مقالات

الفساد...!

د. مراد الصوادقي

"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" البقرة 205

 الفساد من المفاسد دون المصالح , وهو نقيض الصلاح , والاستفساد خلاف الاستصلاح , وتقول الأمير يستفسد رعيته. وقد تمادى في استفسادهم . والمفسدة ضد المصلحة. والعراق ثالث دولة في الفساد الإداري حسب تقارير الأمم المتحدة. وهذا تشخيص مأساوي يدعو إلى وقفة جادة وتفاعل وطني سليم , من أجل الخروج من نفق الضياع والدمار والخراب الشامل. ولا يمكن الاقتراب من هذه المشكلة المخيفة بالقوة والمحاكم والاتهامات والتفاعلات السلبية الضارة والمؤازرة للفساد , وإنما يكون بالدراسة العلمية والموضوعية والتفتيش عن الأسباب الحقيقية ومعالجتها بشجاعة وحزم. فالعالم اليوم لا يترك صغيرة وكبيرة إلا تعمق في البحث عن أسبابها وتشخيصها وتوصيف العلاج اللازم لها لكي تمضي عجلة التقدم وتنعدم المعوقات التي تمنعه. والفساد من أكبر المعوقات التي تواجه الأمم والشعوب. وبنظرة متفحصة تبرز أمامنا أسباب عديدة للفساد في بلدنا

 أولا : البطالة

تشكل نسبة البطالة العالية ركنا أساسيا وقويا من أركان الفساد الإداري والاقتصادي والأخلاقي وغيرها من أنواع الفساد الأخرى. وقد لعبت البطالة دورها الضار في تدمير المجتمع وتحويله إلى مستنقع للويلات والاضطرابات ومرتعا للموبقات.

 ثانيا: غياب القانون

عندما يكون القانون مغيبا والعصابات مهيمنة على شؤون الحياة , سواءا كانت عصابات دينية أو حزبية أو غيرها , فأن الفساد سيكون قانونها ومرتعها لأنها بالفساد تترعرع وتكون وبغيره تذهب إلى بئس المصير. فسيادة القانون تتناسب عكسيا مع انتشار الفساد. كما أن ضعف المحاسبة والمسؤولية ووجود أفراد من المجتمع يتصرفون وكأنهم فوق القانون أو هم القانون يؤدي إلى الإفساد الجماعي وشيوع التقاليد الفاسدة.. 

ثالثا: ضعف الغيرة الوطنية

البشر الذي يغار على وطنه لا يمكنه أن يمتهن الفساد ويمارسه ويساهم في طغيانه على أرجاء نشاطات دولته ومجتمعه. فليس من الفخر أن يكون العراق ثالث دولة في الفساد فوق الأرض خصوصا الإداري. بل أنه وصمة عار كبيرة وعلى الناس جميعا أن ينتفضوا وتأخذهم الحمية الوطنية لتطهير حاضرهم من هذه المثلبة الحضارية المعيبة.

 رابعا:ضعف الدين

إن الوعي الديني يمنع الفساد , فالذي يعرف دينه لا يمكنه أن يقر بالفساد بل يكون من أكثر الناس أمانة ومخافة من ربه , وينأى بنفسه عن كل ما هو فاسد ومضر بالحياة وبحقوق الآخرين مهما كانوا. والعجيب في أمرنا أن عدد العمائم المنتشرة في المجتمع تتفوق على عدد العمائم في أي مجتمع آخر , لكن الفساد يبدو وكأنه يتناسب طرديا مع عدد العمائم في المجتمع , وهذا يدل على أن أصحاب العمائم لا يثقفون الناس دينيا بل يساهمون في تجهيلهم وأميتهم وانحرافهم عن الصراط المستقيم وذلك باسم الدين , وإلا كيف تفسر هذه العلاقة الشاذة ما بين الفساد السائد والعمائم السائدة.

 خامسا:العوامل الاقتصادية

القهر الاقتصادي واختناق الفرص وعدم توفر المنافذ اللازمة لتفريغ الطاقات البشرية وإرضاء الحاجات الأساسية , تدفع بالناس إلى فقدان المعايير والتفاعل الفاسد المضر بالحياة والمجتمع. وعندما يصبح الموظف معتادا على الرشوة التي تساهم في توفير حاجاته , فأنه يصاب بحالة الإدمان على الفساد , ولا يمكنه أن يتخيل بأنه ينجز معاملة مواطن واحد من غير أن يقدم له رشوة معينة. فالفساد يتناسب عكسيا مع التطور والنمو الاقتصادي.

 سادسا: اضطراب الوضع الاجتماعي

عندما تشاع الطائفية والعرقية والطبقية والحزبية  وتضعف الوطنية وروح المواطنة فأن الفساد يعم ويطغى . ولا يمكن لمجتمع مضطرب الأركان أن يكون خاليا من الفساد ودواعي الإفساد عبر جميع الوسائل المتاحة , والتي يستحوذ عليها أصحاب التأثير الفاسد على العباد.

 سابعا: غياب الاستقرار السياسي

عدم الاستقرار السياسي كما هو معروف يؤدي إلى تنامي الفساد. ولا توجد دولة مضطربة سياسيا ولا يعم فيها الفساد ويترعرع , لأن الأجواء تكون مؤهلة ومحفزة لتحقيق الفساد , بل ويصبح الفساد وسيلة الناس للعيش والمواصلة لتقطع أسباب البقاء ومؤهلات الحياة الحرة الكريمة.

 ثامنا: صعوبة الحياة

عندما تشتد صعوبة الحياة يشتد معها الفساد وتتحطم النظم والمعايير ويضعف القانون وتتآكل مواده. ويبدو أن تأثيرات الحصار الذي استمر لثلاثة عشر عاما , لا زالت قائمة وفاعلة في حياة البشر , كالحصة التموينية وغلاء المواد الغذائية وندرتها أحيانا وكذلك عدم جودتها. وضعف الخدمات وانعدامها من ماء وكهرباء ونقل ومجاري وكذلك الخدمات الصحية وتدني مستويات الرعاية الطبية .

 تاسعا:التقاليد الاجتماعية المشوهة

لو كان الفساد تقليدا اجتماعيا مرفوضا لما تحقق شيء منه في أي موقع في المجتمع , لكننا لا نعتبره كذلك , لأننا نرى الرشوة والمحسوبية والسرقة وأخذ حقوق الآخرين شطارة وشجاعة و(سباعية) وغيرها تعد ضعفا وخوفا وجبنا . ولكي تكون شجاعا عليك أن تمارس الفساد وتمتهن كل ما هو منحرف لكنه يجلب المال الوفير المطعم بالسحت الحرام. كما أن سلوك الإكراميات قد تحول إلى رشاوى وأصبح الموظف الذي لا يرتشي لا يمكنه أن يتواصل في معيشته بسبب ضعف الرواتب وفقدانها لقيمتها الشرائية.

 عاشرا:تردي القيم الأخلاقية

المجتمع الذي يسود فيه الفساد وينتعش أصحابه بممارستهم للنشاطات الفاسدة من غير رادع اجتماعي أو أخلاقي , إنما هو مجتمع مشكوك بسلامته الأخلاقية وصلاحية تفاعلاته على جميع المستويات. والفساد يشير وبلا شك إلى حالة الانحطاط الأخلاقي والقيمي في مجتمع من المجتمعات, وفيه انعدمت الشفافية والوضوح  وأصبح العمل بالكتمان والخفية والامتهان , وغابت المحاسبة وانتعش التسلط والطغيان , ونمت الأنانية والبخل ومسوغات البهتان.

 حادي عشر:التفاوت الطبقي الكبير

التغير السريع بحالة التفاعل الطبقي الاجتماعي تدفع إلى الفساد, فالسّراق والمرتشين هم أحسن حالا ومقدرة وقوة من الذين ينتهجون الطريق القويم , والذين يخافون الله فيما يفعلون ويذكرون. فترى أناسا قد انتقلوا من حالة إلى أخرى بين ليلة وضحاها , ومؤهلاتهم أنهم قد عبروا عن السلوك الفاسد وغمطوا حقوق الآخرين , وشكروا الله كثيرا على هذا الرزق الكثير ولا يريدون أن يعرفوا معنى الحلال والحرام فيما يكسبون لأن في ذلك الخسران.

 ثاني عشر: غياب خدمات الرعاية الاجتماعية

في مجتمع لا تتوفر فيه أبسط مؤهلات خدمات الرعاية الاجتماعية ومرتكزات الحفاظ على كرامة الإنسان وقيمته ودوره الكريم في الحياة , يكون من السهل على الفرد أن يمارس الفساد وينسى ربه ووطنه وينكر دينه , إلا بما يبرر فيه فعله الفاسد ويقر سلوكه المنحرف الذي يوفر له بعض ممكنات الحياة.

 ثالث عشر: الضمانات الإنسانية الضائعة

في حالة وقوع المجتمع فريسة للخوف والقلق وضياع الأمان والمستقبل والحيرة وعدم وضوح طريق الأيام, يصبح الوجود فيه مشوشا والتفاعل ضبابي ومشحون بالسلبية واليأس , مما يدفع وبقوة إلى ارتكاب كل سلوك متفق والحالة النفسية السائدة فيه. فهذه الأجواء تجعل البشر في  تحفز وتأهب من أجل أن يفعل ما يمكنه أن يفعله في لحظة مواتية , فتراه يسرق وينهب ويقتل ويرتكب أفظع الجرائم , لأنه في مأزق وجودي خطير.

 رابع عشر:فقدان قيمة العمل

العمل يفقد قيمته لأنه لا يوفر الحياة الحرة الكريمة لصاحبه وإنما يرمي به في مهاوي العناءات اليومية , ويتسبب له بالمزيد من القهر والشقاء والاستلاب والتدمير الذاتي والنفسي , الذي يبلد قدرات الرحمة والخوف والعمل بالمعروف , لأن ضغط الحياة قد حوله إلى مخلوق آخر يناهض طبيعته ودوره الذي يطمح أن يقوم به.

خامس عشر: المَثل والقدوة الفاسدة

فالمثل والقدوة هم أصحاب المسؤولية المتقدمة في الدولة وعليهم تقع أكبر الالتزامات في إعطاء الصورة المعاصرة الحسنة التي يمكن أن يتبعها الآخرون , لأن السلوك يكون بالاحتذاء والتقليد أكثر مما يكون بغير ذلك. ولا يمكن لدولة أن يعم فيها الفساد إن لم يكن في مقدمتها مَن يرعى نشاطاته ويساهم في إسناده ويعطي الأمثلة الواضحة على الأداء الفاسد. ولا يمكن عزل فساد دائرة من دوائر أية دولة عن فساد الدائرة الأولى فيها , وتلك حقيقة وقانون لا يقبل الشك . فإذا كان الأب فاسدا فأن الأبناء والبنات سيعبرون في سلوكهم عن الفساد الذي عبر عنه أبوهم وألهمهم مهارات الفعل الفاسد وكيفيات تمريره.

سادس عشر: قواعد العمل المفقودة

في دوائرنا لا توجد ضوابط وقواعد للعمل , ولا توجد معايير لجودة الأداء والتطور والارتقاء في العمل الإداري , بل أنها محسوبيات وحزبيات ومقاييس بائدة متأخرة متعفنة , لا ترقى إلى مستوى التفاعل في هذا العصر المتنور والمشحون بالدراسات والأبحاث , التي ترصد كل خطأ وانحراف في الأداء والسلوك في أية دائرة أو نشاط بشري.

 سابع عشر: انعدام الشعور بالمسؤولية

الشعور بالمسؤولية والدور ركن أساسي من أركان البناء الوطني الصالح , وضعف هذا الشعور وقيمته وأثره في الحياة الاجتماعية , يؤدي إلى بناء الوجود الاجتماعي والإداري الفاسد . إذ يصبح كل واحدٍ غير راعٍ وغير مسؤولٍ عن رعيته , فيتحقق التسيب والانفلات والفساد على جميع المستويات.

ثامن عشر: رواتب الموظفين

لماذا لا تكون رواتب الموظفين ذات قدرة على توفير العيش السعيد للموظف؟

لماذا لا يتقاضى الموظف العراقي راتبا سنويا ما بين اثني عشر ألف دولار  وأربعين ألف دولار؟ ولماذا لا يكون مستوى الرواتب مثلما هو في الدول المتقدمة؟ ألا نستطيع أن نحقق ذلك مع كل عائدات النفط التي عليها أن توزع بعدالة ونكران ذات ووطنية صادقة؟

لو تقاضى الموظف ما يكفيه لتحقيق سعادته وسعادة عائلته , لحارب الفساد وشعر بالغيرة على عمله ودائرته ولجابهه بكل طاقاته وقوته. ولأصبح الفساد قيمة اجتماعية مرفوضة ومنكرة, مثلما هو في أية دولة متقدمة ومتحضرة.

تاسع عشر: النفط

أحد أهم أسباب الفساد لأنه يدفع إلى الثراء الفاحش لفئة من المجتمع  تمكنت من الاستحواذ عليه ومنعت حق الآخرين فيه , مما يدفع إلى تنمية روح العداء والكراهية وتشجيع السلوك الفاسد. ولابد من التعامل مع هذه الثروة بعدل وإنصاف وان يكون للمواطن حق معقول ومقبول فيها وبلا تمييز أو غبن.

 عشرون: محاربة الصحافة والصحفيين

فالفساد يكون أقل في الدول الديمقراطية التي تحترم حرية التعبير وتصون حقوق الصحفيين وتهتم بدورهم في بناء المجتمع. فالصحافة الحرة هي عين المجتمع التي لا تنام عن كل سلوك فاسد في جميع دوائر الدولة ومراكز الأنشطة. وبازدهار دور الصحفيين وسيادة حرية الصحافة يلوذ الفساد خائفا في جحور ظلماء ويتطهر المجتمع من آفاته وأمراضه الخبيثة المعدية.

 "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" الروم 41

 هذه بعض الأسباب التي يمكن التصدي لها وهناك أسباب أخرى عديدة , على الجهات المعنية بالأمر أن تقترب منها بعلمية وإيجابية وسعة أفق وشفافية ونكران ذات , وحكمة ودراسة مستفيضة وخبيرة من أجل وضع الحلول الناجعة والمؤثرة , لتحرير الوطن من هذه الآفة المهينة التي لا تليق به وبأهله الطيبين. ولا بد أن يكون البدء من الرأس وما يدور حوله وبقربه , لأن المفاصل الأخرى في سلم التدرج الإداري  دائما تقتدي برأسها وما يتقدم عليها. فالفساد قد يكون بسبب تدخل الدولة في كل شيء وتحطيمها لروح المنافسة الوطنية الشريفة , لكنه يضعف عندما نعلي قيمة النوعية والجودة في العمل والإنتاج ونضع معايير واضحة للخدمات المختلفة.

فهل  يا ترى سنتصدى بحكمة ووعي وحزم للفساد أم سنبقى ضحايا من ضحاياه وغرقى في مستنقعاته الراكدة.

 "....ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين" القصص 77

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org