|
مقالات هلسنكي: بوابة الشتاء وسحر الليالي البيضاء!
هلسنكي ـ يوسف أبو الفوز
يسمونها "بوابة الشتاء"، ويسميها البعض "أبنة بحر البلطيق"، فهي عاصمة جمهورية فنلندا، احدى بلدان الشمال الاوربي، وعضو الاتحاد الاوربي منذ عام 1995. تقع هلسنكي في الجزء الجنوبي من البلاد وتطل على الخليج المعروف باٍسم خليج فنلندا، الذي هو امتداد لبحر البلطيق ويجاور خليج بوتاميا الفاصل بين فنلندا والسويد، ولكون فنلندا هي البلد الثاني، من بعد آيسلنلدا، الأقرب الى القطب الشمالي، فأن ما يروى كنكتة عن مناخها يصح تماما، فالمناخ في فنلندا، وبالتالي هلسنكي: "في الصيف ثلاجة، وفي الشتاء مجمدة"!. فصل الربيع والصيف يتداخلان مع بعضهما ويكادان يضيعان امام ثقل الشتاء الطويل البارد، حيث تنخفض فيه درجات الحرارة ما دون الصفر بكثير، ويتداخل مع الخريف بلياليه المظلمة الطويلة ونهاراته القصيرة، لكن الصيف في هلسنكي، الدافيء والرطب، يكون على اجمل ما يكون خصوصا في الليالي البيضاء الساحرة، حين يطول النهار ويقصر الليل جدا، فلأن ربع الأراضي الفنلندية يقع على الخط القطبي، يجعل الشمس تظهر منتصف الليل كلما اتجهنا شمالا، وفي أقصى شمال البلاد لا تغيب الشمس لمدة 73 يوم في الصيف، ولا تظهر لمدة 51 يوماً في الشتاء. الفنلنديون دمثون ومسالمون، الا ان الشتاء البارد بلياليه الطويلة المظلمة يترك بصمته على شخصية الفنلندي، فيبدو منطويا، لكن الصيف على رغم قصره، يطلق كل اعاصير فرح وحبور ونشاط سكان العاصمة هلسنكي، الذين يغزون الغابات والبحيرات والسواحل طيلة الايام المشمسة، فما تحتاجه البلاد عموما هو الشمس، هكذا تجد الفنلندي يصف حبيبته في الاشعار والاغاني بها . وللتعويض عن غياب حرارة الشمس اللازمة للتعرق والدفء استعان الفنلنديون بحمام البخار "الساونا"، الذي يدخل في ثقافة الشعب الفنلندي، ويعتبر من مفاخرهم، وعند الفنلنديين القدماء يكون مكانا طاهرا ومقدسا، ففيه تجري عمليات الولادة وغسل الموتى، فحمام الساونا جزء مهم من تصميم البيت الفنلندي، خاصة في القرى والارياف، وفي هلسنكي تنتشر بشكل كبير حمامات السباحة العامة المزدودة بغرف للساونا، وكل عمارة سكنية لابد ان يكون فيها حمام ساونا للاستخدام العام، ومن الطريف ان الفيلسوف العربي ابن رشد قدم وصفا ممتعا لما سماه" بيت الصقالبة " وهو ينطبق تماما على الساونا الفنلندية . ولان فنلندا تحوي اكثر من 188 الف بحيرة، و180 الف جزيرة،فهلسنكي المجاورة للبحر تتكون من عدة جزر مرتبطة ببعض، وأذ ان الغابات تغطي 68% من مساحة البلاد، فان هذين العاملين، البحر والغابات يلعبان دورا في تشكيل هوية كل المدن الفنلندية ومنها هلسنكي التي تتداخل مع المدن المجاورة لها، مثل ايسبو، فانتا وكاوناينن، فأصبحت كالضواحي بالنسبة لها، ويبلغ عدد سكان هلسنكي بضواحيها، حوالي مليون ونصف انسان، وفيها تجمع كبير للاجانب، الذين يشكلون حوالي 150 الف نسمة في كل عموم البلاد، وهم من 130 جنسية، واهم الجنسيات هي من روسيا وأستونيا والسويد والصومال وصربيا والصين والعراق وألمانيا، ويبلغ عدد العراقيين المقيمين في فنلندا حوالي ستة الاف عراقي فقط، يشكل الاكراد نسبة 56 % منهم يتركزون في العاصمة هلسنكي، ومدينة توركو، وبدأ عدد العراقيون اللاجئين الى فنلندا يزداد مع مطلع تسعينات القرن الماضي . تعتبر هلسنكي قلب فنلندا النابض بالحركة، بالتجارة والمال والازياء والطب والثقافة والصناعة، وهي مقر شركة "نوكيا"، التي اخذت اسمها من نهر فنلندي صغير، ليكون علامة لاكبر شركات لصناعة اجهزة الاتصالات، واهم ما يميز العاصمة هلسنكي عن بقية المدن الاوربية انها ولفترات طويلة وقعت تحت تاثير الثقافة السويدية ثم الروسية، فتأريخيا داست ارضي هلسنكي ومرت بسواحلها وجزرها اقدام القراصنة الفايكنغ وجيوش المحتلين الملوك السويديون والقياصرة الروس، فاكتسبت هلسنكي، وكل البلاد، شخصيتها من تاريخ آلام ومعاناة طويلة. أذ كانت ميدانا للصراع الدموي من اجل النفوذ بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الارثذوكسية، وظلت قرونا مسرحا للصراع بين الشرق والغرب وساحة لمعارك دامية تكررت مع مجئ ملوك سويديين وقياصرة روس جدد، وكل منهم تنمو مطامعه بنمو رغبات التوسع والسيطرة على هلسنكي والتهام ارض فنلندا وخيراتها. تأسست هلسنكي عام 1550 م، اذ بناها الملك السويدي "غوستاف فاسا الاول " (1496 ـ 1560)، وارادها تكون مدينة مواجهة لمدينة بطرسبورغ التي بناها الحكم القيصري الروسي، ومدينة تالين التي بناها التاج الالماني، وفي 12 حزيران من عام 1550 أمر التاج السويدي سكان مدن فنلندية قريبة بالانتقال للسكن في هلسنكي، واعتبر يوم اصدار هذا القرار يوما لتأسيس المدينة، ومن يومها تنظم كل عام في هذا اليوم احتفالات مهيبة . وسرعان ما تحولت المدينة الى مركز عسكري ستراتيجي، فهي نقطة انطلاق وملاذ جيد في الشتاء لقوات سلاح البحرية، ففي مدخل هلسنكي، تواجه السفن القادمة، "قلعة حصن سفيا "، التي منذ عام 1918، ولاسباب قومية ووطنية، صارت تسمى "قلعة فنلندا"، وكان قد بدأ في بنائها التاج السويدي عام 1748 على ست جزر متقاربة، ضد التوسع الروسي، وتخضع القلعة حاليا لحماية منظمة اليونسكو بأعتبارها جزء من التراث العالمي . بعد تعرض، مدينة توركو، عاصمة فنلندا التاريخية، الى حريق هائل، قرر القيصر الروسي الكسندر الاول (1771 ـ 1825) في عام 1812 نقل العاصمة الى هلسنكي، وكذلك نقل جامعة توركو التي تأسست في عام 1640 اليها، وسرعان ما صارت هلسنكي ليس فقط المركز الاداري والفكري، بل ومن أكبر المدن الصناعية في فنلندا، وشهدت نموا سكانيا، فمع حلول القرن العشرين صار سكانها أكثر من 100،000نسمة . اخذت العاصمة الجديدة اسمها من اسم نهر يمر بالمنطقة، وتقول بعض الروايات ان الاسم هو تحوير للكلمة Hals السويدية التي تعني "الرقبة"، مشيرا إلى أضيق جزء من النهر، أي المنحدرات حيث وضعت اول اسس المدينة هناك عند البدء في انشاءها. وقد كلف بوضع تصاميم وابنية المدينة الجديدة المهدنس المعماري الالماني المولد كارل لوفيج انجل (1778 ـ 1840)، الذين اعطى للمدينة طابعا ساحرا، وبنى فيها العديد من البنايات التي دخلت في التراث المعماري العالمي، مثل بناية جامعة هلسنكي، وبناية بلدية العاصمة، والاهم والاشهر كان الكاتدرائية اللوثرية (توميوكيركو)، التي تعتبر واحدة من أكبر الكاتدرائيات المسيحية في اوربا، والتي انجزت في عام 1852، وتجدر الاشارة الى أن 84% من سكان فنلندا ينتمون الى المسيحية اللوثرية، وهناك 1% ينتمون الى الدينة الارثوذكسية، خاصة من هم من الاصول الروسية، وتنتصب في هلسنكي، وعلى رابية مطلة على القصر الرئاسي وجزء من ميناء هلسنكي واحدة من اجمل الكنائس الأرثوذكسية في العالم، هي كاتدرائية اوسبنسكى، التي تعتبر اكبر كنيسة ارثوذكسية في أوروبا الغربية، وتم افتتاحها في عام 1868. في عام 1809 اقر الحكم القيصري لفنلندا حق التمتع بالحكم الذاتي، واختار القيصر الكسندر الثاني (1855ـ 1881) هلسنكي عاصمة شتوية له، وترتب على ذلك اعمار العاصمة وفقا للطراز الروسي، وهكذا لا تزال تحتفط هلسنكي القديمة بالطراز المعماري الذي يعود الى القرن التاسع عشر، مما اهلها لان تمثل في شوارعها الكثير من الافلام التي دخلت في عداد كلاسيكيات فن السينما، مثل فلم " ديكتور جيفاكو " 1965 من اخراج ديفيد لين،عن قصة باسترناك وبطولة الممثل المصري عمر الشريف، وفلم "الحمر" 1981 من اخراج وتمثيل وارن بيتي، الذي يحكي قصة حياة الاشتراكي الامريكي الكاتب "جون ريد" مؤلف الكتاب الشهير "عشرة ايام هزت العالم "، والعديد من الافلام التي تدور احداثها في موسكو او بطرسبورغ . شهدت هلسنكي احداث دامية كثيرة، ففي الحرب الاهلية الفنلندية، التي نشبت في كانون الثاني وحتى ايار من عام 1918، استولى عليها معسكر "الحمر" المدعومين من روسيا في صراعهم مع "البيض" المدعومين من المانيا، وفي الحرب العالمية الثانية تعرضت المدينة للقصف الجوي، ولكنها مقارنة بمدن اوربية عديدة، فأنها لم يلحق بها سوى اثار طفيفة، واجاد الفنلنديون الحفاظ على النصب والاعمال الفنية التي تملأ المدينة وتنتشر في ساحاتها وشوارعها، والتي ترتبط بتأريخ البلاد السياسي والثقافي، فهناك تماثيل لاغلب ممثلي نهضة فنلندا القومية وتطورها، وقد تركت "الكاليفالا" تأثيرا مباشرا على تطور الادب والرسم والنحت والموسيقى، والكاليفالا هي ملحمة الشعب الفنلندي ومستودع تراثها الشفهي، جمعها ورتبها، واضاف عليها الطبيب والشاعر الفنلندي الياس لونرت ( 1802 ـ 1884)، الذي دار طويلا ارجاء فنلندا ليجمع الموروث الشفهي من اساطير وقصص بطولة ومغامرات واشعار واناشيد حماسية واغان عاطفية وتراتيل وترانيم الشعراء الشعبيون الجوالون، صدرت الطبعة الاولى من الكاليفالا عام 1835، وكان صدورها يعتبرعلامة ومنعطف في تاريخ الثقافة الفنلندية، بل ولا يمكن فهم تطور الثقافة الفنلندية بدون التوقف عندها، وكمثال في مركز العاصمة، نجد تماثيل " حملة المصابيح " وهي اربعة تنتصب على واجهة محطة القطار المركزية في هلسنكي، وهي للفنان الفنلندي والنحات العالمي "ايميل فيكستروم"(1864 ـ 1942)، الذي يعتبر من اهم فناني المرحلة الرومانتيكية، وعرف بأرتباطه بالمثيولوحجيا والثقافة الوطنية الفنلندية، وعلى جانب بناية المحطة نجد تمثال الكاتب الفنلندي الكلاسيكي اليكسيس كيفي (1834 ـ 1872 )، وهو من اوائل من كتب باللغة الفنلندية وقدم مؤلفات ادبية اثبتت لدول الاحتلال من الجيران ان للشعب الفنلندي ثقافة وشخصية، والتمثال من البرونز اقيم عام 1939، وهو من اعمال الفنان الفنلندي فاينو التوني (1894ـ 1966) . في سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، أتبعت فنلندا سياسة الحياد واحتفظت بعلاقات ايجابية مع الجانبين وتمكنت من بناء نهضة اقتصادية، وصارت ايامها هلسنكي مقرا لمنظمة السلام العالمي وشهدت نشاطات عالمية ربما اهمها مؤتمر الامن والتعاون الاوربي في عام 1975 الذي شاركت فيه ثلاث وثلاثون دولة من ضمنها الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي وخفف المؤتمر كثيرا من حدة التوتر العالمي، وفيها عقدت القمة الاولى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في عام 1990، حيث اجتمع الرئيسان جورج بوش وميخائيل غورباتشوف . تضم هلسنكي العديد من المتاحف الشهيرة، التي تعتبر بنايتها بحد ذاتها جزء من ايات العمارة والبناء، منها المتحف الفنلندي الوطني، الذي توجد فيه واحدة من اكبر مجموعات النقود العربية القديمة من العصور العباسية وما بعدها، وهناك متحف الثقافات، ومتحف التصميم، ومتحف الفن الحديث حيث ينتصب امامه تمثال غوستاف مانيرهايم (1867ـ 1951)، الذي يعتبر واحدا من ابرز السياسين والقادة العسكريين الفنلنديين، ولعب دورا بارزا في حياة ومستقبل فنلندا الحديثة اذ كان قائدا لمعسكر البيض خلال الحرب الاهلية، وفي عهد رئاسته لفنلندا في الاعوام 1944 ـ 1946 اقر الدستور الفنلندي الحالي . اما مسارح هسنكي فأشهرها المسرح الفنلندي الوطني، ومسرح مدينة هلسنكي والمسرح الفنلندي السويدي، وايضا دار الأوبرا الفنلندية الوطنية التي حققت نجاحات عالمية بعروضها المستمرة، وفي هلسنكي يوجد ملعب اولمبي متميز اكتمل بناءه عام 1938، واستضاف دورة الالعاب الاولمبية عام 1952، وكانت قد تأجلت بسبب نشوب الحرب العالمية . في هلسنكي توجد اكبر جامعة في البلاد هي جامعة هلسنكي التي تأسست منذ عام 1829 ويبلغ عدد الطلاب الدارسين فيها حاليا 38 الف طالب منهم حوالي 6 الاف طالب دراسات عليا. يتكلم اهل هلسنكي اللغة الفنلندية، وهي واحدة من اصعب عشرة لغات في العالم وتنتمي الى اللغات الاورالية التي يتحدث بها سكان استونيا والمجر، والى جانب ذلك فاللغة السويدية، هي لغة البلاد الرسمية الثانية، ولكون الشعب الفنلندي شعب هاديء ويميل الى الدماثة وعدم الاختلاط، فأن برتولد بريخت كتب عنهم في مذكراته اثناء مروره في هلسنكي بعد هروبه من المانيا النازية "ان الفنلنديين شعب صامت بلغتين" . وفي هلسنكي وضواحيها، يمكن زيارة بيوت العديد من مشاهير السياسة والثقافة، التي تحولت بيوتهم، الى متاحف يزورها المواطنين السواح باستمرار، فهناك بيت بيكّا هالونين (1865 ـ 1933)، وهو رسام فنلندي من رواد الواقعية في الفن التشكيلي، وايضا هناك بيت الموسيقار الفنلندي العالمي الشهير جان سيبليوس (1865 ـ 1957)، الذي انتقل من موسيقاه المحلية الى العالمية، وتعزف الان سيمفونياته في اغلب دول العالم، ومن اشهر معزوفاته "فنلنديا" التي صارت السلام الوطني الفنلندي، وهلسنكي التي اختريت عام 2000، واحدة من تسع مدن أوروبية لتكون عاصمة للثقافة، اختيرت مؤخرا لتكون عام 2012 عاصمة للتصميمات العالمية .
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |