|
مقالات لا... لن يحترق القمر (ديوان من شعر النثر المعاصر للشاعر سعيد جاسم حَرَج الوائلي) الدكتور عدنان الظاهر
كلمة لا بدَّ منها: تعرّفتُ على الصديق الشاعر الأستاذ سعيد جاسم الوائلي منذ ُ أقل من عامين من عمرالزمن ودرجتُ مذاك على قراءة ومتابعة ما ينشر الشاعر من قصائد في موقعه [الهدف الثقافي]. لفت نظري بوجه خاص سرعة تطور الإثنين معاً وبخطين متوازيين تقريباً. أعني تطور الموقع من حيث مستوى ونوع وتنوع وكم ما يُنشر فيه من جهة، وتطور أساليب الوائلي في أوجه ووسائل وتقنيات التعبيرعما يعتمل في صدره وأعماق أعماق روحه من ذكريات وتأريخ عائلي وشخصي وتجارب منوعة شتى في وقتي الحرب والسلم، الفن والمسرح والمشاركة في ثورة شعبان 1991 ضد نظام الجور والطغيان في العراق إبّان حكم صدام حسين. فلقد أُرغم الشاعر ـ كما هو حال ملايين الشباب العراقي ـ على خوض الحرب الضروس مع الجارة إيران وكان نصيبه أن يظل مقاتلاً فيها منذ يومها الأول حتى آخر يوم فيها (ثمانية أعوام). بدأ صدام حسين الحرب مع إيران بداية عام 1980 فكم كان عمر الوائلي آنذاك إذ دخل معامعها مرغماً ؟ وُلد الشاعر في مدينة النجف عام 1953، أي قذف به النظام العراقي المعروف في أتون الحرب يوم أن كان عمره 27عاماً لا غير... أوج وريعان الشباب. هل القتال في الجبهات المشتعلة نزهة قصيرة الأجل وممارسة هواية صيد الأسماك ؟ ما تأثير هذه السنوات الثماني على روح وفكر الفنان المرهف الذي درس الموسيقى في معهد الفنون الجميلة إعتباراً من عام 1970 وإلتحق بعد تخرجه في المعهد بأكاديمية الفنون الجميلة حيث درس فيها فنون المسرح ؟ نجد آثار تلك السنوات، سنوات الخراب والدمار والدماء، نجدها صدىً مكبوتاً يتردد ويتماوج صعوداً وهبوطاً في صدر الشاعر مثل موجات البحر حيناً ونغمات الموسيقى أحياناً أخرى. أصداء صامتة لا يفصح الشاعر عنها صراحةً، لا يريد، يأبى، يتمنع، يعز عليه أن يكشف ماضيه وهو ماضٍ مشرف يتشرف به كل العراقيين الطيبين الشجعان. للهِ درُك يا سعيد يا وائلي !! من أي معدنٍ جبلك والداك ؟ في أية طينة من تربة النجف الأشرف نبتَّ فنموتَ فترعرعتَ حتى بلغت مبلغ الرجال !! أجلْ، تقرأ أشعاره فتتحرك في دواخلك هواجس وأحاسيس الشاعر، متاعبه ثم تحس كأنَّ روح الشاعر تجر جسده، الروح تأتي ثم الكلمات. مستوى طاقة الروح أعلى من مستوى الألفاظ. كما أنَّ لدى الشاعر خوفاً مبطناً من أمر مجهول لا يعرف كنهه... ربما يتعلق بالمستقبل... مستقبل عائلته وأطفاله في البلد البعيد: الولايات المتحدة الأمريكية. من هنا كما إخال تأتي دلالة عنوان الديوان (لا... لن يحترق القمر). في تصورات الوائلي الإنسان، وربما باقي الأوهام وفظاعة أعوام الحرب ثم إنتفاضة شعبان تجتمع معاً لتكون محصلتها النهائية خوفاً من حريق رمزي... ضياع المستقبل... حريق وضياع الدروب وسياحات عشوائية غير مضمونة العواقب. الحريق الحريق... ينفيه الشاعر في وعيه لكنه يظل موجوداً في لاوعيه، في عقله الباطن. النفي هنا إثبات، نفي مكابرة لا غير. مكابرة من سحابة غبار كثيف مظلم تُخفي في مركزها حقيقة صغيرة مضيئة تقول إنَّ في داخل هذا الرجل خوفاً عميقاً ممضاً. إنها في التحليل أمنية كبيرة عبر عنها بأداة النفي القوية [لن... لن يحترق القمر] بدل [لا] الأضعف قوةً وأثراً في نفس السامع. يذهلك أمره، حزين متحفظ تحفظاً صوفياً في أشعاره، لكنه حين يتكلم معك بالتلفون لا تسمع منه إلا النكتة البارعة والجملة المترعة بالروح الشعبية وإلا الصوت الضاحك يشق الفضاء ويعبر المحيطات. يُغريك بأكلات عراقية شهيرة في البيوت العراقية ثم يتركك تلوك الحسرة و(الونة) والتمني والتعلق بالأماني العذاب.
علامات بارزة في أشعار الوائلي في الإمكان إجمال أبرز مفاصل وموضوعات قصائد الديوان بما يلي: 1ـ كتبت غالبية القصائد العظمى في عام 2004 2ـ وضوح أصداء وآثار الحرب العراقية ـ الإيرانية. قصيدة (ذيول وعورات). 3ـ تجربة الشاعر في مخيم رفحاء السعودي 4ـ هذيانات سوريالية وإنتقالات رشيقة كما الفراشات في الحقول 5ـ وضوح أثر المسرح والفن عموماً 6ـ مفردات بسيطة لكنها بالغة الدلالات عميقة المعاني كثيرات الإيحاءات تأتيه عفوَ الخاطر دون أن يسعى إليها ويتكلفها ويقحمها قسراً في مجمل السياقات السردية وتداعيات الخواطر والذكريات. لدى الشاعر خزين هائل من الذكريات وأصداء السنين الخوالي بخيرها وشرورها لا يعبر عنها تعبيراً مباشراً وبالخطوط المستقيمة، وذلكم شأن الشعراء الحقيقين المجودين. 7 ـ نسيجه الروحي شديد الوضوح لكنه عصي ٌّ على الإمساك بعيد ٌ عن المنال. الشعراء أرواح ٌ والشعراء يختلفون في طرائق ووسائل التعبير عن خلجات وذبذبات ومنعرجات أرواحهم. الروح فضاء مطلق فكيف الدنو منه ومحاولة مسه والإمساك به وتحويله إلى كلمات مكتوبة على الورق. هنا محنةالشعراء الكبرى وكل المبدعين الحقيقيين. هنا عذابهم الأعظم، عذاب مجاهدة مع النفس ومجالدة مع الألفاظ والحروف. وهنا مبعث إحساسهم بالذنب تجاه ضمائرهم والتقصير بحق قرّائهم وعجزهم عن نيل المستحيل الذي يحاولون. الشعراء الشعراء يعالجون المحالات ويحلمون بالمستحيلات. { يقولون ما لا يفعلون. وفي كل وادٍ يهيمون }. يحلمون بتدجين شئ لا يرونه عالقٍ في فضاء لا تتوقف خلاله حزمات الضوء فكيف يرونه ؟ هل يستطيع الإنسانُ وصف شئ لا يراه ولم يرهُ من قبلُ ؟ كلا. العجز أمام المستحيلات هو أكبر هم ٍ لدى الشاعر الحقيقي وأقوى مبعث ٍ لشعوره بالإحباط والخيبة. لذا فأغلب الشعراء يكتفون بشرف المحاولة ونيل ولم ِّ فتات الضوء الذي تخلّفه المذنبات والشُهبُ وراءها أثناء مروقها في الفضاء الكوني الجبار. عجيب ٌ أمرك يا إنسان. 8 ـ محنة العراق في شعر الوائلي. محنة الشاعر بوطنه وأهله وما حل َّ به قبل وبعد سقوط نظام بعث صدام حسين نجدها شديدة الوضوح في عدد من قصائد الديوان أذكر منها على سبيل المثال القصائد التالية (أنين المنافي) / (ألغام وسيارات مفخخة وموت) / (أغنيات إلى الوطن) / (شهداء جسر الأئمة) / (إلتماس) / (سيدي محمد). سعيد الوائلي شاعر متلبس بجغرافية وهموم العراق ومتسربل بما يُسفح من دماء العراقيين الأبرياء صباحاً ومساءً لكنه يعف عن ذكر بعض ما تعرض له هو وبعض أفراد عائلته من محن ومصائب على أيدي جلادي العراق. فهذا أبوه الشيخ جاسم حَرَج الوائلي يقتله البعثيون عام 1982 بالسموم جرّاء رفضه الإفتاء بشرعية حرب صدام ضد إيران. كان هذا الشيخ الجليل ومنذ بداية أربعينيات القرن الماضي حتى إستشهاده وكيل َ الحوزة العلمية في النجف الأشرف. فأي كبرياء نجفي عراقي يحمل هذا الشاعر ـ الرجل في رأسه وصدره وضميره ؟ يذكّرني صديقي الوائلي بشعر أبي فراس الحمداني يخاطب فيه حمامة ً يومَ أن ْ كان أسيراً في بلاد الروم:
لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلة ً ولكن َّ دمعي في الحوادثِ غالي أجلْ يا أبا أحمد، إني لأشهدُ أنَّ دمعتك غالية.
قراءة في بعض قصائد الديوان أشعر بميل وقوة خفية تأخذني قسراً وتغريني أن أفتتح َ قراءتي لبعض قصائد الديوان بقصيدة (لا... لن يحترق القمر) التي أخذ الديوانُ منها إسمه. فماذا عساني وجدتُ فيها ؟ عنوانها شديد الإغراء. فيه شد وجذب. فيه إثنتان من أدوات النفي، الأولى نفي معتدل (لا)، أما الأداة الثانية فإنها قوية فيها تحدٍ وفيها ما يشبه ويوحي بالإستفزاز { لن }. في (لا) توجع وشكاية من أمر ما يحسه القارئ الفطِن. في قوة النفي الظاهر فيها نوع من الضعف والإعتراف بأمر يجهد الشاعر نفسه أن يخفيه عن أنظار العالمين. يقول (لا) كأنه يقول (لا تصدقوني... إني كاذب... كاذب لكني لا أجرؤ على الإعتراف !). ثم يتدرج رويداً رويداً ليقف بقامة ممتدة شامخة فيعرب بأداة نفي أقوى وأكثر شراسة ً (لم يتحترق القمر). ما هو هذا القمر ؟ العراق وطنه ؟ جائز، بل وإنه الإحتمال الأقوى. عائلته الكبيرة من آل الوائلي في العراق والنجف ؟ بيته وبيت أبيه حيث وُلد ونشأ وترعرع وكان ـ كيوسف َ ـ أحب الأبناء وأقربهم لأبيه ؟ لا... قال لا. إنه يفصح عن قناعة راسخة أنْ سوف لن يقوم َ دخان نار في بيته وفي وطنه يخلف وراءه الحرائق. سيقوم العراق قوياً معافى كما كان وكما يريده أهله الأخيار الطيبون حتى لو إشتعلت فيه بعض نار طارئة. لن يحترق القمر... قمر العراق وعراق الأقمار التي سبق وأن تغزل بها إبن زريق البغدادي):
أستشهدُ اللهَ في بغدادَ لي قمراً بالكرخ ِ من فلك ِ الأزرار مطلعُهُ
ودعتهُ وبودي لو يودعُني صفوَ الحياةِ وإني لا أودّعهُ
ترك الشاعر بكل تأكيد أقماراً شتى كثيرة لا في بغدادَ حسبُ، إنما في طول وطنه وعرضه. لن يحترقَ القمر. الشاعر واثق إذ صممَ وقررَ فنطقَ. إنه درج أن يقرأ في القرآن كلاماً من قبيل ((وجعلَ القمرَ فيهنَّ نوراً وجعلَ الشمسَ سراجاً / سورة نوح / الآية 15)) ثم ((إقتربت الساعةُ وانشقَّ القمرُ / سورة القمر / الآية 1))... القمر نور السماوات والأرض فكيف يحترق مَن يُنيرُ ؟ ثم، قد ينشقُّ هذا القمر ولا أحد يدري هل إذا إنشق سيحرق ؟ ينشق إلى نصفين إثنين وليس الذي ينشق على نفسه يحرق بالضرورةِ ما حوله ويحترق. نقرأ القصيدة:
الوسادةُ لحمٌ يغلي مثلَ غيومِ السماءِ وأمواجِ البحرِ
إفتتاحية ناجحة، مغرية، موحية، تستفز القارئ. نجد فيها الأحلام والأرق ((الوسادةُ لحمٌ يغلي)) وعندما تغيمُ السماءُ غالباً ما يهيج البحرُ. غيم السماء وموج البحر. غيم يأتي من فضاء عالٍ لا محدود فيلتقي وسطح كبير لكن ْ له حدود.
في مملكة المرجانِ في عمق البحرِ أركبُ كآبتي وأترعُ البحرَ
نلمسُ في أحد مقاطع هذه القصيدة سوداوية مفرطة مهدَّ الشاعرُ لها منذ الإفتتاح:
بأوتارٍ بللوريةٍ مشنوطة ٌ عرائسُ البحرِ ثعالبُ تأكل أكبادها شياطينُ الأرضِ تكرعُ دمها وزنابيرُ تعشعشُ في هيكلها العظمي.
رموز وإشارات سوريالية لا تفصح عن مضامينها ولا عن دلالاتها. غمزات ساحرة تغريك ولا تقولُ لك شيئا ً ذا قيمة. لوحات غامضة تتملاها فتمتلئ بأحاسيسَ شتى لا تدرك فحواها. يكفيك منها قوة الإدهاش فيها فضلاً عن الإيحاء. يجد القارئ هنا نفسه محاطاً، بل غارقاً في أجواء بحرية وحيوانية. بدأنا بالبحر وظللنا مع البحر نرقبه ويتطلع فينا. هنا عرائس البحر وهنا حيوانات أخرى لا علاقةَ لها بالبحر: ثعالب وزنابير (أو دبابير... أفضل). نستمر مع الجو السوداوي العام للقصيدة. الثعالب تأكل أكبادها والدبابير ترى أنفسها لا شئ إلا هياكل عظمية، أي إنها ميتة وإن لم يقلها الشاعر. إنه الموتُ إذاً، الموت الذي كنّى الشاعر عنه بالحريق ونفى أن يقع هذا الحريق بأداتي نفي متفاوتتي القوة. يفنى مَن يقتاتُ على أحشائه طعاماً. ألم نقلْ إنَّ الشاعرَ يكابر إذ ينفي. يقول لا كمن يريد أن يقولَ نعم. لا عارية مكشوفة مكابرة، ونعم خجولة نصف مخفية، مواربة. لا يفارق الشاعرُ قمره ولا يفارق القمرُ شاعره. يعود إليه مشتاقاً شاقاً مياه البحر إليه في سفينة تغرق فيستهدي للوصول إليه بالغمام والعاصفة والبرق ليفاجأ أن قمره المأمول (متورم الشفتين). يا خسارة ! ما سبب تورم شفتي القمر ؟ ألعلةٍ فيه ؟ أم لشدة شوقه لملاقاة الشاعر ؟ أم أنَّ الفرقة َ والبرقَ والعاصفة َ أضرّت بجسده إبتداءً من الأعلى: من الشفتين ؟ نقرأ ونسمع ما قال الشاعر: السفينة تغرقُ نتشبثُ بتلابيبِ الملائكةِ الزُرق ِِ أنتَ، يا أميرَ الغمام ِ يا مَن تطاردُ البرقَ وتركبُ قهقهة َ العاصفة ِ يا مّن ظلكَ أحمرُ العينين ِ تمرحُ الشياطينُ بين أحشائكَ غاضب ٌ أنا منك... لقد تورمتْ شفتا القمر.
هنا قمر ٌ مقاتل ٌ وبطلٌ اسطوري ٌّ إيجابي، يطارد البرق ويركبُ العاصفةَ يحملُ الخطرَ في عينيه وتعج ُّ شياطينُ الرعب في أحشائه. يقاتل بكل ما يتوفر لديهِ من وسائل القتال: يقاتل حتى بأسنانه... بشفتيهِ... فالتقبيلُ قتالٌ وجهادٌ [[وأيَّ جهادٍ دونهنَّ أُريدُ ؟ لجميل بُثينة]]... وقد يأتي بعد التقبيل الردى، أي الفعل المضاد لقبلة الموت التي تسعف المشرف على الموت إختناقا. وضعنا الشاعر هنا أمام قمر ٍ مقاتل قاتلَ وإستعرضَ بطولاتهِ الأسطورية في ساحة عرضٍ عسكريةٍ. شعرنا بعد العرض بالتعب وبعض الخوف وربما بعض الرعب. لا نحبُ القتالَ والحروب، بل نجنحُ للسلم. نحنُ قومٌ مسالمون. لذا، وتلطفاً من الشاعر وقناعة ً منه وذكاء ً مسرحيا ًخاصا ً درسهُ وتدرب عليهِ ومارسه في تمثيل بعض المسرحيات... وضعنا أمام قمرٍ مغاير، تمام المغايرة. هدوء وسكينة بعد عاصفة رعدية وزوابع. بعد كل شديدة يأتي رخاءُ. فلنتفحصْ القمرَ المسالمَ الجديدَ وما فيهِ من خصائص مغايرة لخصائص سلفه. فحين ينتقلُ الشاعرُ إلى مقطع آخر تالٍ يجعل إنتقالته إنزلاقةً سلسةً مرنةً مريحة. يسلّمُ فيها قمرٌ الرسالة َ إلى قمر من جنسه. من قمر ٍ إلى قمر. تبدو كأنها نقلة واعية محسوبة من قبل الشاعر من باب تيسير قبول شعره لدى القارئ. هذا أسلوب ذكي أسميه أسلوب التسليم والإستلام المتجانس. قمر ـ قمر. نقرأ مقطع القمر الثاني الذي أوكلتْ له رسالة ُ الشعر وبريدُ الشاعر:
قمر ٌ يتثاءبُ كسولا ً على أريكته ِ تزرعُ الملائكة ُ في صدره ِ زهورُ السوسن ِ وزنابق ِ العقيق ِ صياد ٌ ماجن ٌ وعربيد ٌ يسن ُّ مخالبَ الذئاب ِ لتنهشَ قلبَه.
ما الذي يميزُ هذا المقطع عما سبقهُ ؟ هل ثمّة َ من فرق بين القمرين ؟ نعم، هنالك فروق. هنا إنفراج بيّن كما يحصل في عالم المسرح. هنا قمر هاديء يميل للكسل بل وللنوم. تحيطُ به وترعاه ملائكة بدل شياطين القمر السابق. ملائكة تزرعُ في صدره السوسنَ وزنابق العقيق. سلامٌ في سلام حتى مطلع الفجر ولكن، مهلاً... لا يدوم سلمٌ ولا يعمر هدوء ولا يدوم بقاء. بعد الهدوء تأتي العاصفة ! فجأة يكتشف الشاعرُ أنَّ هذا القمرَ المسالم الهادئ هو في واقع الحال ((صيادٌ ماجن وعربيد ٌ يسن ُّ مخالبَ الذئاب ِ لتنهشَ قلبهُ)). ما سببُ وما تفسير هذا الإنقلاب ِ المفاجئ ؟ هل نسألُ أنفسنا أم، ترى، نسألُ الشاعر، أم نسألُ القمرَ نفسه ؟ رأينا في بعض المقاطع سالفة الذِكر ((زنابير تعشعش في هيكلها العظمي))...ونرى ههنا قمراً ماجناً ((يسن ُّ مخالبََ الذئابِ لتنهشَ قلبَهُ)). عمليتا إنتحار. عمليتا تدمير النفس القصدي مع سابق إصرار. هل نبحث عن الجواب في محاولة لسبرأغوار الشاعر نفسه ؟ ليس أمامنا على ما أحسبُ إلا هذا السبيل ! إنفراج بعد توتر مسرحي درامي. عافية وهدوء ثم... ثم نرى أنفسنا وجهاً لوجه أمام عمليتين إرهابيتين تستهدفان قتل النفس التي [حرّمَ اللهُ إلا بالحق] ! ديننا يحرِّم ُ قتلَ النفس. مَن قتلَ نفساً كأنه قتلَ الناسَ جميعاً. هل من تفسير يا شاعرُ يا نجفي ويا وائلي ؟ لِمَ قد إنقلبتَ إنقلابة درامية تعلمتها من فنون المسرح وخاصةً مسرح (برتولد بريخت) ؟ هل دأبكَ أنْ تبدأ المقطع الشعري بمزاج معين ثم تُنهيهِ بآخر َ مغاير ؟ هل تعاني من إضطرابٍ في هارمونية نسيجك النفسي فتتغير فيك الألوانُ والعوالم الميتافيزيكية ومتغيرات الحركة المسؤولة عن إبداعك الشعري ؟ لا أظن ذلك. قرأتُ لك الكثير من الأشعار المتماسكة اللحمة والنسيج والمنسجمة الألوان الداخلية والخارجية والتي يتطابق فيها العالمان الفيزيكي والميتافيزيكي وهذا أعظم ضمان لبلوغ حالة الإبداع في عالمي الشعر والموسيقى. لا أرى في هذا التناقض مشكلة كبيرة إذ بدأنا بمفارقة تلمسناها في عنوان هذه القصيدة: التماحك والمعاضلة بين الخفاء والعَلن. التأرجح بين النفي العاري والإثبات المبطن. الفرق بين ((لا)) و ((لن)). ((لا)) الضعيفة و((لن)) الأقوى. لا... لن يحترق القمر. ما زال في قرارة الشاعر وجل ٌ وخوف ٌ كبيران من إحتمال أنْ سيحترق القمر... وأنَّ العراق (القمر) إلى دمار !!. كتبَ الشاعرُ هذه القصيدة في 18.12.2006، وفي هذا العام بالذات والعام الذي يليه رصدتُ تطوراً نوعياً في شعر سعيد الوائلي ونضجاً متميزاً في وسائل التعبير وإتساع رقعة ما يوظف من مفردات ومجازات ورموز وما يستخدم من صور شعرية. إرتفعت منذ هذا العام (2006) حرارة شعر الوائلي بعد عام 2005 الذي أسميه عام الهمود والكمون والهدوء الذي يسبق العاصفة... ثم جاءت العاصفة، جاءت بالفعل.
قصائد أخرى متميزة قصيدة [زَبدٌ سماوي] إذا تجاوزنا عالمي الهدوء والعواصف اللذين وجدناهما يتعايشان معاً ويتبادلان المواقع والأدوار... نجد أنفسنا في قصيدة [زّبدٌ سماوي] أمام عالم آخر تنبأنا منذ البداية به وتوقعناه مستقرئين نشأة الشاعر وتربيته البيتية ثم طبيعة مدينته ومسقط رأسه ألنجف. أعني عالم الصوفية والتصوف. لقد إنصرف الوائلي في هذه القصيدة لهذا العالم ولكن، لا عن طريق ممارسة الطقوس الصوفية المعروفة، إنما عن طريق توظيفه لمفردات الفلسفة الصوفية الشائعة والمعروفة لدى الكثير من الناس. وظفها بكثافة تلفت نظر القارئ، وظفها واعياً بحيث لم يغادر ثقافته المرنة وروحه المجبولة على التسامح وقبول التعدد والإختلاف. إنه يبدو في هذه القصيدة ((علمانياً ـ ليبرالياً)) كما هو الحال في غالب قصائده. إنه يعوِّم نفسه فيجعلها طافية ً فوق سطوح المأثورات والمترسخات. يطفو فوقها لكنه لا ينفصل عنها ولا ينكرها ولا يتعالى عليها. فهل هو علماني ـ ديني أم إنه متدينٌ ـ علماني ؟ ليس من حقنا الدخول في عالمه الشديد الخصوصية هذا، فليكنْ من يكن وليكنْ ما يكون. فضيلته الأخرى إنه قادرٌ على الوقوف محايداً في عالم الظواهر والمتغيرات والثوابت... حين يريد ومتى يريد. تلك قضية على غاية الأهمية بالنسبة لأي شاعر حسب إعتقادي. الإرتقاء بالنفس مما هو ذاتي والعروج المتدرج إلى مستويات أعلى من الموضوعية. في هذه القصيدة حشدٌ كبير من مفردات الصوفية من قبيل: العدم / الفيض / الروح / الحُلُم / الحقيقة / توحد الأضداد / الكينونة / الحضور والغياب / الرؤيا / الكشف / الأزل / إتحاد الغياب بالحضور / التجسد / اليقين / ما وراء الحقيقة / الأضداد / الوجود / الباطن / التأويل / الإثبات والنفي / تراتيل الفتوح. نقرأها فنحسب أنفسنا غارقين في بخور تكايا وزوايا المتصوفة نسمع تهدجهم ونؤخذ بحركات رؤوسهم التي لا تكل ولا تتوقف. ما الغاية من وراء هذه الحشود الصوفية اللفظية ؟ ما قصد الشاعر وما هدفه ؟ هل هو درس وعظي لتعليم القارئ أسس الفلسفة الصوفية مبتدئا ً من البدايات ؟ هل هي سور القرآن القصيرة التي يفتتح المصلي بها صلاته ؟ ما علاقة كل ذلك بالقمر الذي يحترق ـ ولا يحترق ؟ نقرأ القصيدة ثم نجيب بدل الرجم بالغيب.
أنهارُ ملاحمِ الأبدية ِتسرحُ في خيالِ العَدم ِ كشفق ِ اليبابِ تتمرجحُ الذكرى... وضفائرُ الأفق ِ الطويلة ِ لا تُعد.
حقائق ٌ نشوانة ٌ تفيض ُ ينشد ُ صوتُها البصيرة َ لغة ً تذوبُ على الرو ح ِ كزّبَد ٍ سماوي ٍٍّ بملامحِ الحُلم ِ والحقيقة.
تتوحد ُ الأضداد ُ في كينونة ٍ بيضاء َ ووعي ُ الحضور ِ ضباب ٌ فضيٌٍّ يُفضي إلى روحِ الرؤيا من دون رياء.
تتناسلُ الذوات ُ ذوات ٍ تتكشفُ يقينا ً على ساحلي ِّ الأزل ِ نلملمُ رمادَ المأساةِ وفي هولِ صداعِ الحدودِ يتحدُّ الغيابُ والحضورْ. تتجسدُ صورةُ اليقين ِ ما وراءَ الحقيقةِ رؤى ً سماوية ُ الطنين، حزنُ الأنا وصوتُ ذاتِ نبع ِ همس ٍ دفين.
تسبحُ المترادفاتُ أضداداً معا ً على موجات ِ ريح ٍ وفي قوسِ العدم ْ توترُ سهام ِ الوجودِ والمعاني ينابيعُ رؤيا على ضفافها ألقُ الحضورْ.
في باطنِ العقلِ شبيهان ِ يتحررُ الهذيانُ من موته ِ والتأويلُ مُفتتحُ النذورْ خامة ُ الإثبات ِ والنفي ِّ تراتيلُ الفتوح ِ يسترقُ الحرمانُ معناهُ وينصب ُّ البخورْ.
قرأت هذه الأشعار مراراً فتعقدتُ مراراً حتى أصابني مركب الشعور بالنقص. إني عاجز عن فهم وتفهم وإلتقاط إشارة ونأمة صغيرة وبصيص ضوء أستهدي به كالأعمى الذي يتخبط في دياجير ظلام دامس. الصوفية كما أعرفها ليست كذلك. وحتى السوريالية الحديثة جداً... أقرأ أشعارها فأفهم شيئاً وأتلمس أشياء َ أخرى وأتحسس البعض تهجساً بمجسات اللاشعور والعقل الباطن. أحس أني في نوع من التوافق غير الثابت مع ما أقرأ وأنَّ بيننا حِلفٌ غير موقع وشبه تفاهم مشترك. وفي أسوأ الأحوال أني أرتاح لما أقرأ. لا أشعر بالسأم والملال ولا أعاني من نفرة ويبوسة وخشونة وهذا حسبي كقارئ وناقد. الإنسجام... الهارموني... القواسم المشتركة... الجسور الرابطة هي ما يلتمسه قارئ الشعر والتراث الصوفي والسوريالي. يبدو لي أن َّ سوريالية الوائلي سوريالية جديدة غير مسبوقة، خاصةً بين شعراء اليوم العراقيين والعرب من الشباب. فما الذي ميز الوائلي عن هؤلاء ؟ نشأته ؟ دراساته ؟ ثقافته ؟ الحروب التي أُجبرَ على خوضها ؟ الثورة الكبرى التي ساهم في تأجيج لهيبها ؟ حياة معسكرات النفي واللجوء ؟ حياته الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية وإتقانه لغة جديدة صار يكتب بها الشعر ويترجم منها وإليها ؟ ما سر هذا العمق والتنوع والتعدد والإتساع في شخصية الشاعر وفي عناصر التركيب والبناء الروحي له ؟ إنه جبل جليد تختفي تسعة أعشاره ويظهر الضئيل الباقي منه فوق ماء البحر. القراء يفهمون شعر الحلاج الصوفي وإن بدا غامضاً ملفلفاً بالأجواء الإيحائية الغريبة على منطق الشعر ومنطق الناس وما إعتادوا عليه. أزعم أني أفهم وأتحسس مقولة الحلاج [[ركعتان في العشق لا يصح ُّ وضوءُهما إلا بالدم]]. أقرأ هذا القول فأحس ُّ أنَّ فيه ووراءه معاني أستطيع إستيعابها وفهمها وحدسها كلاً وبعضاً. يتهيأ لي كأني أقف خاشعاً خلف القطب الصوفي الحلاج يصلي أمامي فأتخذه لي إماماً أحترم وأفهم ما يقول لي المريد. وأتذوق وأرتاح لسماع وقراءة أشعاره التالية: هيهات َ ما قتلوهُ // كلا، ولا صلبوهُ لكنهمْ حين غابوا // عن وجدهِ غيّبوهُ سقوهُ صرفاً وراموا // كتمانَ ما أوعدوهُ فما أطاقَ لبوثا ً // لثقلِ ما حمّلوهُ
يهيم القارئ إذ يقرأ هذا الكلام غير المألوف الذي يبدو كأنه ضربٌ من الهلوسات... وما أحسبه إلا كذلك. كل ما قال إبن عربي وإبن الفارض وغيرهما من شعراء المتصوفة لا يختلف كثيراً عن شعر الحلاج علي بن منصور. أعود لقصيدة ((زَبدٌ سماوي)) فأجد فيها صوراً ناطقةً بالألوان والظلال، صور تستنطق حروفها الخاصة المغايرة لحروف لغتنا العربية التي نكتب بها الكلمات. حروف تبدو لي كالكتابة المسمارية التي يفك الخبراء طلاسمها لكنهم يظلون عاجزين عن النطق بها. هذا هو شعر سعيد الذي وضعته في عالم الشعر الصوفي. شعر شديد التعقيد تفوّق به على كل الشعر السوريالي المعروف في عالم اليوم ومنذ رامبو وبودلير.
قصيدة [القيثار الذهبي] قصيدة أخرى متميزة في كونها تمزج حزن وضيق الشاعر ومحنته الوجودية مع الزمن... تمزج ذلك كله بظواهر الفلك والكون الأعظم. معه حق، فالزمن أحد مكوني الكون الأوليين: الزمان + الفضاء. حين يتكلم ويلمح ويرمز إلى واحدة من مشاكله الحياتية يدلف فوراً إلى الزمان محملاً إياه تبعات ما يحل به من مصائب. نقرأ في الصفحة الأولى من هذه القصيدة الألفاظ التالية الدالة على ظواهر الكون: الأفق / الغروب / الشفق / القمر / البحر / الزمن / الصدى...كون مصغر مكثف يتعاطاه الشاعر من غير مبالاة... كأنه قدر ٌ أعمى لا محالة َ واقعٌ ولا مهربَ منه. الشاعر هنا يؤمن بالجبر ويستسلم للأقدار. نماذج من شعر هذه القصيدة:
حين يغرقُ صهيلُ الأفق ِ في تلاشي الغروب ِ ظلالُ الشفق... يمشط ُّ شعرَه ُ الطويلَ والقمر ُ نشيج ُ عينيهِ ملفوف ٌ بأوراقِ الغيوم.
يستنشق ُ البحر ُ غسقا ً دامسا ً مراياه ُ فزع ُ الأيام ِ المتلاحقة ِ ورعاف ُ الزمن.
مكيفات ُ الصدى تنبض ُ في الوادي السحيق ِ وهمهمات ُ الجبالِ صهواتُ جواد ٍ جامح.
أتهاتك ُ مع زمني بين القيض ِ الأول... والقيض ِ الثاني ! نحترق ُ سويا ً شواء ً للكلاب ِ والقطط ِ في زيف متاهات ٍ موَشومة ٍ بداء ِ العَظَمة. أية ُ حماقات ٍ في ذلك السراب ِ يعجن ُ الصيف َ في عيونِ الخراب ِ بلا رحمة ٍ !؟
قيثارة ُ غيم ٍ ملائكي ٍّ يداعب ُ أوتارها العرّافون َ يملأون َ سلالَ الملل ِ المتواتر ِ لراحات ِ الموت ِ وجوه ٌ تكشف ُ ما لا نهاية ٍ عن أيام ٍ موشومة ٍ بشهقةِ العَطش ِ تتبعُها طواحين ُ الغربان ِ تُدنس ُ " نوطة َ " القيثار ِ الذهبي.
سوءُ الطالع ِ مِخلب ٌ أعمى يتدلى عَبر َ نافذة ِ السقيفة... أية ُ فايروسات ٍ يتلقفها المتجمهرون َ صيحات ُ سخاء ٍ لا نهاية َ لها وصهاريج ُ الطابور ِ الخامس ِ تهتف ُ بقمصان ٍ حُمر.
يطغى على أجواء هذه القصيدة عنصر صراع الشاعر مع الزمن. إنه متمحن ٌ به. الشاعر هنا يعاني من خيبات ٍ وما يحسبها خيبات ٍ في مسلسل حياته. إنه يشكو مر َّ الشكوى من الزمان في تعابيرَ من مثل ((أتهاتك ُ مع زمني)) // ((نحترق ُ سويا ً شواء ً للكلاب ِ والقطط)) // أية ُ حماقات ٍ في ذلك السراب ِ يعجن ُ الصيف َ في عيون ِ الخراب ِ بلا رحمة ٍ)). لا يقول الشاعر أنا حزين ولديَّ مشاكل وكانت لدي مشاكل عويصة مع نظام حكم حزب البعث السابق. لا، لا يفصحُ. كبرياؤه لا تسمح له في أن يفصح َ وفي أنْ يُعرب. هو أكبر من كل المشاكل. هو كما قال شاعر ٌ قديم:
صغارُ الأسد ِ أكثرُها زئيراً وأصرمُها اللواتي لا تزيرُ
نجد ُ في المقطع الأخير بصيصَ ضوءٍ في نهاية النفق... يعلّق الشاعر إحدى خيباته على حادثة تأريخية وقعت بُعيد وفاة الرسول الكريم مباشرة. وهي قصة شهيرة لإجتماع ٍ إلتأم في سقيفة بني ساعدة تقرر فيه أن يكونَ أبو بكر ٍ الصديق خليفة ً على المسلمين، أول رجل يخلف الرسول َ ويتعهد أمور المسلمين والإسلام.
قصيدة [رَقصة ٌ هندية] ما هو سر الرقصة الهندية وما من رَقصةٍ دون راقصة ٍ وراقص ومجموعة راقصين ؟ ولماذا الهندية والشاعر عربي ٌّ عراقي ٌّ نجفي صميم ؟ ألأنه درس الموسيقى والمسرح في مطالع شبابه ثم تعاطى الشعرَ ((بعد أن شاب َ)) ؟ ترك السلالم الموسيقية وأنغامها وتخوتها ومدارجها ليتجه َ صوب الرقص، الرقص الشرقي، الرقص الهندي بالذات ؟ العلاقة كما نعرفُ وثيقة بين الرقص والموسيقى. لا رقصَ دون موسيقى. مثل َ شاعرنا على المسرح ولكن، هل مارس الرقصَ عليه ؟ هل يجرؤ على ممارسة هذا الفن الشيطاني وجذوره الشخصية والعائلية راسخة ٌ غائرة ٌ في تربة مدينة النجف الأشرف المحافظة وأبوه المرحوم الشيخ جاسم الوائلي ؟ لا أظن ! على أية ِ حال، ما نجدُ في قصيدة [رَقصة هندية] ؟ ظواهرَ الكون العظمى والحزنَ رغم الرقص والطرب المرافق للطرب. وكما هو متوقع من الوائلي: لم يقلْ إني حزين... يا ناس إني حزين ! لكنه رمزَ لحزنه بصورة مجازية بليغة وثيقة الصلة بتراث أهله ومدينته وبعض شعائر دينه... قال: إبريقُ الحزنِ... { الحزن ُ} لفظة مجردة تخطاها الشاعر فحولها إلى ظاهرة ملموسة معروفة شائعة الإستعمال، يلمسها القارئ بيديه ويباشرها خلق ٌ من المسلمين لا عد َّ لهم في كافة أرجاء الأرض. إبريق ٌ ليس فيه إلا الأحزان... لا يسكب ُ ماء، يسكب حزناً. يتوضأ ُ المؤمن به، بالحزن، يتيممُ بالحزن لا بالتراب.أفلمْ يتوضأ الحلاج بالدم كما رأينا في السالف من الصفحات ((ركعتان في العشقِ لا يصح ُّ وضوءُهما إلا بالدم)) ؟ الإبريق ُ للمؤمن للتطهّر والوضوء... لكنه إبريق ُ كحول للمدمنين عليه من أصحاب أبي نؤاس والشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي صاحب ديوان (أباريق مهشَّمة). نواصل قراءة قصيدة [رَقصة ٌ هندية ٌ].
إبريق ُ الحزنِ مشدوداً في أصابع ِ القمر ِ يصهرُ عيونَ الضوءِ ما بين النجومِ.
في ظلالِ الظلام ِ حينَ يغلقُ عينيهِ بين الصدى والصدى... يصرخُ الصمتُ.
أكوامُ الخريفِ ودُخان ُ الأحلام... وشم ُ بلادي.
نتف ُ القُرى... على صحراء َ ممتدّة... على أودية ٍ منسيّة ٍ يسيلُ منها الضيم ُ خيام ٌ غائرة ٌ في إنحداراتٍ ترابية ٍ وقنوات ُ الطريق ِ الملتوية ِ رَقصة ٌ هندية... نزيف ُ مِنجم ٍ للفحم ِ مُعلَّق ٍ بشراع ِ الغم، والوادي ذو الفم ِ المفتوح ِ ينظر ُ بصمت ٍ لإنفلات ِ الغيوم.
نفهم ـ وقد قرأنا ـ القصيدة جيداً، ما مغزى الرقص الهندي وما دلالته وما علاقته بمزاج ووضع الشاعر الحالي. نفهمها أكثر إذا ما عرفنا أن الوائلي سعيد ٌ قد أمضى أعواماً سجيناً لاجئاً في مخيم صحراوي إسمه مخيم ومعسكر (رفحاء) على أرض المملكة العربية السعودية بعد أن أسهم في هبّة وثورة شعبان عام 1991 إثر َ تحرير الكويت من غزو صدام البربري لها. ليتَ الشاعر، وقد طالما رجوته وطالبته، أن يسجلَ وقائع حياته في هذا المعسكر الرهيب. نعمْ، كتب هذه القصيدة وألمح ورمز إلى جغرافية مكان المعسكر وأحوال الطقس والمناخ في تلك المنطقة الصحراوية المقفرة... ألمح إلى كل هذا حسب مزاجه وأسلوبه في كتابة الشعر. الكبرياء الوائلية تظل تلاحق الشاعر وتفرض نفسها عليه كيفما وأينما كان وسيكون.
توصيف معسكر " رفحاء " / جحيم رفحاء: ظلام وللظلام في رفحاءَ ظلال. لا شئ في جحيم رفحاءَ غير الأصداء... الصدى يردد ويكرر نفسه خالياً من أي معنى. الصدى يضيع في البوادي لإنعدام الجدران والحواجز الطبيعية التي تصده فترده حيث كان. يا للهول !! يا للمصيبة !! أصداء رفحاءَ صامتة، لا صوتَ لها، لا حنجرة فيها تقول وتشكو ولمن تشكو ؟ الصمت وحده يعزل الصدى عن أخيه الصدى الآخر التالي. وهذا هو الموت بعينه. صحراء ممتدة ٌ تنضحُ بالهم والويل والضيم. خيام كما خيام الغجر، مثبتة ٌ في التراب. أما الطرق ـ ولا من طريق معبّدة ٍ في الصحارى ـ فإنها، إنها... متعرجة تتلوى تحت السماء ونجوم التشرد والغربة... تتلوى كأفاعي الصحراء السامة... تتلوى كما تتلوى راقصة ٌ هندية ناشرة ً يديها وأصابعها في كافة الجهات هازة ً رأسها وشعرها هنا تارةً وهناك أخرى. هز ٌّ عنيف وإلتواءات تتضايق منها روح السجين... لا يرى فيها إلا حبالاً تلتف حول رقبته وتوشك ؟ هذا هو عالم معسكر رفحاء... السجن الجماعي... العزل القاتل... الجحيم. ختاماً أود أن أتساءل ربما مع غيري من متابعي شعر سعيد الوائلي: كيف تسنى له وقد جاوز الخمسين من عمره أن يلتحقَ بجيل شباب قصيدة النثر الحديث وأن يجدَ له مكاناً مرموقاً بين ظهرانيهم ؟ إنه لا شك َّ قد فقد الكثير من أحلى سنوات شبابه في الحروب العبثية التي دمرت العراق ثم غزو الجيران ثم حروب النظام العراقي السابق الداخلية ضد شعبه فضلاً عن معسكرات النفي والتشرد واللجوء. رفحاء رفحاء وما أدراك ما رفحاء !!
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |