ورود في تربه مالحة

كوثر الكفيشي

أغتنم فرصة عيد المرآة وعيد الأم لأقف وقفة احترام وحب أمام نساء كادحات مجاهدات فمن رمز الأمومة على الأرض وأم البشر السيدة حواء... إلى الأم هاجر التي ضحت بالكثير لتحافظ على سبط إبراهيم (ع) .. إلى زوجة زكريا وما ذكره القرآن عن قصة إنجابها المتأخر .. وكم كان الرب رحيماً وكريماً عندما وهبها الأمومة وقر عينيها بيحيى (ع) .. وننحني بإجلال أمام السيدة العذراء أم المسيح إذ تمثل منها الإيمان والتضحية والصبر إلى العظيمة التي عاضدت الرسول (ص) وأبهجته بإنجاب الزهراء سيدة الطهر وأم شباب أهل الجنة.

ومن هنا... وبمناسبة شهر آذار الذي أعده أنا شهر المرآة بمختلف أصنافها أحببت أن أقدم قصص واقعية لتجارب نساء عشت معهن ورأيت معاناتهن رؤى العين ورغم ظروفهن الصعبة إلا أنهن احتفظن بقيم الحياة الحرة الكريمة وأن يكن قدوة لي ولسواي من النساء.

(الذكرى الأليمة)

أم زينب الحسيني هي سيدة عاشت مع جدتي في فترة النظام المقبور حياة الرعب والخوف والمطاردة، كون زوجها من المعارضين للنظام عير أن العيون الحقيرة لذلك النظام لم تغفل عنه بل بقيت ساهرة حتى التقطته وحاصرته في منزله وحدث إطلاق نار متبادل بينه وبينهم وفي هذا الأثناء استشهد أبو زينب مع ابنته الصغيرة وعندما رأت أم زينب هذه الأحداث فقدت المسكينة عقلها وباتت امرأة مجنونة، غير أن جنونها لم يثنيهم عن تعذيبها وبقيت في السجن هي ورضيعها وبناتها الثلاث حتى أنهت محكوميتها..

هنا يتجلى العطف والرحمة الإلهية، فبمجرد خروج هذه المسكينة من السجن أعاد الله لها عقلها لتعود أم زينب كما كانت لترعى بهذا العقل بناتها وتحميهم.

التقيت بهذه العائلة في سوريا وتعرفت على هذه المرأة العظيمة التي عانت وضحت بأنفس شيء وهو عقلها لعائلتها، وزوجت بناتها وبقيت هي و ابنها حيث أكرمها الرحمن بزوج صالح أخذ يرعاها ويرعى يتميها ويطمئن على بناتها.

 

الأم الثكلى

عندما عرفتها كانت صغيرة بعمر ابنتي لا تتجاوز الست أو السبع سنوات كانت شقراء البشرة ذو عينين زرقاوين وبشرة ملائكية، سمتها والدتها زهراء تيمناً بسيدة البشر ولكونها تنتمي بالنسب إلى هذا البيت العلوي الطاهر، وأخذت السنون تمر والأيام تتراكض ليصلني خبر زواجها وهي في 15 من عمرها أي في بداية تفتح هذه الوردة الزاهرة، ولكن ما كدت اسمع بهذا الخبر المفرح حتى سمعت خبر وفاتها هذه البرعم الأخضر.. صمت لوهلة بل وجمدت... زهراء هذه الصغيرة... هرعت إلى والدتها أتساءل... وما كدت اطرق الباب حتى وجدت أم زهراء وهي بالوشاح الأسود فأدركت صحة الخبر... زهراء قتلها زوجها... نعم كان يعاني من مرض نفسي فإنه كان يصاب بنوبة شبه جنونية بين الحين والآخر، فيصبح كالوحش الهائج فرفسها بحذائه على صدرها، فكانت كما تدعس الوردة المتفتحة بحذاء آدمي راكض غير مبالٍ أو كالإناء الذي يقع فينكسر من دون سابق إنذار، قلنا ماتت زهراء الصغيرة العروس الأم الحامل لجنينها الذي ما كاد يزرع في رحمها حتى اقتلع وعلى يد من؟ على يد والده، التفت إلى أم زهراء ما كانت تبكي بل كانت صابرة صامته فاجأتني بقولها: أريد أن اصبر وأدخل بصبري مع الشهداء لأن ابنتي شهيدة فأريد بصبري على وفاتها أن أكون معها حيث حرمت منها في الدنيا.

 

الزوجة الصابرة

س.ع هي موظفة في إحدى دوائر الدولة الخدمية ابتلاها الله بزوج سيء المعشر بخيل الطبع فهو يعمل طوال النهار ليخبئ حصاد يومه في حصالة ربما الجني الأزرق نفسه لا يعرف أين يضعها حارماً بذلك زوجته وعياله من ابسط حقوقهم وهو الغذاء ولولا عملها هذه المرآة لعانت هذه العائلة الجوع القاتل.

حدثتني /س.ع/ قائلة: أرفض أن أكشف عن هويتي حباً لأبنائي وإكراماً للرجل الذي وهبني الأمومة التي حرم منها الكثيرات ولهذا سأبقى رغم بخله وتقصيره علي وعلى أطفالي وعلى المنزل صابرة محتسبة ليكون الله معي كما وعد كل الصابرين في كتابه المبين: (إن الله مع الصابرين).

أما أم خديجة فهي امرأة عراقية أخرى أعطت أكثر مما أخذت من هذه الحياة حيث أصيب زوجها خلال الحرب بطلقة نارية في ظهره جعلته حبيس الفراش، أذكر عندما ذهبت إلى زيارتها وأنا صغيرة وكنت آنذاك برفقة والدتي وجدناها تفترش الجرائد والحصران القديمة، ولا تلتحف هي وزوجها إلا بالخرق البالية، وعندما خيرها زوجها بالانفصال لكي تعيش حياة أفضل من هذه الحياة، أجابته: أنت قرة العين وأنت نصيبي من هذه الدنيا ولا أقول سوى ما كانت تردد أم المؤمنين "أم سلمة" عند وفاة زوجها أبو سلمة وهو دعاء علمها النبي (ص) لها قبل زواجه منها: ((اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، وأنا أريد أن يخلق لي الله بدل هذه الدنيا الفانية الجنة الباقية)).

 

صبر أيوب

أم محمد وهي مديرة مدرسة البنات المسائية عاشرتها لفترة قصيرة غير أني كلما أقف أمامها لا أشعر إلا وكأني أقف أمام جبل شامخ ذو صخور صماء عتيدة لم تتزلزل في وجه أعاصير الدهر ونوائب الزمان.

تحدثني قائلة: تزوجت في ريعان الشباب من رجل طيب غير أن سعادتي لم تكتمل حيث أني لم أرزق بطفل يبهجني ويفرح زوجي فقد كان الطفل يتوفى في الأشهر الأولى وذلك عندما تبصر عينيه النور، ولهذا ساءت أخلاق زوجي فذهب على المحكمة ووقعت لزوجي في المحكمة بالموافقة على زواجه زوجة أخرى، وبالفعل تزوج من أخرى غير أنه كان أولاده من الأخرى أيضاً يتوفون وفي عام 1988وبعد ومضي أكثر من عشر سنوات من زواجنا رزقنا بطفل غير أنه ما أن أشعلت شمعة حتى انطفأت شمعة زوجي، فتوفى بحادث سير مؤلم في يوم عيد ميلاد ابني الأول فأصبحت أرملة وعدت إلى أهلي الذين كانوا يعانون من صدمة إعدام أخي الوحيد على يد جلاوزة النظام الصدامي المقبور.. فأصبح والدي شديد النسيان فكان ينسى حتى اسمه وفي حالات أخرى طبيعي، ومن جانب آخر تم طلب أزواج أخواتي في حرب الخليج، فأصبحت أنا المعيلة للعائلة وأطفالها ثم توفي والدي بعدها، وأصيبت والدتي بسرطان المثانة، وبذلت لأجل سلامتها الغالي والنفيس، غير أن الدهر سلبها مني مع أحداث سقوط طاغية العصر هذا بالإضافة إلى رحلتي المعذبة في تربية هذا اليتيم.

غير أن أم محمد ورغم تعب هذه السنين تبتسم لي من وراء نظارتها لتقول: الحمد لله الذي رزقني الإيمان وجملني بالصبر ووهبني ابني بعد تعب كما وهب سارة زوجة زكريا من قبل.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أقدم باقة ورد منوعة من السوسن والفل والياسمين والنرجس، ورود تحمل أسماء مؤنثة لهؤلاء ولغيرهن من النسوة اللاتي تجملن بالصبر، وتحلين بالإيمان، وتزينَّ بالصمود في وجه مخالب الدنيا، فاستطعن بكل هذه الصفات الحميدة أن يقلعن هذه الأنياب، وأن يزرعن الورد عنوة في هذه التربة المالحة.

 

في بنت الرافدينفي الويب