مقالات

كيف نحارب الجوع...؟!

د. مراد الصوادقي

تذكرت رجلا من بلادي كنت كلما رأيته يقوم بما يقوم به من اهتمام بالماعز والأغنام , أطرح عليه آرائي وأحسب أني أدري. وكان يسفه أقوالي ويهزأ منها ويسألني: ما هو الاقتصاد في عرف ثقافتك وعلمك ؟ ولا يترك لي فرصة للجواب لكنه ينطلق بجوابه وهو يشير إلى معزة أو نعجة ويقول : هذا هو الاقتصاد! وكنت أنكر عليه ما يقوله ويفعله لكنه في كل مرة يواجهني بنظرية عملية لفهمه للاقتصاد ومعانيه وقوانينه ومستجداته في الحياة ومؤثراته في مسيرة البشر فوق الأرض. ويقول : مهما تقدم البشر فأنه لا يمكنه أن يستغني عن النعجة والمعزة والبقرة والدجاجة والأرض, فتلك قوانين خالق الأكوان الاقتصادية الثابتة وما عداها زيف وبطلان !

وأمضي كلما رأيته في مناظراتي معه لكي أفهم سلوكه الغريب والذي يخالف فيه أبناء مدينتي ويتحداهم بآرائه ونظرياته واستشرافه للمستقبل , وبقراءته للآتي من الحالات التي سنعيشها وفقا لما تمليه عليه قواعد نظرته للحياة وفهمه لشخصية التأريخ وسلوكه.

وذات يوم بعد أن أصبحنا تحت طائلة الحصار فاجأني : ألم أقل لك أنت جاهل في الاقتصاد ؟!

كنت تتندر على ماعزي وأغنامي والآن تتحسر على حليبها ولبنها ولحمها! أين اقتصادكم والفاهمين في هذه الدولة المتهالكة الأسس والجدران. قلت: وماذا تقصد؟

قال: أنتم اليوم في حصار فكيف تأكلون؟

تستجدون من الناس؟

وأضاف: النفط يحرق ولا يطعم. وقد احترقتم به لثمان سنوات والنار لا زالت مستعرة ولن تهدأ ما دام النفط متدفقا.

ومضى مستهزئا: المعزة والنعجة والبقرة أهم من النفط الأسود الذي لا يجلب إلا كل ما هو أسود. أما هذه التي تبخسها فأنها تعطي حليبا ولبنا أبيضا وزبدا ودهنا . فهي تطعمك وتسقيك وتكسيك.

وستتحسر ذات يوم على المعزة والنعجة والبقرة والدجاجة وستحلم بهما لكي تعيش وحسب.

تذكرت ذلك الرجل الذي ما فهمته وما عرفت معاني أفكاره إلا بعد أن دارت السنون وتكالبت الأيام وأطبق الحصار وحصلت الويلات والمجاعات ودب الفقر في أرجاء البلد وشرب النفط مَن شرب, ووجدتنا أمام أرض سبخة لا تعطي حتى الملح , وقرى خالية من صياح الديكة وثغاء الأغنام والماعز والأبقار. و كل ما حولنا قاحل وأجرد كأنه الموت المشؤوم.

ورحت أبحث عن ماعزه وأغنامه وأبقاره فلم أجد لها أثرا وحاولت أن أشتري بعض الحيوانات فرأيتني لا أمتلك ما يعينني على شرائها , وتحيرت في أمر البقاء.

ودارت الأيام وإذا بمجلس العموم البريطاني يهتز اهتزازا عظيما لأن الأبقار قد أصابها مرض ما , وأن الاقتصاد البريطاني أصبح في أزمة بسبب كساد تجارة الأبقار بلحومها ومنتجاتها الأخرى. ورأيت أن الدول الكبرى تناقش موضوع البقرة والنعجة والمعزة والدجاج في مجالسها الوطنية المنتخبة وتناقش مواضيعها بحدة وتوسع وحماس منقطع النظير. فاحترت في معاني التقدم والتأخر.

وعندها أدركت صواب ذلك الرجل ووعيت مدلولات قواعده الاقتصادية التي نسفناها نسفا مرعبا بسبب فهمنا الخاطئ للتقدم وحسبنا أن التأخر بقرة ونعجة ومعزة ودجاجة , والتقدم أن نقتلها جميعا ونتخلص منها بالكامل.

فكان الفاهمون –كما يسميهم- يهزءون من الفلاحة والزراعة. فإذا ناقشتهم عن زراعة الرز ضحكوا وقالوا نستورده بسعر بخس فلا نحتاج لزراعته. وإن حاولت أن تناقش معهم زراعة الحنطة أجابوك بأنهم يستوردون الطحين بثمن قليل جدا وأقل من كلفة زراعته هنا. وأما إذا تحدثت عن الثروة الحيوانية, فأنهم يحسبونها شتيمة ويأنفون من ذلك فاللحوم المستوردة والدجاج المستورد يغنيهم عن ذلك.

بهذه العقليات المقيدة بالغباء وضيق الأفق ومحدودية النظر, تم تحويل بلد السواد إلى بلاد جرداء من الأشجار والمزارع والنخيل , وأصبحت أرض الرافدين الخصبة المعطاء , لا يمكنها أن تشرب الماء أو تحتضن البذور وتنبت الزرع. وأصبحت تسقى من الدماء بدلا من الماء.

وفي زمن التلويح بالجوع والفقر والمصائب البشرية الكبرى , تذكرت ذلك الرجل ووجدت الجواب لمحاربة غائلة الجوع والاستعداد لموجتها المرعبة   أن نعود إلى النعجة والمعزة والدجاجة والبقرة والأرض. وأن نربيها جميعا ونعتني بها ونغير نظرتنا وفهمنا ووعينا لمعاني الاقتصاد ومفردات التفاعل الصحيح لكي نبقى. فعلينا أن نربي الحيوانات وجميع أنواع الطيور التي توفر لنا الغذاء وتمنع عنا الجوع. وأن نزرع بساتين النخيل ونواجه الجوع بعطاء النخيل الذي لا يمكنه أن يسمح للجوع أن يكون في بيت ينبت فيه. وأن نزرع في كل بيت نخلة. وأن نحاول إعادة الغزلان إلى مرابعها واستيرادها قبل فوات الأوان, وأن نحدد قوانين الصيد. والاهتمام بالطب البيطري ورفع قيمته وشأنه في حياة المجتمع لأنه يوفر القدرات اللازمة لحماية الثروة الحيوانية. ولا بد من العناية الفائقة بالثروة المائية وبناء مزارع الأسماك قرب الأنهار ورعايتها. ومن الواجب الاهتمام بالزراعة حتى لو تطلب الأمر العودة للثور والمحراث. فالزراعة تعني التقدم وليس التخلف كما أوهمونا وضللونا لكي يطعمونا من عطاء أراضيهم ويجعلونا أسرى عندهم.

وفي العراق يكون الاهتمام بالماشية والنخلة والزراعة من أهم أركان مكافحة آفة الجوع وتحقيق الأمن والسلامة الغذائية للأجيال القادمة.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org