مقالات

التربية أم الشخصية؟!

د. مراد الصوادقي

alsawadiqi@maktoob.com

هل أن المشكلة التي تمنعنا من التقدم والمعاصرة تربوية أم لها صلة بالشخصية؟

الشخصية البشرية معروفة بأنواعها وفقا لتصنيفات علم النفس والسلوك، ولها خواصها ومميزاتها التي تمنحها طابعها الذي تُعرّف به. ولا يمكن الخروج عن التصنيف العلمي للشخصية والإتيان بمسميات تخص هذه المجموعة من الناس دون غيرها، أو هذا الشعب دون غيره، لأن ذلك لا يستند إلى معطيات العلم والبحوث المعاصرة، التي تحاول أن تتلمس طريقها إلى الحقائق العلمية والثوابت المعرفية الواضحة. والقائلين بشخصيات مرتبطة بفئة معينة، إنما يخلطون ما بين الشخصية البشرية والسلوك الذي تمليه عوامل وظروف متعددة ومتفاعلة بتواصل أو انقطاع.

فمن الصعب أن نقول أن هناك شخصية عراقية أو سورية أو لبنانية أو تركية أو ألمانية، ولكن يمكننا القول بأن هناك شخصية وسواسية وغير اجتماعية ومنطوية ونرجسية وغيرها من الأنواع المعروفة. وهذه الشخصيات لها وسائلها المتميزة التي تتفاعل بها مع المحيط الخارجي وتغيراته في رحلة الصراع من أجل البقاء المريرة أحيان، خصوصا عندما تتكالب الظروف وتتواصل الحروب وتشتد الخطوب وتتآزر الملمات. وقد يتحقق انحراف سلوكي معين وربما يسود ويتضح، لأنه أصبح وسيلة الجماعة للحفاظ على بقائها وخروجها من مأزق الهلاك والانقراض. وقد يتأكد الانحراف السلوكي ويتواصل متوارثا عبر الأجيال، إذا تكررت الظروف وعززته وأيدت ضرورته وجعلته سلوكا غالبا وشائعا.

والشخصية البشرية في تفاعلها مع المحيط الخارجي تتعلم وتهذب سلوكها وفقا لمعطياته وتبدلاته التي قد تستهدفها، فتحاول أن تجد لها مخرجا من اشتداد انقضاض المحيط عليها. وبهذا فأنها تؤسس معالم وجودها ومستقبلها وتمضي في طريقها برغم ضراوة ظروفها. فالشخصية لديها قدرة كبيرة على المطاوعة والمرونة والمطاولة والمقاومة والصلابة، وبين هذه الصفات تتعدد نواحي السلوك وتختلط وتتعقد. وبهذا التفاعل الذي قد يكون إيجابيا أو سلبيا تبدو المعالم متشابكة، فيرى البعض بأن فئة ما من الناس تتميز بنوع ما من الشخصية، وهي تعبر عن الصفة السائدة في السلوك وليس الشخصية بحد ذاتها وعناصر تكوينها الأساسية. فالسلوك البشري استجابات يتعلمها الفرد من خلال تواصله مع المحيط الذي هو فيه، وكأن المحيط مدرسة تربي الفرد وتصنع منه الكيان الذي يكون عليه ويتعامل به مع الظروف من حوله. وفي هذا تبرز التربية التي تصنع الإنسان وتحدد معالم وجوده وتفاعله مع الحياة بصورة عامة. فهناك ظروف ومتغيرات تربي البشر وتتغلب في تأثيراتها على كل قواعد وأصول التربية المتعارف عليها في عالمنا المعاصر، لأنه عندما يكون في موضع الخطر لا يعنيه شيئا سوى كيفية الحفاظ على ذاته وتواصل نوعه، ووفقا لظروفه يبتكر وسائله اللازمة لتحقيق هذا الهدف البقائي.

وعندما نضع شعبا من الشعوب في حرب متواصلة لأكثر من ربع قرن بكل قساوتها ووسائل فتكها وفنون وحشيتها ودمارها وحصاراتها المرعبة، مع الأخذ بنظر الاعتبار توالي الصراعات على أرضه وعلى مدى القرون، يكون من الواضح أن السلوك الذي يتحقق بين أبنائه سيتوافق والظروف المريرة التي يكابدها كل يوم، ويكون من الصعب أن نسمي فئاته بمسميات وعناوين لتوصيف السلوك فندمجها مع الشخصية. ومن الجائز أن نأتي برؤى وتحليلات لتفسير ظاهرة سلوكية ما، لكن ذلك لا يعني الصواب بقدر كونها وجهة نظر وفقا لثقافتنا.

وعندما نعود إلى العنوان ونحاول أن نجيب على تساؤله، يبدو أن ما يجري، هو انهيارات تربوية ساهمت في تعزيزها الظروف القاسية المتنوعة التي يعيشها المجتمع، والتي أخذت تملي عليه سلوكيات لا تتفق وقدرات المعاصرة والتفاعل الإيجابي الخلاق مع الحياة، لكنها تساهم بصورة أو بأخرى في المحافظة على بقائه وبأساليب متأخرة.

فهناك تدني في مستويات التربية والتعليم ومناهجها وإعداد الأجيال وتحضيرها، لتحمل المسؤولية والجد والاجتهاد في تحقيق أهدافها المتعاقبة على أرض الوطن. ويبدو الخلل التربوي واضحا في أبسط مقارنة ما بين العالم المتقدم والمتأخر. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحصل التقدم من غير ثورة تربوية ذات قدرة عالية على المواكبة والتواصل مع معطيات العلوم التربوية الحديثة.

وعندما تشتد الظروف ويعز على الناس توفير مقومات العيش والخروج من  نداء حاجات البقاء، يصبح الحديث عن التربية ومبادئها وأساليبها شيئا بعيدا عن التصور والمنال، مما يؤدي إلى مزيد من التردي والسلبية التي تتفاقم لتصنع حالة معقدة ومشوشة من العجز والانكسار والتدهور الضار في جميع مناحي الحياة. وهذا بدوره يدفع إلى محاولة المعرفة والفهم وقتل الجهل والإحباط والاضطراب، فيساهم في اللجوء إلى التفسيرات السهلة والبسيطة التي تريح النفس وتخلصها من اتقاد الصراع في أغوارها وطبقاتها. وهكذا ترانا نميل إلى التنظير والتمسك الفائق بما نرى من غير أدلة موضوعية واستنتاجات بحثية ذات قيمة ورصانة علمية.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org