|
مقالات الحلة في الذاكرة (5).. مهن خاصة وعادات وتقاليد وطقوس الدكتور عدنان الظاهر
شاعت في أربعينيات القرن الماضي في مدينة الحلة مهن ٌ نسائية خاصة تمارسها بعض النسوة داخل بيوتهن َّ منها:
أولا ً / ممارسة السحر وقراءة تخت الرمل وقراءة الطالع في المرآة وممارسة آليات خاصة بتعميق المحبة بين الرجل وإمرأته أو لإيقاع الطلاق بينهما بوصفة مخصوصة إسمها ((الصرفة)) تنظمها الساحرة بطلب خاص عالي الثمن من قبل حماة المرأة لأنها لا تحبها أو تغار منها أو بطلب من ولدها. كانت أكثر ساحرات ((أو سحّارات)) الحلة شهرة ً سيدة معروفة بكنية ((أم مهدي السحّارة)). وبين سحرة الرجال كل من ((أبو هوسة)) و((السيد مرزة)) وكان هذان الرجلان مختصين بالدرجة الأولى بكشف أسرار السرّاق وما يقومون به من سرقات للبيوت على وجه الخصوص. كما شاع في تلكم الأوقات تعبير ((تراب إدريس)) وهو تراب محضَّر بطريقة خاصة لا يعرفها إلا الساحر أو الساحرة. مهمة ومفعول هذا التراب محصورتان بتسبيب حالة وقتية من العمى في أصحاب الدار التي يُرمى فيها بعض هذا التراب. عندذاك يدخل الدار مَن يروم الدخول لسرقة شئ ما يعرف مكانه أو لإحداث فوضى تجلب البلبلة والحيرة لأهل الدار إنتقاماً أو ثأراً أو غيرةً أو لإحداث صدمة عصبية لأهل هذا الدار.
ثانياً / كوي وصبغ الشعر مهنة أخرى شاعت ومورست في بعض البيوت لكي شعر رؤوس النساء، أي لجعله ملتوياً ملفلفاً كشعر النساء الإفريقيات. كذلك مورست عملية صبغ الشعر وخاصة بسائل (بيروكسيد الهايدروجين) الذي يقصر الشعر الأسود ويحوله تحت أشعة الشمس إلى اللون الأصفر. بعض صباغات شعر الرؤوس مارسن حتى حلاقة شعر السيدات. أما (الحفافات) فلهن بيوتهن الأخرى حيث لا صبغ ولا كي بل يمارسن إزالة الشعر غير المرغوب فيه في جبهة ووجه وباقي جسد المرأة ساقيها وتحت إبطيها. ما كانت هناك نساء متخصصات في وضع الحناء على شعر رؤوس النساء وفي أكفهن َّ أو أقدامهن َّ، بل كنَّ هن َّ مَن يمارس لطخات الحناء ليلاً في معظم الأحيان.
ثالثاً / الخياطات الخياطة في البيوت كذلك كانت شائعة كثيراً ومنتشرة في مدينة الحلة. كنتُ صغيراً ترسلني والدتي لأمرأة بعينها دارها غير بعيد عن دارنا في محلة (جبران) في وسط الحلة. أطرق الباب فتفتحه موارباً وتكلمني من وراء ستارة تتدلى على باب الدار. تطلب مني أن أقف لكي تقدّر طولي دون أن تسمح لي بدخول دارها علماً أنها كانت سيدة متزوجة ولها مجموعة أطفال أكبرهم سناً بنت ٌ بمثل عمري. تقول تعالََ غداً عصراً فستكون (الدشداشة) جاهزة. أذهب إليها لأستلم دشداشتي الجديدة وأسألها ـ وأنا أعرف مقدار أجرتها ـ فتقول: هات مائة فلساً. أعطتني والدتي هذا المبلغ لكني أقول للخياطة كاذباً: ليس معي إلا ثمانون فلساً !! تقول (ميخالف !)، تعال في المرة القادمة ومعك في جيبك مائة فلساً. أستلم الدشداشة وأكاد أطير من فرحي ولا تلمني أرض الله الواسعة فدشداشة العيد في يدي وعشرون فلساً (ضربتها) من الخياطة في جيبي فما أسعدني من طفل يغمط حقوق الخياطات المسكينات ويكذب على والدته. طبعاً لم أكن أكشف سر خدعتي لوالدتي لكنها ستعرفه لاحقاً حين تلتقي هذه الخياطة صدفة ً أو إتفاقاً هنا أو هناك في هذه المناسبة أو في واحدة أخرى. ستعرف ثم تسحبني من أذني ضاحكة: يا خبيث يا ملعون لا تكررها مرة ً أخرى... أحرجتني مع الخياطة. ما كنا نخيط إلا الدشاديش عند خياطات البيوت، أما الملابس الداخلية الصغيرة فكانت تخيطها أمهاتنا أو أخواتنا باليد أو بماكنة ماركة (سنجر) الإنجليزية تدار الصغيرة باليد والكبيرة بالقدم. خياطات البيوت مختصات بخياطة ملابس النساء أما الرجال فلهم خياطوهم وكانوا في الحلة كثرة فيهم نسبة عالية من الخياطين اليهود أذكر منهم الخياط (صالح) ثم (فكتور) أبو ألبير (ألبرت) زميلي في المدرسة الشرقية. أما الخياطون من غير اليهود فأقدمهم في هذه المهنة هو السيد (كرماش) وتوت ثم إرتفع إسم (عبد الحسين عبد الكريم الصفار) ثم (الشيخ جواد) الخياط السياسي ثم الخياط الظريف (عباس جون). أسماء الخياطين معروفة متداولة ولكنْ لا من أحدٍ يعرف أسماء الخياطات سوى دعوتهن بأسماء أكبر أبنائهنَّ فهذه أم مهدي وتلك أم سعدي وثالثة أم عادل وهذه كانت من أكثر صباغات وكي شعر النساء شهرةً. وثمة أمر آخر لا يخلو هو الآخر من طرافة: أن بعض النسوة مارسن التصوير الفوتوغرافي للنساء داخل دورهن وكنَّ نساء المصورين الرجال بالطبع.
رابعاً / مصورون في الحلة أقدم مصور شمسي في الحلة هو السيد (محمد علي شنطوط) والد زميل الدراسة في الإبتدائية الشرقية ثم الصديق (حسن محمد علي شنطوط). تنتمي هذه العائلة العصامية لآل عجام لكنهم لا يتسمون بهذا الإسم ولا أعرف السبب. للمصور محمد علي شنطوط مكان خاص على رصيف الشارع الرئيس العام في وسط الحلة مجاوراً لدار (محمد علي الحسون / والد جاسم وإخوته). يجلس الزبون على كرسي خشبي صغير (صندقجة) ويقف المصور وراء الكاميرا العتيقة، يقول: أنظر هنا ويشير إلى بؤرة العدسة، يلتقط الصورة ثم يدخل رأسه في مخروط طويل من القماش الأسود ويعبث لفترة من الزمن بأصابعه ثم يخرج رأسه وفي يده صورة يغمرها في سطل فيه سائل خاص، يفركها عدة مرات حتى يظهر وجه صاحب الصورة. يقصها بعناية من جهاتها الأربع، يقبض أجره ويقول مع السلامة. قام هذا الرجل العفيف البسيط بتأليف كتاب أواسط أربعينيات القرن الماضي إدعى فيه أنه (المهدي المنتظر)... ثم إختفى من الحلة ليظهر مصوراً في مدينة الموصل ! خلفه في مهنته إثنان من أولاده هما صديقي حسن وأخوه الأصغر (مصطفى). برع الإثنان في فن التصوير وحالفهما الحظ بعد إنْ إنتقلا إلى بغداد حيث يقع ستوديو حسن في رأس الحواش في الأعظمية ومحل مصطفى في الباب الشرقي قريباً من مبنى وزارة الثقافة والإعلام. صديقي حسن ترك المدرسة الشرقية مبكراً ليساعد أباه ثم ليمارس المهنة بعد غيبة والده عن الحلة. لم يترك الدراسة إلى ما لانهاية، بل واصلها مساءً فأكمل الإبتدائية والمتوسطة ثم الثانوية في مدارس الحلة، وحين إنتقل إلى بغداد سجّل في كلية الحقوق (القانون والسياسة) وتخرج فيها بتفوق لكنه لم يمارس المحاماة. قرر يوماً أن يدرس القانون في جامعة السوربون في باريس لكنه لم يجد الرجل المناسب لكي يخلفه في إدارة محله ويمده بنصف ما يأتي المحل من ريع وأرباح. أين أنتَ الآن يا صديقي الوفي حسن أبو (حنان) ومحلك يحمل هذا الإسم؟ هل تتذكر لقاءنا في العاصمة البولندية وارشو شهر تموز عام 1976 وسيارتك المرسيدس السوداء التي كانت تحت تصرفنا في جولاتنا شبه الخيالية في العاصمة وضواحيها؟؟ ما مصير ما إبتعتَ من عقار ثمين في أعظمية بغداد؟ هل هجّرك البعثيون وباقي أشقائك؟ هل وقف معكم إبن عمكم البعثي القديم (علي حسين عجام شقيق تلميذي إسكندر)؟ أعود لمصوري الحلة. فضلاً عن حسن محمد علي شنطوط عرفت الحلة مصوراً آخر هو السيد (كمال) وثالثاً يُدعى (سلمان) كان محله مجاوراً لمحل صديقي حسن.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |