|
مقالات هل نفعل ما نكتب...! د. مراد الصوادقي هل نكتب الأفعال أم نجعل الفعل كتابة؟ أي أن الكتابة هي الفعل مثلما هي الأقوال في مجتمعنا. فالكلمة تفقد قيمتها عندما لا تعبر عن الفعل أو تدل عليه وتشير إليه. والدول المتقدمة لا يمكنها أن تفصل ما بين الكلمة (قولا أو كتابة) وبين الفعل, لأن في مفهومها الكلمة أما أن تعبر عن فعل حصل أو تدل على فعل سيحصل. بينما الكلمة عندنا مجردة من الفعل ودلالاته , وهذا ما يحقق الاضطراب في التفاعل بيننا وبين أبناء العالم المتقدم علينا, لأنهم يقولون ما فعلوا وسيفعلون ونحن نقول ما لانفعل. فالعلاقة بين القول والفعل في مجتمعاتنا تكاد تكون منفرطة أو معدومة, حيث يتحول القول إلى فعل والكتابة إلى فعل وحسب. أما السلوك الفردي والجماعي الذي يتحقق في حياتنا فأنه ينكرهما ويتناقض تماما معهما. وهذا ينطبق على معظم الكتابات والخطب والأقوال. فكل منا يقول ولا يفعل , والقائد يقول ولا يفعل وشعاراتنا عبارة عن كلمات مكتوبة لا تحقق فعلا وإنما تصبح هي الفعل , وذلك أوصلنا إلى ما نحن عليه من الوجود المتناقض مع كل مفردات وعناصر الحياة من حولنا, بل وأبعدنا عنها تماما. وكأن أقوالنا وكتاباتنا ما هي إلا نشاطات ترويحية لا تريد إلا إرضاء رغبة التنفيس عن الأعماق المكروبة بالخيبات ولبث الغضب والانفعالات لا غير. وعندما نتساءل لماذا لا نكتب ما نفعل أو نقول ما نفعل, تتبادر إلى الأذهان العديد من الأسباب والتصورات التي تصب في وادي اللافعل. أولا : ثقافة القول والرواية مجتمعاتنا مبنية على ثقافة قال فلان وذكر فلان , ولم تكن مبنية على فعل فلان وأنجز فلان. وما نفخر به هو أفعال خيالية ذات علاقة بحكايات ألف ليلة وليلة ومغامرات الرموز التاريخية الفاعلة في أعماق وجداننا وتضاريس لا وعينا. ولهذا فنحن نميل إلى التهويل بالقول والكتابة ولا نميل إلى الموضوعية والتفاعل الواعي مع الواقع. وهذا يؤدي إلى فقدان قيمة ما نذكره قولا أو كتابة , وينفي دوره في رسم مسيرة حياتنا. ثانيا: الكآبة مجتمعاتنا عموما يطغى عليها الشعور بالحزن والكآبة , مما يدفع إلى فقدان القدرة على الفعل , وانعدام الرغبة والانغماس في فضاءات الرؤى السوداوية اليائسة التي تحبب الموت وتدعو إليه وتقلل من قيمة الحياة وأهميتها , بل وتنكرها وتتطلع إلى ما بعدها من التصورات والتفاعلات التي تؤثر في سلوك الفرد والمجتمع. ثالثا: عوامل الإحباط المتنامية لدينا العديد من عوامل الإحباط والإجهاض المبكر لكل فعل وتطلع في حياتنا. وبتكرار الإحباطات وتعاظمها , يصبح الفعل حالة بعيدة , ويتمكن الشلل والخدر من وجودنا , فننزوي في زوايا الخمول واللاجدوى ونحسب أعظم الأفعال أن نقول ونكتب ما لانفعل وحسب. رابعا: محاربة الفعل أمة تحارب أي فعل إيجابي وجاد ويسعى إلى تحقيق نقلة نوعية في خطوها نحو المستقبل , لا يمكنها أن تعطي للفعل قيمة ودور , ولهذا يكون الجنوح في مسيرتها نحو الأقوال والتسطير. فلو تأملنا ما قلناه وكتبناه على مدى القرن العشرين , لتبين لنا بأننا قد ذكرنا كل شيء ولكننا ما فعلنا ما يؤكد أقوالنا. ففي العراق مثلا , قد تم الكتابة عن المستقبل وتوقع ما سيحصل ولكن لم يتحقق أي إجراء لكي يمنع ما توقعته الكتابات والأقوال والخطابات, وكأنها هي الفعل وحسب. خامسا: الخوف من الفعل نحن نخاف أفعالنا ونخشى من أي عمل نقوم به , لأننا مأسورون بسجن الكلام وسحر البيان , وقد يكون للغة دور في هذه العلة الحضارية التي نعاني منها, لكن أجدادنا بلغتنا سادوا لأنهم تحولوا إلى فعل حي عجزت عن استيعابه أسطر البيان , ولا زالت تكتب عنه وتغرق فيه , لشدة توهج الفعل وقوة العمل والإدراك المنير لمعالم الحياة. سادسا: فقدان الثقة بصورة عامة تنتابنا عواصف اهتزاز الثقة الفردية والجمعية , الهابة من جميع الأركان. فكلما نظرنا من حولنا نجد بأننا قد تأخرنا كثيرا عن الركب الحضاري المعاصر , وبأننا لا زلنا دون القدرة على الإمساك بخارطة الوصول إلى غاياتنا والمواكبة مع عصرنا. سابعا: الشعور بالدونية من المؤلم أن يغمرنا هذا الاقتراب السلبي من أحوالنا , فنحن لا نرى بعين الرضا وإنما نحدق بعيون الكراهية والمقت والاشمئزاز من واقعنا , ونعجز عن الإتيان بفكرة فاعلة قادرة على التغيير وتحقيق الحياة. وهذا الوجود النفسي المتداعي يدفع بنا إلى الاستهانة بأفعالنا وقدراتنا ويأسرنا في سجون العجز والنظر الدوني إلى وجودنا الذاتي والموضوعي وبهذا يتحقق عندنا الفعل على أنه لا فعل. تاسعا: الاعتماد على الآخر منذ عقودٍ عديدة وأجيالنا تتربى على أنها تعتمد على الآخر الذي سبقها وتسيد عليها ورسم لها خارطة مصيرها وكيف ستكون أيامها, بل وقرر كيف تأكل وتشرب وتدرس وتلبس. وهذه الحالة الجاثمة في أعماق الأجيال هي التي تحدد الحركة وتمنع الفعل المبدع , وتكرس مفاهيم الضياع والتبعية وانتفاء الفعل ونكرانه إن لم يكن مصدره الآخر لأنه هو الفاعل ونحن المفعول به دوما. عاشرا: ضياع منهج الحياة الحياة تعني الفعل والتفاعل , وعندما يضيع منهجها وتفقد قيمتها , يذهب الفعل فيها وتتحول إلى مستنقع للويلات والآهات والأنين , ويكون أعضاؤها من المنتمين إلى المستنقع بكل قوانينه ومعطيات الصراع الدامي فيه. ولكي يفعل الإنسان لا بد له أن يتعلم فن الحياة وقيمته ودوره فيها لكي يعبر عن نفسه ويكون بفعله. وبما أننا لا نعرف الحياة في معظمها ونسعى إلى معرفة الموت والتفاعل معه , فأن قيمة الفعل في الحياة تضيع ويكون الموت متسيدا عليها , ولهذا يتجرد النشاط الإنساني من الفعل الجاد ويكون مجرد لا جدوى. حادي عشر: الهرب من المواجهة عندما تتعلم المجتمعات الهروب وتنكر المواجهة فأنها تكون غير فاعلة , ويكون الفعل متعارضا مع منهجها التخديري الذي ينأى بها عن صناعة الحياة وبناء المستقبل. وفي حالة كهذه يفقد الفعل دوره ويكون التعبير عنه بانحرافات ترويحية تحسب أفعالا لكي ترضي النفس وتشيع نوعا من التوازن والاستقرار الخادع. ثاني عشر: الكبت والحرمان المجتمعات المكبوتة والمحرومة تكون مأسورة بحيرتها ودوامة البحث المضني عن منافذ للتعبير عن الطاقات المكبوتة فيها. وعندما تكون في بئر مظلم فأنها تنهال على ذاتها وتتفاعل معها بشراسة تدمر واقع وجودها الإنساني وتخرجها من حلبة التفاعل الخلاق تحت الشمس , فتكون مرهونة بشلل القدرات وعدم الرغبة في المشاركة والفعل. وعندما لا نفعل ما نكتب ولا نكتب ما نفعل , نضع ركيزة أساسية في بناء أسس ضياعنا وتفاعلنا السلبي مع الذات والموضوع.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |