتحميض وطبع الأفلام الفوتوغرافية بل وكانت في إحداها (المكتبة العصرية لصاحبها عبد الصاحب) مطبعة لطباعة المنشورات وإعلانات الدعاوة وربما بعض الكتب. تجاور العصرية مكتبة الفيحاء وصاحبها من آل علوش يساعده شقيقه عبد الأمير(أمّوري)، ومقابل مكتبة الفيحاء كانت المكتبة العصرية لصاحبها (مهدي السعيد أبي صلاح وصباح). كانت هذه المكتبات تقع جميعاً وسط مركز مدينة الحلة على الشارع الرئيس الذي يبدأ من الساحة الدائرية المقابلة لمركز شرطة الحلة وينتهي في باب المشهد ليس بعيداً عن سجن الحلة والمستشفى الجمهوري الذي أسس فيما بعد وإسمه يدل على زمان تأسيسه. إفتتح بعد ذلك السيد (جليل الناصر) مكتبة رابعة (مكتبة الرشاد ؟؟) تقع على نفس الشارع ليست ببعيدة عن المكتبات الثلاث الأخريات مقابل عقارات يملكها المقاول العريق السيد (توما، أبو لطيف وجولييت) حيث داره الكبيرة يجاورها محل كان كراج َ توقف وحركة السيارات بين الحلة وبغداد ثم تحول إلى مقهى شهير بإسم (مقهى سومر) يقدم فضلاً عن المشروبات التقليدية البقلاوة ويبيع الهريسة شتاءً بفضل إبداعات جبار، الإبن الأكبر لصاحب المقهى السيد (عبود العجمي). ثم كان (هذا الجبار) يتنقل صيفاً بين الأزقة والدرابين يدفع عربةً محملة ً بقوالب الثلج ليوزعها على أصحاب الدور بالقياس الذي يرغبون: ربع قالب لهذا البيت... نصف قالب لصاحب هذا البيت... قالب كامل لبيت آخر. كان يعرف عن ظهر قلب حاجات سكان هذه الدور ولا يتقاضى أثمان قوالب ثلجه إلا في آخر الشهر أو بداية الشهر التالي مراعياً ظروف الناس المالية. إستقل َّ صديقنا (جبار) هذا عن باقي ذويه في الحلة ليؤسس مصلحة مستقلة له في بغداد في بداية شارع أبي نؤاس على نهر دجلة تحمل إسم [[جبّار أبو الشربت]] سرعان ما حققت نجاحات قياسية في جماهيرية أو شعبية ما يبيع جبار من نوع خاص به من شرابت الصيف وبمواصفات خاصة غير مسبوقة: شربت عصير الرمان ذي اللون الوردي الجميل الهادئ الغارق في جريش الثلج حتى حافات الكؤوس. رجل ناجح جداً ذكي جداً وعملي جداً جداً فإشتهر في بغداد إسمه التجاري وصار يعرضه للبيع مقابل عمولات معينة. تفتخر الحلة بأمثالك يا صديق جبّار. لم تحقق مكتبة السيد (جليل الناصر مكتبة الرشاد) ما حققت باقي المكتبات من شهرة ٍ وسعة ِ مبيعات ٍ وشعبية ٍ. هل للموقع من تأثير ؟ أم لشخصية أصحاب المكتبات ؟ كانت المكتبة العصرية تبيع حتى مجلات أجنبية إنجليزية أو أمريكية. أتذكر حادثاً طريفاً وقع في الحلة زمان الحكم الملكي رواه لي صديق ٌ محام ٍ كان سياسياً محسوباً على اليسار الدمقراطي. باعت مكتبة الفيحاء لوحدها عدة نسخ من كتاب لكاتب سياسي مصري إسمه (خالد محمد خالد / من العلماء)، إسم الكتاب [[هذا... أو الطوفان]]. إنتبهت شرطة الحلة أو إستلمت عاجلاً أوامر من بغداد تقضي بمنع تداول هذا الكتاب. بلغت الأمر لأصحاب المكتبات طالبةً منهم سحب الكتاب من الذين إبتاعوه إنْ كانوا يعرفونهم أو يتذكرونهم أو أنهم سجلوا أسماءهم في سجل المبتاعين بالنسيئة (الدفع المؤجل حتى بداية الشهر القادم: البيع فقداً أو بيع الدَيْن). أخبرني صديقي المحامي بعد الحادث بأعوام وأعوام بما حدث وكيف أن صاحب المكتبة أغفل ذكر إسمه للشرطة كأحد مبتاعي الكتاب لأنه يمت له بصلة قرابة متينة. ذكر لي صديقي هذه التفصيلات ساعة أن أعارني هذا الكتاب الممنوع لكي أتحفظ عليه وعلى إسم صاحبه لأننا كنا ما زلنا نحيا زمن العهد الملكي وكان ما زال قرار منع بيع وتداول هذا الكتاب ساري المفعول !! فتح في العام 1957 / 1958 السيد (كريم إبراهيم المطيري) مكتبة جديدة خامسة على نفس الشارع الرئيس ليست بعيدة عن بناية متوسطة الحلة للبنين لكنها مرّت وصاحبها بظروف صعبة حرجة بعد ثورة تموز لكون صاحبها معروفاً بإنتمائه لصفوف حزب البعث العربي الإشتراكي بل ومن أوائل المنتمين إليه. كما أُفتتحت عام 1958 / 1959 مكتبة (إتحاد الشعب) مقابل المدرسة المتوسطة تماماً وبجوار محل الخياط السيد (جواد الخياط / أبو حميد، معتمد الحزب الوطني الدمقراطي، حزب كامل الجادرجي) كانت مختصة أساساً ببيع جريدة طريق الشعب والكتب الماركسية. أدار هذه المكتبة السيد (طالب كجوة). كما إفتتح السيد (ضياء العطار) ربما في نفس الفترة هذه مكتبةً كبيرة مقابل معمل (محمد الناصر / أبو أنور ومحمود) لتعبئة المشروبات الغازية. لم تعمِّر هذه ولا التي سبقتها طويلاً فأغلق ضياء مكتبته ثم أمر قائد الفرقة الأولى بإغلاق مكتبات إتحاد الشعب جميعاً في وسط وجنوب العراق أيام حكم عبد الكريم قاسم. عدا ما يقرأ طلبة المدارس في صباح نهارات الخميس من أناشيد وطنية وما يقدم بعض طلبة المدرسة الثانوية من قراءات أدبية محدودة العدد ومتواضعة النوعية... لم تشهد الحلة نشاطات ثقافية كبيرة على نطاق واسع سواء في المكتبة العامة أو المدارس أو الساحات. علماً أنْ كان في الحلة شعراء جيدو النظم على ما أحسب من بينهم السيد ((محمد الرشادي)) والبعض من عائلة الفلوجي ثم الشعر السياسي ـ الإجتماعي الساخر للمرحوم المحامي رؤوف الجبوري الذي كان شائعاً في أوساط مثقفي الحلة وكان أستاذنا المرحوم عبد الرزاق الماشطة يحفظ الكثير من أشعار رؤوف الجبوري. صدرت في أربعينيات القرن الماضي في الحلة بعض الصحف والمجلات لكنها ما كانت واسعة الإنتشار، ثم إنها كانت سرعان ما تغلق بعد إفتتاحها لأسباب سياسية. أذكر صحيقة (صوت الفرات) الأسبوعية التي صدرت بعد ثورة تموز 1958 ثم توقفت في خريف عام 1959 وكان يدير ويرأس تحريرها المرحوم النجفي (حسن عوينة) الذي قتله إنقلابيو شباط 1963 تحت التعذيب في قصر النهاية. كانت في ثلاثينيات القرن الماضي مجلة أو جريدة دورية تولى إصدارها المؤرخ المعروف السيد (عبد الرزاق الحسني) حين كان موظفاً في الحلة لم تستمر طويلاً كما سمعت عنها وقرأت ُ. لا أعرف شيئاً عن ثلاثينيات ذلك القرن، لست من جيلها. في الحلة عدد كبير من شعراء اللغة الدارجة الذين يحفظون أشعارهم ولكنهم لايكتبونها لأنَّ جلّهم لا يقرأون ولا يكتبون... عدا بعض الإستثناءات إذ ْ يحضرني إسم السيد (صاحب عبيد / أبو عدي) قارئ تعازي الحسين المعروف في الحلة بجميل صوته المؤثر وطيب أخلاقه. طبع أبو عدي أواسط أربعينيات القرن الماضي ديوان أشعاره باللهجة الدارجة تحت عنوان (بابليات) على ما أظن... وشهُرت من بين هذه الأشعار قصيدة سرعان ما تحولت بفضله إلى أغنية سرت في الحلة وأقضيتها ونواحيها سريان النار في الهشيم. إنها قصيدة وأغنية { يا عزيز الروح يا بعد عيني // شنهو ذنبي وياك ما تحاكيني }. الطريف والشئ بالشئ يُذكر أن السيد صاحب عبيد كان الصديق الصدوق للشاعر محمد الرشادي وما كانا يفترقان أبداً إنْ كانت المناسبة (قراية حسينية) أو مناسبة عرس أو طهور (ختان). هناك أشعار الحزن والسواد وهنا الغناء والطرب وكؤوس العرق والمأكولات الشهية حتى مطلع الفجر. كان ذلك خلال أربعينيات القرن العشرين ولكنَّ ثورة تموز 1958 بدلت الكثير من عادات الحليين وأنماط حيواتهم فإختفى محمد الرشادي ولم أعد أراه في مقاهي الحلة المعروفة. فمَن أثرَّ فيمن وعلى مَن شعراً وفناً وغناءً ؟ لم يتأخر كثيراً المطرب الحلاوي سعدي الحلي عن بقية المطربين إذ غنى أغنية يا عزيز الروح بعد أنْ غناها سواه من المطربين وهو أولى الجميع بها لأنَّ صاحب كلماتها ومبدع لحنها الشجي الحلي صاحب عبيد خل ونديم الشاعر محمد الرشادي. كان محمد الرشادي يقدس أبا العلاء المعري ويعتبره في الشعر والفكر مثله الأعلى وكان شديد الفخار بنفسه أنه لم يطأطئ رأساً لأثرياء الحلة من أمثال آل مرجان فلم يتقرب منهم ولم يحضر مجالسهم الليلية المعروفة ولم يمدح ولم ينظم فيهم شعراً رغم ضيق ذات يده وشحة مصادر رزقه. لا أعرف إنْ كان للرشادي ديوان شعر مطبوع.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |