مقالات

حزمة ضوء تلفها الملائكة

 

 عقيلة آل حريز

 كان الضباب كثيفاً حولكِ لحظة خروجه .. وكانت الرؤيا تبدو رمادية في عيونكِ عند رحيله يبدو كل شيء ساكن تماماً وكأن العالم أشبه ما يكون بالسابح في ملكوت الكون .. لم يكن بالأمر الهين عليكِ أن تتركِ ذاك النور الذي ولد بأرضكِ يغادرك فجأة بعد أن ملأكِ بخيرات الأرض فاخضرت ربوعك بخطواته الواثبة وأينعت حقولك بالأزاهير العذبة .. ولم يكن بالأمر الهين أن يتباعد عنكِ ولا أن تشغله المسافات دونك، وإن كنتِ تدركين بأنكِ أعطيته القليل لينتصر بدينه ..

تعرفين يا"مكة" بأنك كنتِ تطوين بداخلك عتمة يأس وغياب، وقلوب مطفأة بالحب والأمل مستسلمة لهوى أصحاب يحركهم الطمع يتعلقون بآلهتهم المنتخبة "مناة و هبل" .. وتدركين أن كثيراً من الأذى وقع عليه فلم تمنعيه عنه ولم تتصدي له بغير القليل وحتى هذا القليل رحل مع رحيل أحبابه ، فلم تحسني فعل الكثير لأجله .. تدركين أن كثيرا من الحزن أصابه فما استطعت تغيير ملامح المجريات حوله، ولا أمكنك أن تحتضني دعوته طويلاً لتنمو .. تعرفين قدسية ما يحمل، لذا عليه أن يغادركِ الآن، أن يرتحل بعيداً عنك ، لمكان آخر يبدأ فيه خطواته الجديدة ، مكان يعرفه تماماً ويعرف حجمه كنبي مرسل ويفقه دعوته .. عليه أن يصدع بما يؤمر ويعرض عن المشركين. 

تنطبق ضلوعك على ذاتك حين يرحل بعيداً عنكِ وتجيش أشواقك إليه ، فلا يسهل عليك تركه يغادرك وحيداً يحتضن حزنه، وأنت صاحبة المدارج والصبا .. صاحبة البيت الحرام والركن والمقام .. صاحبة زمزم وصاحبة الغار والوحي، ومنك كان المعراج إلى ربه في السماء .. لذا برتابة كنتِ تطوي إليه الطريق نحو يثرب ، وبخطوات وئيدة كاد يغادرك حزنا على ذكرياته فيكِ حاملاً معه كل أشياء الأمس وآمال الغد .. ربما تركته ينسحب بثقل غيرة من أرض ستحتضنه وتهديه الحرية التي أخفقتِ في منحها له، إنها أرض ستستبدل له أكوام القلق التي عاشها فيكِ بطمأنينة يستحسسها قريباً وستحظى بشرف ضم رفاته الطاهر .. وحين كان الشوق يقوده إلى هناك والوحي يخط له الطريق راح يفتش عن مجال أوسع يحتوي دعوته، في حين كان طريق يثرب يتطاول هو الآخر ليحتضن وقع خطواته بلهفة لا تحدها حدود لهذا الوافد الجديد .

صرتِ تدركين أن لحظة الرحيل تبدو عليك قاسية ، وهو يعرف هذا تماماً فقد بكاكِ بشجن، فأنت أحب الديار إليه وبأرضك ودع أحبابه ومدارجه ... ولولا عناد الشرك الذي صاحبكِ في كل حالاتك لكنت تطوقينه الآن بين ذراعيك و تلامسين أوتار دعوته بروحك ، ولما كنتِ صبرت على فراقه .. لكنها تصاريف القدر وامتلاء نفسه من الغثيان بأفعال قوم كانت لهم مع الجهل رواية  .

بقيت تتوسمين بمكانه الجديد خيراً .. ترجين له النصر والفتح ليعودك فاتحاً منتصراً يطهرك من دعائم الشرك وأرجاس الجاهلية وحمق القوم وتعاليهم .. يقودك والعالم أجمع نحو فلك واحد ينتظم في صلاة موحدة تدور حول الكعبة للعبادة .

تظلين تشتاقين له وكذا يبادلك ذات الشوق حين يكتمل وجعك برحيله وتخاطبين يثرب أن تكون له بأكثر مما كنتِ .. أن تكون له ملاذا وحضنا وأمان ، ومكان ينطلق منه للعالم بدعوته فاتحا ، رافعا راية تعلو باسم رب السماء يستظلها العالم كله فيتلمسوا الأمل بدربه ويبددوا عتمة اليأس بخطواته ..

أخفقتِ أن تتطهري في حضرته وتطلقي صوت واضح للعدالة واستهلكتِ من عمره الشريف أكثر من عشر سنوات مكثفة، انتهت بجهد لم يكن عبثاً بل كان نواة لبذرة الأساس التي بذرها .. لقد عبركِ هذا الفتى بروح مختومة للمرور برسالة سماوية هي خاتمة الرسالات ، وملأك بمروره فخرا ونورا وإيمانا وصبرا كما خصك بالكثير من البــركة.

 تغريكِ الوحشة لأن تتوسلي أرض يثرب به خيراً ، علكِ تنسي وحشتكِ برحيله .. تقفي مليا تترقبي خطواته ومسافة خطاها مبتعدا عنكِ .. كانت دموعه تنحدر وحسرة تملأ قلبه عليكِ .. تعودين وتلقين نظرة أخرى على ذكرياته وقصصه في قلبكِ .. على تلك الخطوات النبيلة .. على ذاك الفتى الذي نشأ في مدارجكِ وشب في ربوعك .. على ذاك الوحي الذي هبط عليه في غارك النائي، حتى بقيتِ تتباهين بقصة الغار ونزول الوحي وتاريخ المبعث مدة طويلة .. تعرفين أنك حين تؤرخين ذاكرتكِ بمثل هذه الذكريات المحسوسة لا يمكنكِ أن تختزليها بالنسيان ولا يمكن للتاريخ أن يفعل ..

ستكون له عودة إليكِ يا مكة .. عودة فتح وتطهير يوزع فيها الحب والغفران، وعودة صلح و حج .. و ستكون له فيك حجة أخيرة يودع فيها هذا العالم كله ويسكون لربه مآبه .. سيعودك فعلا لكنه لن يسكنك .. فالأرض الجديدة ستنال شرف آخر بوفاته كما نلت شرف الولادة ... فقد اختزلت وحدكِ تباشير الولادة وفرحها، لكن وجع الفقد والرحيل وشرف الثرى الطاهر لن يكون من نصيبك أنتِ .. هكذا تجيئك يا مكة الصور والمشاعر والأحداث المتلاحقة تجسد وميضاً لذاكرة معتقة بوشاح ممهور بأحداث التاريخ و وقائعه المشهودة .

 

مدينة تنتظر ـــــــــــــــــــــ

وعلى الجانب الآخر كانت هناك مدينة تنتظر ، تقف كلها لاستقباله بوله ، تنتهج خطاً محورياً بوصوله إليها .. كانت يثرب تتهلل بقدومه وتتزين لاستقباله بشوق غامر ، فترتدي حلة جديدة لبهجة ذات ألوان زاهية تدخرها لمناسبة خاصة كهذه .. كانت النشائد تتلى في حضرته تباعاً تعلن عن فرح مهجور يعاود ضخ الحياة في وجدان العرب كلها .. مزيداً من الإيمان .. مزيداً من التآلف .. مزيداً من الفتوحات ومن الوحي .. و بداية تأسيس للحياة الاجتماعية والسياسية معاً .. قواعد الإسلام وعهود السلام ودعائم الدين الذي أخفقت مكة في تأسيسه .. منهاج كامل للعالم أجمع .. وانتماء تفخر بظهوره الأديان ..

يزهر الياسمين والليلك في حقولها بأريج عاطر .. وتقص من تاريخه معها حكايات عدة لأناس مروا به، كان لإيمانهم وقع في ذاكرة الدين ، ُتسطر هذه الحكايات في صفحات بيضاء من نور تحمل طابع السكينة والسكون ، ويكون لها دوي و وميض يقتلع العتمة من جذورها .. ويرفرف في سمائها طائر أخضر بلا توقف يبدد الجهل حول عنق العالم المجهد بأعباء القهر والاستعباد .. تتعلق به القلوب والأفئدة فيتسامى حلمه و يتسامق حتى يكتمل الدين وتتم النعمة ويرتضي الرب لنا الإسلام دينا ..

ستبكيه يا مكة وستبكيه يثرب معكِ، بل ستبكيه كل بقاع الأرض مجتمعة، حين يودع الدنيا برضا شوقاً إلى الجنة وأسلافه فيها .. وستلفه الملائكة في حزمة من ضوء نوراني ، تصعد به متسابقة نحو السماء ...

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org