دينامية القوة: الفرد في سياق
المجتمع
علاء
هادي
مازال
بعض الأفراد أو المجموعات يعيش عقلية القرون الوسطي وما
سبقتها، ويري أن الطريقة الأمثل والأفضل للعيش والبقاء تكمن في
استخدام القوة ببعدها المادي الصرف، ولو طرأت مشكلة ما في
كينونة تلك المجتمعات فان الخيار الأول للتعامل مع تلك المشكلة
سيكون في استخدام القوة المادية حصراً، وحين استنزاف كل ما في
الجعبة من موارد عسكرية وبشرية لمعالجة تلك المشكلة، وفشلها في
تحقيق الأهداف المرجوّة منها، عند ذلك تقوم المصادر المُحركة
لتلك القوي في تغير آلياتها في التعامل مع تلك المُستجدات،
ومحاولة دراستها علمياً للوصول الي الأسباب الرئيسية التي أدت
الي خلق تلك المشكلة أساساً، ومحاولة ايجاد حلول جذرية غير
آنية أو انفعالية لحل المشكلة بصورة سلمية، وايجاد حلول علمية
وعملية تُقنع أطراف النزاع بتنحية السلاح جانباً والجلوس معاَ
علي طاولة المفاوضات لتباحث امكانية الوصول الي بدائل تُرضي
جميع اطراف النزاع. وقد أثبتت الدلائل التاريخية أن القرارات
والاتفاقيات المستندة علي قوي أخري غير مادية، كقوة الاقناع
والتفاهم، والتعايش المشترك، أو المصالح المتبادلة، أو غيرها
من القوي تستند علي أسس أخلاقية وفكرية، وتشترك في صياغتها كل
الأطراف المعنية وتعود علي المشاركين في صناعتها بمنافع مادية
ومعنوية، تعتمد قيمتها وطبيعتها علي ما أُتفق عليه سلمياً بين
الأطراف المتفاوضة. وستكون القرارات المتوصل اليها عن طريق
المفاوضات السليمة قرارات رسمية ومشروعة وأطول عمراً اذ ما
قورنت بالقرارات التي فُرِضت قسراً من الجانب الأقوي، ذلك لأن
الأطراف التي ابرمتها ارتأت فعل ذلك بمحض ارادتها الحرّة وليس
اذعاناً لقوي مادية أرغمتها علي الاذعان بما جاء فيها. ان
العلاقات المستندة علي التفسير المادي للقوة قادت الكثير من
الأفراد والدول الي خسائر مادية ومعنوية هائلة قضت علي فرص
كبيرة لاستمرارية وبقاء تلك الكيانات، ذلك لأنها استندت أساساً
علي بناء ذاتها وعلاقاتها مع الآخرين علي ركائز آنية تنص علي
أن ما امتلكه الآن من قوة صناعية أو عسكرية تؤهلني أن أكون أنا
الأمثل والأفضل للقيادة، وأن يكون الطرف الآخر المسالم مرحلياً
منقاداً قهراً.
ووفق
أخلاقية الثقل المادي المرحلي شهدَ التاريخ، ومازال يشهد،
العديد من الحروب والنزاعات بين أفراد ودول كانت بالأمس لا
تمتلك القوة المادية للرد علي اُرغمت عليه مُسبقاً واليوم باتت
لها قدرة الرد بالوسائل المُتاحة والتي تمكنّها ولو نسبياً في
المطالبة بحقها الشرعي المُنتهك في السابق. ناهيك عن القول من
أن كل الموارد المادية والبشرية التي صُرِفَت من الطرف الأقوي،
مرحلياً، علي بناء مؤسساته المادية العسكرية منها والمخابراتية
لم تقف أبداً رادعاَ قوياً في نفوس الأفراد أو الشعوب أمام
المطالبة بحقوقهم الشرعية، بل علي العكس من ذلك فانه كلما
ازدادت قوة تلك المؤسسات التسلطية كلما ازداد رفض الجماهير
لها، وقد أثبتت التجارب الماضية والمعاصرة، أن القوة المادية
المفروضة، العسكرية منها أو الصناعية، ليست بالضرورة القوة
الحقيقية القادرة علي انجاز تطلعات الشعب أو الدفاع عن أمنه
وحدوده. بل علي العكس من ذلك، ذلك أن الدول التي استندت في
بناء قوتها علي هذه الرؤية لم تصمد أمام الأزمات والتحديات.
لم يعد اليوم مفهوم الأقوي يعني امتلاك القوة المباشرة بقدر ما
هو امتلاك القوة غير المباشرة أو الكامنة، ولم يعد اظهار القوة
بقدر ما غدا تضمينها القدرة علي التأثير، فالقوة وفقاً للتصور
الاستراتيجي بتراثه الأعمق، بعيداً عن الارتكاسات الآنية
الحالية التي تفرضها وقائع المرحلة الانتقالية من نظام عالمي
الي آخر، هي القوة المستترة والكامنة. ولو نظرنا الي ما كان
يعرف بالاتحاد السوفياتي، بكل ما يمتلك من ترسانة عسكرية ضخمة
وأجهزة أمنية عملاقة، لم يستطع الصمود أمام تطلعات شعوبه
المشروعة في العيش بحرية وكرامة. فتلاشي في فترة زمنية وجيزة.
وكذلك الحال مع النظام السابق في العراق، والذي أهدر موارد
الشعب في بناء واحدة من أكبر ترسانات الأسلحة في المنطقة
والعالم مصحوبة بأقسي الأجهزة الأمنية والقمعية، انهار في
أسابيع قليلة ووصل الأميركان الي مقر حكمه في أقل من شهر.
وهكذا نصل الي حقيقة تظهر جليّة في تاريخ الصراعات البشرية وهي
أن الدولة التي تنفصل عن مجتمعها المحلي أو العالمي وتتعامل
معه وفقاً لما تمليه طبيعة موازين القوي التسلطية الآنية، ولا
تنسجم خياراتها مع خياراته، هي دولة ضعيفة في المحصلة النهائية
حتي ولو امتلكت كل الثروات الاقتصادية والمؤسسات العسكرية. أما
الدولة التي تشرك جماهيرها في صناعة القرار وتستند علي أسس
ديموقراطية في بنيتها وممارساتها، هي دولة قوية وقادرة علي
مجابهة المخاطر حتي ولو كانت فقيرة في مواردها وثرواتها
وامكاناتها العسكرية. لقد بات واضحاً أن مفهوم القوي قد تغير
تاريخياً حيث درج الفلاسفة علي استخدام القوة كوسيلة للوصول
الي الغاية المطلوبة لا كهدف استراتيجي صرف. وشهد النصف الثاني
من القرن الماضي تغيراً في أساسيات السياسة الغربية الخارجية
للدول الغربية، حيث تضاؤل مفهوم القوة العسكرية منذ مطلع
السبعينات اثر تجارب الحروب العالمية، اضافة الي تجربة فيتنام
بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، وبات واضحاً في النظام
العالمي السابق أنه انبثق باعتباره تجسيداً لارادة الضبط علي
حساب ارادة الاكراه وكحالةٍ متطورة لنظام الهيمنة، ان القاعدة
قد باتت هي ممارسة النفوذ دون الحاجة الفعلية للقوة. ولعل في
سقوط الاتحاد السوفياتي، من دون استخدام للقوة من خارجه أو حتي
من داخله، ودون الحاجة الي ملء فراغ القوي الذي نجم عن هذا
السقوط وهي ظاهرةٌ غير مألوفة في تاريخ العلاقات التاريخية بين
الأمم، وتكرار ذلك مع انهيار جمهورية يوغسلافيا والتي تفككت
بنيران الحرب الأهلية التي نهشتها من الداخل، مثالاً آخر، حتي
أنه يمكن أن يقال ان فراغ القوة الناجم عن امتناع القوي
الخارجية عن التدخل هو الذي جعل الحرب الأهلية تندلع بضراوةٍ
وتقود الي تقسيم يوغسلافيا الي دول عدة. غن تحولاً آخر في
مفهوم القوة المعاصرة قد ترتبت عليه سلسلة من النتائج، وهو
الانفصال التدريجي الحاصل بين القوة العسكرية والقوة
الاقتصادية، اذ ان النظم الدولية القديمة قد كانت تستند لقوي
عسكرية - اقتصادية، بمعني أن الدولة الأقوي عسكرياً تكون
الأقوي اقتصادياً (الامبراطورية الرومانية، أو المملكة
الاسبانية، أو بريطانيا وغيرها) غير أننا نلاحظ انفصالاً بين
بعدي القوة المذكورين هنا، ويكفي مقارنة القوة الاقتصادية
لليابان أو ألمانيا مع الولايات المتحدة وروسيا، مع قواهم
العسكرية، لادراك هذا التحّول.الي جانب ذلك كله، فان عاملاً
رئيسياً في بناء القوة تطور تاريخياً، فقد كانت الملكية: هي
معيار القوة، حيث تمركزت السلطة في المرحلة الأولي بيد ملاك
الأرض والجنود والتي هي سلطة متدنية النوعية وذات مضمون سلبي
كما يصفها المفكرون، وفي المرحلة الثانية تمركزت القوة بيد
أصحاب المصانع الذين شكلوا سلطة مبنية علي الثروة وهي سلطة
متوسطة النوعية وذات مضمون مزدوج سلباً وايجاباً، أما المرحلة
الثالثة التي نعيشها فهي مرحلة المعرفة وتتمركز بيد العلماء
وهي سلطة ذات مضمون عال في نوعيته ويتسم بالايجابية. ان انتقال
العالم من مرحلة الثورة الصناعية الي مرحلة الثورة المعرفية ـ
المعلوماتية التي يبدو أنها تتوافق مع متحولات العالم السياسية
قد ساعد في استحداث هذا التحول نحو النظام العالمي الجديد
باعتباره عصر المعلومات، الذي غدت فيه الجغرافية لا مكانيّة من
ناحيةٍ والمكان غير زمانيّ من ناحية أخري، لذا فان الفكرة اصبح
لها تأثير أسرع وأكثر فاعلية من المادة، ووفقاً لذلك فان الدول
والكيانات القوية المعاصرة هي تلك التي تستند علي الفكرة:
القانون، الدستور، حقوق الانسان، المفاهيم العلمية والأخلاقية.
كل هذه المفاهيم المبنية علي أسس العدل والحرية والمسؤولية، هي
القادرة علي التفاعل والتكامل مع مجتمع متحضر يمارسة فيه
أفراده وظائفهم استناداً علي أسس علمية متفق عليها بالاقناع.
ناهيك عن القول أن تنمية روح المسؤولية والتسامح والحقوق
والكرامة، كلها عوامل تساهم في تنمية الحس الديمقراطي في
المجتمع. واننا في هذه المرحلة الحرجة من عمر العراق وفي خضم
التطورات السياسية والاقتصادية المتسارعة التي تمر بها المنطقة
والعالم أحوج ما نكون الي قراءة جديدة لمعني القوة فالانسجام
بين الدولة والمجتمع هو قوة لكليهما. ولا ريب أن تحقيق
الانسجام، يتطلب من الدولة القيام بخطوات ومبادرات، تستهدف
توسيع المشاركة الشعبية وازالة الاحتقانات بكل أنواعها وتوسيع
القاعدة الاجتماعية للسلطة. فالقوة الحقيقية اليوم، تتكثف في
مستوي التناغم بين مؤسسة الدولة والمجتمع بمختلف طوائفه
وشرائحه. والوظيفة الكبري للجميع تتجسد في تكثيف الفعل الثقافي
والاجتماعي لتحرير عملية التحول الديموقراطي من لجامها
ومعوقاتها الذاتية والموضوعية، حتي تأخذ الديموقراطية موقعها
الأساس في تنظيم الخلافات وضبطها، وحتي تتجه كل الجهود
والطاقات نحو البناء والسلم والاندماج الاجتماعي والوطني،
وتعميق مفاهيم العدل والمساواة والمسؤولية. ان ارادة اللاقوة
لا تعني نبذاً لمفهوم القوة بحدّ ذاته بل تعني تجنّباً لنتائج
استعمالها المحتمل. واذا كان التعريف الكلاسيكي للقوة هو
قدرتها علي فرض نفسها مادياً، فان تعريف القوة الحديث ليس في
ذلك بل في ايجاد خيارات كثيرة لمنع اكراه الآخرين في تقبلها
مرحلياً، وايجاد بدائل متفق عليها طوعياً لضمان استمرارها
ذاتيا. وفقاً لما تقدم أري اننا كأفراد مطالبون أيضاً في اعادة
النظر في تفسيرنا لمعني القوة، وأن نحاول تجريدها من مفهومها
القرو- وسطوي والذي يُعرّف القوي علي أنه: المقاتل (المسيطر
المهيمن) الغازي. والتي هي جميعها حالة زمكانية تنتهي عادة
بالنهاية الفسيولوجية لحامليها.
اتمني
أن يصبح فهمــنا للـــقوة علي مدي أهلـــية ومشروعية المبرر
الأخلاقي والانساني اضافة الي ماهية الآثار الانسانية المترتبة
علي استخدامها. أتمني أن يأتي اليوم الذي يكون فيه أكثرنا
نفوذاً وتأثيراً هم أكثرنا معرفة وفطنة، أن تكون آلياتنا
ووسائلنا في ادارة أنفسنا ومجتمعاتنا فكرية وعلمية لا
مادية-نيوتنية، أتمني أن يكون أبطالنا فلاسفة ومُربين وعلماء
وبنّائين، لا عناترة جبابرة، أو قادة حرب تعلوا بزاتهم الرسمية
أوسمة ونياشين حروب خضناها علي أعدائنا الدائميين الداخلين
منهم والخارجين، والتي كما عهدناها ابداً تنتهي بالنصر
المُظّفر وابادتهم عن بكرة أبيهم اجمعين! ان تلك التي تفـــترش
الطـــريق وتبيـــع الخبز دون ظَلّة تحميها القيـــظ، لتعيل
بشرف أبنائـــها اليـــتامي، أقوي عندي بكثير من هراوة شرطي
ومخبر. ان ذلك الكنّاس الذي لا يعي كلمة من خطابات المسؤول
الحالي والمقبل، وكل ما يفـــقـــهُ في دنيـــاه "اســـتكان
شــــايٌ" ومســـبحة ورثها من جدّه وسبعـــة عيال، هو بصـــبره
وكدّه واصراره علي البقاء أقوي وأكثر تأثـــيراً عليّ من بنادق
اولئك الذين يحاولون ارغامي وغيري علي تقبل أفكارهم قسراً.