|
مقالات بصمات المبدعين على جدران العمارة الإسلامية نضير الخزرجي / إعلامي وباحث عراقي الرأي الآخر للدراسات – لندن الأمم حية بقيمها السامية، والأمم واعية باحترامها للتراث، والأمم راقية بارتفاع كعبها في العلوم شتى، والأمم نبيهة بإجلالها لروادها السابقين وتعظيمها للماضين منهم وتكريم الذين يعيشون بين ظهرانيهم، فالأمة النابضة بالحياة هي التي تعظم قادتها ولا تأكل فيهم أحياءاً ولا تستأكل بهم أمواتا، وإنما تضعهم في المنازل التي أنزلهم فيها رب العباد، ولا تعتدي بالتقدم عليهم ولا تجنح بالتخلف عنهم، لان الأمة في الحالتين هي الجانية على نفسها وهي الخاسرة. وفي الأمة الإسلامية أسماء ورجالات لامعة تركت آثارها في سجل الأمة ولازالت الآثار تؤتي كلها بإذن ربها كل حين، وبعض من هذه الشخصيات جاء النص واضحا بتقديم فروض المودة والمحبة لها، وأجلاهم مصداقا أهل البيت (ع) الذين أمر النص الإلهي على لسان النبي محمد (ص) الانصهار في بوتقتهم: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) سورة الشورى: 23، ولم ينقطع أثر النص برحيل النبي (ص) او رحيل الدائرة الاولى من أهل بيته، فالفعل "أسألكم" دال على الاستمرارية، أي مد حبل المودة لسلسلة أهل بيت النبي محمد (ص)، بيد ان المصداق الأول للنص يبقى محتفظا بطراوته، وهو المودة للدائرة الاولى من أهل البيت (ع) وهم أصحاب الكساء (علي وفاطمة والحسن والحسين) الذين شهد القرآن لهم بالطهارة والعصمة: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) سورة الأحزاب: 33، ومن بعدهم الأئمة من صلب الحسين (ع)، بنص حديث النبي (ص) المشهور عن ابن عباس (ت 68 هـ): (ألا وإن الإجابة تحت قبته والشفاء في تربته والأئمة من ولده). وربما يتساءل البعض كيف يمكن العمل بنص المودة بعد الموت؟ لا يجد المرء صعوبة في الإجابة، لان الواحد منّا في الحياة اليومية يكرم الميت بإكرام ذريته، وأما في أهل البيت (ع) الذين قام على أكتافهم بناء الإسلام، فان العمل بهدي النبي (ص) وأهل بيته (ع) هو واحد من مصاديق المودة، واحترام مثاويهم ومراقدهم دلالة على المودة والمحبة، فكما كانت بيوتهم مهبط الوحي، فان مراقدهم مهبط ملائكة السماء، ومحل الأبدان التي هدّها سفر الحياة والقلوب التي أنهكتها تقلبات الدهر، تتمسح على الأعتاب، تستحلب لبن الرحمان بأنامل المودة لأحب خلقه. من هنا فان أي إعمار لمرقد من مراقد أهل البيت (ع) إنما يدخل في خانة المودة، وأي خراب أو تخريب يدخل في خانة القطيعة العملية، لان القطعية المجردة إنما هي جفاء أما القطيعة العملية إنما هي مرحلة متطورة من العداء للرسالة الاسلامية، وعمل متعمد لقطع وشائج المحبة والمودة بين المسلمين وأئمة أهل البيت تحت مقصلة التوحيد!!
مع الخالدين كتاب "تاريخ المراقد" في أجزائه الأربعة والخاص بمراقد الامام الحسين (ع) وأهل بيته وأنصاره، بقلم البحاثة الدكتور محمد صادق محمد الكرباسي، شكل تحفة عمرانية وجوهرة تراثية، ساح بين صفحاته الباحث العراقي، المقيم في النمسا، الأستاذ سعيد بن هادي الصفار، ووجد ان الأسماء الكثيرة التي ساهمت في إعمار المرقد الحسيني الشريف بالمال والجهد والتي توزعت في الأجزاء الأربعة من كتاب تاريخ المراقد تستحق ان تفرد في كتاب مستقل، كجزء من المودة للإمام الحسين (ع) وخدمة الامام الحسين، بغض النظر عن النوايا، لان بعض المساهمين قادة وملوكا وأباطرة يذكرون عند بعض بالخير وعند البعض الآخر بالشر. وقد صدر الكتاب عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 120 صفحة من القطع الصغير تحت عنوان "الروضة الحسينية وإسهامات المبدعين الجليلة" كما حررها الدكتور الكرباسي في تاريخ المراقد، وحسبما جاء في مقدمة الناشر ان: "كل محاولة لطمس معالم تلك الروضة الحسينية تقابل بعشرات بل مئات المساهمات لإعلاء قبابها ومنائرها، ورفع ذكرها واستمرار إشعاعها الذي يصل الى مختلف دول العالم، فتحن اليها القلوب وتأتيها والهة عطشى للثم نميرها العذب الذي يبعث الراحة في القلوب، ويؤجج أوار الرفض والعز والكرامة في النفوس". ولما كان الامام الحسين خالد الذكر متجددا كلما اخلق الزمان، فان المرتبط به يخلد معه صغر عمله او عظم، ولهذا فان هذا الكتاب: "وجه من وجوه التخليد لبعض المساهمين والمبدعين الذين حطت أناملهم على تلك الروضة إما فنا او إعماراً او تحسينا وتطويرا". وإذا كان الملوك والسلاطين ساهموا في إعمار المرقد الحسيني الشريف من خلال الهدايا والأموال، فان غيرهم كما يؤكد الصفار كان لهم قصب السبق في تشييد العمارة الحسينية، حيث: "كان لأرباب الصنائع على اختلاف ممارساتهم المهذبة الفضل الأوفى في توظيف مهاراتهم وأفكارهم وأوقاتهم لنيل الأجر والثواب بإخلاصهم في العمل والارتقاء في إعلاء شأن المعالم الاسلامية"، على ان لصاحب الموسوعة الحسينية التي فاقت أعدادها الستمائة مجلد: "سماحة آية الله الدكتور الكرباسي الفضل الأكبر في تاريخ وتأصيل تلك العطاءات والإبداعات وإظهارها بقشبها المتألق مما أصبح صاحب فضل عليهم وعلى هذه المدينة المقدسة مما أصبحت لا وجود لها دون ذكر هذا المرقد الشريف بكل تفاصيله وتاريخه". ووجد الصفار ان اهتمامه بدراسة التاريخ والتحقيق فيه وبخاصة ما يتعلق بالعمارة الاسلامية وعمارة المرقد الحسيني الشريف، يعود لوشائج ثلاث محكمة الاتصال: أولا: كونه يمت الى الامام الحسين (ع) بصلة العقيدة: "التي سرت إليّ من الفطرة والنطفة وجرى نسوغها عبر الحليب والدم". ثانيا: كونه يمت الى مدينة كربلاء بصلة الولادة، فهي: "مسقط رأسي العزيز علي والتي نشأت في بيئتها ونميت من خيراتها". ثالثا: كونه صاحب مؤلفات مطبوعة ومخطوطة اختصت بالمرقد الحسيني الشريف وتاريخ عمارته، صرف عقودا من حياته لتأليفها، ولذلك فان هذا الكتاب و: "الحديث عن هذا الموضوع هو من اختصاصي".
بصمات أدبية لا يعرف قيمة العمارة الاسلامية في المرقد الحسيني الشريف إلا من شاهدها عن قرب، وما يلفت النظر فيها تلك الكتائب من القصائد والأشعار التي تطرز جوانب كبيرة من المرقد داخل الروضة الشريفة وخارجها وعلى الضريح، وكل شاعر تفوح قريحته بعطر خاص من الولاء والمودة والمحبة لهذا الامام الذي هوت قامته الى الأرض شهيدا مضرجا بدمه حتى لا تميل قائمة الإسلام وتبقى الأمة الإسلامية حية بحياة الرسالة الاسلامية. والتقط الباحث سعيد الصفار 45 شاعرا تركوا بصماتهم على جدران وسقوف وإطارات أبواب المرقد الحسيني الشريف، على ان بعض الأشعار لم يتم حتى الآن التعرف على ناظميها او الوقوف على تراجمهم وفيهم من الفرس والترك والعرب. ومن الشعراء الذين حطت طيور قوافيهم على جدران المرقد الحسيني الشريف هو الشاعر والقاضي الكاظمي المولد السيد محمد هادي الصدر (ت 1385 هـ) حيث أُثبتت فوق باب الحر من الصحن الشريف ويسمى بباب رأس الحسين (ع) أبياته التالية من مجزوء الكامل: أحظيرة القُدس التي ** فيها أمانُ الخافقينْ حَسْبُ المفاخرِ أن تكو ** ني مهبطَ الروحِ الأمينْ لكِ بابْ حطة وهو با ** بُ اللهِ للحقِ المبينْ عنَتِ الحياةُ له بنسـ ** ـبته الى رأس الحسينْ ومن الشعراء الذين ذاب سكر قوافيهم في كأس الحسين (ع) هو المؤرخ والشاعر العراقي الموصلي المولد عبد الباقي العمري ( 1279 هـ) الذي أنشأ من السريع يؤرخ لحوض سلسبيل أنشأه في الجهة الجنوبية من الصحن الحسيني الشريف احمد شكري بن الوالي نجيب باشا، وهذه بعض أبياتها: ويومَ عاشورا غدا زائراً ** سليلُ ساقي الحوض نعمَ السليل مَن أمُّهُ بِضعةُ طه التي ** في العالمين ما لها من مثيل وجدُّه روح الوجود الذي ** تشرَّف الروح به جبريل فشاهد الزوار تأوي الى ** مشهده الأعلى القبيل القبيل فأترع الحوضَ لهم سُكَّراً ** مزاجُه الكافورُ والزنجبيل حوضٌ هو الكوثرُ في عينهِ ** على حسين مثلَ دمعي يسيل ولجد والدي الحاج علي بن عبد الحميد البغدادي الخزرجي الشهير بالحاج علي شاه البغدادي المتوفى في العام 1909م (1327 هـ) سقاية في منطقة باب النجف أوقفها لزوار الإمام الحسين في العام 1324 هـ، ولازال بناؤها قائما الى يومنا هذا رغم مرور أكثر من قرن على إنشائها وهي تعتبر أثرا معماريا وحسينيا، وهي متصلة بالمنزل الذي شهد ولادتي وولادة أبي وجدي، وقد أرخها فيما بعد الشاعر العراقي السيد مرتضى الوهاب (1916- 1973م)، بقوله: أنشأ علي شاه من مآثره ** سقاية وردها من العسل يجري بها الماء باردا عذبا ** من منهل بالرحيق متصل باسم الحسين استهل تاريخا ** (يفيض بالطف سلسبيل علي) وأرخها الأديب والمؤرخ العراقي السيد سلمان هادي طعمة ضمن "السبيل" أو السقايات التي أوقفت لخدمة أهل كربلاء وزوراها كما ذكر ذلك في الصفحة 183 من كتاب "كربلاء في الذاكرة" مضيفا ان السلسبيل: "كان يُزود سكان المنطقة بالماء البارد العذب وخاصة أيام الزيارات في موسم الصيف" ولازال وبطرق مختلفة.
إسهامات بلا حدود يلاحظ في العمارة الإسلامية ابتعادها عن رسم ذوات الأرواح من إنسان وحيوان وطيور لأسباب شرعية ودواع عرفانية، وتجرد المعالم الإسلامية من مساجد وجوامع ومراقد شريفة عن الزخرفة بشكل عام، بيد أن فن العمارة اعتمد زخرفة الخط كبديل وبه اشتهر، فقام الخطاطون بتطويع الحرف العربي في أشكال زخرفية بديعة أعطى لواجهات الأماكن المقدسة وكتائبها زينة فوق زينة، ولعل أفضل مكان يمكن رؤية هذا الفن البديع هي مراقد الأنبياء والأئمة والأولياء. ويتابع الباحث الصفار استقصاء الأسماء اللامعة من الخطاطين الذين لامست قصابتهم جدران المرقد الحسيني الشريف والذين كانوا: "يبذلون الجهد الفني في توظيف أقلامهم والاستفادة من بعض مميزات الخطوط بإظهارها على أشكال زخارف ونقوش عوضا عن الرسوم التي كان يتجنبها الخطاط المسلم في المساجد والأضرحة". وبان له عشرون خطاطا ومن جنسيات مختلفة، منهم الخطاط العراقي المبدع محمد صبري بن مهدي البغدادي (ت 1372 هـ). ومنهم الأديب والشاعر والخطاط السيد صادق بن محمد رضا آل طعمة المولود في كربلاء المقدسة عام 1928م، وعُدّ بعد سقوط نظام صدام في 9/4/2003م من شهداء المقابر الجماعية حيث اعدم مع ابنه السيد ضياء المولود في كربلاء المقدسة العام 1957 والذي كان قد سلك طريق والده في الخط وكان من مشاهير خطاطي المدينة. ومنهم الخطاط العراقي الدكتور صلاح شيرزاد المولود في مدينة كركوك في العام 1947م. والى جانب الخطاطين، هناك مبدعون من: "الفنانين والرسامين الذين رسموا الروضة بلوحات مختلفة وهم من أقطار مختلفة كتركيا وإيران وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والهند وقد صوروها حسب تصوراتهم"، وهم 27 مبدعا ومن هؤلاء إبراهيم النقاش ونجله جليل حيث كان له مصنع للكاشي في كربلاء المقدسة وكان من الرسامين والخطاطين. ومنهم الصائغ المبدع طاهر حسين وهو من مدينة بومباي الهندية المتوفى عام 1401 هـ. والى جانب الخطاطين والفنيين والمبدعين، المهندسون والمعماريون الذين: "ساهموا بمخططاتهم الهندسية، وبأفكارهم وطاقتهم ببناء وإنشاء هذا الصرح الشريف إلا ان التاريخ لم يصرح بأسمائهم وقد تمكن سماحة الشيخ الكرباسي من رصد بعض منهم"، مثل المهندس علي بن عبد الصالح آل طعمة، والمعماري الشهير الحاج حمودي بن رضا البغدادي المتوفى بعد عام 1391 هـ، والمقاول والمعماري الأردني خليل علي خليل. والى جانب هؤلاء المبدعين، مشرفون وساعون الى الخير، فالمشرفون: "هم الذين يُخولون من قبل الملوك والسلاطين والأمراء وغيرهم من الباذلين الأموال وما يترتب من التكاليف لإنجاز المهام الموكلة الى هؤلاء ويمولونهم بما يلزم للصرف على المشاريع المناط إليهم أمرها"، وعدَّهم الصفار نحو 21 مشرفا، ومن هؤلاء محمد بن إبراهيم بن مالك الأشتر، وهو أول من أقام قبة في الإسلام ونصبها على قبر أبي عبد الله الحسين (ع) عام 66 هجرية، وشيخ العراقين العلامة عبد الحسين بن علي الطهراني الحائري (ت 1286 هـ)، والشيخ جعفر بن علي كاشف الغطاء (ت 1290 هـ). أما الساعون في الخير والذين لهم خدمات مختلفة في عمارة المرقد الحسيني الشريف وكربلاء المقدسة فهم كثيرون، منهم الشيخ محمد حسين بن أبي القاسم المؤيد (ت 1420 هـ)، والشيخ علامة بن حسن الصالحي البرغاني (ت 1310 هـ)، والحاج عبد الهادي بن عبد الحسين الچلبي (ت 1408 هـ) وهو والد السياسي العراقي المعاصر الدكتور أحمد الچلبي. وبالطبع فان المساهمين في دعم واعمار المرقد الحسيني الشريف لم يقتصر على الرجال فحسب، فللمرأة دورها المتميز، بل لبعضهم: "الفضل وقصب السبق في تعمير وإصلاح ما أصاب كربلاء من النكبات والغزوات التي ألمّت بها، كما شملت رعايتهم أهل العلم والسدانة والمعوزين وغيرهم ما يسجله التاريخ بأحرف من نور"، ومنهن بدر جهان بنت محمد جعفر العرب زوجة السلطان فتح علي شاه القاجاري المتوفى عام 1250 هـ التي قامت بتعمير وإصلاح ما دمره الاعتداء الوهابي على كربلاء المقدسة في العام 1216 هـ. والسيدة تاج داربهو زوجة السلطان محمد علي منير الدولة تاسع ملوك أودة الهندية. وختم الباحث سعيد بن هادي الصفار كتابه بالإشارة الى الفنان السوري الخطاط عقيل بن محمد سعيد العرفي الذي أبدع في وضع درع عن المركز الحسيني للدراسات. مع إعداد جدول بالاسماء والتواريخ التي وردت في الكتاب، تسهل على القارئ العودة الى المتن.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |