مقالات

للناصرية للناصرية



 

 كاظم فنجان الحمامي

تألقت الفنانة الراحلة (صديقة الملاية) بصوتها الشجي في بدايات القرن الماضي, بترنيمتها الشهيرة (للناصرية للناصرية), التي تغنت فيها بعذوبة الناصرية, وسحر جمالها الريفي الضارب في أعماق الحضارة السومرية العريقة. ولم يزل صدى هذه الأغنية الرائعة يتردد بين منعطفات نهر الغراف وضفاف الفرات, وهو يعلو وينخفض بصوت (صديقة) التي توطدت صداقتها مع زقورة أور وقناطر ذي قار وضواحي سوق الشيوخ. ثم تحولت هذه الأغنية الجميلة إلى ترنيمة وطنية يرددها عشاق المدينة الغنية بالمعالم الأثرية, الزاخرة بالهبات والثروات, لقد كانت صورة المدينة قبل مائة عام أجمل وأنقى وأروع وأعذب وأكشخ مليون مرة من صورتها الحالية المعفرة بغبار التعب والإهمال.

ففي الناصرية, وتحديدا في المسافة الفاصلة بين مركز المحافظة ومدينة الشطرة ترتمي بين الحقول والبساتين نسخة سومرية قديمة لسكة طويلة متعرجة متموجة, منقسمة إلى شفرتين قاتلتين متوازيتين, أحداهما أبشع من الأخرى, وأكثر وعورة منها, يطلقون عليها محليا (سكة الموت), أو (طريق الهلاك), وتعزى هذه التسمية إلى بشاعة حوادث الدهس, وتكرار تصادم السيارات وانقلاب الشاحنات, ويبدو أن ملائكة الموت وجدت ضالتها في هذا الطريق المرعب, وراحت تمارس هواياتها المفضلة في قبض الأرواح عن طريق تحطيم العجلات, ما اضطر بلدية (الغراف) إلى تخصيص مقبرة كبيرة لاستقبال رفات السيارات المنكوبة, فتراكمت في باحتها السيارات من كل صنف ونوع, حتى صارت مشاهد السيارات المقلوبة من المناظر المشئومة التي الفتها المدينة واعتادت عليها.

شهدت الناصرية في الشهر الثالث من عام 2008 حادثة مروعة راح ضحيتها أكثر من عشرة من المواطنين العراقيين, على اثر حادث تصادم سيارة ميني باص (كيا بريجو) مع شاحنة (مرسيدس) محملة بالحنطة, وأسفر الحادث عن تطاير أشلاء الموتى والجرحى, الذين مزقتهم مخالب الإهمال القاتل, وهي الحداثة الأكثر بشاعة في سجل هذا الطريق المهلك, ومازالت الحوادث تتوالى بمعدلات متفاوتة, وإيقاعات متباينة من حيث حجم الخسارة وشدة الفاجعة, ومن حيث كمية الدمار, وماانفك هذا الطريق يتربص بالناس ويتوعدهم بالشر, ويتحدى أمنهم وسلامتهم, ويستفز استقرارهم بأنبائه السيئة, ورسائله الكارثية. وغابت عنه اللافتات التوضيحية والإشارات المرورية والعلامات التحذيرية.

اما التفرعات الريفية المرتبطة بطريق الموت فتكاد تكون على وضعها الترابي المتعثر, الذي كانت عليه في العصور الغابرة, نسمع أحيانا أنها خضعت للصيانة والتعبيد, وان مراحل التنفيذ أنجزت واكتملت على وفق المواصفات الهندسية الحديثة, فنبتهج فرحا وسرورا لهذا الانجاز الحضاري, لكننا نفاجئ بمرارة الحقيقة المؤلمة ونكتشف أن الأمر ليس سوى مزحة انتخابية عابرة, وان الوضع على ما هو عليه, ويزداد بؤسا وتخلفا يوما بعد يوم.

خذ على سبيل المثال الطريق المؤدي إلى قرية (آل صكبان), والذي يمثل الشريان الوحيد لمركز عشائر خفاجة, والذي خضع على ما يبدو إلى الاكساء بالإسفلت والحجر, وأنيرت جوانبه ومقترباته بالأضواء الساطعة, وأصبح صالحا لمرور المركبات ولكن في عام الخيال, وعلى صفحات المرتسمات الورقية فقط, اما على ارض الواقع فلم يزل يشكو من التآكل والحفر والمطبات.

وعلى الرغم من هول الكوارث الكثيرة التي حملتها لنا التواءات الطريق المتجهم, ستبقى الناصرية قلعة من قلاع الثقافة والفنون والعلوم والآداب والإبداع, فهي الواجهة السومرية المؤطرة بالأصالة والنقاء, والمرتبطة بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. وينبغي أن تتضافر كل الجهود الخيرة من اجل تحسين أوضاعها والارتقاء بمستواها نحو الأفضل.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org