فهم
آيات القرآن الكريم، يجب أن يرتبط بالشروط الموضوعية في
الزمان، والمكان(1)
محمد
الحنفي
1) في البداية: أشير إلى أن
السيد: فايز عزيز من لندن، طلب مني، بعد قراءته لإحدى حلقات
موضوع:
" أئمة المساجد بين الحرص على
نشر الفكر الظلامي المتخلف، والعمل على اصدار الفتاوى القاتلة
..."، أن أتمثل نفسي إماما للجمعة، وأن أشرح العديد من الآيات
التي ضمنها رسالته، والتي تتعلق بمواجهة الكفار، والملحدين،
واليهود، والنصارى، وغيرهم، مما ورد في القرآن الكريم.
وأنا، إذ أشكر السيد فايز عزيز، على المجهود المضني، الذي بذله
لانتقاء الآيات التي ضمنها رسالته، أود أن أذكره إلى أنني:
ا ـ لا أتصور نفسي إماما للجمعة، اخطب في الناس، وأشرح القرآن،
لأن المساجد التي يجرى فيها ذلك، إما أنها تقع تحت تأثير
الأنظمة القائمة في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين،
وإما أنها تقع تحت سيطرة التوجهات المؤدلجة للدين الإسلامي.
وفي الحالتين معا، فان تناول شرح، وتفسير آيات معينة من القرآن
الكريم، يكون محكوما بالعمل على توظيف الدين الإسلامي في إعطاء
الشرعية الدينية لهذه الجهة، أو تلك.
ب ـ ان معظم الذين يعملون على تفسير آيات القرآن الكريم، لخدمة
مصالحهم الخاصة، لا تتوفر فيهم شروط القيام بذلك، لكونهم لا
يمتلكون الآليات المعرفية، والعلمية، المساعدة عليه.
ج ـ أن تفسير آيات القرآن الكريم، بعد امتلاك الآليات
المناسبة، يجب أن يكون محكوما بالشروط الموضوعية المناسبة
للزمان، والمكان.
د ـ أن فهم المتعاملين مع آيات القرآن الكريم، على أنها صالحة
لكل زمان، ومكان، هو فهم مغلوط. وهذا الفهم المغلوط، هو الذي
يسعى، باستمرار، إلى سحب مرحلة نزول الوحي على جميع الأزمنة،
وجميع الأمكنة. الأمر الذي يعتبر غير ممكن أبدا.
ه ـ أن آيات القرآن الكريم، تقدم لنا ما يتعلق بالعبادات، الذي
نعتبره ثابتا، لا يتغير حسب الزمان، والمكان، وفي نفس الوقت،
يقدم لنا ما يتعلق بالشريعة، وهو متحول حسب تحول الشروط
الموضوعية: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية.
و ـ أن سماعي لخطب الجمعة، من خلال مسار حياتي، يجعلني أتألم
باستمرار، بسبب ما أسمع، مما لا يحترم المسلمين، ومما يسيء إلى
الدين الإسلامي في نفس الوقت.
ز ـ أن معظم الذين يكلفون بإلقاء خطب الجمعة، لا يمتلكون
الأهلية لذلك.
ح ـ أن المسلمين الدين يحضرون صلاة الجمعة، لا يستطيعون مناقشة
الخطيب فيما يورده من كلام في خطبته، مادام ذلك يعتبر لغوا،
لأنه كما يستشهدون من الحديث النبوي: "من لغا فلا جمعة له".
ط ـ أن االمنطق السائد في مختلف العبادات، هو منطق تجاري صرف،
وهو ما يتناقض ما ورد في القران الكريم نفسه، مما له علاقة
بإخلاص العبادة لله "وان المساجد لله، فلا تدعو مع الله احدا".
ي ـ أن معظم رواد المساجد، يعتبرون المساجد، والأئمة، واسطة
بينهم وبين الله، مما يجعل الرهبانية حاضرة في الدين الإسلامي،
كما هو الحال للديانات السابقة على الدين الإسلامي، الذي انتقد
ذلك بقول الله: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى". وما
نعرفه، أنه "لا رهبانية في الإسلام".
ولذلك نرى أن معظم الآيات التي بذل السيد فايز عزيز مجهودا
كبيرا لانتقائها من القرآن، تتناسب مع مرحلة نزول الوحي،
ومرحلة ممارسة الصراع ضد من يسعى إلى محاربة الدين الإسلامي،
الذي كان يشكل خطرا كبيرا على مصالحهم الإقتصادية،
والإجتماعية، والثقافية، والسياسية. أما الآن، فإننا نعيش
واقعا آخر، لا وجود فيه لشيء اسمه عبادة الأوثان، كما كانت
معروفة قبل مجيء الدين الإسلامي، ويمكن أن يعمل فيه المسلمون
على بث قيم الدين الإسلامي ن بوسائل أخرى، تختلف عن الوسائل
التي كانت سائدة في مرحلة نزول الوحي. وأن معاناة المسلمين
الحقيقية اليوم، ليست في كيفية حماية الدين الإسلامي، وتبليغه
إلى الناس جميعا، بل في توظيفه لإعطاء الشرعية للاستبداد
القائم في بلاد العرب، والمسلمين، أو لإعطاء الشرعية للسعي إلى
فرض استبداد بديل. وهذا التوظيف، في حد ذاته، هو جوهر التحريف
الذي أصاب الدين الإسلامي، الذي يجب أن يبقى بعيدا عن التوظيف
السياسي الضيق، والمنحط، حتى يبقى خالصا لله. ليس إلا.
2) وما أورده في حلقات:
"أئمة المساجد بين الحرص على نشر الفكر الظلامي المتخلف،
والعمل على إصدار الفتاوى القاتلة .."
لا يكتسي طابع التعميم، لأن هناك من الأئمة من يحترم نفسه، كما
أشرنا إلى ذلك في العديد من حلقات الموضوع المذكور. فأئمة
المساجد الذين يحترمون أنفسهم، يربأون بأنفسهم عن أن تتلوث
سمعتهم بأدلجة الدين الإسلامي، وبتوظيف الدين الإسلامي في
الأمور السياسية.
وهذا النوع من الأئمة، هوا لذي وقف وراء إشاعة الدين الإسلامي
الحقيقي، الذي تتحقق في إطاره القيم النبيلة، التي تقف وراء
تسييد احترام كرامة الإنسان، كما جاء في سورة الإسراء: "ولقد
كرمنا بني آدم"، بقطع النظر عن كونه مسلما، أو غير مسلم، وعن
لغته، أو عرقه، أو لونه، حتى يتجسد على أرض الواقع، كما ورد في
قوله تعالى: "خلقناكم شعوبا، وقبائل لتعارفوا"، وكما قال رسوله
محمد صلى الله عليه وسلم، ( الناس كأسنان المشط لا فرق بين
عربي وعجمي ، ولا بين ابيض واسود إلا بالتقوى)، والتقوى هاهنا،
لا يمكن أن تعني، من وجهة نظرنا، إلا الحرص على احترام كرامة
الإنسان.
والأئمة الذين يحترمون حقيقة الدين الإسلامي، لا يمكن أن
يعملوا إلا على إشاعة القيم التي تؤدي إلى تمتيع جميع الناس
الذين يعيشون في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين ب:
ا – الحقوق الإقتصادية التي تقتضي إحداث تنمية شاملة، في مختلف
المجالات الإقتصادية، والإجتماعية، انطلاقا من اختيارات
ديمقراطية، وشعبية، تسعى إلى إشاعة العدل الاقتصادي بين جميع
الناس، عن طريق توفير الشغل المناسب، لكل مؤهل على حدة، صغر
شأنه، أو كبر، وبالأجر المتناسب مع متطلبات الحياة الإقتصادية،
والاجتماعية، والثقافية، والسياسية.
ب ـ الحقوق الاجتماعية، وذلك بتمكين جميع الناس من التمتع
بالحق في التعليم، وفي السكن، وفي الشغل، وفي الترفيه، وغير
ذلك، حتى يتخلص المجتمع في كل بلد من البلدان المسلمين، من
مختلف الأمراض الاجتماعية، التي تسيء إلى كرامة الإنسان.
ح ـ الحقوق الثقافية، التي تمكن المتعايشين في المجتمع العربي،
وفي مجتمعات بلدان المسلمين، من تفاعل القيم الثقافية
المختلفة، القائمة على أساس تنوع الألوان، واللغات،
والمعتقدات، وغيرها، في أفق بلورة قيم مشتركة، تساعد على تجسيد
وحدة المجتمع، ووحدة الأهداف التي يسعى الجميع إلى تحقيقها،
لتجاوز ما كان يمكن أن يعرفه أي مجتمع من مجتمعات البلدان
العربية، وباقي بلدان المسلمين، من صراعات طائفية تقوم على
أساس الاختلاف العرقي، أو اللغوي، أو المذهبي، أو العقائدي،
وهو ما يصطلح على تسميته بالصراع الطائفي / الطائفي، الذي لا
يمكن أن يقود إلا إلى نشر الخراب، وبعث أسباب التخلف
الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي. فبتمتيع الجميع
بالحقوق الثقافية، التي يجب أن يستوعب مضامينها أئمة المساجد،
المستوعبون لحقيقة الدين الإسلامي تتحقق كرامة الإنسان
الثقافية.
د ـ الحقوق المدنية، التي تقتضي قيام الأئمة المتنورين بالعمل
على إشاعة ثقافة، وقيم المساواة بين الناس، بقطع النظر عن
جنسهم، أو لونهم، أو معتقداتهم، أو أعراقهم، أو لغاتهم، فيما
بينهم. وأمام القانون، والدعوة إلى صياغة القوانين المعمول بها
في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، على هذا الأساس،
ولا يهم بعد ذلك: ما هي المرجعية المعتمدة في إشاعة، وتجسيد
قيم المساواة بين الناس جميعا.
ه ـ الحقوق السياسية، التي تقتضي من الأئمة، في مختلف المساجد،
العمل على إشاعة قيم احترام الرأي، والرأي الأخر، انطلاقا من
ضرورة سيادة دستور ديمقراطي، وإيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقية،
تحترم فيها إرادة الشعب في كل بلد من البلدان العربية، وفي
باقي بلدان المسلمين. واحترام الرأي، والرأي الأخر، في دعوة
الأئمة، لا يمكن أن يكون إلا مساهمة في نشر قيم الحرية،
والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.
وانطلاقا من هذا التصور، نقول: إنه يوجد في العديد من المساجد
في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، أئمة يحترمون
أنفسهم، ويحترمون المسلمون، ويحترمون جميع الناس من غير
المسلمين، ويحرصون على تقديم الوجه المشرف للدين الإسلامي، حتى
يؤدي ذلك إلى فرض احترام البشرية له؛ مما يعتبر مدعاة إلى
الاقتناع بقيمه التي تصير جزءا من القيم النبيلة، التي يتحلى
بها البشر: أفرادا، وجماعات. ولكن الذي يجب أن نسجله: أن معظم
الأئمة يصنفون أنفسهم ضمن مؤدلجي الدين الإسلامي، وتوظيف تلك
الأدلجة، إما لصالح الطبقة الحاكمة، وإما سعيا إلى فرض استبداد
بديل للاستبداد القائم. وأئمة من هذا النوع يصيرون محرفين
للدين الإسلامي، وعاملين على شحن رواد المساجد، بذلك التحريف،
ومحبيشين لهم، في أفق الانقضاض على أجهزة الدولة في الوقت
المناسب، حتى يتمكنوا من إقامة "الدولة الإسلامية"، التي تقوم
بمهمة "تطبيق الشريعة الإسلامية"، من أجل إقامة التطابق،
القائم في أذهان مؤدلجي الدين الإسلامي، بين العقيدة،
والشريعة، الذي يعتبر أفضل وسيلة لإحكام القبضة على مجتمعات
المسلمين، حتى يخضعوا جميع طبقاتها الذين يطالهم إرهاب
"الشريعة الإسلامية"، الذي تبثه بين الناس أجهزة "الدولة
الإسلامية"، التي يسيطر عليها مؤدلجو الدين الإسلامي.