|
مقالات الحلة في الذاكرة (13).. قصص أطباء وصيادلة عرب خدموا في الحلة
الدكتور عدنان الظاهر
1 ـ قص عليَّ الصديق الحلاوي العزيز دكتور ممتاز كامل كريدي خلال بعض مكالماتنا التلفونية الطويلة قصة طبيب سوري او لبناني خدم مهنة الطب في مدينة الحلة في اربعينيات القرن الماضي إسمه ( قصدي الشهّال ). القصة غريبة لم اكد ان اصدقها لولا ثقتي بالدكتور ممتاز وما يزودني من معلومات فإنه مصدر ثقة وشاهد عدل وصاحب ضمير. قال ممتاز ان شرطة وبعض رجال امن الحلة داهموا يوما وفي ساعة محددة بيتا بعينه من بيوت درابين الحلة القديمة الملتوية المعقدة والمتعرجة على نفسها. كانت على ما يبدو لدى عناصر الامن والشرطة معلومات دقيقة تشير الى وجود اجتماع في هذا البيت بالذات لعناصر خلية من خلايا حزب ممنوع وغير مرخص به هو الحزب الشيوعي العراقي. كانت مفاجاة كبيرة هناك اذهلت عناصر الشرطة اذ اكتشفت ان من بين حضور ذلكم الاجتماع طبيب غيرعراقي معروف في الحلة وله عيادة خاصة لاستقبال المرضى بعد الدوام الرسمي وربما كان طبيب مستوصف صحة الطلاب. انه الدكتور قصدي الشهال. تم اعتقال جميع عناصر ذلك الاجتماع فاودع العراقيون السجن وتم تسفير الطبيب على الفور الى خارج العراق. من الذي ربط هذا الطبيب الغريب بالحزب الشيوعي العراقي وما الذي اغراه او زين له النشاط في صفوف وتنظيمات هذا الحزب الاممي ؟ ام ان الشيوعي في بلد عربي هو كذلك في اي بلد عربي يكون ؟ اميل الى ترجيح هذا الجواب فمن خبرتي المتواضعة اعرف ان الشيوعي العراقي هو كذلك شيوعي في كافة الاقطار الاشتراكية السابقة، الا ان تنظيم العراقيين مستقل بافراده واعضائه عن تنظيمات الاحزاب الاخرى ولا افشي سرا خطيرا ان قلته اليوم. اما زلت حيا دكتور قصدي الشهال ؟ لم نسمع عنك شيئا بعد ان اجبرت على مغادرة العراق ومدينة الحلة التي احببت وانتظمت في صفوف شيوعييها. اطرف ما في هذا الامر ـ حسب ممتاز كريدي ـ ان المحامي الحلاوي والشيوعي القديم المعروف السيد جواد كاظم ( شقيق رفيق كاظم ) هو من اصطحب الطبيب الضيف الى اجتماع تلك الخلية وقدمها له قائلا: اقدم لك مجموعة من مناضلي الحزب... هؤلاء الشباب هم من سيقلب اوضاع العراق وينتزع السلطة من نوري السعيد والنظام الملكي ويبني صرح الاشتراكية في العراق !! كان واضحا ان المحامي اراد ان يطيّب الجو امام الطبيب فقال ما قال من باب النكتة الساخرة. شاءت الصدف ان التقي بعد ثورة تموز 1958 والمحامي جواد كاظم ( وكان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي يومذاك ) اذ كنت امشي ذات يوم في احد شوارع الحلة بمعية اخي الاكبر المرحوم عبد الجبار وتبين انهما من جيل واحد ودرسا في ذات المدارس الحلاوية فتعانقا وتبادلا الاشواق والتحيات ثم عرفني اخي عليه بالاسم والصفة السياسية. 2 ـ الطبيب السوري (. ز. ) / او العراقي الدارس في سوريا !! ما مارس هذا الطبيب في الحلة الا مهنة الطب وكانت له عيادته الخاصة كشان كل الاطباء. ما قصة هذا الطبيب ؟ خطب فتاة من عائلة حلاوية معروفة فرفضته عائلة الفتاة. صحت الحلة ذات يوم على خبر مذهل صعق الجميع: اختفاء الفتاة والطبيب معا !! تمردت الفتاة على قرار وارادة ذويها ونفذت ارادتها الخاصة وما كانت تحمل من حب كبير لهذا الطبيب الجميل الوجه. تحدت كل جبروت تقاليد عائلتها العريقة وقبلت ان تغامر بكل شئ فالحب كما يقولون اعمى. فتاة شجاعة مثالها نادر في العراق. انتصر الحب فيها على كافة تقاليد وعراقة عائلتها وهي عائلة كبيرة شريفة الاصل والمحتد من جهة ابيها وامها واصهار عائلتها وهم من شيوخ العشائر الكبيرة المعروفة. تحدثت الحلة طويلا عن قصة هذه الفتاة المقدامة التي هربت مع من تحب تاركة اهلها ووطنها اذ غادرا العراق الى مكان ما ما كان معروفا. مرت الاعوام كدابها سريعا فشدتني ايام الصبا والشباب المبكر ببعض افراد عائلتها ممن كانوا في مثل عمري او يناهزونه. ثم كانت هناك علاقات اخرى بين بعض اشقائي الاكبر مني وبعض ذويها الاقربين. مرت اعوام اخرى كثيرة غادرت العراق في اواخرها هربا من بطش وتعسف نظام حكم حزب البعث في العراق لاجد نفسي في العاصمة الليبية طرابلس استاذا لتدريس الكيمياء في جامعة الفاتح. كنت اواخر شهر ايلول من عام 1979 اتسوق من بعض المخازن الطرابلسية وما ان غادرت المخزن حتى فوجئت بامر ما زال يحيرني. ما كنت رايت فتاتنا الشجاعة المتمردة في الحلة ولا في غير مدينة الحلة يوم ان وقعت واقعتها وعرفت مدينتا قصتها. كما لم ارها قبل ذلك فلقد كانت العادة يومذاك ان ترتدي النساء العباءة السوداء وغطاء الوجه المسمى ( بوشيّة ). غادرت المخزن ذاك فواجهتني عائلة صغيرة مكونة من صبي بدين ازرق العينين ورجل وسيم بدين ضخم الجثة فضلا عن سيدة. برق فورا خاطر في راسي هل كان الهاما لا ادري. تطلعت في وجه السيدة وقارنته بوجوه اصدقائي من افراد عائلتها فصرخت بشكل عفوي: اهلا بآل (... ) ! عقدت الدهشة لسانها، تغلبت على عنصر المفاجاة سريعا لتسالني بشوق عارم وشهامة عراقية صميمة: ومن تعرف من آل (... ) ؟ عددت لها اسماء من اعرف من افراد عائلتها ونوع علاقتي واهلي بهم. لم تصدق. كادت ان تبكي. سالتني من انا وماذا اعمل في طرابلس وهل انا وحيد ام معي عائلة فاجبت جميع اسئلتها. ما كان زوجها مرتاحا من ذلك اللقاء لذا كان يحثها دوما على انهاء حديثها معي لكنها ما كانت تبالي فواصلت الحديث وتشعبت حتى سحبها من ذراعها بلطف وافترقنا ولم ارها بعد ذلك خلال فترة وجودي في طرابلس لستة اعوام. تستحق قصة هذه السيدة ان تكتب بشكل عمل روائي فريد في بابه. لم تثرثر عن حقوق المراة ومساواتها بالرجل، انما اخذت زمام المبادرة ونفذت ارادتها كاملة وتحملت ما تحملت من غربة وتشرد وحرمان من اهلها ونصيبها ارثا من ثروة اهلها. 3 ـ الطبيب اللبناني سامي شيخاني قصة هذا الطبيب قصة طويلة بقدر ما هي طريفة. جاء الحلة اوائل خمسينيات القرن الماضي وعمل طبيبا في مستوصف صحة الطلاب لفترة جاوزت العقود. جم الادب كثير الوقار ضخم الجثة وسيم الوجه شديد التحفظ بعلاقاته مع اهل الحلة فلم يختلط او يزر احدا او عائلة الا عائلة المقاول الثري السيد توما ( والد لطيف ). كان يكثر من زياراته الليلية لهذه العائلة الحلاوية العريقة المعروفة جيدا في اوساط جيل المرحومة جدتي لوالدتي اذ كانت والدة السيد توما تمارس عملية تلقيح اطفال الحلة باللقاح المضاد للحصبة والجدري مجانا. كان الطبيب اللبناني الوقور يلعب القمار مع مضيفه بحضور صديق آخر للعائلة هو المحامي السيد رؤوف الامين. حلقة صغيرة من الاصدقاء تلتقي في بيت صديق كريم تلهو وربما تاكل ما تقدم لهم هذه العائلة. سالني الدكتور سامي وقد زرت مستوصف صحة الطلاب عام 1953 ( متمارضا ) ابن مَن انا ؟ فوجئت بسؤاله وهو المتحفظ الميال للعزلة كثيرا فقلت له: لا تعرف والدي، انا ابن عبد الكريم الظاهر.هز راسه بادب ووقار. ما كان يعرف ابي. الطريف من بعض امور هذا الطبيب انه ايام امتحانات بكالوريا السنة الخامسة اعدادي يبكر في الصباح فيفتح عيادته الصغيرة في وسط المدينة ليستقبل الطلبة الذين يرومون تقارير طبية لتاجيل امتحاناتهم في هذه المادة او تلك حسب تعليمات ذلك الزمان. كان يتقاضى خلال تلك الاعوام ربع دينار مقابل كل تقرير طبي يكتبه بحق الطالب. كان يفتعل بالطبع هذا المرض او تلك العلة لكي يُعفى الطالب من اداء مادة ذلك اليوم. اسهال مثلا... او صداع حاد... او قلق نفسي حاد... وما شابه ذلك من امراض واختلالات يجيد الطبيب افتعالها مقابل ربع دينار من كل طالب فكان يجمع كل يوم ما معدله دينارين الى دينارين ونصف بواقع ان عدد الطلبة من زوار الفجر كان يتراوح صبيحة كل يوم بين 8 ـ 10 طلاب. يبدو ان طبيبنا كان بحاجة ماسة لهذا المبلغ ليعوض به خساراته الليلية في القمار الذي يمارسه في دار صديقه ابي لطيف. هل كان يخسر يوميا او دائما ؟ لا احد يدري. جاءت ثورة تموز 1958 فحدث مع هذا الرجل ما لم يكن في حسبان احد ! اخبرني صديقي وهاب غ. بعد ذلك باعوام انه وخلال اعوام عبد الكريم قاسم كان ياخذ من هذا الطبيب تبرعا شهريا للحزب الشيوعي باعتباره صديقا للحزب ! زار وقد عاد هذا الصديق اوائل سبعينيات القرن الماضي للعراق... زار الدكتور سامي شيخاني في المستوصف اياه ليسلم عليه، ما كاد يعرفه فقال له: لا ادري اين التقيت بك، وجهك ليس غريبا علي ! ضحك صديقي وهاب فصارحه انه كان ياخذ زمن قاسم منه تبرعا شهريا منتظما للحزب الشيوعي. هز راسه موافقا بوقار وادب. اخبرني صديق حلاوي طبيب اواسط سبعينيات القرن الماضي ان جاره في السكن هو الطبيب سامي شيخاني. كانا يتزاوران اذ كانت في عصمته زوجة فنانة اسبانية. كان يشكو لصديقي الطبيب انه وبعد كل هذا العمر الطويل من خدمة المهنة لا يملك بيتا خاصا به ولا اي رصيد في البنوك. ما انبلك دكتور سامي شيخاني وما اكثر ادبك واستقامة تربيتك ونشاتك البيتية. اين انت الان ؟ اشيع عنه انه اخذ الجنسية العراقية. 4 ـ اطباء عرب آخرون وصيادلة ما كان سامي شيخاني اول من يتجنس عراقيا اذ سبقه الى ذلك الصيدلي السوري عزت تحسين والد الاستاذ دكتور الفيزياء صلاح عزت تحسين من اوائل الذين اداروا مؤسسة الطاقة الذرية العراقية بعد ثورة تموز 1958 وفي زمنه تمتعت بزمالة الوكالة الدولية للطاقة الذرية للدراسة ستة اعوام في جامعة موسكو. ثم انه كان من جيل اخي الاكبر المرحوم عبد الجبار في مدارس الحلة الابتدائية ثم المتوسطة في ثلااثينيات القرن الماضي. ثم الطبيب السوري امين الرفاعي الذي خدم الحلة طبيبا لعقود وعقود اذ حمل الجنسية العراقية خاصة وعقيلته سيدة عراقية من اهالي العمارة. وممن تجنس في العراق ـ على ما اظن ـ الطبيب السوري الاخر يوسف جبّوري الذي انقذني طفلا من موت اكيد جراء اصابتي بمرض الملاريا الذي انتشر في بعض مناطق العراق صيف عام 1941. ما زال مقيما في ذاكرتي طعم حبوب الكنين الصفراء الشديد المرارة وسائلها وما كان يومذاك سوى الكنين عقارا مضادا للملاريا يوصفه طبيبي لي فكنت افضل الموت على تجرع دوائي الشديد المرارة. ثمة َ طبيب سوري آخر هو محمد محفوظ والد زوج العقيد صلاح الدين الصباغ وجد نمير او انمار الصباغ. بقي الصيدلي سيمون آزاجي... لا ادري هل هو الآخر سوري ام عراقي ؟ للمرحوم المحامي الحلاوي رؤوف الجبوري شعر قاله في سيمون آزاجي كان يرويه لنا استاذنا المرحوم عبد الرزاق عبد الكريم الماشطة... شعر لا يمكن عرضه للناس اذ فيه بذاءة وسخرية وكلمات نابية تثير الكثير من الضحك لدى سامعها. كما له قصيدة في الفن يقول في مطلعها: بستوكة ُالفن يا ويلي قد انكسرتْ لم يبق َ من طينها الا عراويها يعرف اهل الحلة ( البستوكة والعراوي )...
رجاء حار: ارجو القراء الكرام وخاصة اهل الحلة ان يصوبوا ما ذكرت من معلومات ان وجدوا فيها امرا غير سليم اوان يضيفوا لها ما قد فاتني ذكره وان يطوروها ويفتتحوا صفحات جديدة من تاريخ الحلة في القرن الماضي.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |